الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

الفلاسفة ليس في قدرته تعالى وإيجابه ـ كما اشتهر بين القدماء ـ بل في مجرّد قدم العالم وحدوثه ، وذلك لأنّ المحقّقين من المتكلّمين وافقوا الحكماء في أنّ الشي‌ء ما لم يجب بوجوب سابق لم يوجد وفي امتناع تخلف المعلول عمّا اقتضاه العلّة التامّة فثبت الإيجاب.

وأقول : زعمهم هذا باطل ، وتحقيق المقام : أنّ الفلاسفة زعموا أنّ استناد أفعاله تعالى إلى الداعي يستلزم نقصانه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! وذهبوا إلى أنّ الشي‌ء ما لم يجب بوجوب سابق لم يوجد ، ففرّعوا على المقدّمتين أنّ تعلّق إرادته تعالى بأحد طرفي المعلول واجب بالنسبة إلى ذاته تعالى من غير مدخلية الداعي. ومن المعلوم : أنّه يلزمهم أن لا يكون الله تعالى متمكنا من الطرف الآخر كما في الفاعل الطبيعي.

والأشاعرة وافقوا الفلاسفة في المقدّمة الاولى دون الثانية حيث قالوا : تعلّق إرادته تعالى بأحد طرفي المعلول مستند إلى ذاته تعالى من غير أن يوجبه ، وقالوا : إنّ الله تعالى متمكّن من أن يتعلّق إرادته بالطرف الآخر ، لكنّه لم يقع.

والمعتزلة وافقوا الفلاسفة في المقدّمة الثانية دون الاولى ، حيث قالوا : تعلّق إرادته تعالى بأحد طرفي المعلول مستند إلى الداعي بطريق الوجوب. ومن المعلوم : أنّه إذا أوجب الفاعل معلوله لأجل الداعي لا يلزم عدم تمكّنه من الطرف الآخر.

وملخّص الكلام : أنّ كلّ من قال بأنّه ليس في جانب المعلول حالة يكون لها مدخل في إيجاب الفاعل معلوله ، يلزمه أن يكون وجوب المعلول بالنسبة إلى ذات الفاعل ، ويستلزم هذا المعنى عدم تمكّنه من الطرف الآخر كما في الفاعل الطبيعي. وكلّ من أنكر المقدّمة القائلة بأنّ « الشي‌ء ما لم يجب لم يوجد » خلص من أن لا يكون الفاعل متمكّنا من الطرف الآخر ، إذ لا ايجاب حينئذ. وكلّ من قال بأنّ « في جانب المعلول حالة لها مدخل في ايجاب الفاعل له » خلص من ذلك أيضا ، لأنّه من المعلوم بديهة أنّ كلّ من أوجب معلوله لأجل الداعي فهو متمكّن من أن يتركه.

وأقول : بهذا التحقيق ظهر عليك وانكشف لديك أنّ معنى قولهم : « الخلاف في القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك » أنّ الخلاف في القدرة بمعنى تمكنه من طرفي

٥٠١

المعلول ، فالصحّة بمعنى التمكّن ، لا بمعنى الجواز والإمكان ، وأنّ صدور المعلول الأوّل واجب بالنسبة إلى ذات الله تعالى من حيث إنّه علم بالمصلحة من حيث هو هو ، فلا يلزم عدم تمكنه تعالى من الترك. هكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع ، والتكلان على التوفيق.

وما ذكرناه من ابتناء الإيجاب على المقدّمتين مذكور في مبحث حدوث الأجسام من الشرح الجديد للتجريد (١) وصرّح به سلطان المحقّقين نصير الدين محمّد الطوسي في رسالته المصنّفة في اصول الدين المسمّاة بـ « الفصول النصيرية » (٢) إن شئت فارجع إليهما.

ومن تلك الجملة :

أنّ الفاضل الدواني ذكر في حاشيته القديمة على الشرح الجديد للتجريد : اشتهر بين المتكلّمين أنّ ترجيح الفاعل المختار لأحد الطرفين بمحض تعلّق الإرادة من دون مرجّح آخر جائز ، وإنّما المحال هو الترجيح من دون مرجّح. وفيه نظر ، لأنّ تعلّق الإرادة بأحد الطرفين دون الآخر إن كان لا لمرجّح لزم ترجيح أحد المتساويين من دون مرجح مطلقا ، وإن كان يتعلّق الإرادة بذلك التعلّق لزم التسلسل في تعلّقات الإرادة ، ثمّ مجموع تلك التعلّقات امور ترجّحت على ما يساويهما من دون مرجّح ، فتأمّل.

واعلم أنّه لا حاجة لهم إلى ذلك ، إذ غرضهم ـ وهو نفي الحوادث المتسلسلة ـ يحصل بأن يقال : الذات موجب لتعلّقات الإرادة القديمة بوجود الحوادث في وقت معيّن ، فالإرادة وتعلّقها كلاهما قديمان ، والمراد حادث (٣) انتهى كلامه.

وأقول : من المعلوم : أنّه يلزم حينئذ عدم تمكّنه تعالى من الطرف الآخر ، لما حقّقناه سابقا [ ومقصود الأشاعرة من التزام جواز الترجيح من غير مرجّح الجواب

__________________

(١) انظر شرح تجريد العقائد ( للقوشجي ) : ١٨٣.

(٢) فارسي في اصول الدين ، للخواجة نصير الدين الطوسي ، لا يوجد عندنا.

(٣) لا توجد عندنا تلك الحاشية.

٥٠٢

عن شبهة قدم العالم من غير أن يلزم كونه تعالى فاعلا موجبا ومن غير أن يلزم كون أفعاله تعالى معلّلة بالغايات ] (١).

ومن تلك الجملة :

أنّ الفاضل الدواني ذكر في رسالة خلق الأعمال مقتديا بأصحابه الأشاعرة : أنّ اضطرار العبد في أفعاله يلزم المعتزلة ، لأنّ مبادئ أفعاله من التصوّر والتصديق بفائدته وإرادة إيجاده صادرة عنه تعالى وعند حصولها يجب صدور الفعل عنه (٢).

وأنا أقول : هو خيال ضعيف. وذلك ، لأنّ الّذي تسلّمه المعتزلة هو أنّ المبادئ المشتركة بين قلبي الصالح والطالح فائضة منه تعالى ، ثمّ المبادئ المنتهية إلى صدور الفسق بعينه أو المنتهية إلى صدور الكفّ عنه صادرة من العبد عندهم بإيجاب اختياري أي مستند إلى الداعي *.

وبالجملة ، إرادة القبيح قبيحة عقلا وشرعا عند المعتزلة وهي من جملة المبادئ ، فكيف يسلّمون أنّ مبادئ أفعال العباد كلّها فائضة منه تعالى على النفوس الناطقة؟

وتوضيح المقام أن نقول : تخلّف فعل العبد عن إرادته وتخلّف إرادته عن العلم بالعلّة الغائية ممتنعان ، لأجل أنّ العبد عند العلم بالعلّة الغائية يريد البتّة وعند الإرادة يفعل البتّة ، لا أنّه يفعل البتّة لامتناع التخلّف ، حتّى يلزم الاضطرار ، نظير ذلك علمه تعالى في الأزل بفعل العبد في وقت معيّن ، فإنّه تعالى علم لأجل أنّه يفعل العبد ، لا أنّه يفعل العبد لأجل أنّه تعالى علم. وبوجه آخر : المفروض أنّه تعلّق إرادة العبد بأحد طرفي فعله لأجل الداعي. ومن المعلوم : أنّه لا إلجاء حينئذ ، ضرورة أنّ التمكّن من الطرفين وهو معنى القدرة موجود حينئذ.

______________________________________________________

* لو كان مجرّد تصوّر الفعل من العبد والتصديق بفائدته والقدرة عليه المفروض أنّ ذلك كلّه من الله ـ سبحانه ـ موجبا للزوم إيجاد الفعل كان كلام الأشاعرة له وجه. وأمّا إذا لم يكن كذلك بل يكون العبد مع حصول هذه الأشياء قادرا على الفعل والترك فهو معنى الاختيار ، فظهر عدم الإلزام واستغنى عن طول الكلام.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.

(٢) لا توجد لدينا الرسالة المذكورة.

٥٠٣

بل أقول : قد صرّح سلطان المحقّقين في الفصول النصيرية بأنّ مرادنا من القادر في حقّه تعالى وفي حقّ العباد من تكون أفعاله منوطة بالداعي أي العلم بالعلّة الغائية. وبوجه آخر : العبد يوجب أحد الطرفين لأجل ملاحظة العلّة الغائية ، لأنّ أحد الطرفين يجب بالنسبة إلى مجموع مركّب من الفاعل ومن ملاحظة العلّة الغائية ومن الإرادة ليلزم الإيجاب الطبيعي. وبوجه آخر : الضرورة قاضية بأنّا متمكّنون من الطرفين ، فعلم أنّ الدليل الّذي ذكره الفاضل الدواني يصادم البديهة ، وكلّ ما هو كذلك باطل ، فالدليل المذكور باطل.

وتحقيق توجّه هذا النوع من الجواب مذكور في بحث المجهول المطلق من حاشية السيّد الشريف العلّامة على شرح المطالع (١). وأيضا لك أن تقول : يلزم من هذا الدليل أن يكون الله تعالى فاعلا موجبا بالذات وكون العبد مضطرّا من جهته تعالى.

ومن تلك الجملة :

أنّ سلطان المحقّقين نصير الدين محمّد الطوسي ذكر في الامور العامّة من التجريد : أنّ من خواصّ الإمكان الذاتي الحدوث (٢) والشرّاح والمحشّون حملوا كلامه على الحدوث الذاتي بمعنى أنّه مسبوق بالغير سبقا ذاتيّا لا على الحدوث الزماني بمعنى أنّه مسبوق بالعدم في زمان ما (٣) ثمّ تحيّروا في إتمام ما ذكره في الإلهيّات من قوله : والواسطة غير معقولة (٤).

وأنا أقول : تحقيق كلامه أنّ قصده من الحدوث الحدوث الزماني ، ودليله على ذلك مذكور في رسالته المصنّفة في اصول الدين (٥). وتوضيح المقام : أنّه قد تمّت ثلاثة براهين قطعيّة على امتناع وجود ممكن قديم :

الدليل الأوّل منها : مذكور في كتاب الأربعين للفخر الرازي (٦) وفي الفصول النصيرية لسلطان المحقّقين (٧) وفي غيرهما من الكتب الكلامية.

وملخّصه : أنّه لو وجد ممكن قديم لكان إيجاد الفاعل إيّاه في حال بقائه أو في

__________________

(١) انظر شرح المطالع : ٢٣.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١١٥.

(٣) انظر كشف المراد : ٨٨.

(٤) تجريد الاعتقاد : ١١٩.

(٥) فارسي في اصول الدين ، للخواجة نصير الدين الطوسي ، لا يوجد عندنا.

(٦) لا يوجد عندنا.

(٧) لا يوجد عندنا.

٥٠٤

حال حدوثه أو في حال عدمه ، فعلى الأوّل يلزم الفرض المحال من تحصيل الحاصل ، وعلى الثاني والثالث يلزم الخلف مع المطلوب.

والدليلان الآخران سنحا لي ، فالأوّل منهما أنّ تأثير الفاعل منحصر في قسمين : الإخراج من العدم إلى الوجود وحفظ وجود الموجود ، ومن المعلوم أنّ القسم الأوّل لا يتصوّر في الممكن القديم ، وأنّ القسم الثاني غير كاف في الوجود المستفاد من الغير. والثاني منهما : أنّ كلّ ممكن يكون بقاؤه قديما يحتاج إلى حفظ الفاعل إيّاه أزلا وكلّ ما احتاج إلى الحفظ استغنى عن إيجاد الفاعل إيّاه (١).

والدليل الثاني منها : أنّه لو وجد ممكن قديم لكان بقاؤه قديما ولكان إيجاده إيجاد الباقي ، فيلزم الفرض (٢) المحال من تحصيل الحاصل.

وتوضيحه أن يقال : كما أنّ إيجاد شي‌ء في زمان بقاؤه يستلزم الفرض المحال من تحصيل الحاصل ، كذلك إيجاد شي‌ء بقاؤه قديم يستلزم الفرض المحال من تحصيل الحاصل. والمتأخّرون لمّا غفلوا عن أنّ قدم الممكن يستلزم قدم بقائه أو عن أنّ إيجاد الباقي يستلزم تحصيل الحاصل المحال ، أو عنهما زعموا أنّه لم يتمّ دليل عقلي على إثبات حدوث العالم وإنّما تمّ على حدوث الأجسام (*).

______________________________________________________

* من تأمّل جوابي المصنّف وجدهما راجعين إلى الجواب المشهور في المعنى مع تفسير بعض اللفظ ، لأنّ الإخراج من العدم إلى الوجود وحفظ الموجود يرجعان إلى الشقّ الثالث. والأوّل من الجواب المشهور في جوابه الأوّل. وقوله : « لكان إيجاده إيجاد الباقي » في جوابه الثاني يرجع إلى الأوّل من المشهور. وجعل المصنّف أحد الاحتمالين في جوابه الأوّل حفظ الموجود لا مناسبة له ، لأنّ المفروض أنّ الحادث هو الّذي لا يتقدّم له وجود لذاته ، فكيف يحتمل فيه أن يراد تأثير حفظ وجوده القديم.

وقول المحقّق : « والواسطة غير معقولة » إن أراد بها الواسطة بين القديم ووجوده فالأمر كذلك ، لأنّ ثبوتها مناف للقدم ، وإن أراد غير ذلك لم يتّضح ما أراده ممّا ذكر من الأجوبة.

__________________

(١) وردت هذه الفقرة في النسخ بعد قوله : « والدليل الثاني منها ... على حدوث الأجسام » والصواب ما نضدناه.

(٢) في خ هنا وفيما يأتي : الفرد المحال.

(٣) يعني غفلوا عنهما.

٥٠٥

[ فإن قلت : ينتقض الدليل الأوّل والثالث لوجود الواجب تعالى ، فإنّه غير متقدّم على بقائه.

قلت : مبنى الدليل الأوّل والثالث على أن يكون الوجود المستفاد من الغير في حال البقاء يستلزم تعدّد حصول شي‌ء واحد. وأتمّ دليل سنح لي في هذا المقام أنّ هنا مصدرين متعدّيين : أحدهما إعطاء الفاعل للمعلول وجودا ، وثانيهما حفظ أصل ذلك الوجود ، وعندنا مقدّمة بديهيّة ، وهي أنّ مقتضى طبع المصدرين تقدّم الأوّل على الثاني تقدّما لا يجامع معه القبل البعد ، سواء سمّي بالتقدّم الزماني أو بشبه الزماني أو بالدهري أو بغيرها من الأسماء. وقدم وجود الممكن يستلزم خلاف مقتضى طبعهما ، لأنّ الحفظ حينئذ أيضا قديم.

وإن قلت : يرد على الدليل الثاني منع الانحصار في القسمين وسنده أنّ هنا قسما ثالثا اسمه استتباع الفاعل المعلول.

قلت : عند التأمّل الدقيق يعلم قطعا ] (١)

[ وتنقيح المقام ] (٢) : أنّ التأثير قسمان : جعل شي‌ء جعلا بسيطا سواء كان المجعول نفس الماهية أو وجودها أو اتّصافها بالوجود ، وحفظ المجعول. ومن المعلوم : أنّ المجعول إمّا حادث أو قديم ، وجعل الحادث منحصرا في إخراجه من العدم إلى الوجود. والممكن القديم محتاج في الأزل دائما إلى الحفظ لأنّ بقاءه أزليّ ، وكلّ محتاج إلى الحفظ مستغن عن الجعل ما دام هو كذلك ، فليتأمّل.

وممّا سنح لي في هذا المقام : أنّ نسبة المصادر المتعدّية كالإيجاد وحفظ الوجود إلى (٣) جميع الأوقات ليست على السويّة ، فيختصّ بوقت دون وقت ، وكلّ ما هو كذلك حادث.

[ وممّا سنح لي أنّ طبع قسمي التأثير يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر قبلية لا تجامع القبل معها ، سواء سمّي بالزماني أو بشبيه الزماني ، ولمّا كان بقاء الممكن

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في ط.

(٢) لم يرد في خ.

(٣) العبارة في خ : وممّا سنح لي أنّ نسبة الممكن على ....

٥٠٦

القديم قديما يلزم انتفاء تلك القبلية ، لأنّه يلزم قدم الحفظ أيضا.

وأقول : الحكماء وعلماء الإسلام لمّا غفلوا عن انقسام تأثير الفاعل إلى قسمين : جعل المعلول ، وحفظ المجعول بعد الجعل ، مع وقوع التصريحات بهما في الآيات والروايات تحيّروا في أثر الفاعل في حال بقاء المجعول ، حتّى الفاضل الدواني طوّل الكلام في هذا المبحث من غير طائل. واشتهر بينهم أنّ أثر الفاعل حينئذ هو بقاء المعلول مع اعترافهم بأنّه أمر انتزاعي ، وبأنّ أثر الفاعل يجب أن يكون موجودا ؛ وكذلك اختاروا أنّ الماهيّات مجعولة بجعل البسيط وأثر هذه المواضع. والتكلان على التوفيق. ] (١)

وقد زلّت أقدام فحول من الأعلام في هذا المقام ، فافهم وكن على بصيرة.

ومن تلك الجملة :

أنّ المحقّقين من متأخّري المنطقيّين أثبتوا قضيّة موجبة سالبة المحمول ، وذكروا أنّ صدقها لا يقتضي وجود الموضوع ، وبها دفعوا عن قدمائهم نقضا واردا على قاعدة من قواعد باب التصوّرات وهي « أنّ نقيضي المتساويين متساويان » وعلى قاعدة من قواعد باب التصديقات وهي « أنّ الموجبة الكلّية تنعكس كنفسها بعكس النقيض » والفاضل الدواني الزاعم أنّه من أرباب التحقيق ـ وهو عن ذلك بعيد ـ لم يتفطّن بمرادهم فاعترض عليهم بأنّ النسبة الإيجابيّة تقتضي وجود الموضوع سواء كان المحمول عدوليّا أو سلبيّا أو محصّلا ، والسيّد الشيرازي وافقه في هذا الاعتراض ، وكذلك مولانا ميرزا جان الشيرازي ومولى عبد الله اليزدي وغيرهما من الأفاضل المتأخّرين.

والّذي ظهر لي في تحقيق كلامهم : أنّ قصدهم من « الموجبة السالبة المحمول » جملة اسمية إيجابية خبرها جملة فعلية سلبية ، وأنّ الفرق بين الجملة الكبرى والجملة الصغرى : أنّ الموضوع تكرّر في الكبرى دون الصغرى ، فالجملة الكبرى سالبة في المعنى موجبة في اللفظ ، كما صرّح به السيّد الشريف العلّامة في حاشية

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.

٥٠٧

منطق شرح المختصر ، مثلا قولنا : « ليس زيد بقائم » جملة سلبيّة وهي خبر لزيد في قولنا زيد ليس هو بقائم.

وتوضيح المقام : أنّه ليست في الجملة الكبرى نسبة جديدة لا إيجابية ولا سلبية ، وإنّما الموجود فيها النسبة السلبية المشتملة عليها الجملة الصغرى ، وهي كافية في حصول الجملة الكبرى.

وللفاضل الدواني خيالات دقيقة عن الحقّ بعيدة منشورة في حواشيه مع اشتهاره بين من لا تحقيق له من الناس بأنّه رجل محقّق ، قد ذكرنا جملة منها في بعض فوائدنا ، وإنّما قصدنا بذلك تنبيه الناس على أنّه لا يعصم عن الخطأ في مادّة من الموادّ إلّا التمسّك بأصحاب العصمة عليهم‌السلام.

ومن تلك الجملة :

أنّ المتكلّمين زعموا أنّ حدوث العالم دليل على أنّه تعالى فاعل قادر لا موجب ، بمعنى أنّه متمكّن من طرفي المعلول. وزعمهم هذا مبنيّ على أنّ ربط الحادث بالقديم إنّما يكون بالتسلسل من جانب المبدأ أو بأن يقتضي العلّة التامّة الأزلية وجود المعلول في وقت معيّن ، ويمتنع في غير الفاعل المختار هذا النحو من الاقتضاء ، والتسلسل من جانب المبدأ باطل ، فتعيّن أن يكون الواجب تعالى قادرا.

وأنا أقول : أوّلا : الفرق بين الفاعل القادر وبين غيره في هذا النحو من الاقتضاء ممّا لا يطمئنّ به قلب سليم وطبع مستقيم ، بل الحقّ أنّه يمتنع هذا النحو من الاقتضاء مطلقا (١).

وثانيا : أنّه لمانع أن يقول : يكفي فيما زعموه من الفرق كون تأثير الفاعل عن علم وإرادة ولا يحتاج إلى أن يكون الفاعل قادرا بالمعنى الأخصّ وهو مطلوبهم.

وثالثا : أنّه لمانع أن يقول : يجوز أن يكون السبب في حدوث العالم توقّف الوجوه المستفاد من الغير على العدم الأزلي كما هو متوقّف على الامكان الذاتي

__________________

(١) في ط العبارة هكذا : بل الحقّ أنّ مآل هذا الكلام إلى كون حضور قطعة مخصوصة من الوقت من أجزاء العلّة التامّة للمعلول الأوّل.

٥٠٨

وعلى الاحتياج إلى العلّة.

ولذلك اشتهر بين الحكماء : أمكن فاحتاج فوجب بالغير فوجد [ ولو قيل : عدم العالم بعد وجوده ينفي الإيجاب ، لكان أقرب إلى الصواب.

وبالجملة ، هنا احتمال ثالث غير الاحتمالين المشهورين بين القوم لربط الحادث بالقديم ، وهذا الاحتمال ممّا لا اعتبار عليه ] (١) وكلام أصحاب العصمة عليهم‌السلام صريح في أنّ حقيقة التأثير إنّما هو الإخراج من العدم إلى الوجود أو حفظ الوجود بعد أن حصل ، وفي أنّه يمتنع إيجاد القديم.

[ وهذا يؤيّد ما ذكرناه : من توقّف الوجود المستفاد من الغير على القدم الأزلي ] (٢) وما اشتهر في كتب المتكلّمين والحكماء : من أنّه يمتنع توقّف وجود الشي‌ء على عدمه ، فمعناه : أنّه يمتنع توقّف وجود الشي‌ء في وقت على عدمه في ذلك الوقت بعينه. وإن عمّمت هذه المقدّمة صارت ممنوعة بل باطلة.

ومن المعلوم : أنّ العدم الأزلي لا يجوز أن يكون جزءا أخيرا من العلّة التامّة للمعلول الأوّل ، لأنّه قديم. لكن قد حقّقنا في بعض فوائدنا : أنّه كما ينتزع العقل الزمان من الحركة ، كذلك إذا لاحظنا صانع العالم ـ جلّ جلاله ـ ولاحظنا معه أنّه لا أوّل لوجوده تعالى وأنّه لا آخر له ننتزع منه أمرا ممتدّا غير قارّ الذات يشبه الزمان وليس بزمان ، و « الأزل » اسم للشقّ الماضي من ذلك الأمر الممتدّ ، و « الأبد » اسم للشقّ المستقبل منه و « السرمد » اسم لمجموعه.

فنقول في ربط الحادث بالقديم : إنّ حضور قطعة مخصوصة من ذلك الأمر الممتدّ هو الجزء الأخير من العلّة التامّة للمعلول الأوّل : وذلك إمّا لتوقّف المعلول الأوّل عليها بالطبع ، أو لاقتضاء المصلحة إيجاد المعلول الأوّل في تلك القطعة ، ولا ترتّب ولا تعاقب في نفس الأمر بين أجزاء ذلك الأمر الممتدّ الانتزاعيّ ، بل ننتزع أمرا ممتدّا مترتّب الأجزاء متعاقبها ، فترتّب الأجزاء وتعاقبها داخلان في نفس المنتزع وليسا من صفاته الّتي يتّصف بهما في نفس الأمر.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في ط.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.

٥٠٩

وبهذا التحقيق الّذي لا تحقيق فوقه فررنا ـ بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام ـ من التزام (١) التسلسل في جانب العلّة ومن التزام قدم بعض الممكنات ، وقد التزمتهما الفلاسفة في ربط الحادث بالقديم في الدورات الفلكية. والسيّد الشريف الجرجاني ومولانا عبد الله اليزدي ومولانا ميرزا جان الشيرازي التزموهما في تعلّقات إرادته تعالى أو غيرها من الامور الانتزاعية منه تعالى.

فإن قلت : من المعلوم : أنّ ذلك الأمر الممتدّ ممكن ، فننقل الكلام إلى علّة أجزائه ليلزم (٢) المحذورات.

قلت : تحقيق المقام : أنّ صلاحية انتزاع ذلك الأمر الممتدّ من صفات الذات له تعالى ، كما أنّ كونه تعالى بحيث لا أوّل لوجوده ولا آخر من صفات الذات له تعالى ، فلم تكن له من الممكنات ، وأمّا نفس ذلك الأمر الممتدّ فهو ممكن حادث في أذهان المنتزعين دفعة واحدة.

فإن قلت : حصص ذلك الأمر الممتدّ لا يمتاز بعضها عن بعض في نفسه ، فكيف يكون بعضها مناط شي‌ء دون بعض؟

قلت : لا نسلّم ذلك ، بل في علم الله تعالى بعضها ممتاز عن بعض في نفسه كحصص الزمان. وبعد اللّتيا والّتي خطرت ببالي طريقة اخرى في ربط الحادث بالقديم أسهل من الّتي تقدّمت وأتمّ ، ومجملها : أنّ مقتضى المصلحة المعلومة له تعالى ايجاد المعلول الأوّل بعد استمرار عدمه الأزلي استمرارا مخصوصا معلوما عنده تعالى ، فتأثير الفاعل موقوف على مضيّ ذلك الاستمرار.

فإن قلت : الكلام إلى علّة مضيّ ذلك الاستمرار.

فنقول : العدم الأزلي واستمراراته ومضيّ تلك الاستمرارات غير محتاجة إلى تأثير فاعل ، فلا تكون محتاجة إلى علّة. ألا ترى أنّه تقرّر عند المحقّقين من الحكماء والمتكلّمين : أنّ معنى تحقّق العدم عدم تحقّق الوجود ، ومعنى تأثير عدم شي‌ء في عدم شي‌ء آخر عدم تأثير الشي‌ء الأوّل في الشي‌ء الثاني. ألا ترى أنّه لو لا

__________________

(١) خ : إيراد.

(٢) خ : لعدم.

٥١٠

تأثير الفاعل لاستمرّ العدم الأزلي للمعلوم الأوّل إلى الأبد من غير استناد إلى علّة. وبالجملة ، لربط الحادث بالقديم طرق :

الطريقة الاولى : ما ذكرت الفلاسفة من توسّط السلسلة الغير المتناهية المترتّبة المتعاقبة بين صانع العالم وبين الحوادث وهي الدورات الفلكيّة حيث قالوا : لو لا الحركة القديمة لما انحلّ إشكال ربط الحادث بالقديم.

والطريقة الثانية : ما ذكره السيّد الشريف في حاشية شرح الأصفهاني وتبعه مولانا ميرزا جان ومولانا عبد الله اليزدي وجماعة من توسّط السلسلة المترتّبة الغير المتناهية بينهما ، وهي تعلّقات إرادته تعالى لئلّا يلزم قدم العالم.

والطريقة الثالثة : ما اختاره الغزالي والمحقّق الطوسي والفاضل الدواني (١) وجماعة : من جواز تخلّف المعلول عن علّته التامّة إذا كان تأثير الفاعل تأثيرا اختياريّا لا طبيعيّا.

والطريقة الرابعة : ما اخترناها في أوائل أفكارنا من توسّط الأمر الممتدّ الغير القارّ الذات المنتزع من ذاته تعالى عند ملاحظة أنّه لا أوّل لوجوده ولا آخر.

والطريقة الخامسة : ما اخترناها بعد ذلك : من أنّ مضيّ قدر مخصوص من استمرار العدم الأزلي جزء أخير من العلّة التامّة لكلّ ممكن ، وهذا الجزء الأخير حادث غير محتاج إلى علّة ، لأنّ كلّ محتاج إلى علّة محتاج إلى تأثير الفاعل. صرّحت ببداهة المقدّمة الأخيرة جماعة منهم الفاضل الدواني. والأثر لا يكون إلّا موجودا صرّحت جماعة من المحقّقين ببداهة هذه المقدّمة في مبحث إثبات أنّ الماهيّات الممكنة مجعولة بجعل بسيط ، ولأنّه تقرّر عندهم أنّ معنى ترتّب عدم على عدم أمر عدم ترتّب وجود هذا على وجود ذاك ، ولأنّ التحقّق والتقرّر والحصول والشيئيّة والثبوت والكون ألفاظ لمعنى واحد مختصّ بالموجودات. جماعة صرّحوا بذلك ، منهم السيّد الشريف في حواشي شرح حكمة العين. ولا يتصوّر العلّية والمعلولية أي المعنى المصحّح لدخول الفاء بأن يقال : « وجد العلّة فوجد المعلول » إلّا في الأمر

__________________

(١) أغمضنا عن تخريج هذه الأقوال وما يأتي من الأقوال المنقولة في هذا المبحث ، لعدم توفّر مصادر أكثرها عندنا ، ولما لا نرى طائلا تحت هذه العمليّة وإن كان من متداول التحقيق.

٥١١

المتحقّق. صرّحوا بذلك في مواضع من جملتها ما مضى ، ومن جملتها قولهم : « معنى جواز التسلسل في الامور الانتزاعية أنّه ليس فيها تسلسل في الحقيقة » صرّح بذلك مولانا ميرزا جان في حواشيه على رسالة إثبات الواجب للفاضل الدواني.

فإن قلت : إذا لم يكن للعدمات تحقّق ، فكيف يكون مضيّ قدر مخصوص من استمرار العدم الأزلي حادثا وجزء من العلّة التامّة لحادث.

قلت : هنا دقيقة لم يصدّق بها إلّا قلب اولي النهى ، وهي : أنّ معنى « نفس الأمر » نفس الشي‌ء ، إذ الأمر هو الشي‌ء ، ومعنى كون الشي‌ء في نفس الأمر : أنّه ليس منوطا بفرض فارض أو اعتبار معتبر ، مثلا : الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار متحقّقة في حدّ ذاتها سواء وجد فارض أو لم يوجد أصلا وسواء فرضها أو لم يفرضها قطعا ، بخلاف زوجية الخمسة ، فمعنى كون الشي‌ء في نفس الأمر يرجع إلى معنى سلبي هو أنّه ليس منوطا بفرض فارض واعتبار معتبر ، فهذا المعنى السلبي أعمّ من المتحقّق في نفس الأمر ، فالعدم نفس الأمر طرف لنفسه لا لتحقّقه ، والّذي وجد نفس الأمر طرف لتحقّقه.

وممّا مهّدناه ظهر عليك وانكشف لديك أنّ الفلاسفة والمتكلّمين خبطوا في بيان كيفيّة ربط الحادث بالقديم ، لأنّ الفلاسفة بنوا ذلك الربط على التزام التسلسل من جانب المبدأ في الامور المتعاقبة في الوجود ، والمتكلّمين بنوا ذلك الربط على أنّه يجوز في الفاعل القادر بالمعنى الأخصّ أن يكون مقتضاه وجود المعلول في وقت معيّن مع استجماعه جميع شرائط التأثير في الأوّل.

ويرد على الأوّل أبحاث :

أحدها : أنّه عند التحقيق والنظر الدقيق يلزم التسلسل في الامور المترتّبة المجتمعة في الوجود ، ولا يكفي التسلسل في الامور المتعاقبة في الوجود ، وذلك لأنّا نقول : الجزء الأخير من العلّة التامّة للمعلول الأوّل حادث وهكذا ، ثم تلك الأجزاء الأخيرة من العلّة التامّة (١) إمّا وجودات أو عدمات أو ملفّق منهما ، وعلى

__________________

(١) في ط العبارة هكذا : وكذلك الجزء الأخير من العلّة التامّة لتلك العلّة التامّة إمّا وجودات ....

٥١٢

التقادير يلزم التسلسل في الامور الموجودة المترتّبة المجتمعة في آن حدوث المعلول الأوّل أو في آن قبله أو في الآنين. ولا يرد هذا البحث على الطريقة الّتي اخترناها في ربط الحادث بالقديم ، لأنّه لا علّيّة ولا تعاقب بين أجزاء ذلك الأمر الممتدّ ، بل ينتزع أمرا ممتدّا متعاقبا.

وثانيها : أنّ برهان الأسدّ الأخصر يبطل التسلسل من جانب المبدأ مطلقا سواء كان آحاده مجتمعة في الوجود أم متعاقبة ، وبرهان التطبيق وبرهان التضايف يبطلان التسلسل مطلقا ، سواء كان من جانب العلّة أو من جانب المعلول ، وسواء كانت آحاده مجتمعة في الوجود أو متعاقبة.

وثالثها : أنّه قد تمّت براهين قطعية على امتناع ممكن قديم ، والتسلسل في الموجودات المتعاقبة من جانب المبدأ يستلزم وجود ممكن قديم.

ويرد على الثاني بحث واحد :

وهو أنّ العقل يشمئزّ عن تجويز هذا النحو من الاقتضاء في الفاعل القادر ، كما يشمئزّ عن تجويزه في الفاعل الطبيعي ، وما ذكرتم من الاحتمال يرجع إلى انتظار المعلول بعض أجزاء العلّة التامّة وهو حضور الوقت المخصوص.

وبقي احتمال ثالث (١) لا غبار عليه أصلا ، ولم يتفطّن به أحد من أهل النظر ، وهو المستفاد من كلام أصحاب العصمة عليهم‌السلام وقد تقدّم آنفا ، وكنت دائما متفكّرا في معنى الحادث والقديم وفي معنى أنّه تعالى أزلي أبدي سرمدي ، وسبب تفكّري أنّ المعلول الأوّل ليس مسبوقا بزمان وأنّه تعالى ليس بزماني ، والقوم فسّروا الأزل بالزمان الغير المتناهي من جانب الماضي ، والأبد بالزمان الغير المتناهي من جانب المستقبل ، والسرمد بمجموع الزمانين ، حتّى رأيت في كلام أصحاب العصمة عليهم‌السلام أنّ معنى « القديم » ما لا أوّل لوجوده ، ومعنى « الحادث » ما لوجوده أوّل ، وتفطّنت بذلك الأمر الممتدّ المنتزع من ذاته تعالى مع ملاحظة الصفتين المذكورتين.

__________________

(١) هذا سادس الطرق لربط الحادث بالقديم ، وحيث إنّ الطريقة الرابعة والخامسة كانتا ممّا اختاره المؤلّف قدس‌سره عبّر عن هذه الطريقة بالاحتمال الثالث.

٥١٣

فائدة

فيما حقّقناه واخترناه في ربط الحادث بالقديم من أنّ العدم الأزلي لكلّ ممكن جزء من أجزاء علّته التامّة يكفي أقلّ ما يمكن أن يكون بين القديم والحادث ، لأنّ الوجود المستفاد من الغير يكفي فيه هذا القدر من العدم (١) وبهذا التحقيق انحلّ ما يقال : من أنّ إيجاد المعلول في وقت معيّن يحتاج إلى مرجّح ذلك الوقت على غيره من الأوقات.

ثمّ اعلم أنّ هذا الزمان الغير المتناهي الأزلي الّذي هو ظرف لعدم أوّل الممكنات وهميّ صرف ، إذ ليس منشأ يصحّ انتزاعه منه فلا تمايز بين أجزائه. هكذا ينبغي أن يتحقّق هذه المباحث وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء *.

فائدة

لنا أن نبرهن على الاحتمال الثالث المستفاد من كلام أصحاب العصمة

______________________________________________________

* إذا كان قول أصحاب العصمة : إنّ القديم ما لا أوّل لوجوده والحادث ما له أوّل ، والقادر المختار الّذي لا يلزمه إيجاد الفعل عند حصول الإرادة والداعي كما ذكره في تفسير القدرة علم من ذلك : أنّ الحادث لا بدّ من سبقه عدم بأيّ معنى فرض. وأمّا ما ذكره المصنّف من التوجيه الّذي تفرّد بتحقيقه عن الفلاسفة والمتكلّمين من القطعة الممتدّة المنتزعة وأنّها هي الجزء الأخير من العلّة التامّة من المعلول الأوّل ولا ترتّب ولا تعاقب في نفس الأمر بين أجزاء ذلك الأمر الممتدّ الانتزاعي ـ إلى آخر ما ذكره في توجيهه ـ لم يظهر له وجه تميز عن غيره ولا معنى واضح ، ولكن الفارس وإن كان جاهلا بالفروسيّة وخاملا فيها إذا انفرد وحده يسوق فرسه حيث شاء ويدّعي ما يشتهي ، ولو كان مع حضور الفرسان ضاقت به الحيلة وعرف قصور ذرعه عند هذه المطالب الجليلة. ومن يسلّم له هذه التمحّلات الّتي تمدّح بانفراده بتحقيقها وأطال في تغليط أربابها الحقيقيّين بعلمها دونه حتّى يحقّ له أن يجعلها لنفسه فضيلة ويتمدّح بها؟ وإذا كان في الامور الظاهرة البيّنة غلطه فيها أكثر من إصابته فكيف في الامور الخفيّة الدقيقة؟ وإذا أجاد المتأمّل تأمّل كلامه فيها يجده كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

__________________

(١) في ط العبارة هكذا : يكفي فيه هذا القدر من العدم ، لكن لعدم تناهيه ليس له أقلّ. هكذا ينبغي ....

٥١٤

ـ صلوات الله عليهم ـ بأن نقول : من المعلوم أنّ ربط الحادث بالقديم إمّا أن يكون بالتسلسل ، أو بتجويز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة بحسب الزمان لا بحسب الاقتضاء ، أو بتوقّف الوجود المستفاد من الغير على حضور قطعة مخصوصة من الأمر الممتدّ المذكور ، والأوّلان باطلان لما ذكرناه ، فتعيّن الثالث.

فائدة

قد علمت ممّا تقدّم في كلامنا أنّ سبب أغلاط الحكماء والمتكلّمين وتحيّراتهما في العلوم الّتي مباديها بعيدة عن الإحساس : إمّا الغلط في مادّة من الموادّ ، وإمّا التردّد فيها ، وإمّا الغفلة عن بعض الاحتمالات ، ومن المعلوم أنّ المنطق غير عاصم عن شي‌ء منها ، ومن المعلوم : أنّ أصحاب العصمة عاصمون عنها وعن غيرها ، فتعيّن بحسب مقتضى العقل قطع النظر عن النقل التمسّك بهم ـ صلوات الله عليهم ـ.

وإنّما أطنبنا الكلام في كتابنا هذا ، لأنّ الناس مخدوعون منخدعون متكلّمون على مقتضى أذهانهم الحائرة البائرة مألوفون بالأباطيل والأكاذيب الّتي في كتب أشباههم مسطورة ، وأكثرهم إمّا بليدون أو معاندون ؛ هكذا قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الناس كلّهم لو كانوا شيعتي لكانوا ثلاثا شكّاكا وأحمقا ولبيبا (١).

* * *

__________________

(١) لم نقف عليه بهذا اللفظ ، وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام. نعم ورد عن أبي جعفر عليه‌السلام بلفظ « لو كان الناس كلّهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكّاكا والربع الآخر أحمق » راجع بحار الأنوار ٤٦ : ٢٥١ ، و ٤٧ : ١٤٩.

٥١٥

خاتمة

ولنختم كتابنا هذا بالقواعد الاصولية المذكورة في أوائل كتب جمع من قدمائنا الأخباريّين المتمسّكين في عقائدهم وأعمالهم واصولهم وفروعهم بما حفظوه عن الأئمّة المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ليكون فذلكة لما فصّلناه وبيّنّاه.

[ ما ذكره عليّ بن إبراهيم في أوّل تفسيره ]

فذكر عمدة العلماء الأخباريّين وقدوة المقدّسين عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، وهو شيخ ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني ـ قدّس الله أرواحهم ـ في أوّل تفسيره لكتاب الله ، وهو تفسير صحيح يجوز في الشريعة الاعتماد عليه ، لأنّه مأخوذ كلّه من أصحاب العصمة عليهم‌السلام : أشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، لا تفنى عجائبه ، من قال به صدق ، ومن عمل به أوجر ، ومن قام به هدي إلى صراط مستقيم ، ومن ابتغى العلم من غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، فيه نبأ ما كان قبلكم وحكم ما بينكم وخبر معادكم ، أنزله الله بعلمه وأشهد الملائكة بتصديقه ، فقال : ( لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً ) فجعله نورا يهدي للّتي هي أقوم ، فالقرآن آمر وزاجر ، حدّ فيه الحدود وسنّ فيه السنن ، وضرب فيه الأمثال ، وشرّع فيه الدين ، حجّة على خلقه أخذ عليه (١) ميثاقهم وارتهن لهم أنفسهم ليبيّن لهم ما يأتون وما

__________________

(١) في المصدر : عليهم.

٥١٦

يتّقون ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بينة.

وقال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ : جاءهم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنسخة ما في الصحف الاولى ، وتصديق الّذي بين يديه ، وتفصيل الحلال من ريب الحرام ، وذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم ، فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة ، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون ، فلو سألتموني عنه ، لأخبرتكم عنه لأنّي أعلمكم.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع في مسجد الخيف : إنّي فرطكم وأنّكم واردون عليّ الحوض ، حوض عرضه ما بين بصرة وصنعاء فيه قدحان من فضّة عدد النجوم ، ألا وإنّي سائلكم عن الثقلين. قالوا : يا رسول الله وما الثقلان؟ قال : كتاب الله الثقل الأكبر طرف بيد الله وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لن تضلّوا ولن تزلّوا ، و [ الثقل الأصغر ] (١) عترتي أهل بيتي ، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كإصبعي هاتين ( وجمع بين سبّابتيه ) ولا أقول كهاتين ( وجمع بين سبّابته والوسطى ) فتفضل هذه على هذه ، فالقرآن عظيم قدره جليل خطره بيّن ذكره ، من تمسّك به هدي ومن تولّى عنه ضلّ وزلّ ، فأفضل ما عمل به القرآن ، لقول الله عزوجل لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) (٢) وقال : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٣) ففرض الله عزوجل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيّن للناس ما في القرآن من الأحكام والقوانين [ والفرائض ] (٤) والسنن ، وفرض على الناس التفقّه والتعليم والتعلّم والعمل بما فيه حتّى لا يسع أحدا جهله ولا يعذر في تركه. ونحن ذاكرون ومخبرون بما انتهى إلينا.

ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الّذين فرض الله طاعتهم وأوجب ولايتهم ولا يقبل العمل إلّا بهم ، وهم الّذين وصفهم الله تعالى وفرض سؤالهم والأخذ منهم وقال : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٥) فعلمهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم الّذين

__________________

(١) أثبتناه من المصدر.

(٢) النحل : ٨٩.

(٣) النحل : ٤٤.

(٤) من المصدر.

(٥) النحل : ٤٣.

٥١٧

قال الله تعالى في كتابه وخاطبهم في قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا ـ القرآن ـ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا ـ أنتم يا معشر الأئمّة ـ شُهَداءَ عَلَى النّاسِ ) (١) فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شهيد عليهم وهم شهداء على الناس ، فالعلم عندهم والقرآن معهم ، ودين الله الّذي ارتضاه لأنبيائه وملائكته ورسله منهم يقتبس ، وهو قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : ألا إنّ العلم الّذي هبط به آدم عليه‌السلام من السماء إلى الأرض وجميع ما فضّلت به النبيّون إلى خاتم النبيّين عندي وعند عترة خاتم النبيّين ، فأين يتاه بكم بل أين تذهبون.

وقال ـ أيضا ـ أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة : ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : إنّي وأهل بيتي مطهّرون ، فلا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتخلّفوا عنهم فتزلّوا ، ولا تخالفوهم فتجهلوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ، هم أعلم الناس كبارا وأحلم الناس صغارا ، فاتّبعوا الحقّ وأهله حيث كان.

ففي الّذي ذكرنا من عظيم خطر القرآن وعلم الأئمّة عليهم‌السلام كفاية لمن شرح الله صدره ونوّر قلبه وهداه لإيمانه ومنّ عليه بدينه وبالله نستعين وعليه نتوكّل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فالقرآن منه ناسخ ومنه منسوخ ، ومنه محكم ومنه متشابه ، ومنه خاصّ ومنه عامّ ، ومنه تقديم ومنه تأخير ، ومنه منقطع ومنه معطوف ، ومنه حرف مكان حرف ، ومنه على خلاف ما أنزل الله عزوجل ، ومنه لفظه عامّ ومعناه خاصّ ، ومنه لفظه خاصّ ومعناه عامّ ، ومنه آيات بعضها في سورة وتمامها في سورة اخرى ، ومنه ما تأويله في تنزيله ، ومنه ما تأويله مع تنزيله ، ومنه ما تأويله قبل تنزيله ، ومنه ما تأويله بعد تنزيله ، ومنه رخصة إطلاق بعد الحظر ، ومنه رخصة صاحبها [ فيها ] (٢) بالخيار إن شاء فعل وإن شاء ترك ، ومنه رخصة [ ظاهرها ] (٣) خلاف باطنها يعمل

__________________

(١) الحج : ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) أثبتناه من المصدر.

(٣) من المصدر.

٥١٨

بظاهرها فلا يدان بباطنها ومنه [ ما ] (١) على لفظ الخبر ومعناه حكاية عن قوم.

ومنه آيات نصفها منسوخة ونصفها متروكة على حالها ، ومنه مخاطبة لقوم ومعناه لقوم آخرين ، ومنه مخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعنى أمّته ، ومنه ما لفظه مفرد ومعناه جمع ، ومنه ما لا يعرف تحريمه إلّا بتحليله ، ومنه ردّ على الملحدين ، ومنه ردّ على الزنادقة ، ومنه ردّ على الثنوية ، ومنه ردّ على الجهمية ، ومنه ردّ على الدهرية ، ومنه ردّ على عبدة النيران ، ومنه ردّ على عبده الأوثان ، ومنه ردّ على المعتزلة ، ومنه ردّ على القدرية ، ومنه ردّ على المجبّرة ، ومنه ردّ على من أنكر [ من المسلمين ] (٢) الثواب والعقاب بعد الموت يوم القيامة ، ومنه ردّ على من أنكر المعراج والإسراء ، ومنه ردّ على من أنكر الميثاق في الذّر ، ومنه ردّ على من أنكر خلق الجنّة والنار ، ومنه ردّ على من أنكر المتعة والرجعة ، ومنه ردّ على من وصف الله [ بالجسمية ] (٣).

ومنه مخاطبة الله عزوجل لأمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام وما ذكره من فضائلهم وفيه خروج القائم عليه‌السلام وأخبار الرجعة وما وعده الله تبارك وتعالى الأئمّة عليهم‌السلام من النصرة والانتقام من أعدائهم.

وفيه شرائع الإسلام وأخبار الأنبياء ومولدهم ومبعثهم وشريعتهم وهلاك أمّتهم. وفيه ما ترك في مغازي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفيه ترغيب وترهيب. وفيه أمثال [ وفيه أخبار ] (٤) وقصص.

ونحن ذاكرون في جميع ما ذكرنا آية (٥) في أوّل الكتاب مع خبرها لتستدلّ بها على غيرها وتعرف بها علم ما في الكتاب ، وبالله التوفيق والاستعانة ، وعليه نتّكل وبه نستعين ، نسأل الله الصلاة على محمّد وآله الّذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا (٦).

هذا ما أردنا نقله من أوّل تفسير عليّ بن إبراهيم ، وإن شئت أمثلة جميع تلك الامور والاستدلال عليها من الأحاديث الصحيحة فارجع إليه ، فإنّها كلّها مذكورة مفصّلة هناك.

__________________

(١) من المصدر.

(٢) من المصدر.

(٣) لم يرد في خ.

(٤) أثبتناه من المصدر.

(٥) في المصدر بدل « آية » : إن شاء الله.

(٦) تفسير القمّي ١ : ٢ ـ ٦ ، مع اختلافات اخرى غير ما أشرنا إليه.

٥١٩

[ ما ذكره ثقة الإسلام الكليني في أوّل الكافي ]

وذكر الإمام ثقة الإسلام عمدة العلماء الأعلام زبدة الأخباريّين المدقّقين المسدّدين المؤيّدين من عند الله بأخذ أحكام الله عن خزّان علمه وتراجمة وحيه ، وبجمعها من اصول شتّى مجمع عليها ، صنّفها أصحاب الأئمّة بإشارتهم وأمرهم عليهم‌السلام محمّد بن يعقوب الكليني ـ نوّر الله مرقده الشريف ـ في أوّل كتاب الكافي ، وقد سمعنا عن مشايخنا وعلمائنا أنّه لم يصنّف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء :

أمّا بعد ، فقد فهمت يا أخي ما شكوت من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها ، ومباينتهم العلم وأهله حتّى كاد العلم معهم أن يأزر كلّه وتنقطع موادّه ، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل ويضيّعوا العلم وأهله.

وسألت : هل يسع الناس المقام على الجهالة والتديّن بغير علم إذا كانوا داخلين في الدين مقرّين بجميع اموره على جهة الاستحسان والنشوء عليه ، والتقليد للآباء والأسلاف والكبراء ، والاتّكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها.

فاعلم يا أخي رحمك الله! إنّ الله تبارك وتعالى خلق عباده خلقة منفصلة من البهائم في الفطن والعقول المركّبة فيهم محتملة للأمر والنهي وجعلهم على ذكره صنفين : صنفا منهم أهل الصحّة والسلامة ، وصنفا منهم من أهل الضرر والزمانة ، فخصّ أهل الصحّة والسلامة بالأمر والنهي بعد ما أكمل لهم آلة التكليف ، ووضع التكليف عن أهل الزمانة والضرر ، إذ قد خلقهم خلقة غير محتملة للأدب والتعليم ، وجعل عزوجل سبب بقائهم أهل الصحّة والسلامة ، وجعل بقاء أهل الصحّة والسلامة بالأدب والتعليم.

فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحّة والسلامة لجاز وضع التكليف عنهم ، وفي جواز ذلك بطلان الكتب والرسل والآداب ، وفي رفع الكتب والرسل والآداب فساد التدبير والرجوع إلى قول أهل الدهر. فوجب في عدل الله وحكمته أن يخصّ من خلق من خلقه خلقة محتملة للأمر والنهي بالأمر والنهي ، لئلّا يكونوا سدى

٥٢٠