الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

وأمّا التمسّك بأنّ عدم ظهور مدرك شرعي لحكم عند المجتهد بعد تفتيشه مدرك شرعي لعدم الحكم في الواقع (١) إجماعا فإنّما يتّجه على مذهب العامّة.

______________________________________________________

والعجب! أنّا لم نفهم من كلامه رحمه‌الله أوّلا وآخرا حقيقة حال المكلّفين في زمانه وبعد زمانه حين عرّفهم خطأ السالفين عليه وبيّن لهم الحقّ الواضح الّذي عمي عنه العلماء الأجلّاء المتقدّمون عليه والمعاصرون له كيف يكون عملهم في الأحكام الشرعيّة على مذهبه واعتقاده إذا أبطلنا الاجتهاد والتقليد؟ فإنّه لم يتبيّن لنا من كلامه وجه صريح في كيفيّة ذلك إن كان كلّ أحد من العامّ والخاصّ يعمل بكلّ حديث وجده في الكتب الأربعة سواء كان له ما يخالفه ويناقضه أم لا ، فظاهر كلامه :

أنّه لا يلتزم ذلك ، بل لا يجوّزه وإن كان يرجع إلى الترجيح ولم يكن أهلا لذلك ، فإن رجع إلى تقليد غيره فيه وهو لا يفيده العلم والقطع بالحكم وصحّته في الواقع ، فقد رجع إلى التقليد والعمل بالظنّ.

هذا إذا ثبت عند المكلّف الّذي فرضناه بالقطع والجزم صحّة كلّ حديث كتب في الكتب الأربعة ، ومتى يحصل عند العامّي هذا العلم حتّى يعوّل عليه؟ ولا يبقى عليه إلّا ترجيح أحد الحديثين على الآخر فيستفيده من العارف بذلك.

وأيضا فكيف يجوّز العقل الاختلاف بين الحديثين المقطوع بأنّهما كلام الأئمّة عليهم‌السلام؟ إلّا أن كان من باب التقيّة ، ومن يعرف هذه الخصوصيّة أو المناسبة لحمل الحديث المخالف عليها حتّى لا يتحقّق التنافي؟ وأيضا أين يوجد في الكتب الأربعة وغيرها من الحديث ما يدلّ على كلّ فرع يحتاج المكلّف إليه من فروع التكليف طول الأزمان؟ وقد رأينا في كلام الأصحاب في مسائل عديدة بعد تمام الاجتهاد والاستقصاء في طلب ذلك أنّهم لم يجدوا نصّا في تلك المسألة ؛ مع أنّ هذا بالوجدان ظاهر لا يحتاج إلى بيان.

وربما يظهر من كلام المصنّف أنّه يجب على كلّ مكلّف أن يعتقد ما اعتقده في جميع الأحاديث من القطع بأنّها كلّها كلام الأئمّة عليهم‌السلام وإذا لم يعتقد ذلك لا يحصل له العلم بالحكم فلا يجوز له العمل بالحديث الدالّ عليه ، وهذا الاعتقاد كيف يتيسّر

لعامّة الناس؟ وهو لم يجعل المعارف الخمس من قدرة العبد ولا كلّفه الله بها والفرض أنّه قادر عليها ، فكيف يكلّف العامّي الّذي لا يعرف معنى الصحيح من الضعيف ولا يفهم معنى الاصول المعتمدة ولا غيرها أن يعلم ويعتقد كلّ ما اعتقده المصنّف وأثبته بحسب وهمه.

__________________

(١) ط : الوقائع.

٢٨١

وقال المحقّق في أوائل المعتبر ـ كما تقدّم نقله ـ : الثاني أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه ، وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هناك دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك فإنّه يجب التوقّف ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ، ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر (١) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وقال في كتاب الاصول : اعلم أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فإذا ادّعى مدّع حكما شرعيا جاز لخصمه أن يتمسّك في انتفائه بالبراءة الأصلية ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه ، ولا يتمّ هذا الدليل إلّا ببيان مقدّمتين :

إحداهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا بأن يضبط طرق الاستدلالات الشرعية ويبيّن عدم دلالتها عليه.

والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه احدى تلك الدلائل ، لأنّه لو لم تكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كان عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها ، لكن بيّنّا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند هذا يتمّ كون ذلك دليلا على نفي الحكم ، والله أعلم (٢). انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وأنا أقول : لقد أحسن وأجاد المحقّق الحلّي فيما نقلناه عنه ، وما رأيت فقيها يكون حكيما بعد السيّد المرتضى ورئيس الطائفة ـ قدّس الله سرّهما ـ إلّا إيّاه ،

______________________________________________________

هذا كلّه في حقّ الّذي لا سبيل له على الاستدلال بالعمل بالحديث. وأمّا الّذي له قدرة ذلك وأجهد نفسه في أن يحصل له العلم الّذي يدّعيه المصنّف في الأحاديث فلم يحصل أو فتّش كلّ الأحاديث فما وجد فيها دليلا على مسألة كيف يفعل؟

اللهمّ إلّا أن يمنع المصنّف إمكان عدم حصول العلم والوجدان في الجهتين. وإذا وصل الأمر إلى مثل هذا الخلل والفساد وتعطيل الأحكام وحيرة المكلّفين في معرفة أحكام ما كلّفوا به ، يكفي ذلك في وضوح الخطأ وسوء ما ارتكبه وأدخل الوهم به على ضعفاء التحصيل والعقول.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٢.

(٢) معارج الاصول : ٢١٢.

٢٨٢

يشهد بذلك من تتبّع كلامه في كتاب الاصول وفي كتاب المعتبر وكلام غيره من المتأخّرين.

وتحقيق كلامه : أنّ المحدّث الماهر إذا تتبّع الأحاديث المرويّة عنهم عليهم‌السلام في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها ولم يظفر بحديث يدلّ على ذلك الحكم ، ينبغي أن يقطع قطعا عاديا بعدمه ، لأنّ جمّا غفيرا من أفاضل علمائنا أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه‌السلام ـ كما مرّ نقله عن كتاب المعتبر (١) ـ كانوا ملازمين لأئمّتنا عليهم‌السلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكان همّهم وهمّ الأئمّة عليهم‌السلام إظهار الدين عندهم وتأليفهم كلّ ما يسمعونه منهم في الاصول ، لئلّا تحتاج الشيعة إلى سلوك طرق العامّة ولتعمل بما في تلك الاصول في زمن الغيبة الكبرى فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام لم يضيّعوا من كان في أصلاب الرجال من شيعتهم ـ كما تقدّم في الروايات المتقدّمة (٢) ـ ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسّك بأنّ نفي ظهور الدليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع ، مثاله : نجاسة أرض الحمّام ، ونجاسة الغسالة ، ووجوب قصد سورة معيّنة عند قراءة البسملة ، ووجوب نيّة الخروج من الصلاة بالتسليم ، وقد نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ما يدلّ على ما ذكرناه حيث قال لمحمّد بن الحنفية ما مضمونه : لو سئلت عن دليل على وحدة الإله فقل : لو كان إله آخر لظهر منه أثر (٣).

وأقول : تحقيق المقام أنّ الاصوليّين والكلاميّين والمنطقيّين يسمّون تلك المقدّمة وأمثالها بالقطعيات العادية ، يشهد بذلك من تتبّع شرح العضدي للمختصر الحاجبي وشرحي المواقف والمقاصد.

ولا يجوز التمسّك به في غير تلك المسألة المفروضة إلّا عند العامّة القائلين بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر عند أصحابه كلّ ما جاء به وتوفّرت الدواعي على أخذه ونشره وما خصّ أحدا بتعليم شي‌ء لم يظهره عند غيره ولم تقع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله فتنة اقتضت إخفاء بعض ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) راجع ص ١٦٨.

(٢) راجع ص ٢١٣.

(٣) انظر نهج البلاغة : ٣٩٦ ، من وصيّة له عليه‌السلام للحسن عليه‌السلام.

٢٨٣

وأمّا التمسّك باستصحاب حكم شرعي

في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم الأوّل لها ، مثاله : من دخل في الصلاة بتيمّم لفقد الماء ثمّ وجد الماء في أثنائها قبل الركوع أو بعده ، ومن عزم على إقامة عشرة ثمّ رجع قبل أن يصلّي صلاة واحدة تامّة أو بعدها.

فقد قال به الشافعية (١) وبعض أهل الاستنباط من أصحابنا كالعلّامة الحلّي ـ قدّس الله سرّه ـ في أحد قوليه (٢) والشيخ المفيد (٣). وأنكره الحنفية (٤) وأكثر أهل الاستنباط من أصحابنا (٥).

والحقّ عندي قول الأكثر ، وذلك لوجوه :

الأوّل : عدم ظهور دلالة على اعتباره شرعا ، وما ذكرته علماء الشافعية ومن وافقهم في هذه القاعدة من حصول ظنّ البقاء ومن جواز العمل بذلك الظنّ شرعا مردود من وجهين :

أوّلهما : أنّ وجود الظنّ فيه ممنوع ، لأنّ موضوع المسألة الثانية مقيّد بالحالة الطارئة وموضوع المسألة الاولى مقيّد بنقيض تلك الحالة ، فكيف يظنّ بقاء الحكم الأوّل *.

______________________________________________________

* ما نقله عن العلّامة في الاستصحاب ليس معروفا عنه ، وإنّما المعروف نقله عن المفيد ، مع أنّه يظهر من كلام المحقّق العمل به في بعض الموارد ، فإنّه قال : الّذي نختاره نحن أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك الحكم ، فإن كان تقتضيه مطلقا وجب القضاء باستمرار الحكم كعقد النكاح مثلا ، فإنّه يوجب حلّ الوطء مطلقا ، فإذا وقع الخلاف في الألفاظ الّتي يقع بها الطلاق كقوله : أنت خليّة وبريّة ، فإنّ المستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع بهما لو قال : حلّ الوطء ثابت قبل النطق بهذه فيجب أن يكون ثابتا بعدها ، لكان استدلالا صحيحا ، لأنّ المقتضي للتحليل وهو العقد اقتضاه ، ولا نعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء فيكون الحكم ثابتا بالمقتضي.

لا يقال : المقتضي هو العقد ولم يثبت أنّه باق فلم يثبت الحكم ، لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حلّ الوطء لا مقيّدا بوقت ، فلزم دوام الحلّ نظرا إلى وقوع المقتضي لا إلى دوامه ، فيجب

__________________

(١) راجع المستصفى ١ : ٢١٧.

(٢) نهاية الوصول : في الاستصحاب ص ٢٠٣ ( مخطوط ).

(٣) التذكرة باصول الفقه ( مصنّفات الشيخ المفيد ) ٩ : ٤٥.

(٤) راجع اصول السرخسي ٢ : ١٤٠.

(٥) منهم السيّد المرتضى في الذريعة ٢ : ٨٣٠. ولم نقف على غيره من علمائنا.

٢٨٤

وثانيهما : ما حقّقناه ببراهين قاطعة من أنّ الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها غير معتبر شرعا.

الوجه الثاني : أنّه قد ورد من الشارع في بعض الصور حكم يوافق الاستصحاب الّذي اعتبروه ، وفي بعضها حكم يخالفه ، فعلم أنّ الاستصحاب بالمعنى الّذي اعتبروه ليس معتبرا شرعا.

ومن تأمّل في الأحاديث الواردة في حكم المتيمّم الّذي وجد الماء بعد دخوله

______________________________________________________

أن يثبت الحلّ حتّى يثبت الرافع. فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه فليس ذلك عملا بغير دليل ، وإن كان يعني به أمرا وراء ذلك فنحن مضربون عنه.

وأمّا ما ذكره من القيدين في المسألتين.

أمّا الاولى : فلأنّه قد ثبت أنّ صحّة التيمّم ليس مقيّدا بعدم طريان وجود الماء عليه بقول مطلق ، فإنّ وجوده بعد ركوع المصلّي لا يفسد التيمّم قولا واحدا بالنسبة لتلك الصلاة ، وقد ورد النهي عن قطع الصلاة مع الدخول فيها دخولا مشروعا ، فمن يدّعي جواز قطعها على هذه الحالة يحتاج إلى دليل ، ولو لا وجود الدليل على القطع قبل الركوع لقلنا به ، كما قاله الشيخ في المبسوط والخلاف : من أنّه يمضي في صلاته بالتلبّس بتكبيرة الاحرام (١) واختاره أيضا المرتضى (٢) وابن إدريس (٣) وبعض الروايات دالّة عليه (٤).

وأمّا الثانية : فلأنّ الاتّفاق واقع على أنّ نيّة إقامة العشرة قاطعة للسفر ، فبعد صلاة فريضة يلزم ويتأكّد حكم الإقامة واستصحابه حتّى يتحقّق تجدّد السفر ، فالرجوع إلى الحكم الأوّل في الحالتين معتضد بالدليل. وهذا طريق الأصحاب في العمل بالاستصحاب ، كما أشار إليه المحقّق (٥) ـ قدّس الله روحه ـ.

ومن جملة مواضع العمل بالاستصحاب مع الدليل : كلّ ما تضمّنه قوله عليه‌السلام : « إيّاك أن تنقض اليقين بالشكّ » (٦) وأن متيقّن الطهارة مع شكّه في الحدث متطهّر وعكسه محدث. والمصنّف لم يتنبّه لهذا وجرى على عادته في الاعتراضات الواهية.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٣٣ ، الخلاف ١ : ١٤١ ، الرقم ٨٩.

(٢) راجع المختلف ١ : ٤٣٥.

(٣) السرائر ١ : ١٤٠.

(٤) الوسائل ٢ : الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، ح ٣.

(٥) راجع معارج الاصول : ٢٠٧.

(٦) راجع التهذيب ١ : ٤٢١ ، ح ٨.

٢٨٥

في الصلاة (١) وفي حكم المسافر الّذي عزم على إقامة عشرة ثمّ بدا له (٢) وفي رواية خلف بن حمّاد الكوفي قال : تزوّج بعض أصحابنا جارية معصرا لم تطمث ، فلما اقتضّها سال الدم فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيّام ، قال : فأروها القوابل ومن ظنّوا أنّه يبصر ذلك من النساء فاختلفن ، فقال بعضهنّ : هذا من دم الحيض وقال بعضهنّ : هو من دم العذرة ، فسألوا عن ذلك فقهاءهم ـ كأبي حنيفة وغيره من فقهائهم ـ فقالوا : هذا شي‌ء قد أشكل ، والصلاة فريضة واجبة فلتتوضّأ ولتصلّ وليمسك عنها زوجها حتّى ترى البياض ، فإن كان دم الحيض لم تضرّها الصلاة وإن كان دم العذرة كانت قد أدّت الفريضة ، ففعلت الجارية ذلك. وحججت في تلك السنة فلمّا صرنا بمنى بعثت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام فقلت : جعلت فداك! إنّ لنا مسألة قد ضقنا بها ذرعا فإن رأيت أن تأذن لي فآتيك وأسألك عنها ، فبعث إليّ إذا هدأت الرجل وانقطع الطريق فأقبل إن شاء الله. قال خلف : فرعيت الليل حتّى إذا رأيت قد قلّ اختلافهم بمنى توجّهت إلى مضربه ، فلمّا كنت قريبا إذا أنا بأسود قاعد على الطريق ، فقال : من الرجل؟ فقلت : رجل من الحاجّ ، فقال : ما اسمك؟ قلت : خلف بن حمّاد ، قال : ادخل بغير إذن فقد أمرني أن أقعد هاهنا فإذا أتيت أذنت لك ، فدخلت وسلّمت فردّ السلام وهو جالس على فراشه وحده ما في الفسطاط غيره ، فلمّا صرت بين يديه سألني وسألته عن حاله فقلت له : إنّ رجلا من مواليك تزوّج جارية معصرا لم تطمث فلمّا اقتضّها سال الدم فمكث سائلا لا ينقطع نحوا من عشرة أيّام وإنّ القوابل اختلفن في ذلك ، فقال بعضهنّ : دم الحيض وقال بعضهنّ : دم العذرة ، فما ينبغي لها أن تصنع؟ قال : فلتتّق الله ، فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتّى ترى الطهر وليمسك عنها بعلها ، وإن كان من العذرة فلتتّق الله ولتتوضّأ ولتصلّ ويأتيها بعلها إن أحبّ ذلك ، فقلت له : وكيف لهم أن يعلموا ممّا هو حتّى يفعلوا ما ينبغي؟ قال : فالتفت يمينا وشمالا في القسطاط مخافة أن يسمع كلامه أحد ، قال : ثمّ نهد (٣) إليّ فقال : يا خلف سرّ الله سرّ الله! فلا تذيعوه ولا تعلموا

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٤ ح ٥.

(٢) راجع التهذيب ٣ : ٢٢١ ح ٥٥٣.

(٣) في المصدر : نفذ.

٢٨٦

هذا الخلق اصول دين الله بل ارضوا لهم ما رضي الله لهم من ضلال ، قال : ثمّ عقد بيده اليسرى تسعين ، ثمّ قال : تستدخل القطنة ثمّ تدعها مليّا ثمّ تخرجها إخراجا رفيقا ، فإن كان الدم مطوّقا في القطنة فهو من العذرة وإن كان مستنقعا في القطنة فهو من الحيض. قال خلف : فاستخفّني الفرح فبكيت ، فلمّا سكن بكائي قال : ما أبكاك؟ فقلت : جعلت فداك! من كان يحسن هذا غيرك؟ قال : فرفع يده إلى السماء فقال : والله إنّي ما اخبرك إلّا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عليه‌السلام عن الله عزوجل (١) *. وفي رواية زياد بن سوقة ، قال : سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن رجل اقتضّ امرأته أو أمته فرأت دما كثيرا لا ينقطع عنها يوما كيف تصنع بالصلاة؟ قال : تمسك الكرسف فإن خرجت القطنة مطوّقة بالدم فإنّه من العذرة تغتسل وتمسك معها قطنة وتصلّي ، فإن خرج الكرسف منغمسا بالدم فهو من الطمث تقعد عن الصلاة أيّام الحيض (٢). وفي رواية أبان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فتاة منّا بها قرحة في جوفها والدم سائل لا تدري من دم الحيض أو من دم القرحة ، فقال : مرها فلتستلق على ظهرها وترفع رجليها وتستدخل إصبعها الوسطى فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض وإن خرج من الجانب الأيسر فهو من القرحة (٣).

وفيما روى بعدّة طرق عن الصادقين عليهما‌السلام : في رجل رأى بعد الغسل شيئا ، إن

______________________________________________________

* لم يظهر من هذه الرواية ما يدلّ على مدّعاه. وقوله : « عقد بيده اليسرى تسعين » الظاهر أنّه عليه‌السلام أراد به تعليم المرأة كيف تستدخل القطنة في فرجها ، لأنّه وضع إبهامه على بنصره في محلّ يكون الاصطلاح فيه أنّه على تسعين في الحساب المعروف بين أهل ذلك الاصطلاح ، لأنّهم جعلوا عقد الأصابع علامات على مقدار الأعداد ، وهو معروف إلى الآن بين التجّار والدلالين فكأنّه عليه‌السلام استهجن ذكر ذلك صريحا فكنّى عنه بهذا ، والمفهوم منه أنّها لا تدخل القطنة بسبّابتها ولا بإصبعها الوسطى إلّا ببنصرها من يسارها لا يمينها ، فأفهم السائل هذا المعنى بهذه الإشارة المعروفة للمطلوب. وتخصيص البنصر من اليسرى في إزالة النجاسة بها حالة الاستنجاء يؤكّد هذا المعنى. والله أعلم.

__________________

(١) المحاسن ٢ : ١٩ ، ح ٢٢.

(٢) الكافي ٣ : ٩٤ ، ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٩٤ ، ح ٣.

٢٨٧

كان بال بعد جماعه قبل الغسل فليتوضّأ ، وإن لم يبل حتّى اغتسل ثمّ وجد البلل فليعد الغسل (١).

وفيما روي عنهم عليهم‌السلام بعدّة طرق في رجل استبرأ بعد البول إن خرج بعد ذلك شي‌ء فليس من البول ولكنّه من الحبائل (٢) يقطع (٣) بعدم جواز التمسّك بالاستصحاب الّذي اعتبروه.

الوجه الثالث : أنّ هذا الموضع من مواضع عدم العلم بحكمه تعالى ، وقد تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بأنّ بعد إكمال الشريعة يجب التوقّف في تلك المواضع كلّها ، ويجب الاحتياط في العمل أيضا في بعضها. وقد تقدّم طرف من تلك الأخبار (٤) وسيجي‌ء طرف منها فيها الكفاية إن شاء الله تعالى.

ثمّ أقول : ينبغي أن يسمّى هذا المسلك بالسراية لا بالاستصحاب ، لأنّه من باب سراية حكم موضع إلى موضع آخر.

ثمّ أقول : اعلم أنّ للاستصحاب صورتين معتبرتين باتّفاق الامّة ، بل أقول : اعتبارهما من ضروريّات الدين :

إحداهما : أنّ الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون ما جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن يجي‌ء صلى‌الله‌عليه‌وآله بنسخه.

وثانيهما : أنّا نستصحب كلّ أمر من الامور الشرعيّة مثل كون رجل مالك أرض ، وكونه زوج امرأة ، وكونه عبد رجل آخر ، وكونه على وضوء ، وكون ثوبه طاهرا أو نجسا ، وكون الليل باقيا وكون النهار باقيا ، وكون ذمّة الإنسان مشغولة بصلاة أو طواف ، إلى أن نقطع بوجود شي‌ء جعله الشارع سببا لنقض تلك الامور.

ثمّ ذلك الشي‌ء قد يكون شهادة العدلين ، وقد يكون قول الحجّام المسلم أو من في حكمه ، وقد يكون قول القصّار المسلم أو من في حكمه ، وقد يكون بيع ما يحتاج إلى الذبح والغسل في سوق المسلمين ، وأشباه ذلك من الامور الحسّية.

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٤٤ ، ح ٩٩.

(٢) الكافي ٣ : ١٩ ، ح ١.

(٣) خبر لقوله : ومن تأمّل في الأحاديث ... في ص ٢٨٥.

(٤) انظر ص ٢٧٧.

٢٨٨

لا يقال : العدالة ليست من الامور الحسّية.

لأنّا نقول : العدالة المعتبرة في باب الشهادات وإمام الجماعات عند قدمائنا وعند الأئمّة الهداة عليهم‌السلام مركّبة من أمر وجودي محسوس ومن عدم أمر محسوس وكلاهما ممّا يدرك بالحسّ ، وسيجي‌ء تحقيقه بما لا مزيد عليه في كلامنا إن شاء الله تعالى.

وينبغي أن نذكر أمثلة للصورة الثانية فإنّها من معظم المسائل الّتي يعمّ بها البلوى ، وسيجي‌ء في كلامنا (١) فانتظرها.

وأمّا التمسّك باستصحاب نفي حكم شرعيّ

سواء ظهرت فيه شبهة مخرجة أم لا.

فقد قال به المتأخّرون من أصحابنا والشافعية والحنفية ، فاعترضت الشافعية على الحنفية بأنّ قولكم بالاستصحاب في نفي الحكم الشرعي دون نفسه تحكّم.

وأنا أقول : عند النظر الدقيق لا تحكّم ، وذلك لوجهين :

أحدهما : ما حقّقناه سابقا من طروّ حالة تغيّر بسببها موضوع المسألة. وثانيهما : أنّ لاعتبار النفي الأزلي جهتين :

إحداهما : استصحابه. والثانية : تساوي نسبته إلى جميع الأزمنة والأحوال ، لأنّ كلّ ممكن إذا خلّي ونفسه كان معدوما كما تقرّر في موضعه ، ومنظور الحنفية اعتبار الجهة الثانية.

ثمّ أقول : قد رأيت في كلام أقوام من فحول الأعلام من الخاصّة والعامّة ما ينطق بعدم تفطّنهم بالفرق بين استصحاب النفي الأزلي وبين أصالة النفي. وسيجي‌ء زيادة توضيح للفرق بينهما في الفصل المعقود لبيان الاصطلاحات الّتي يعمّ بها البلوى ، إن شاء الله تعالى.

ثمّ أقول : كما لا يجوز التمسّك بأصالة النفي كذلك لا يجوز التمسّك باستصحاب النفي الأزلي بعين ما ذكرناه من الأدلّة.

__________________

(١) سيجي‌ء في الصفحة التالية.

٢٨٩

وأمّا الأمثلة الموعودة للصورة الثانية

من صورتي الاستصحاب المعتبرتين.

فمنها : صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال ، قلت : له الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك إلى جنبه شي‌ء ولم يعلم به؟ قال : لا حتّى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجي‌ء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ولكن تنقضه بيقين آخر (١).

وموثّقة عمّار الساباطي ـ بزعم العلّامة ومن وافقه من أصحابنا ، وأمّا على ما حقّقناه فهي كأخواتها كلّها صحيحة بمعنى أقوى من المعنى الّذي اصطلح عليه العلّامة ومن وافقه من أصحابنا على وفق اصطلاحات العامّة ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك (٢).

وما روي عن الصادق عليه‌السلام بعدّة طرق : الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر (٣).

وصحيحة زرارة قال : قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي‌ء من منيّ فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته؟ قال : تغسله وتعيد. قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا. قلت : فانّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك. قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شي‌ء أن أنظر فيه؟ قال : لا ولكنّك إنّما تريد أن يذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك. قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال : تنقض

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ ، ح ١١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٨٥ ، ذيل الحديث ١١٩.

(٣) الكافي ٣ : ١ ، ح ٢.

٢٩٠

الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ، لأنّك لا تدري لعلّه شي‌ء اوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ (١).

وصحيحة عليّ بن مهزيار قال : كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنّه بال في ظلمة الليل وأنّه أصاب كفّه برد نقطة من البول لم يشكّ أنّه أصابه ولم يره وأنّه مسحه بخرقة ، ثمّ نسي أن يغسله وتمسّح بدهن فمسح به كفّيه ووجهه ورأسه ، ثمّ توضّأ وضوء الصلاة فصلّى؟ فأجابه بجواب قرأته بخطّه : أمّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشي‌ء إلّا ما تحقّقت ، فإن تحقّقت (٢) ذلك كنت حقيقا أن تعيد الصلاة الّتي كنت صليتهنّ بذلك الوضوء بعينه ما كان منهنّ في وقتها ، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها ، من قبل أنّ الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة إلّا ما كان في وقت ، وإذا كان جنبا أو صلّى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته ، لأنّ الثوب خلاف الجسد ، فاعمل على ذلك إن شاء الله (٣).

أقول : المراد أنّ حكم الحدث غير حكم النجاسة فلو كان بدنه نجسا يكون حكمه حكم نجاسة الثوب.

ومنها : قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما أبالي أبول أصابني أو ماء ، إذا لم أعلم (٤).

وقول الصادق عليه‌السلام في حسنة الحلبي ـ بزعم العلّامة ومن وافقه ـ : إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه منيّ فليغسل الّذي أصابه ، فإن ظنّ أنّه أصابه ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء (٥).

وصحيحة عبد الله بن سنان قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر أني اعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فانّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه (٦).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ ، ح ٨.

(٢) في التهذيب : إلّا تحقّق فإن حقّقت.

(٣) التهذيب ١ : ٤٢٦ ، ح ٢٨.

(٤) التهذيب ١ : ٢٥٣ ، ح ٢٢.

(٥) التهذيب ٣ : ٥٤ ، ح ٤.

(٦) التهذيب ٢ : ٣٦١ ، ح ٢٧.

٢٩١

وصحيحة معاوية بن عمّار قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثياب السابريّة يعملها المجوس ـ وهم أخباث وهم يشربون الخمر ، ونساؤهم على تلك الحال ـ ألبسها ولا أغسلها واصلّي فيها؟ قال : نعم. قال معاوية فقطعت له قميصا وخطته وفتلت له أزرارا ورداء من السابري ثمّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار ، فكأنّه عرف ما اريد فخرج بها إلى الجمعة (١).

وصحيحة عبد الله بن عليّ الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في ثوب المجوسي ، فقال : يرشّ بالماء (٢).

وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرضا عليه‌السلام : الخيّاط والقصّار يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضّأ ما تقول في عمله؟ قال : لا بأس (٣).

وصحيحة ضريس الكناسي قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال : أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام (٤).

وصحيحة حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل وأنا حاضر عن جدي رضع من خنزير حتّى شبّ واشتدّ عظمه ، ثمّ استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ما تقول في نسله؟ قال : أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه ، وأمّا ما لا تعرفه فهو بمنزلة الجبن فكل ولا تسأل عنه (٥).

وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قال أبو عبد الله : كلّ شي‌ء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (٦).

وموثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ بزعم العلّامة والمتأخّرين عنه ، وإلّا فالحقّ أنّها صحيحة كأخواتها على ما حقّقناه سابقا ـ قال : سمعته يقول : كلّ شي‌ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦٢ ، ح ٢٩.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦٢ ، ح ٣٠ وفيه : عبيد الله بن عليّ.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٨٥ ، ح ٢٦٣.

(٤) التهذيب ٩ : ٧٩ ، ح ٧١.

(٥) الكافي ٦ : ٢٤٩ ، ح ١.

(٦) التهذيب ٩ : ٧٩ ، ح ٧٢.

٢٩٢

أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ؛ والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة (١).

ورواية معاوية بن وهب قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون في داره يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه ، ونحن لا ندري ما أحدث في داره ولا ندري ما حدث له من الولد ، إلّا أنّا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئا ولا حدث له ولد ، ولا تقسم هذه الدار بين ورثته الّذين ترك في الدار حتّى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان ، مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان أفنشهد على هذا؟ قال : نعم. قلت : الرجل يكون له العبد والأمة فيقول : أبق غلامي وأبقت أمتي فيوجد في البلد فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا الغلام لفلان لم يبعه ولم يهبه ، أفنشهد على هذا إن كلّفناه ونحن لم نعلم أحدث شيئا؟ قال فكلّما غاب عن يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد عليه (٢).

ورواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال له رجل : أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال : نعم. فقال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أفيحلّ الشراء منه؟ قال : نعم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لعلّه لغيره فمن أين جاز لك ، أن تشتريه ويصير ملكا لك ثمّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك. ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق (٣).

وصحيحة فضيل وزرارة ومحمّد بن مسلم أنّهم سألوا أبا جعفر عليه‌السلام عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصّابون ، قال : كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه (٤) يعني إذا اشتريته من رجل ظاهره الإسلام ، لأنّه في سوق المسلمين.

ويفهم من أحاديث هذا الباب إذا اجتمعت في الذهن أنّ من لم يقل (٥) بالتسمية

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ، ح ٤٠.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٧ ، ح ٤.

(٣) الكافي ٧ : ٣٨٧ ، ح ١.

(٤) الكافي ٦ : ٢٣٧ ، ح ٢.

(٥) في خ زيادة : مثلها.

٢٩٣

في الذبح يحرم الذبيحة المأخوذة من يده ، وأنّه إذا وجدت مطروحة في أرض من لم يقل بالتسمية لا يحرم. ولا بعد في ذلك ، لجواز أن يكون يد من لم يقل بالتسمية من أسباب الحرمة في حكم الشارع. ويؤيّده أنّه إذا أخذنا الدبس من يد من يقول بذهاب الثلثين نحكم بحلّيته ، وإذا أخذناه من يد من لا يقول بذلك نحكم بحرمته ، وقع التصريح بذلك في الأحاديث المسطورة في باب الأشربة (١).

ورواية قتيبة الأعشى قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذبائح اليهود والنصارى ، فقال : الذبيحة اسم ولا يؤمن على الاسم إلّا المسلم (٢).

ورواية سماعة قال : سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت والغراء؟ فقال : لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة (٣).

ورواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين؟ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن ، قيل : يا أمير المؤمنين لا ندري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ فقال : هم في سعة حتّى يعلموا (٤).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكيّ منها فيعزله ويعزل الميتة ، ثمّ إنّ الميتة والذكيّ اختلطا كيف يصنع به؟ قال : يبيعه ممّن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه فانّه لا بأس به (٥).

ورواية الحسن بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ رجلا أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي أصبت مالا لا أعرف حلاله من حرامه ، فقال له : أخرج الخمس من ذلك المال ، فإنّ الله عزوجل قد رضي من المال بالخمس واجتنب ما كان صاحبه يعلم (٦).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٣٣ ، باب تحريم العصير إذا اخذ مطبوخا ممّن يستحلّه قبل ذهاب ثلثيه.

(٢) الكافي ٦ : ٢٤٠ ، ح ١٢.

(٣) التهذيب ٩ : ٧٨ ، ح ٦٦.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٩٧ ، ح ٦.

(٥) الكافي ٦ : ٢٦٠ ، ح ١.

(٦) التهذيب ٤ : ١٣٨.

٢٩٤

ورواية سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال : يهريقهما ويتيمّم (١).

ورواية محمّد بن عيسى عن الرجل أنّه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة؟ قال : إن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبدا حتّى يقع السهم بها فتذبح فتحرق ، وقد نجت سائرها (٢).

وصحيحة زرارة قال والله ما رأيت مثل أبي جعفر عليه‌السلام قطّ ، قال : سألته قلت : أصلحك الله! ما يؤكل من الطير؟ قال : كل ما دفّ ولا تأكل ما صفّ. قال ، قلت : فالبيض في الآجام؟ فقال : ما استوى طرفاه فلا تأكل وما اختلف طرفاه فكل. قلت : فطير الماء؟ قال : ما كانت له قانصة فكل وما لم تكن له قانصة فلا تأكل (٣).

ورواية عبد الله بن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أكون في الآجام فيختلف عليّ الطير فما آكل منه؟ قال : كل ما دفّ ولا تأكل ما صفّ. قلت : إنّي أؤتى به مذبوحا؟ قال : كل ما كانت له قانصة (٤).

واعلم أنّ الأحاديث الّتي نقلناها في هذا الموضع كلّها متواترة المعنى.

ثمّ أقول : اعلم أنّه وقعت من جمع من المتأخّرين من أصحابنا لقلّة حذقهم في الأحاديث أغلاط في هذه المباحث :

من جملتها : أنّ الفاضل المدقّق الشيخ عليّ رحمه‌الله أفتى في بعض كتبه بأنّ ظنّ غلبة النوم على الحاسّتين كاف في نقض الوضوء (٥) وقد علمت تواتر الأخبار بخلاف ما أفتى به.

ومن جملتها : أنّ كثيرا منهم زعموا أنّ قولهم عليهم‌السلام : « لا تنقض يقينا بشكّ أبدا وإنّما تنقض بيقين آخر » جار في نفس أحكامه تعالى ، وقد فهّمناك أنّه مخصوص بأفعال الإنسان وأحواله وأشباههما من الوقائع المخصوصة *.

______________________________________________________

* إنّ اعتراف المصنّف بالفضل والتدقيق للشيخ عليّ كيف يجامع قلّة الحذق؟ والحال أنّ

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٠ ، ح ٦.

(٢) التهذيب ٩ : ٤٣ ، ح ١٨٢.

(٣) الكافي ٦ : ٢٤٧ ، ح ٣.

(٤) الكافي ٦ : ٢٤٨ ، ح ٦.

(٥) الرسالة الجعفرية ( رسائل المحقق الكركي ) : ٨٢.

٢٩٥

ومن جملتها : أنّ بعضهم توهّم أنّ قولهم عليهم‌السلام : « كلّ شي‌ء طاهر حتّى تستيقن أنّه قذر » يعمّ صورة الجهل بحكم الله تعالى ، فإذا لم نعلم أنّ نطفة الغنم طاهرة أو نجسة نحكم بطهارتها. ومن المعلوم أنّ مرادهم عليهم‌السلام : أنّ كلّ صنف فيه طاهر وفيه نجس ـ كالدم والبول واللحم والماء واللبن والجبن ـ ممّا لم يميّز الشارع بين فرديه بعلامة فهو طاهر حتّى تعلم أنّه نجس ، وكذلك كلّ صنف فيه حلال وحرام ممّا لم يميّز الشارع بين فرديه بعلامة فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه *.

______________________________________________________

في بعض الأحاديث الصحيحة : « إذا وجدت طعم النوم فتوضّأ » (١) ولا شكّ أنّ وجدان طعم النوم لازم لظنّ غلبته على الحاسّتين ، فإذا غلب ظنّه بذلك فلا ينفكّ عنه طعم النوم الموجب للوضوء بالنصّ. وأيضا فإنّه قد ورد في عدّة روايات « إنّ النوم ناقض » (٢) ومع غلبته على الحاسّتين يتحقّق. والدخول في الصلاة بالطهارة السابقة لم يثبت البقاء عليها إلّا إذا عارضها الشكّ في الحدث وهنا قد عارضها ظنّ الحدث فلا دلالة على بقاء حكمها ، واللازم من اعتبار الدخول في الصلاة بطهارة شرعيّة يقتضي عدم الجواز هنا ، لعدم تحقّق بقاء الطهارة الشرعيّة ، مع معارضة الظنّ بالنقض وعدم الدليل على بقاء الصحّة معه على هذا الوجه. وكلام الشيخ عليّ رحمه‌الله في محلّه هنا. وهذا القول موافق لمذهب المصنّف من عدم استصحاب بقاء الوضوء في هذه الحالة ، فكان ينبغي له قبوله.

وما ادّعاه من تواتر الأخبار بخلاف ذلك ، كأنّ المصنّف اختصّ بعلمه بسبب زيادة الحذق الّتي نفاها عن غيره ، وهو يدّعي التواتر في كلّ ما يريد من الأحكام.

وأمّا حكمه بعدم جريان النهي منهم عليهم‌السلام بقولهم : « لا ينقض اليقين بالشكّ » في نفس أحكامه تعالى فعجيب! لأنّ اللازم منه أنّ الحكم ببقاء المتطهّر على طهارته عند تيقّنها وعروض الشكّ ليس هو حكم الله تعالى وإنّما هو حكم العبد ـ على مدّعاه سابقا ـ وإذا لم يكن حكم الله فكيف يجوز الدخول به في الصلاة؟ والاتّفاق على صحّته ، وهل حكم الله شي‌ء غير ذلك؟

* أمّا القسم الثاني : فلا نزاع فيه ، لأنّه نصّ الحديث عن الصادق عليه‌السلام وهو موافق للتوهّم الّذي نسبه إلى بعضهم. وأمّا الأوّل فإذا حكمنا بالطهارة في النصف الّذي فيه طاهر وفيه نجس ، فكيف لا نحكم بالطهارة في الّذي لم يرد في شي‌ء منه نجاسة؟ لأنّ قبول ذلك الفرد من الصنف الّذي ورد في بعضه نجاسة للنجاسة باعتبار المشاكلة أقرب من الّذي لم يرد في شي‌ء من أفراده

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨١ الباب ٣ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٨ و ٩.

(٢) المصدر السابق ، ح ٤ و ٧.

٢٩٦

ومن جملتها : أنّ كثيرا منهم لم يتفطّنوا بالفرق بين ما إذا علمنا نجاسة شخص محصور بين شخصين معيّنين أو أشخاص معيّنة أو حرمته ولم نقدر على التميّز بينهما أو بينها ، وبين ما إذا لم نعلم نجاسة شخص أو حرمته ، فأجروا حكم الصورة الثانية والأحاديث الواردة فيها في الصورة الاولى.

ومن جملتها : أنّ جمعا من أرباب التدقيق منهم زعموا أنّه إذا علمنا نجاسة ثوب مثلا لا نحكم بطهارته إلّا إذا قطعنا بإزالتها أو شهد عندنا شاهدان عدلان (١) لأنّ اليقين لا ينقض إلّا بيقين أو بما جعله الشارع في حكم اليقين ، وهو شهادة عدلين في الوقائع الجزئية.

وأنا أقول : لنا على بطلان دقتهم دليلان :

الأوّل : أنّ اللبيب الّذي تتبّع أحاديثنا بعين الاعتبار والاختبار يقطع بأنّه يستفاد منها : أنّ كلّ ذي عمل مؤتمن في عمله ما لم يظهر خلافه وإن شئت أن تعلم كما علمنا فانظر إلى الأحاديث الواردة في القصّارين والجزّارين (٢) وحديث تطهير الجارية ثوب سيّدها (٣) والحديث الصريح في أنّ الحجّام مؤتمن في تطهيره موضع الحجامة (٤). لكن لا بدّ من قريحة قويمة وفطنة مستقيمة ، وإلّا تتعب نفسك وغيرك ، فإنّ كلّا ميسّر لما خلق له.

والدليل الثاني : أنّ هذه المسألة ممّا يعمّ به البلوى ، فلو كان حكمها مضيّقا كما زعموا لظهر عندنا منه أثر واضح بيّن ، ولم يظهر منهم عليهم‌السلام إلّا ما يدلّ على التوسعة. والله أعلم بحقائق أحكامه *.

______________________________________________________

نجاسة ، فكانت الطهارة فيه أولى من الآخر ؛ وكذلك القول أيضا في الّذي لم يرد فيه تحريم.

* إنّ الحقّ يسوق المصنّف إلى الاعتراف بما يبطل مذهبه واعتقاده من حيث لا يعلم ولا يشعر بذلك! فأين كلامه ممّا ملأ الأسماع والأذهان : أنّه لا يجوز التعويل على الظنّ في أحكامه تعالى بقول مطلق؟ وهنا يكتفي بالظنّ الحاصل من أخبار المخبر في جميع أحكام هذه المسائل

__________________

(١) راجع المعتبر ١ : ٥٤ و ....

(٢) الكافي ٦ : ٢٣٧ ح ٢ ، و ٥ : ٢٤١ ـ ٢٤٣.

(٣) الكافي ٣ : ٥٣ ، ح ٢.

(٤) التهذيب ١ : ٣٤٩.

٢٩٧

وقد بلغني أنّ جمعا من فحول علمائهم الورعين يهبون الثياب النجسة للقصّارين ثمّ يسترجعونها ، ومن المعلوم عند الفقيه الحاذق انّ هذه الحيلة غير نافعة. وقد نبّهناك على طرف من أغلاط المتأخّرين في فهم الأحاديث الواردة

______________________________________________________

تبعا للأحاديث وينكر على من يوهم كلامه خلاف ذلك ، ولا يشعر بأنّ هذه الأحاديث أدلّ دليل على الاكتفاء بالظنّ في الأحكام الشرعيّة فيما يتعسّر فيه العلم غالبا ، فكيف لا يدلّ على ما يتعذّر؟

وكذلك قوله : « إنّه لم يظهر منهم عليهم‌السلام إلّا ما يدلّ على التوسعة » فهلّا رخّصوا لشيعتهم العمل بالاجتهاد والظنّ الحاصل من اصولهم وقواعدهم؟ ولم يلزموهم بالحيرة والتوقّف وتعطيل الأحكام المحتاج إليها. وقد تحقّق من اتّفاق الأصحاب والحديث أنّ متيقّن الطهارة الشاكّ في الحدث يدخل في الصلاة بتلك الطهارة ، وهو صريح على التعويل على الظنّ فيه ، لأنّه بعد حصول الشكّ فقد ارتفع ذلك اليقين الأوّل من كونه متطهّرا ، وما بقى إلّا الظنّ.

والأخ الشيخ حسن ـ قدّس الله روحه ـ في المعالم في بحث عدم جواز العمل بالعامّ قبل البحث عن المخصّص وأنّه يكفي في البحث حصول الظنّ بانتفائه قال : وإنّما اكتفينا بالظنّ ولم نشترط القطع ، لأنّه ممّا لا سبيل إليه غالبا ، فلو اشترط لأدّى إلى بطلان العمل بأكثر العمومات (١). وهذا المحذور بعينه يتأتّى في الأخبار لو اشترطنا العلم بصحّتها وثبوتها.

وأمّا ما حكاه عن أرباب التدقيق وأبطله فقولهم فيه حقّ ، لأنّه مدلول الحديث (٢). وكلّ حكم يمكن الوصول فيه إلى العلم لا معدل عنه إلى غيره إلّا إذا تعسّر أو تعذّر ، وما ذكره من المسألة لا يتعذّر فيها تحصيل العلم بالطهارة أو ما يقوم مقام العلم من شهادة العدلين بزوال عين النجاسة على وجه يحصل به الطهارة. والاكتفاء في ذلك بالظنّ مع فرض إمكان العلم بأن يعيد طهارة الثوب على وجه تتحقّق به الطهارة إذا أمكن ـ كما في أخبار القصّار وما شابهه (٣) ـ بدليل من خارج لا ينافي ذلك ، وهو دليل على سهولة الحال في التكليف ، وعلى جواز التعويل على الظنّ وإن أمكن العلم وإن لم يتعسّر. وكلّ ذلك مناف لما يدّعيه كما أشرنا إليه. ولم تكن قريحته القويّة وفكرته المستقيمة الّتي يدّعيها تنبّهه وترشده إلى الصواب وتريحه من التعب والجهد في مثل هذه الأوهام والخيالات.

__________________

(١) معالم الدين : ١٢٠.

(٢) وهو قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين إلّا يقين مثله » أثبتناه من هامش الأصل.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٨٥ ، ح ٢٦٣.

٢٩٨

في الفروع أيضا ، لتعلم أنّه يجب عليك سلوك طريق قدمائنا ـ قدّس الله أرواحهم ـ بأن تعتمد في كلّ ما لم تعلم على معنى يكون الحديث صريحا فيه أو يكون لازما بيّنا قطعيا للمعنى الّذي صرّح به الحديث.

وبالجملة ، يجب عليك التوقّف في كلّ موضع يمكن عادة أن يقع فيه غلط من الرعيّة ، ولو لا وجوب إظهار الحقّ عليّ ما أظهرته. والله مطّلع على سرائر عباده.

وأمّا المصالح المرسلة

فالأدلّة المتقدّمة لإبطال التمسّك بالظنّ جارية فيها.

وأمّا التمسّك بالاستحسان

فكذلك.

فائدة

كلّ من جوّز الاستنباط من ظواهر كتاب الله وظواهر السنّة النبوية من غير أن يبلغه عن العترة الطاهرة عليهم‌السلام ما يدلّ على عدم طروّ نسخ عليهما وعلى بقائهما على ظاهرهما يلزمه القول بالاجتهاد الظنّي التزمه أو لم يلتزمه.

فائدة

ما اشتهر بين المتأخّرين : من أصحابنا من أنّ قول الميّت كالميّت لا يجوز العمل به بعد موته ، المراد به ظنّه المبنيّ على استنباط ظنّي. وأمّا فتاوى الأخباريّين من أصحابنا فهي مبنية على ما هو صريح الأحاديث أو لازمه البيّن فلا تموت بموت المفتي. نعم ، بعضها الّذي كان مبنيّا على حديث ورد في الواقع من باب التقيّة ينقطع العمل به إذا ظهر المهديّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وكذلك فتاوى المتأخّرين المبنيّة على صريح الحديث أو على لازمه البيّن لا تموت بموت صاحبها. لكنّ التمييز بين القسمين صعب على مقلّديهم.

٢٩٩

فائدة

كما لا اجتهاد عند الأخباريّين لا تقليد أيضا فانحصر العمل في غير ضروريات الدين في الرواية عنهم عليهم‌السلام.

فائدة

إذا ظهر عليك وانكشف لديك ما حقّقناه ظهر عليك سرّ حصرهم عليهم‌السلام القاضي في ثلاثة : في نبيّ ووصيّ نبيّ وشقيّ ، وذلك لأنّ القاضي من الرعيّة حينئذ يروي قضاءهم عليهم‌السلام وليس بقاض يستقلّ بالحكم كما تقول به العامّة والعلّامة ومن وافقه من أصحابنا *.

______________________________________________________

* إنّ حصرهم عليهم‌السلام ـ إن صحّ ـ فهو معلوم أنّ المراد به حال زمانهم عليهم‌السلام فإنّ الأمر كان كذلك ، وقد سمّى المصنّف الراوي عنهم قاضيا ، فيلزمه حينئذ المحذور ؛ على أنّ اسم « القاضي » لم يعرف إلّا لمن نصب نفسه للقضاء بعد أن يكون من أمر السلطان ، ولم يطلق على المجتهد إلّا نادرا.

وعلى كلّ حال فمجتهد الشيعة لا يستقلّ الحكم من رأيه كما نسبه إليه المصنّف بغير حقّ ، بل في كلّ مسألة لا بدّ أن يذكر مستندها من الحديث تصريحا إن وجد ، وإلّا فبنوع من الاستدلال الراجع إلى اصولهم وحديثهم عليهم‌السلام وهذا هو الموجود عيانا في تصانيفهم وفتواهم. وقد وقع إطلاق اسم القضاء في كلامهم عليهم‌السلام على من أذنوا في التحاكم إليه بقول الإمام : « فإنّي قد جعلته عليكم قاضيا » (١) وهو ينفي ما أراده المصنّف من لزوم المحذور لكلّ من صدق عليه اسم القضاء.

* * *

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤ باب ١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٥.

٣٠٠