الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

العمل بخلاف متضمّنه ، فإنّ جميع ذلك يوجب ترك العمل به. وإنّما قلنا ذلك ، لأنّ هذه الأدلّة توجب العلم والخبر الواحد لا يوجب العلم وإنّما يقتضي غالبا الظنّ والظنّ لا يقابل العلم. وأيضا فقد روي عنهم عليهم‌السلام أنّهم قالوا : « إذا جاءكم عنّا حديثان فاعرضوهما على كتاب الله وسنّة رسوله فإن وافقهما فخذوا به وما لم يوافقهما فردّوه إلينا » (١) فلأجل ذلك رددنا هذا الخبر. ولا يجب على هذا أن نقطع على بطلانه في نفسه ، لأنّه لا يمتنع أن يكون الخبر في نفسه صحيحا وله وجه من التأويل لا نقف عليه ، أو خرج على سبب خفي علينا الحال فيه ، أو تناول شخصا بعينه ، أو خرج مخرج التقية وغير ذلك من الوجوه ، فلا يمكننا أن نقطع على كذبه ، وإنّما يجب الامتناع من العمل به حسب ما قدّمناه.

فأمّا الأخبار إذا تعارضت وتقابلت فإنّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيح يكون بأشياء :

منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنّة المقطوع بها والآخر مخالفا لهما ، فإنّه يجب العمل بما وافقهما وترك العمل بما خالفهما ؛ وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقّة والآخر يخالفه وجب العمل بما يوافق إجماعهم ويترك العمل بما يخالفه فإن لم يكن مع أحد الخبرين شي‌ء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة نظر في حال رواتهما ، فما كان راويه عدلا وجب العمل به وترك العمل بما لم يروه العدل ـ وسنبيّن القول في العدالة المراعاة في هذا الباب ـ فإن كان رواتهما جميعا عدلين نظر في أكثرهما رواة عمل به وترك العمل بقليل الرواة. فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة ويترك العمل بما يوافقهم. وإن كان الخبران يوافقان العامّة أو يخالفانها جميعا نظر في حالهما ، فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالخبر الآخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل وإذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر وجب العمل بالخبر الّذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الآخر ، لأنّ الخبرين جميعا منقولان

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨.

١٦١

مجمع على نقلهما وليس هناك قرينة تدلّ على صحّة أحدهما ولا ما يرجّح أحدهما به على الآخر ، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ولا يعمل بالخبر الّذي إذا عمل به وجب اطراح العمل بالآخر ، وإن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادّهما وتنافيهما وأمكن حمل كلّ واحد منهما على ما يوافق الخبر على وجه كان الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء.

وأمّا العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر : فهو أن يكون الراوي معتقدا للحقّ مستبصرا ثقة في دينه متحرّجا من الكذب غير متّهم فيما يرويه.

فأمّا إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب وروى مع ذلك عن الأئمّة عليهم‌السلام نظر فيما يرويه ، فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه وجب اطراح خبره ، وإن لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره ويكون هناك ما يوافقه وجب العمل به ، وإن لم يكن هناك من الفرقة المحقّة خبر يوافق ذلك ولا يخالفه ولا يعرف لهم قول فيه وجب أيضا العمل به ، لما روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا إلى ما رووه عن عليّ عليه‌السلام فاعملوا به » (١) ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلّوب ونوح بن درّاج والسكوني وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه.

وأمّا إذا كان الراوي من فرق الشيعة ـ مثل الفطحية والواقفية (٢) والناووسية ، وغيرهم ـ نظر فيما يرويه ، فإن كان هناك قرينة تعضده أو خبر آخر من جهة الموثوقين بهم وجب العمل به ، وإن كان هناك خبر يخالفه من طريق الموثوقين وجب اطراح ما اختصّوا بروايته والعمل بما رواه الثقة ، وإن كان ما رووه ليس هناك ما يخالفه ولا يعرف من الطائفة العمل بخلافه وجب أيضا العمل به إذا كان متحرّجا في روايته موثوقا به في أمانته وإن كان مخطئا في أصل الاعتقاد ، فلأجل ما قلناه : عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره ، وأخبار الواقفية مثل

__________________

(١) لم نقف على مأخذه ، ونقله الحرّ العاملي قدس‌سره أيضا عن العدّة ، راجع الوسائل ١٨ : ٦٤ ح ٤٧.

(٢) في العدّة : الواقفة.

١٦٢

سماعة بن مهران وعليّ بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى ، ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضّال وبنو سماعة والطاطريّون وغيرهم فيما لم يكن عندهم فيه خلافه.

وأمّا ما ترويه الغلاة والمتّهمون والمضعّفون وغير هؤلاء فيما تختصّ الغلاة بروايته ، فإن كانوا ممّن عرف لهم حال استقامة وحال غلوّ عمل بما رووه في حال الاستقامة وترك ما رووه في حال خطائهم (١) ولأجل ذلك عملت الطائفة بما رواه أبو الخطّاب محمّد بن أبي زينب في حال استقامته وتركوا ما رواه في حال تخليطه ، وكذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي وابن أبي العزاقر وغير هؤلاء. فأمّا ما يرويه في حال تخليطهم فلا يجوز العمل به على كلّ حال.

وكذلك القول فيما ترويه المتّهمون والمضعّفون ، إن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدلّ على صحّتها وجب العمل به ، وإن لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحّة وجب التوقّف في أخبارهم ، فلأجل ذلك توقّف المشايخ عن أخبار كثيرة هذه صورتها ولم يرووها واستثنوها في فهارسهم من جملة ما يروونه من التصنيفات.

فأمّا من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرّزا فيها ، فإنّ ذلك لا يوجب ردّ خبره ويجوز العمل به ، لأنّ العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه وإنّما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره ، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم.

فأمّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إنّ أحدهما يقتضي الحظر والآخر الإباحة والأخذ بما يقتضيه الحظر أولى أو الإباحة ، فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه في الوقف ، لأنّ الحظر والإباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع فلا ترجيح بذلك ، وينبغي لنا التوقّف فيهما جميعا أو يكون الإنسان فيهما مخيّرا في العمل بأيّهما شاء.

وإذا كان أحد الراويين يروي الخبر بلفظه والآخر بمعناه ، ينظر في حال الّذي يرويه بالمعنى ، فإن كان ضابطا عارفا بذلك فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، لأنّه

__________________

(١) في نسخة من العدّة : تخليطهم.

١٦٣

قد ابيح له الرواية بالمعنى واللفظ معا ، فأيّهما كان أسهل عليه رواه. وإن كان الّذي يروي الخبر بالمعنى لا يكون ضابطا للمعنى أو يجوز أن يكون غالطا فيه ينبغي أن يؤخذ بخبر من رواه على اللفظ.

وإذا كان أحد الراويين أعلم وأفقه وأضبط من الآخر فينبغي أن يقدّم خبره على خبر الآخر ويرجّح عليه ، ولأجل ذلك قدّمت الطائفة ما يرويه زرارة ومحمّد بن مسلم وبريد وأبو بصير والفضيل بن يسار ونظراؤهم من الحفّاظ الضابطين على رواية من ليس له تلك الحال.

ومتى كان أحد الراويين متيقّظا في روايته والآخر ممّن يلحقه غفلة ونسيان في بعض الأوقات فينبغي أن يرجّح خبر الضابط المتيقّظ على خبر صاحبه ، لأنّه لا يؤمن أن يكون قد سها أو دخل عليه شبهة أو غلط في روايته وإن كان عدلا لم يتعمّد ذلك ، وذلك لا ينافي العدالة على حال.

وإذا كان أحد الراويين يروي سماعا وقراءة والآخر يرويه إجازة فينبغي أن يقدّم رواية السامع على رواية المستجيز. اللهمّ إلّا أن يروي المستجيز بإجازته أصلا معروفا أو مصنّفا مشهورا فيسقط حينئذ الترجيح.

وإذا كان أحد الراويين يذكر جميع ما يرويه ويقول : إنّه سمعه وهو ذاكر لسماعه والآخر يرويه من كتابه نظر في حال الراوي من كتابه ، فإن ذكر أنّ جميع ما في كتابه سماعه فلا ترجيح لرواية غيره على روايته ، لأنّه ذكر على الجملة أنّه سمع جميع ما في دفتره وإن لم يذكر تفاصيله وإن لم يذكر أنّه سمع جميع ما في دفتره ـ وإن وجده بخطّه أو وجد سماعه عليه في حواشيه بغير خطّه ـ فلا يجوز له أوّلا أن يرويه ويرجّح خبر غيره عليه.

وإذا كان أحد الراويين معروفا والآخر مجهولا قدّم خبر المعروف على خبر المجهول ، لأنّه لا يؤمن أن يكون المجهول على صفة لا يجوز معها قبول خبره.

وإذا كان أحد الراويين مصرّحا والآخر مدلّسا فليس ذلك ممّا يرجّح به خبره ، لأنّ التدليس هو أن يذكره باسم أو صفة غريبة أو ينسبه إلى قبيلة أو صناعة وهو

١٦٤

بغير ذلك معروف ، فكلّ ذلك لا يوجب ترك خبره.

وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا نظر في حال المرسل ، فإن كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلّا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوّت (١) الطائفة بين ما يرويه محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الّذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا ممّن يوثق به ، وبين ما سنده (٢) غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم. وأمّا إذا لم يكن كذلك ويكون ممّن يرسل عن ثقة وعن غير ثقة فإنّه يقدّم خبر غيره عليه ، وإذا انفرد وجب التوقّف في خبره إلى أن يدلّ دليل على وجوب العمل به ، فأمّا إذا انفردت المراسيل فيجوز العمل بها على الشرط الّذي ذكرناه. ودليلنا على ذلك الأدلّة الّتي قدّمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد ، فإنّ الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل فبما يطعن في واحد منهما يطعن في الآخر وما أجاز أحدهما أجاز الآخر ، فلا فرق بينهما على حال.

وإذا كان إحدى الروايتين أزيد من الرواية الاخرى كان العمل بالرواية الزائدة أولى ، لأنّ تلك الزيادة في حكم خبر آخر ينضاف إلى المزيد عليه ، فإذا كان مع احدى الروايتين عمل الطائفة بأجمعها فذلك خارج عن الترجيح بل هو دليل قاطع على صحّته وابطال الآخر ، فإن كان مع أحد الخبرين عمل أكثر الطائفة ينبغي أن يرجّح على الخبر الآخر الّذي عمل به قليل منهم.

وإذا كان خبر أحد المرسلين متناولا للحظر والآخر متناولا للإباحة فعلى مذهبنا الّذي اخترناه في الوقف يقتضي التوقّف فيهما ، لأنّ الحكمين جميعا مستفادان شرعا وليس أحدهما بالعمل العمل أولى من الآخر. وإن قلنا : إنّه إذا لم يكن هناك ما يترجّح به أحدهما على الآخر كنّا مخيّرين كان ذلك أيضا جائزا كما قلناه في الخبرين المسندين سواء. وهذه جملة كافية في هذا الباب (٣). انتهى كلام

__________________

(١) في خ وط : ميّزت ، والصواب ما أثبتناه من المصدر.

(٢) في المصدر : ما أسنده.

(٣) عدّة الاصول ١ : ١٢٦ ـ ١٥٥.

١٦٥

رئيس الطائفة في كتاب العدّة.

وذكر المحقّق الحلّي في اصوله ـ وما رأيت في اصول أصحابنا كتابا قريبا إلى الحقّ بعد كتاب العدّة لرئيس الطائفة إلّا إيّاه ، وهو في الحقيقة اختصار كتاب العدّة مع بعض زيادات وإيرادات من قبله ، رجع عنها في أوائل كتاب المعتبر ووافق رئيس الطائفة بعد أن خالفه ، ونعم الوفاق ـ : ذهب شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبيّن أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا بل بهذه الأخبار الّتي رويت عن الأئمّة عليهم‌السلام ودوّنها الأصحاب ، لا أنّ كلّ خبر يرويه إماميّ يجب العمل به ، هذا الّذي تبيّن لي في كلامه ويدّعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار حتّى لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به. واحتجّ لذلك بوجوه ثلاثة :

الأوّل : دعوى الإجماع على ذلك ، فإنّه رحمه‌الله ذكر أنّ قديم الأصحاب وحديثهم إذا طولبوا بصحّة ما أفتى به المفتي منهم عوّل على المنقول في اصولهم المعتمدة وكتبهم المدوّنة ، فيسلّم له خصمه منهم الدعوى في ذلك ، وهذه سجيّتهم من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زمن الأئمّة عليهم‌السلام فلو لا أنّ العمل بهذه الأخبار جائز لأنكروه وتبرّءوا من العامل به.

الوجه الثاني : وجود الاختلاف من الأصحاب بحسب اختلاف الأحاديث يدلّ على أنّ مستندهم إليها ، إذ لو كان العمل بغيرها ممّا طريقه القطع لوجب أن يحكم كلّ واحد بتضليل مخالفه وتفسيقه ، فلمّا لم يحكموا بذلك دلّ على أنّ مستندهم الخبر ، وعلى جواز العمل به.

لا يقال : هذا دليل على أنّهم غير معاقبين على العمل به وعدم العقاب لا يدلّ على كونه حقّا. لأنّا نقول : الجواب عن ذلك من وجهين : أحدهما : أنّ الغرض في جواز العمل بهذه الأخبار إنّما هو ارتفاع الفسق وارتفاع العقاب. والثاني : أنّه لو كان العمل بها خطأ لما جاز الإعلام بالعفو عن فعله ، لأنّ ذلك يكون إغراء بالقبيح.

الوجه الثالث : اعتناء الطائفة بالرجال وتمييز العدل من المجروح والثقة من

١٦٦

الضعيف والفرق بين من يعتمد على حديثه ومن لا يعتمد ، وكونهم إذا اختلفوا في خبر نظروا في سنده ، وذلك يدلّ على العمل بهذه الأخبار ، لأنّهم لو لم يعملوا بها لما كان لشروعهم في ذلك فائدة *.

وذكر : قد يقترن بخبر الواحد قرائن تدلّ على صدق مضمونه وإن كانت غير دالّة على صدق الخبر نفسه لجواز اختلافه مطابقا لتلك القرينة ، والقرائن أربع :

إحداها : أن يكون موافقا لدلالة العقل ، أو لنصّ الكتاب خصوصه أو عمومه أو فحواه ، أو السنّة المقطوع بها ، أو لما حصل الإجماع عليه. وإذا تجرّد عن القرائن الدالّة على صدقه ولم يوجد ما يدلّ على خلاف متضمّنه افتقر العمل به إلى اعتبار شروط نذكرها في مباحث متعلّقة بالمخبر ، وفيها مسائل :

المسألة الاولى : الإيمان معتبر في الراوي ، وأجاز الشيخ رحمه‌الله العمل بخبر الفطحية ومن ضارعهم بشرط أن لا يكون متّهما بالكذب ومنع من رواية الغلاة ، كأبي الخطّاب وابن أبي العزاقر. لنا قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (١).

احتجّ الشيخ رحمه‌الله بأنّ الطائفة عملت بخبر عبد الله بن بكير وسماعة وعليّ بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى وبما رواه بنو فضّال والطاطريّون. والجواب : أنّا لا نعلم إلى الآن أنّ الطائفة عملت بأخبار هؤلاء.

المسألة الثانية : عدالة الراوي شرط في العمل بخبره ، وقال الشيخ : يكفي كونه ثقة متحرّزا عن الكذب في الرواية وإن كان فاسقا بجوارحه ، وادّعى عمل الطائفة على أخبار جماعة هذه صفتهم.

ونحن نمنع هذه الدعوى ونطالب بدليلها ، ولو سلّمناها لاقتصرنا على المواضع الّتي عملت فيها الطائفة بأخبار خاصّة ولم يجز التعدّي في العمل إلى غيرها.

______________________________________________________

* هذا أيضا صريح في أنّ الأخبار كلّها لم تكن متحقّقة الثبوت لأنّها لو كانت كذلك. لما احتاجوا إلى تحقيق حال السند والبحث عن رجاله بعد كونها معلومة ثابتة والأخذ في العمل منها.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

١٦٧

ودعوى التحرّز من الكذب مع ظهور الفسق مستبعد إذ الّذي يظهر فسوقه لا يوثق بما يظهر من تحرّجه عن الكذب.

وذكر : إذا أرسل الراوي الرواية ، قال الشيخ رحمه‌الله : إن كان ممّن عرف أنّه لا يروي إلّا عن ثقة قبلت مطلقا ، وإن لم يكن كذلك قبلت بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة. واحتجّ لذلك بأنّ الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما عملت بالمسانيد فمن أجاز أحدهما أجاز الآخر (١) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وأنا أقول : قد فهّمناك أنّ القرائن قسمان : قرينة تدلّ على أنّ مضمون الحديث حكم الله في الواقع وقرينة تدلّ على أنّ الراوي لم يفتر فيما رواه ، ولا تدلّ على أنّ مضمونه حكم الله في الواقع ، لاحتمال وروده من باب التقية ، ومن المعلوم عند اولي الألباب أنّا نقطع في حقّ كثير من الناس بقرائن حاصلة عند المعاشرة أو حاصلة بدونها بأنّهم لم يرضوا بأن يفتروا في باب الرواية. وقد نقلنا عن الشيخ قدس‌سره أنّ المعتبر في باب الرواية قطعنا بكون الراوي ثقة في الرواية لا كونه مظنون العدالة.

وبالجملة ، كون الراوي ثقة نوع من القرائن المفيدة للقطع بأنّه لم يفتر في الرواية وتلك القرينة نجدها موجودة في كثير من الرواة بقرائن ما بلغنا من أحوالهم. وأمّا احتمال وقوع السهو من الراوي في خصوصيّات بعض ألفاظ الحديث فيندفع بوجوه آتية في كلامنا.

وذكر المحقّق الحلّي قدس‌سره في أوائل المعتبر في حقّ جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : روى عنه من الرجال ما يقارب أربعة آلاف رجل ، وبرز بتعليمه من الفقهاء الأفاضل جمّ غفير كزرارة بن أعين وأخويه بكير وحمران وجميل بن درّاج ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية والهشامين وأبي بصير وعبيد الله ومحمّد وعمران الحلبيّين وعبد الله بن سنان وأبي الصباح الكناني ، وغيرهم من أعيان الفضلاء حتّى كتبت من أجوبة مسائله أربعمائة مصنّف لأربعمائة مصنّف ، سمّوها اصولا.

__________________

(١) معارج الاصول : ١٤٧ ـ ١٤٩ و ١٥١.

١٦٨

وفي حقّ الجواد عليه‌السلام قد كان من تلامذته فضلاء كالحسين بن سعيد وأخيه الحسن وأحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي وأحمد بن محمّد بن خالد البرقي وشاذان بن الفضل القمّي وأيّوب بن نوح بن درّاج وأحمد بن محمّد بن عيسى ، وغيرهم ممّن يطول تعدادهم ، وكتبهم الآن منقولة بين الأصحاب دالّة على العلم الغزير *.

وذكر : لمّا كان فقهاؤنا ـ رضوان الله عليهم ـ في الكثرة إلى حدّ يعسر ضبط عددهم ويتعذّر حصر أقوالهم ، لاتّساعها وانتشارها وكثرة ما صنّفوه ، وكانت مع ذلك منحصرة في أقوال جماعة من الفضلاء المتأخّرين اجترأت بإيراد كلام من اشتهر فضله وعرف تقدّمه في نقل الأخبار وصحّة الاختيار وجودة الاعتبار ، واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بان فيه اجتهادهم وعرف به اهتمامهم وعليه اعتمادهم ، فممّن اخترت نقله : الحسن بن محبوب وأحمد بن محمّد بن أبي نصر

______________________________________________________

* إنّ من اطّلع على كثرة الأحاديث الواردة في القدح في أغلب من ذكره من الفضلاء عن أئمّتهم في زمانهم عرف كثرة الأحاديث الموضوعة في ذلك الزمان فضلا عن غيره ، بحيث لا يتحمّل حملها على التقيّة ، وفي حديث الفيض بن المختار من رواية الكشّي عن أبي عبد الله عليه‌السلام حيث قال له : جعلني الله فداك! ما هذا الاختلاف الّذي بين شيعتكم؟ قال وأيّ الاختلاف يا فيض ، فقال له الفيض : إنّي لأجلس في حلقهم بالكوفة فأكاد أشكّ في اختلافهم في حديثهم حتّى أرجع إلى المفضّل بن عمر فيوافقني من ذلك على ما تستريح إليه نفسي ويطمئنّ إليه قلبي ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أجل هو كما ذكرت يا فيض إنّ الناس أولعوا بالكذب علينا ، إنّ الله الّذي افترض عليهم لا يريد منهم غيره ؛ وإنّي احدّث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتّى يتأوّله على غير تأويله ، وذلك إنّهم لا يطلبون بحديثنا ما عند الله وإنّما يطلبون به الدنيا ... إلى آخر الحديث (١).

وإنّما نقلنا هذا الحديث ليعلم كثرة الأحاديث الضعيفة واختلاطها من ذلك الوقت ، والاحتياج إلى تمييزها والبحث عنها ، فكيف في مثل هذا الزمان مع تصريح مؤلّفي الحديث في أوائل كتبهم بكثرة التضادّ والاختلاف منه والاشتباه ، ولم ينبّهوا صريحا على أنّ ما نقلوه كلّه سليم عن ذلك وأنّهم ما دوّنوه من الاصول صحيحة لا تحتمل الضعف.

__________________

(١) الكشّي : ١٣٥ ، الرقم ٢١٦.

١٦٩

البزنطي والحسين بن سعيد والفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن ، ومن المتأخّرين : أبو جعفر محمّد بن بابويه القمي ومحمّد بن يعقوب الكليني : ومن أصحاب كتب الفتاوى : عليّ بن بابويه وأبو عليّ بن الجنيد والحسن بن أبي عقيل العماني والمفيد محمّد بن محمّد بن النعمان وعلم الهدى والشيخ أبو جعفر محمّد ابن الحسن الطوسي (١). انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وقال الفاضل المدقّق محمّد بن إدريس الحلّي في آخر كتاب السرائر ـ باب الزيادات ـ : فيما انتزعته واستطرفته من كتب المشيخة المصنّفين والرواة المحصّلين ، وستقف على أسمائهم إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك ما رواه موسى بن بكر الواسطي في كتابه ، ثمّ نقل أحاديث كثيرة ، ثمّ قال : تمت الأحاديث المنتزعة من كتاب موسى بن بكر الواسطي.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب معاوية بن عمّار ، ثمّ قال : تمّت الأحاديث المنتزعة من كتاب معاوية بن عمّار.

ومن ذلك ما استطرفناه من نوادر أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي صاحب الرضا ، ثمّ قال : تمّت الأحاديث المنتزعة من نوادر أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي.

ومن ذلك ما أورده أبان بن تغلب صاحب الباقر والصادق عليهما‌السلام في كتابه ، ثمّ قال : تمّت الأحاديث المنتزعة من كتاب أبان بن تغلب ، وكان جليل القدر عند الأئمّة عليهم‌السلام.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب جميل بن درّاج ، ثمّ قال : تمّت الأحاديث المنتزعة من كتاب جميل بن درّاج.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب السياري واسمه عبد الله ، ثمّ قال : تمّت الأحاديث المنتزعة من كتاب السيّاري صاحب موسى والرضا عليهما‌السلام.

ومن ذلك ما استطرفناه من جامع البزنطي ، صاحب الرضا عليه‌السلام ثمّ قال : تمّت الأحاديث المنتزعة من جامع البزنطي ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٦ ، ٣٣.

١٧٠

محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام والأجوبة عن ذلك ، ثمّ قال : تمّت الأخبار المنتزعة من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب حريز بن عبد الله السجستاني وهو من أجلّة المشيخة ، ثمّ قال : تمّت الأحاديث المنتزعة من كتاب حريز بن عبد الله السجستاني ، وكتاب حريز أصل معتمد معوّل عليه.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المشيخة تصنيف الحسن بن محبوب السرّاد صاحب الرضا عليه‌السلام وهو ثقة عند أصحابنا جليل القدر كثير الرواية أحد الأركان الأربعة في عصره ، ثمّ قال : تمّت الأحاديث المنتزعة من كتاب الحسن بن محبوب السرّاد الّذي هو كتاب المشيخة ، وهو كتاب معتمد.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب نوادر المصنّف تصنيف محمّد بن عليّ بن محبوب الأشعري الجوهري القميّ ، وهذا الكتاب كان بخطّ شيخنا أبي جعفر الطوسي نقلت هذه الأحاديث من خطّه من الكتاب المشار إليه.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب من لا يحضره الفقيه تصنيف محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه.

وممّا استطرفناه من كتاب قرب الإسناد تصنيف محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، ثمّ قال : تمّت الأحاديث المنتزعة من كتاب قرب الإسناد.

وممّا استطرفناه من كتاب جعفر بن محمّد بن سنان الدهقان رضى الله عنه.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب تهذيب الأحكام.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب عبد الله بن بكير بن أعين.

ومن ذلك ما استطرفناه من رواية أبي القاسم بن قولويه.

وممّا استطرفناه من كتاب المعالم تصنيف الصفواني.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المحاسن تصنيف أحمد بن أبي عبد الله البرقي.

ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب العيون والمحاسن تصنيف المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي (١).

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٤٩ ـ ٦٥١.

١٧١

انتهى ما أردنا نقله عن آخر السرائر لمحمّد بن إدريس الحلّي.

وأقول : من المعلوم أنّ فهرست الشيخ وفهرست النجاشي وفهرست محمّد ابن شهرآشوب المازندراني المتأخّر عنهما ونظائرها ، وما ذكره الشيخ في آخر كتابي الأخبار عند ذكر أسانيده إلى الكتب والاصول الّتي أخذ الحديث منها وما ذكره في أوائل كتاب الاستبصار وما ذكره في كتاب العدّة وما ذكره محمّد بن عليّ بن بابويه في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه وما ذكره الإمام ثقة الإسلام في أوائل كتاب الكافي وما ذكره محمّد ابن إدريس الحلّي في آخر السرائر وما ذكرناه سابقا نقلا عن السيّد المرتضى ، صريحة في أنّ تلك الاصول والكتب المعتمدة كانت موجودة عندهم. ومن المعلوم : أنّ عاقلا صالحا متمكّنا من أخذ الحديث من الاصول المعتمدة لا يعدل إلى غيرها. وأيضا من المعلوم : أنّه لو نقل غيرها ينصب علامة تميّزه عنها لأنّ قصدهم من تصانيفهم هداية الناس وإرشادهم. وفي خلط الأحاديث المأخوذة من الاصول المعتمدة مع غيرها من غير نصب علامة مميّزة بينهما تخريب للدين ، فلا يليق بمقام الهداية والإرشاد.

ثمّ أقول : قد صرّح المحقّق الحلّي فيما نقلناه بأنّ كتابي فضل بن شاذان ويونس ابن عبد الرحمن كانا مشتملين على أحاديث أصحابنا وكانا موجودين عنده مع غيرهما من الاصول المعتمدة وهو أخذ الحديث منهما ومن غيرهما (١) فما ظنّ المتأخّرين بمثل الإمام ثقة الإسلام ومثل ابن بابويه ومثل رئيس الطائفة؟ ووقع التصريح في مواضع من كتاب الكشّي بأنّ كلّ واحد من كتابي فضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن كان جامعا لاصول أصحابنا (٢).

وسيجي‌ء زيادة بيان لهذا المقام في الفصل التاسع إن شاء الله تعالى ، وإذا ترقّيت في هذه المباحث إلى هذه الدرجة من الإيضاح حقّ لك أن تقول : اطف المصباح قد طلع الصباح؟

وبالجملة ، أوّل من قسّم أحاديث اصول أصحابنا ـ الّتي كانت مرجعهم في عقائدهم وأعمالهم في زمن الأئمّة عليهم‌السلام وكانوا مجمعين على صحّة نقلها كلّها

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٣.

(٢) الكشّي : ٥٤٢ ، ٥٤٤.

١٧٢

عنهم عليهم‌السلام ـ إلى الأقسام الأربعة المشهورة بين المتأخّرين العلّامة الحلّي أو رجل آخر قريب منه ، ثمّ من جاء بعده وافقه كالشهيد الأوّل والفاضل الشيخ عليّ والشهيد الثاني وولده صاحب كتابي المعالم والمنتقى والفاضل المتبحّر المعاصر بهاء الدين محمّد العاملي. والسبب في إحداث ذلك غفلة من أحدثه عن كلام قدمائنا. والسبب في غفلته ألفة ذهنه بما في كتب العامّة ، والسبب في الالفة أنّه لمّا كانت أرباب الدول من أهل الضلالة وكانت المدرّسون في المدارس مظهري طرق الضلال انحصرت طرق الإفادة والاستفادة في كتب العامّة ، فإذا أراد أحد تحصيل الفضيلة لم يكن له بدّ من قراءة كتب العامّة على مدرّسيها. والله الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب *.

______________________________________________________

* الّذي ينبغي أن يقال عند هذه الحال : اضرموا المشعال فقد ادلهمّ الظلام واشتدّ القتام! وذلك أنّ المصنّف قد تعدّى غاية التعدّي على العلّامة وينسب إليه أشياء بعضها مخالف للحقّ وهو بري‌ء منها وبعضها حقّ والأمر محتاج إليه ومع ذلك يعيبه بها.

فأمّا الأوّل : فهو نسبته لاتّباع العامّة وسلوكه طريقتهم بقول مطلق حقّا كان أو باطلا وينسبه إلى الغفلة عن ذلك وقلّة التدبّر والتفطّن ، والحال أنّ العلّامة تكلّم على بن إدريس بسبب أنّ الشيخ رحمه‌الله قال في الخلاف : إنّ وقت الوقوف بعرفة من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم العيد (١) واعترضه ابن إدريس بأنّ هذا القول مخالف لأقوال علمائنا وإنّما هو قول لبعض العامّة أورده الشيخ في كتابه إيرادا لا اعتقادا (٢) فقال العلّامة رحمه‌الله : توهّم ابن إدريس أنّ الشيخ قصد بذلك الوقت الاختياري فأخطأ في اعتقاده ونسب الشيخ إلى تقليد بعض المخالفين مع أنّ الشيخ أعظم المجتهدين وكبيرهم ، ولا ريب في تحريم التقليد للمحقّ من المجتهدين ، فكيف للمخالف الّذي يعتقد المقلّد أنّه مخطئ ، وهل هذا إلّا جهالة واجتراء على الشيخ رحمه‌الله؟ (٣) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وأنت خبير بأن الّذي يعترض على غيره في فعل غير حسن ، كيف ينسب إلى ارتكاب مثله أو ما هو أشنع منه! كما ينسبه المصنّف إليه بغير حقّ.

وأمّا الثاني : فأوّل ما فيه أنّه جعل التقسيم إحداثا ـ كما قال في أوّل الكتاب ونبّهنا على كراهة لفظ الإحداث ـ وثانيا أنّه قد تقدّم عن قريب في كلام الشيخ رحمه‌الله من اعتناء الطائفة

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٣٣٧ ، الرقم ١٥٦.

(٢) السرائر ١ : ٥٨٧.

(٣) مختلف الشيعة ٤ : ٢٣٧.

١٧٣

فائدة

قد علمت أنّه من الواضحات البيّنات في صدور الّذين تتبّعوا كتب الرجال وكتب الأحاديث وفهرست اصول أصحابنا لا سيّما ، كتاب الكشّي وفهرست الشيخ وفهرست النجاشي وفهرست محمّد بن شهرآشوب المازندراني وأوّل الاستبصار وآخر كتابي الأخبار لرئيس الطائفة وكتاب العدّة له وكلام علم الهدى وكلام المحقّق الحلّي في المعتبر وفي كتاب الاصول وكلام محمّد بن إدريس الحلّي في آخر السرائر وكلام ابن بابويه في أوّل كتاب من لا يحضره الفقيه وكلام الإمام ثقة الإسلام في أوّل كتاب الكافي وكلام الشهيد الثاني في شرح رسالته في دراية الحديث وكلام صاحب كتابي المعالم والمنتقى وكلام صاحب كتاب مشرق الشمسين فيه وفي رسالته الوجيزة في فنّ دراية الحديث بل كلام العلّامة الحلّي في كتاب

______________________________________________________

بالرجال وتمييز العدل من المجروح والثقة من الضعيف والفرق بين من يعتمد على حديثه وبين من لا يعتمد ، وكونهم إذا اختلفوا في خبر نظروا في سنده ، وفرق بين الثقة وغيره ، وأنّ الطائفة لو لم يعوّلوا على ذلك لما كان في اعتناء أصحاب كتب الرجال بذلك فائدة. وهذا الكلام صريح أنّ الخبر لا يخلو من أحد الأقسام الأربعة الّتي قسّموها وإن لم يدوّنوا كلّ قسم على حدته في ذلك الوقت ، وهذا الأمر مشهور معروف من زمن الكشّي وابن عقدة وابن الغضائري وغيرهم ، فنسبة العلّامة رحمه‌الله إلى إحداثه افتراء عليه لو كان فيه محذور ، فكيف! وربّما أنّه يدّعي أنّه من قبيل الواجب للغاية المترتّبة عليه من تمييز ما يعمل به من غيره. ولو لا أنّ المتأخّرين والمتقدّمين لمّا رأوا أحوال الرواة واختلافهم نبّهوا على الصحيح والضعيف من المصنّفين منهم وغيرهم لأشكل الأمر غاية الإشكال ، وذلك لأنّ من جملة المصنّفين الأجلّاء ، مثلا محمّد بن مسعود العيّاشي وحاله معلوم في اتّساعه في الحديث وكتبه كثيرة ، ومع ذلك كان يروي عن الضعفاء كثيرا. وكذلك محمّد بن عمران الأشعري القمّي كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ، وكان محمّد بن الحسن بن الوليد يستثني من روايته ما يرويه عن جماعة متعدّدة. وأمثال ذلك كثير ، فلو لا تقسيم الحديث والتنبيه عليه وبيان الصحيح والضعيف والحسن لاشتبهت الحال وحصل الاختلاف فكان تقسيم الحديث أهمّ مطلوب ومرغوب ، فما فعله العلّامة رحمه‌الله من أحسن ما يمدح به ويثاب عليه.

١٧٤

النهاية عند تقسيم علماء الإماميّة إلى الأخباريّين والاصوليّين : أنّه كان عند قدمائنا أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام كتب واصول كانت مرجعهم في عقائدهم وأعمالهم ، وأنّهم كانوا متمكّنين من استعلام أحوال أحاديث تلك الكتب والاصول ومن أخذ الأحكام عنهم عليهم‌السلام بطريق القطع واليقين ومن التمييز بين الصحيح وغير الصحيح لو كان فيها غير صحيح.

ومن المعلوم أنّ مثلهم لا يغفل عن هذه الدقيقة ولا يقصّر في رعايتها ، وأنّ عاقلا فاضلا صالحا إذا أراد تأليف كتاب ليكون مرجعا للشيعة في عقائدهم وأعمالهم أو في أحدهما لا يرضى بأن يلفّق بين الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة من غير نصب علامة تميّز بينهما *.

بل أقول : أرباب التواريخ لا يرضون بأخذ الأخبار من موضع لا يعتمد عليه مع تمكّنهم من موضع يعتمد عليه ، فكيف يظنّ بخيار العلماء والأتقياء والصلحاء خلاف ذلك؟ لا سيّما الإمام ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني ورئيس الطائفة ومحمّد بن عليّ بن بابويه ، وقد علمت وفور القرائن الموجبة للقطع بما هو حكم الله في الواقع أو بورود الحكم عنهم عليهم‌السلام في زمن محمّد بن يعقوب الكليني وزمن محمّد بن عليّ بن بابويه وزمن علم الهدى وزمن رئيس الطائفة وزمن محمّد بن إدريس الحلّي وزمن المحقّق الحلّي.

______________________________________________________

* قد أكثر المصنّف رحمه‌الله من هذه التوجيهات المستغنى عن تكرارها إذا كان ما قدّمه مفيدا ومصحّحا لما يدّعيه ، وكأنّه أراد تطويل الكتاب بذلك ليسمّى مؤلّفا ، وإلّا فلا وجه لهذا التكرار ولا يزيده إلّا خطأ وإيضاحا لعدم صحّة ما يدّعيه ، فإنّ ما عدّده من كتب الرجال لو كانت كتب الاصول الصحيحة الثابتة موجودة والأخذ منها والاطّلاع عليها ممكن ورجالها كلّهم ثقات عدول أو متون تلك الاصول معلوما أنّها كلام الأئمّة عليهم‌السلام لما كان لكتب الرجال احتياج ، فالاهتمام بها وتدوينها يفهم أنّ من ذلك الوقت حصل في الأحاديث الاشتباه والالتباس وأنّهم احتاجوا إلى التمييز بينهما بوضع كتب الرجال.

ولو كانت الأحاديث في ذلك الوقت من زمن الأئمّة إلى من بعدهم يمكن معرفة الصحيح

١٧٥

فنقول : بقيت في زماننا بمنّ الله تعالى وبركات أئمّتنا عليهم‌السلام قرائن موجبة للقطع العادي بورود الحديث عنهم عليهم‌السلام :

______________________________________________________

منها أو التوصّل إلى الأئمّة عليهم‌السلام أو يكون هناك أصول معلوم للأئمّة عليهم‌السلام صحّتها ويمكن التوصّل إليها لم يأمروا عليهم‌السلام أصحابهم عند الاختلاف بالعرض على كتاب الله. وفي حديث الفيض بن المختار ـ المتقدّم ـ لم يرجع الصادق عليه‌السلام معرفة الصحيح عند ما سأله عن الاختلاف الواقع بين الأحاديث إلى تلك الاصول الّتي كتبت في زمانه ولم يجر لها ذكر عند الأئمّة عليهم‌السلام حين يسألهم أصحابهم عند الاختلاف والاشتباه بأن يرجع إليها لأنّها موجودة ثابتة عندهم وما خالفها كاذب ، بل أرجعهم الإمام عليه‌السلام إلى كتاب الله أو الأخذ بما خالف العامّة ، لأنّ الظاهر من الموافق للعامّة أن يكون غير صحيح ، وربّما كان ذلك في مواضع كثيرة أولى من الحمل على التقيّة.

فعلم من ذلك : أنّ تلك الاصول لو كانت موجودة كان يحتمل فيها ما يحتمل في غيرها إلّا ما نصّ الأئمّة عليه بعينه وهو قليل منها. ولم يعلم التمكّن من الوصول إليها في زمن الكليني وغيره ، ولهذا صرّح الشيخ رحمه‌الله بأنّ اختلاف القدماء ما كان سببه إلّا اختلاف الأحاديث (١) وهو كذلك ، لأنّها لو كانت كلّها صحيحة لما جاز الاختلاف والتضادّ فيها ، وما احتاجوا إلى وضع كتب الرجال إلّا لأجل الاختلاف الواقع ليتميّز الصحيح من الضعيف. وبعد اطّلاع الكلينيّ رحمه‌الله ومن تأخّر عنه على حال الأحاديث وشكواهم من مزيد الاختلاف والتضادّ فيها وتنبيههم على ذلك وعلمهم بأنّه قد وضع المتقدّمون طريقا لاستعلام الصحيح منها من غيره ، لم يحسن منهم في ذلك الوقت أن يميّزوا ما صحّ عندهم من غيره ويدوّنوه ويتركوا الباقي ، للزوم ذلك ترك أكثر الأحاديث ، ولاحتمال ظنّهم بضعف راو وثبت غيرهم فيما بعد صحّته (٢) فدوّنوا منها ما حسن ظنّهم به وأحالوا معرفة صحيحها من غيره إلى ما يعلم من كتب الرجال ، وليس في ذلك تدليس ولا تلفيق ولا عدم تنبيه كما يدّعيه المصنّف ، بل ربّما أنّه ما كان عندهم ظنّ بأنّ عاقلا يتوهّم بأنّ الأحاديث كلّها صحيحة وأنّ الاصول الثابتة بالقطع عنهم عليهم‌السلام موجودة في زمانهم بعد طول الزمان وأنّ الأخذ كلّه منها.

هذا ، مع تحقّق الاختلاف الّذي وقع في زمن الأئمّة وبعدهم بين العلماء في فتواهم. وما ذكره الشيخ رحمه‌الله ونبّه عليه في سبب احتمال ضعف الحديث من السهو والغلط والتصحيف والنقل بالمعنى وغير ذلك ممّا يوجب ارتفاع هذا الوهم عن أدنى من يكون له معرفة أو تعقّل ، فأيّ تنبيه

__________________

(١) انظر عدّة الاصول ١ : ١٣٦.

(٢) كذا ، والعبارة مشوّشة.

١٧٦

منها : أنّه كثيرا ما نقطع بالقرائن الحالية والمقالية بأنّ الراوي كان ثقة في الرواية لم يرض بالافتراء ولا برواية ما لم يكن بيّنا واضحا عنده وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه ، وهذا النوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا *.

ومنها : تعاضد بعضها ببعض (١).

ومنها : نقل العالم الثقة الورع ـ في كتابه الّذي ألّفه لهداية الناس ولأن يكون مرجع الشيعة ـ أصل رجل أو روايته مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل أو تلك الرواية وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم عليهم‌السلام **.

______________________________________________________

يفيد أزيد من ذلك لمن يلقي السمع وهو شهيد. والشيخ رحمه‌الله روى عن ابن عقدة عن أحمد بن محمّد المعروف بابن الصلت جميع رواياته ، وابن الصلت ممدوح غير موثّق وابن عقدة زيديّ ، فلو كانت الروايات الّتي رواها أخذها من أصل ثابت غير ما رواه عنه لم يحسن منه أن يدخل فيها هذه الجهالة والشبهة.

* العجب! من ادّعائه حصول صدق الراوي والعلم به بمجرّد كونه ثقة مع فساد مذهبه أو فسقه ، فإنّا ربّما مع المعاشرة التامّة لا نطّلع على حقيقة حال المعاشر ولا نعرف ولا نقطع عليه إلّا بالظاهر ممّا يوجب الظنّ الراجح أو مطلق الظنّ أو الاعتقاد المحتمل غير مطابقته لنفس الأمر ، فكيف يثبت عندنا بالقطع حال من بعد عنّا وبيننا وبينه مائة سنة ويتحقّق ذلك بالقرائن وما عرفنا حاله إلّا من أخبار الغير؟ وحالهم عندنا أيضا لا يخرج عمّا ذكرناه. نعم ربّما أنّ ذلك يفيد ظنّا راجحا مساويا لما يحصل من خبر الواحد العدل الإماميّ كما يقوله الشيخ رحمه‌الله عند تجويزه العمل بخبر الثقة مطلقا ، فمجازفة المصنّف في الدعاوي غير متّحدة.

** دعوى التمكّن من ذلك عجيب! ولو أمكن ما حصل اختلاف كثير بين الأخبار ، والعلماء (٢) وتعبوا في تأويل الأخبار بالوجوه البعيدة ، لكثرتها وعدم ترجيحهم لاطراح الضعيف منها ، لما ذكرناه سابقا ولو كانوا (٣) نبّهوا على صحّة المأخوذ من الكتب الصحيحة ، وذلك لا يختلف ولا يجوز عليه الاختلاف بعد العلم بمضمونه وصحّته على وجه القطع كما في المتواتر والمحفوف بالقرائن ، لكونه معلوم الثبوت. والغاية الّتي ألّف الكتاب لها ثقة الإسلام لا يفوت

__________________

(١) خ : بعضا.

(٢) في الأصل زيادة : و.

(٣) كذا في الأصل ، وفي نسخة هامش الحجريّة : وكانوا. والعبارة على كلّ منهما مشوّشة.

١٧٧

ومنها : تمسّكه بأحاديث ذلك الأصل أو بتلك الرواية مع تمكنه من أن يتمسّك بروايات اخرى صحيحة.

ومنها : وجوده في أحد كتابي الشيخ وفي الكافي وفي من لا يحضره الفقيه ، لاجتماع شهاداتهم على صحّة أحاديث كتبهم أو على أنّها مأخوذة من تلك الاصول المجمع على صحّتها.

ومنها : أن يكون راويه أحدا من الجماعة الّتي اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

ومنها : أن يكون راويه من الجماعة الّتي ورد في شأنهم من بعض الأئمّة عليهم‌السلام أنّهم ثقات مأمونون ، أو خذوا عنهم معالم دينكم ، أو هؤلاء أمناء الله في أرضه ، ونحو ذلك.

فائدة

فإن قلت : بهذه القرائن اندفع احتمال الافتراء وبقي احتمال السهو في خصوصيات بعض الألفاظ.

قلت : هذا الاحتمال يندفع تارة بتعاضد الأخبار بعضها ببعض ، وتارة بملاحظة تطابق الجواب والسؤال ، وتارة بتناسب أجزاء الحديث وتناسقها.

فإن قلت : بقي احتمال آخر لم يندفع ، وهو احتمال إرادة خلاف الظاهر.

قلت : من المعلوم أنّ الحكيم في مقام البيان والتفهيم لا يتكلّم بكلام يريد به خلاف ظاهره من غير وجود قرينة صارفة بيّنة ، لا سيّما من اجتمعت فيه نهاية الحكمة مع العصمة. ولا يجري ذلك في أكثر كلام الله ولا في أكثر كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلينا ، لقولهم عليهم‌السلام : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (١) وقولهم عليهم‌السلام : « كلام

______________________________________________________

بذلك ، لأنّه يكفي فيها حفظ الحديث عن التفرّق والضياع كما صار لكثير منه ، ولا يخلّ ذلك بالهداية بعد أن كان للناس طريق إلى معرفة الصحيح من غيره.

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣١٢ ، ذيل الحديث ٤٨٥.

١٧٨

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل كلام الله في الأكثر يحتمل الناسخ والمنسوخ ، وقد يكون عامّا ، وقد يكون خاصّا ، وقد يكون مؤوّلا » ولا يعلم ذلك من جهتنا ، لأنّا مخاطبون بها عارفون بما هو المراد منهما. وأيضا مقتضى تصريحات الأئمّة عليهم‌السلام بالفرق بين كلامهم وبين كلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ لهما وجوها مختلفة وبأنّهما يحتملان الناسخ والمنسوخ (١) وبأنّهما وردا في الأكثر على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعيّة وورد بقدر عقول الأئمّة عليهم‌السلام (٢) بخلاف كلام الأئمّة عليهم‌السلام فإنّه لا يحتمل أن يكون منسوخا ، وأنّه ورد بقدر إدراك الرعيّة وهم مخاطبون به ، فيكون كلامهم عليهم‌السلام خاليا عن ذلك الاحتمال.

هكذا ينبغي أن تحقّق هذه المواضع ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

* * *

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٢ ، ح ١. لا يوجد فيه : مؤوّلا.

(٢) انظر الكافي ١ : ٦٣ ح ١.

١٧٩

الفصل الأوّل

في إبطال التمسّك بالاستنباطات الظنّية في نفس أحكامه تعالى

وفيه وجوه :

ـ أوّلها ـ

عدم ظهور دلالة قطعية على جواز الاعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى ، والتمسّك فيه بالظنّ يشتمل على دور ظاهر ، مع أنّه معارض بأقوى منه من الآيات الصريحة في النهي عن العمل بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى (١) * والروايات الصريحة في ذلك (٢). وقياسه على الظنّ المتعلّق بالامور العادية أو الامور الوجدانية أو الأفعال الصادرة عنّا أو غيرها من الامور الّتي ليست من باب أحكامه تعالى ـ كقيم المتلفات واروش الجنايات وإضرار الصوم بالمريض وعدد الركعات

______________________________________________________

* إنّ العمل بخبر الواحد من جملة المسائل الّتي يستدلّ عليها بالأدلّة الّتي تفيد العلم ، ولا يكتفون فيها بالظنّ ، وحكمها حكم بقيّة مسائل الاصول. وأمّا دعواه دلالة الآيات والروايات بالصراحة على النهي عن العمل بالظنّ بقول مطلق فغير مسلّم لأنّه قد ثبت العمل بالظنّ في مواضع عديدة ، وكلّ تكليف يتعذّر فيه تحصيل العلم يرجع فيه إلى الظنّ ، وإلّا يلزم تكليف ما لا يطاق إن بقي التكليف ، أو التوقّف فتتعطل الأحكام ، وكلاهما خلاف الحكمة المقتضية لعدم جوازه ، لأنّ الدين متكفّل بحصول معرفة كلّ ما يحتاج إليه المكلّف من غير تعطيل وتوقّف.

__________________

(١) الاسراء : ٣٦ ، الأنعام : ١١٦ ، يونس : ٣٦.

(٢) راجع الوسائل ١٨ : ٢٠ الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، ح ٨ و ٩.

١٨٠