الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

ومن ذلك ما أرويه بإسنادي إلى محمّد بن عليّ بن محبوب ـ وهو حديث غريب من أصل بخطّ جدّي أبي جعفر الطوسي رضوان الله عليه ـ ورأيت في بعض تصانيف أصحابنا في الثناء عليه ما هذا لفظه : محمّد بن عليّ بن محبوب الأشعري القمّي أبو جعفر شيخ القمّيّين في زمانه ثقة عين فقيه صحيح المذهب ، قال في كتابه نوادر المصنّف : عن عليّ بن خالد ، عن أحمد بن الحسن بن عليّ ، عن عمرو بن سعيد المدائني ، عن مصدّق بن صدقة ، عن عمّار بن موسى الساباطي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل ينام عن الفجر حتّى تطلع الشمس وهو في سفر كيف يصنع أيجوز له أن يقضي بالنهار؟ قال : لا يقضي صلاة نافلة ولا فريضة بالنهار ولا يجوز له ولا يثبت له ، ولكن يؤخّرها فيقضيها بالليل (١).

ومن ذلك ما أرويه عن الحسين بن سعيد الأهوازي ـ رضوان الله عليه ـ ممّا رواه في كتاب الصلاة ، وهذا الحسين بن سعيد ممّن أثنى جدّي أبو جعفر الطوسي عليه (٢) فقال في كتاب الصلاة ما هذا لفظه : محمّد بن سنان ، عن ابن مسكان ، عن الحسن بن زياد الصيقل ، قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي الاولى حتّى صلّى ركعتين من العصر ، قال : فليجعلها الاولى وليستأنف العصر. قلت : فإنّه نسي المغرب حتّى صلّى ركعتين من العشاء ثمّ ذكر؟ قال : فليتمّ صلاته ثمّ ليقض بعد المغرب. قال : قلت له : جعلت فداك؟ متى نسي الظهر ثمّ ذكر وهو في العصر يجعلها الاولى ثمّ يستأنف وقلت : لهذا يقضي صلاته بعد المغرب؟ فقال : ليس هذا مثل هذا ، إنّ العصر ليس بعدها صلاة والعشاء بعدها صلاة (٣).

ومن ذلك ما أرويه أيضا عن الحسين بن سعيد المشار إليه ـ رضوان الله عليه ـ في كتاب الصلاة ما هذا لفظه : صفوان ، عن عيص بن القاسم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي أو نام عن الصلاة حتّى دخل وقت صلاة اخرى؟ فقال : إن كانت صلاة الاولى فليبدأ بها وإن كانت صلاة العصر فليصلّ العشاء ثمّ يصلّي العصر (٤).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٧٢ ، ح ١٠٨١.

(٢) الفهرست : ١٤٩ ، الرقم ٢٣٠.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٧٠ ، ح ١٠٧٥.

(٤) البحار ٨٥ : ٢٩٩ ح ٦.

٨١

ومن ذلك ما أرويه أيضا ، عن الحسين بن سعيد من كتاب الصلاة ما هذا لفظه : حدّثنا فضالة والنضر بن سويد ، عن ابن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن نام رجل أو نسي أن يصلّي المغرب والعشاء الآخرة ، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما ، وإن خاف أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء وإن استيقظ بعد الفجر فليصلّ الصبح ثمّ المغرب ثمّ العشاء قبل طلوع الشمس (١).

ومن ذلك ما أرويه عن الحسين بن سعيد ـ من كتاب الصلاة ـ ما هذا لفظه : حمّاد ، عن شعيب ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن نام رجل ولم يصلّ صلاة المغرب والعشاء الآخرة أو نسي ، فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما ، وإن خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة ، وإن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس ، وإن خاف أن تطلع الشمس فتفوته إحدى الصلاتين فليصلّ المغرب ويدع العشاء الآخرة حتّى تطلع الشمس ويذهب شعاعها ثمّ ليصلّها (٢).

ومن ذلك ما رأيته في (٣) كتاب النقض على من أظهر الخلاف لأهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إملاء أبي عبد الله الحسين بن عبيد الله بن عليّ المعروف بالواسطي ، فقال ما هذا لفظه : مسألة ، من ذكر صلاة وهو في اخرى قال أهل البيت عليهم‌السلام : يتمّ الّتي هو فيها ويقضي ما فاته ، وبه قال الشافعي. ثمّ ذكر خلاف الفقهاء المخالفين لأهل البيت عليهم‌السلام.

ثمّ ذكر في أواخر مجلّده مسألة اخرى ، فقال ما هذا لفظه : مسألة اخرى ، من ذكر صلاة وهو في اخرى ، إن سأل سائل فقال أخبرونا عمّن ذكر صلاة وهو في اخرى ما الّذي يجب عليه؟ قيل له : يتمّ الّتي هو فيها ويقضي ما فاته ، وبه قال الشافعي. ثمّ ذكر خلاف المخالفين ، وقال : دليلنا على ذلك ما روي عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام أنّه قال : من كان في صلاة ثمّ ذكر صلاة اخرى فاتته أتمّ الّتي هو فيها ثمّ يقضي ما فاته.

يقول عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاوس : هذا آخر ما أردنا ذكره

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٧٠ ، ح ١٠٧٦.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٧٠ ، ح ١٠٧٧.

(٣) فى المصدر : أرويه من.

٨٢

من الروايات أو ما رأينا ممّا لم يكن مشهورا بين أهل الدرايات ، وصلّى الله على سيّد المرسلين محمّد النبيّ وآله الطاهرين وسلّم.

ووجدت في أمالي السيّد أبي طالب عليّ بن الحسين الحسني (١) في المواسعة ما هذا لفظه : حدّثنا منصور بن رامس ، حدّثنا عليّ بن عمر الحافظ الدارقطني ، حدّثنا أحمد بن نصر بن طالب الحافظ ، حدّثنا أبو ذهل عبيد بن عبد الغفّار العسقلاني ، حدّثنا أبو محمّد سليمان الزاهد ، حدّثنا القاسم بن معن ، حدّثنا العلاء بن المسيّب بن رافع ، حدّثنا عطاء بن أبي رياح عن جابر بن عبد الله قال : قال رجل : يا رسول الله وكيف أقضي؟ قال : صلّ مع كلّ صلاة مثلها ، قال : يا رسول الله قبل أم بعد؟ قال : قبل.

أقول : وهذا حديث صريح وهذه الأمالي عندنا الآن ، في أواخر مجلّده قال الطالبي (٢) : أوّلها الجزء الأوّل من المنتخب من كتاب زاد المسافر وصاية (٣) المسافر تأليف أبي العلاء الحسن بن أحمد العطّار الهمداني ، وقد كتب في حياته وكان عظيم الشأن.

فصل (٤) : ورأيت في كفّارة قضاء الصلوات حديثا غريبا رواه حسين بن أبي الحسن بن خلف الكاشغري الملقّب بالفضل في كتاب زاد العابدين ، فقال ما هذا لفظه : في كفّارة الصلوات ، قال حدّثنا منصور بن بهرام بغزنة ، أخبرنا أبو سهل محمّد بن محمّد بن الأشعث الأنصاري ، حدّثنا أبو طلحة شريح بن عبد الكريم وغيره قالوا : حدّثنا أبو الفضل جعفر بن محمّد صاحب كتاب العروس حدّثنا غندر ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن خلّاس ، عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من ترك الصلاة في جهالته ثمّ ندم لا يدري كم ترك فليصلّ ليلة الاثنين خمسين ركعة بفاتحة الكتاب مرّة وقل هو الله أحد مرّة فإذا فرغ من الصلاة استغفر مائة مرّة جعل الله ذلك كفّارة صلواته ولو ترك صلاة مائة سنة ، لا يحاسب الله تعالى العبد الّذي صلّى هذه الصلاة ثمّ انّ له عند الله بكلّ ركعة مدينة ، وله بكلّ آية قرأها عبادة سنة ، وله بكلّ حرف نور على الصراط. وأيم الله! إنّه لا يقدر على

__________________

(١) فى المصدر : الحسيني.

(٢) كذا في خ ط. وفي المصدر قالب الطابين.

(٣) كذا فيهما.

(٤) استطراد كلام ابن طاوس.

٨٣

هذا إلّا مؤمن من أهل الجنّة ، فمن فعل استغفرت له الملائكة وسمّي في السماوات صديق الله في الأرض ، وكان موته موت الشهداء ، وكان في الجنّة رفيق خضر عليه‌السلام.

ومن المنامات عن الصادقين ـ الّذين لا يتشبّه بهم شي‌ء من الشياطين ـ في المواسعة ، وإن لم يكن ذلك ممّا يحتجّ به ، لكنّه مستطرف ما وجدته بخطّ الخازن أبي الحسن ـ رضوان الله عليه ـ وكان رجلا عدلا متّفقا عليه ، وبلغني أنّ جدّي ورّاما ـ رضوان الله عليه ـ صلّى خلفه مؤتمّا به ، ما هذا لفظه :

خطّ الخازن أبي الحسن المذكور ، رأيت في منامي ليلة الأحد سادس عشر جمادي الآخرة أمير المؤمنين والحجّة عليهما‌السلام وكان على أمير المؤمنين عليه‌السلام ثوب خشن وعلى الحجّة ثوب ألين منه ، فقلت لأمير المؤمنين عليه‌السلام : يا مولاي ما تقول في المضايقة؟ فقال لي : سل صاحب الأمر عليه‌السلام ومضى أمير المؤمنين عليه‌السلام وبقيت أنا والحجّة ، فجلسنا في موضع فقلت له : ما تقول في المضايقة؟ فقال : قولا مجملا : تصلّي ، فقلت له قولا هذا معناه وإن اختلفت ألفاظه : في الناس من يعمل نهاره ويتعب ولا يتهيّأ له المضايقة؟ فقال : يصلّي قبل آخر الوقت. فقلت له : ابن إدريس يمنع الناس من الصلاة قبل آخر الوقت ، ثمّ التفت فإذا ابن إدريس ناحية عنّا. فناداه الحجّة عليه‌السلام : يا ابن إدريس يا ابن إدريس! فجاء ولم يسلّم عليه ولم يتقدّم إليه ، فقال له : لم تمنع الناس من الصلاة قبل آخر الوقت؟ أسمعت هذا من الشارع؟! فسكت ولم يعد جوابا ، وانتبهت في إثر ذلك. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله.

ورأيت أيضا بخطّ الخازن أبي الحسن ما هذا لفظه : بسم الله الرحمن الرحيم رأيت الحجّة عليه‌السلام ليلة السبت سادس شوّال سنة تسعين وخمسمائة ، كأنّه في بعض دورنا بالمشهد ـ على ساكنه السلام ـ قاعدا على دكّة والدكّة لها هيئة حسنة لم أعهدها ، وإلى جانبه صبيّ ، وفي قدّامه عرجون يابس فيه شماريخ يابسة ، وتحته قسب ثمّ أنّه التقط منه ، فدخلت عليه فلمّا رآني قام وأخذ العرجون فصار فيه رطب مختلف اللون فاعتقدته معجزا له فقلت له أنت إمامي وأقبلت عليه وأقبل عليّ ، وقعدت بين يديه وأكلت من الرطب وشكوت إليه صعوبة الوقت علينا

٨٤

فأجابني بشي‌ء غاب عنّي بعد الانتباه حقيقته ، ثمّ قمنا من ذلك الموضع إلى غيره فقلت له : يا مولاي إنّ ورّاما وابن إدريس يمنعون الناس من الصلاة قبل آخر الوقت ، فقال : يصلّون قبل آخر الوقت ، ثمّ قال : هم يفرطون في الصلاة فقلت له : يقولون لهم : لا تصلّوا قبل آخر الوقت ، فيقولون : ما نقدر على ذلك فأعاد القول : يصلّون قبل آخر الوقت. ثمّ ذكر الفقهاء بكلام دلّ على أنّه معتب عليهم ، ثمّ أذن عليه‌السلام فمضيت ألتمس ما أتوضّأ به واصلّي معه ، فانتبهت في أثر ذلك. وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

ورأيت بخطّ أبي الحسن الخازن ما هذا لفظه : وكنت أستعمل ماء الكرّ في الحمّام مدّة طويلة ، فعنّ لي في بعض الأوقات أن أترك استعماله ، فتركته أوقاتا ، فرأيت الحجّة عليه‌السلام في منامي وهو على موضع عال له شرفات وعلى رأسه شبه الإكليل والتاج ، فجرى حديث في معنى الكرّ ـ غاب عنّي بعد الانتباه حقيقته ـ فالتفت إليّ وقال : جبرائيل قال لك : إنّ الكرّ نجس! أو قال لك جبرائيل : لا تستعمله ، ارجع إلى الكرّ فانتبهت في أثر ذلك. وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

ومن المنامات عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في المواسعة من بعض الوجوه ما حدّثني به صديقي الوزير محمّد بن أحمد بن العلقمي ـ ضاعف الله سعادته وشرّف خاتمته ـ أيّام كان استاذ الدار فالتمست أن يكتبه بخطّه ، فكتب ما يأتي لفظه : رأيت في المنام كأنّ مولانا زين العابدين عليه‌السلام نائم وكأنّه ميّت ، ومولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ جالس عند كريمته (١) الشريف فعاش (٢) واستوى جالسا ، فقلت له : يا مولاي إيش حديث صلاة المضايقة؟ فأومأ بوجهه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام من غير أن يتكلّم ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام من غير أن أسأله : « إذا كان على الإنسان ـ أو قال : الشخص ـ صلاة قضاها في مدّة ثمّ صلّى تلك المدّة في مدّة والمدّة في مدّة تكون المدّة الأخيرة مضايقة » وانفهم من ذلك أنّه إذا كان على الشخص سنتان ثمّ صلّاها في سنة وصلّى تلك السنة في شهر يكون قضاء ذلك الشهر مضايقة.

__________________

(١) ط : كريمه ، وفي المصدر : رأسه.

(٢) كذا في خ وط ، وفى المصدر : فعطس.

٨٥

يقول عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن الطاوس هذا آخر لفظ صديقي الوزير محمّد بن أحمد بن العلقمي ضاعف الله سعادته وشرّف خاتمته.

يقول عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاوس الحسني : وتفضّل الله ومولانا المهديّ ـ صلوات الله عليه ـ عليّ وإليّ بآيات باهرة له ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

أقول ومنها بسم الله الرحمن الرحيم وصلاته على سيّد المرسلين محمّد وآله الطاهرين ، يقول عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاوس : كنت قد توجّهت أنا وأخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد القاضي الآوي ـ ضاعف الله سعادته وشرّف خاتمته ـ من الحلّة إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة ، سنة إحدى وأربعين وستّمائة ، فاختار الله لنا المبيت في مسجد بالقرية الّتي تسمّى « دورة ابن سنجار » وبات أصحابنا ودوابّنا في القرية ، وتوجّهنا منها أوائل نهار يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر المذكور ، فوصلنا إلى مشهد مولانا عليّ عليه‌السلام قبل ظهر يوم الأربعاء المذكور فزرنا وجاء الليل في ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة المذكورة ، فوجدت من نفسي إقبالا على الله وحضورا وخيرا كثيرا وشاهدت ما يدلّ على القبول والعناية والرأفة وبلوغ المأمول والضيافة فحدّثني أخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد الآوي ـ ضاعف الله سعادته ـ أنّه رأى تلك الليلة في منامه كأنّ في يدي لقمة وأنا أقول له : هذه من فم مولانا المهديّ صلوات الله عليه ـ وقد اعطيته بعضها ، فلمّا كان سحر تلك الليلة كنت على ما تفضّل الله به من نافلة الليل ، فلمّا أصبحنا نهار الخميس المذكور دخلت الحضرة ـ حضرة مولانا عليّ عليه‌السلام ـ على عادتي ، فورد عليّ من فضل الله وإقباله والمكاشفة ما كدت أن أسقط إلى الأرض ورجفت أعضائي وأقدامي وارتعدت رعدة هائلة على عوائد فضله عندي وعنايته إليّ وما أراني من برّه لي ورفدي وأشرفت على الفناد ومفارقة دار العناد والانتقال إلى دار البقاء ، حتّى حضر الجمّال محمّد بن كتيلة وأنا في تلك الحال ، فسلّم عليّ فعجزت

٨٦

عن مشاهدته وعن النظر إليه وإلى غيره وما تحقّقته بل سألت عنه بعد ذلك فعرّفوني به تحقيقا ، وتجدّدت في تلك الزيارة مكاشفات جليلة وبشارات جميلة.

وحدّثني أخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد الآوي ـ ضاعف الله سعادته ـ بعدّة بشارات رآها لي :

منها : أنّه رأى كأنّ شخصا يقصّ عليه في المنام مناما ويقول له : قد رأيت كأنّ فلانا ـ عنّي [ كذا ] (١) وكأنّني كنت حاضرا لمّا كان المنام يقصّ عليه ـ راكب فرسا ، وأنت ( يعني أخي الصالح الآوي ) وفارسان آخران وقد صعدتم جميعا إلى السماء ، قال : قلت له : أنت تدري أحد الفارسين من هو؟ فقال صاحب المنام في حال النوم : لا أدري ، فقلت : أنت ، يعني ذلك مولانا المهديّ ـ صلوات الله عليه ـ وتوجّهنا من هناك لزيارة أوّل رجب بالحلّة ، فوصلنا ليلة الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة بحسب الاستخارة ، فعرّفني حسن بن البقلي يوم الجمعة المذكورة أنّ شخصا فيه صلاح يقال له : عبد المحسن من أهل السواد قد حضر بالحلّة ، وذكر أنّه قد لقيه مولانا المهديّ ـ صلوات الله عليه ـ ظاهرا في اليقظة ، وقد أرسله إلى عندي برسالة ، فنفذت قاصدا وهو « محفوظ بن قرّاء » فحضرا ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الآخرة المقدّم ذكرها ، فخلوت بهذا الشيخ عبد المحسن فعرفته وهو رجل صالح لا تشكّ النفس في حديثه ومستغن عنّا ، وسألته فذكر أنّ أصله من حصن بشر وأنّه انتقل إلى الدولاب الّذي بحذاء المحولة المعروفة بالمجاهدية ، ويعرف الدولاب بابن أبي الحسن ، وأنّه مقيم هناك وليس له عمل بالدولاب ولا زرع ولكنّه تاجر في شراء غلّات وغيرها ، وأنّه كان قد ابتاع غلّة من ديوان أبي السرايا (٢) وجاء ليقبضها وبات عند المعيدية في الموضع المعروف بالمحر فلمّا كان وقت السحر كره استعمال ماء المعيدية فخرج بقصد النهر والنهر في جهة المشرق فما أحسّ بنفسه إلّا وهو عند تلّ السلام في طريق مشهد الحسين عليه‌السلام في جهة المغرب ، وكان ذلك ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة من سنة احدى وأربعين وستّمائة ـ الّتي تقدّم

__________________

(١) لم يرد في خ والمصدر.

(٢) في خ وط : السرائر.

٨٧

شرح بعض ما تفضّل الله عليّ فيها وفي نهارها في خدمة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : فجلست اريق ماء وإذا فارس عندي ما سمعت له حسّا ولا وجدت لفرسه حركة ولا صوتا وكان القمر طالعا ولكن كان الضباب كثيرا ، فسألته عن الفارس وفرسه ، فقال : كان لون فرسه صديّا وعليه ثياب بيض وهو متحنّك بعمامته ومتقلّد بسيفه ، فقال الفارس لهذا الشيخ عبد المحسن : كيف وقت الناس؟ قال عبد المحسن فظننت أنّه يسأل عن ذلك الوقت ، قال ، فقلت : الدنيا عليها ضباب وغبرة فقال : ما سألتك عن هذا أنا سألتك عن حال الناس ، قال ، فقلت : الناس طيّبون مرخّصون آمنون (١) في أوطانهم وعلى أموالهم ، فقال : تمضي إلى ابن طاوس وتقول له كذا وكذا ، وذكر لي ما قال له ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثمّ قال عنه عليه‌السلام : فالوقت قد دنا فالوقت قد دنا ، قال عبد المحسن : فوقع في قلبي وعرفت نفسي أنّه مولانا صاحب الزمان ، فوقعت على وجهي وبقيت كذلك مغشيّا عليّ إلى أن طلع الصبح. قلت له : فمن أين عرفت أنّه قصد ابن طاوس عنّي؟ فقال : ما أعرف من بني طاوس إلّا أنت وما وقع في قلبي إلّا أنّه قصد بالرسالة إليك ، قلت : فأيّ شي‌ء فهمت بقوله صلوات الله عليه : « فالوقت قد دنا » هل قصد وفاتي قد دنت أم قد دنا وقت ظهوره صلوات الله عليه؟ فقال : بل قد دنا وقت ظهوره صلوات الله عليه ، قال : فتوجّهت ذلك اليوم إلى مشهد الحسين عليه‌السلام وعزمت أنّني ألزم بيتي مدّة حياتي أعبد الله تعالى ، وندمت كيف ما سألته عليه‌السلام عن أشياء كنت أشتهي أن أسأله عنها. قلت له : هل عرّفت بذلك أحدا؟ قال : نعم عرّفت بعض من كان عرف بخروجي من عند المعيدية ، وتوهّموا أنّي قد ضللت وهلكت لتأخّري عنهم واشتغالي بالغشية الّتي وجدتها ، ولأنّهم كانوا يروني طول ذلك النهار ـ يوم الخميس ـ في أثر الغشية الّتي لقيتها من خوفي منه عليه‌السلام فوصيّته أن لا يقول ذلك لأحد أبدا ، وعرضت عليه شيئا ، فقال : أنا مستغن عن الناس وبخير كثير ، فقمت أنا وهو ، فلمّا قام عنّي نفذت له غطاء وبات عندنا في المجلس على باب الدار الّتي هي مسكني الآن بالحلّة ، فقمت وكنت أنا وهو في

__________________

(١) في خ وط : طيّبين مرخّصين آمنين.

٨٨

الروشن في خلوة ، فنزلت لأنام ، فسألت الله زيادة كشف في المنام تلك الليلة أراه أنا ، فرأيت كأنّ مولانا الصادق عليه‌السلام قد جاءني بهديّة عظيمة وهي عندي وكأنّني ما أعرف قدرها ، فاستيقظت وحمدت الله وصعدت الروشن لصلاة نافلة الليل في تلك الليلة ـ وهي ليلة السبت ثامن عشر جمادى الآخرة ـ فأصعد فتح (١) الإبريق إلى عندي فمددت يدي فلزمت عروته لافرغ على كفي فأمسك ماسك فم الابريق وأداره عني ومنعني من استعمال الماء في طهارة الصلاة ، فقلت : لعلّ الماء نجس فأراد الله أن يصونني عنه ، فإنّ لله جلّ جلاله عليّ عوائد كثيرة ، أحدها مثل هذا وأعرفها ، فناديت : إليّ فتح! وقلت له من أين ملأت الإبريق؟ قال : من المسيّبة ، فقلت : هذا لعلّه نجس فاقلبه واشطفه واملأه من الشطّ ، فمضى وقلّبه وأنا أسمع صوت الإبريق وشطفه وملأه من الشطّ فجاء به ، فلزمت عروته وشرعت أقلب منه على كفّي فأمسك ماسك فم الإبريق وأداره عنّي ومنعني منه ، فعدت صبرت ودعوت بدعوات وعاودت الإبريق فجرى مثل ذلك ، فعرفت أنّ هذا منع لي من صلاة الليل في تلك الليلة وقلت في خاطري : لعلّ الله يريد أن يجري علي حكما وابتلاء غدا ولا يريد أن أدعو الليلة في السلامة من ذلك وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك ، فنمت وأنا جالس وإذا برجل يقول لي : هذا ـ يعني عبد المحسن الّذي جاء بالرسالة ـ كان ينبغي أن تمشي بين يديه ، فاستيقظت ووقع في خاطري أنّني قد قصّرت في احترامه وإكرامه ، فتبت إلى الله جلّ جلاله واعتمدت ما يعتمد التائب من مثل ذلك ، وشرعت في الطهارة فلم يمسك أحد الإبريق وتركت على عادتي فتطهّرت وصلّيت ركعتين فطلع الفجر فقضيت نافلة الليل وفهمت أنّني ما قمت بحقّ هذه الرسالة. فنزلت إلى الشيخ عبد المحسن وتلقّيته وأكرمته وأخذت له من خاصّتي ستّ دنانير ومن غير خاصّتي خمسة عشر دينارا ممّا كنت أحكم فيه كما لي وخلوت به في الروشن وعرضت ذلك عليه واعتذرت إليه ، فامتنع قبول شي‌ء أصلا وقال : إنّ معي نحو مائة دينار وما آخذ شيئا ، أعطه لمن هو فقير ، وامتنع غاية

__________________

(١) يعني غلامه.

٨٩

الامتناع ، فقلت له : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي لأجل الإكرام لمن أرسله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا لأجل فقره وغناه ، فامتنع فقلت له : مبارك ، أمّا الخمسة عشر دينارا فهي من غير خاصّتي فلا اكرهك على قبولها ، وأمّا هذه الستّة دنانير فهي من خاصّتي ولا بدّ أن تقبلها منّي ، فكاد أن يؤيسني من قبولها ، فألزمته فأخذها وعاد تركها فألزمته فأخذها وتغدّيت أنا وهو ، ومشيت بين يديه كما امرت في المنام إلى ظاهر الدار وأوصيته بالكتمان. والحمد لله ، وصلّى الله على سيّد المرسلين محمّد وآله الطاهرين.

ومن عجيب زيادة بيان هذه الحال أنّني توجّهت في ذلك الاسبوع ـ يوم الاثنين الثلاثين من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وستّمائة ـ إلى مشهد الحسين عليه‌السلام لزيارة أوّل رجب أنا وأخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد ـ ضاعف الله سعادته ـ فحضر عندي سحر ليلة الثلاثاء أوّل رجب المبارك سنة إحدى وأربعين وستّمائة المقرئ محمّد بن سويد في بغداد ، وذكر ابتداء من نفسه أنّه رأى ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الآخرة ـ المتقدّم ذكرها ـ كأنّني في دار وقد جاء رسول إليك وقالوا هو من عند الصاحب ، قال محمّد بن سويد : فظنّ بعض الجماعة أنّه من عند استاد الدار قد جاء إليك برسالة ، قال محمّد بن سويد : وأنا عرفت أنّه من عند صاحب الزمان عليه‌السلام قال : فغسل محمّد بن سويد يديه وطهّرهما وقام إلى رسول مولانا المهدي عليه‌السلام فوجده قد أحضر معه كتابا من مولانا المهديّ ـ صلوات الله عليه ـ إلى عندي ، وعلى الكتاب المذكور ثلاثة ختوم. قال المقرئ محمّد بن سويد : فتسلّمت الكتاب من رسول مولانا المهديّ عليه‌السلام بيديه المشطوفة ، قال : وسلّمه (١) إليك ـ يعني عنّي ـ قال : وكان أخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد الآوي ـ ضاعف الله سعادته ـ حاضرا فقال : ما هذا؟ فقلت : هو يقول لك.

يقول عليّ بن موسى بن طاوس : فتعجّبت من أنّ هذا محمّد بن سويد قد رأى المنام في الليلة الّتي حضر عندي فيها الرسول المذكور وما كان عنده خبر من هذه الامور. والحمد لله كما هو أهله.

__________________

(١) في المصدر : وسلّمته.

٩٠

وسمعت ممّن لا اسمّيه مواصلة بينه وبين مولانا عليه‌السلام لو تهيّأ ذكرها كانت عدّة كراريس دالّة على وجوده وحياته ومعجزاته صلوات الله عليه. وصلّى الله على سيّدنا سيّد المرسلين محمّد النبيّ وآله الطاهرين.

انتهى قراءة هذا الكتاب عليّ في ليلة الأربعاء ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستّين وستّمائة ، والقارئ له ولدي محمّد حفظه الله تعالى ، وسمع القراءة ولدي وأخوه عليّ وأربع أخواته وبنت خالي (١). انتهى كلام سيّدنا الأجل العلّامة الأوحد صاحب الكرامات والمنامات قدس‌سره.

وإنّما أطنبنا الكلام بذكر تلك الرسالة كلّها لوجهين :

أحدهما : التبرّك بكلامه قدس‌سره.

وثانيهما : لتعلم أنّ إمام الزمان ناموس العصر والأوان ساخط على جمع من أصحابنا الّذين اعتمدوا على غير نصوصهم في بعض فتاويهم عموما ، وعلى المستعجل الجسور محمّد بن إدريس الحلّي خصوصا ، ولكن أرجو من فضل ربّي أن تكون شفاعة الأئمّة عليهم‌السلام ورائي ووراءهم.

فائدة

عند قدماء أصحابنا الأخباريّين قدّس الله أرواحهم ـ كالشيخين الأعلمين الصدوقين والإمام ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني ( كما صرّح به في أوائل كتاب الكافي ، وكما نطق به باب التقليد وباب الرأي والمقاييس وباب التمسّك بما في الكتب من كتاب الكافي (٢) فإنّها صريحة في حرمة الاجتهاد والتقليد وفي وجوب التمسّك بروايات العترة الطاهرة عليهم‌السلام المسطورة في تلك الكتب المؤلّفة بأمرهم عليهم‌السلام ) * وشيخه

______________________________________________________

* الّذي يتتبّع ما أشار إليه يجد ذلك راجعا إلى اجتهاد المخالفين الّذين يتركون أخذ

__________________

(١) راجعنا في تصحيح بعض عبارات هذه الرسالة إلى ما نشرته مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام في مجلّة « تراثنا » في العدد الثالث ، السنة الثانية ، باسم « رسالة عدم مضايقة الفوائت » واعتمدت في تحقيقها على نسخة محفوظة في خزانة مكتبة آية الله المرعشي قدس‌سره بالرقم ٤٠٠١.

(٢) راجع الكافي ١ : ٨ ، ٥٣ ، ٥٤ ، ٥١.

٩١

عليّ بن إبراهيم بن هاشم ( كما صرّح به في أوّل تفسيره لكتاب الله تعالى ) ومن تقدّمهم ممّن أدرك صحبة بعض الأئمّة عليهم‌السلام أو قرب عهده به ـ لا مدرك للأحكام الشرعية النظرية فرعية كانت أو أصلية إلّا أحاديث العترة الطاهرة عليهم‌السلام وتلك الروايات الشريفة متضمّنة لقواعد قطعية تسدّ مسدّ الخيالات العقلية المذكورة في الكتب الاصولية والاعتبارات المذكورة في كتب فنّ دراية الحديث. والقواعد الظنّية العربية المذكورة في فنّ المعاني والبيان أو غيرهما أيضا قليلة الجدوى عند الأخباريّين من أصحابنا ، وذلك لأنّهم لم يعتمدوا في فتاويهم وأحكامهم إلّا على دلالات واضحة صارت قطعية بمعونة القرائن الحالية أو المقالية ، وتلك القرائن وافرة في كلام أهل البيت عليهم‌السلام لا في كتاب الله ولا في كلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيجي‌ء بيانه إن شاء الله تعالى.

وأوجبوا التوقّف والاحتياط عند ظهور خطاب يكون سنده أو دلالته غير قطعي ، لأنّه من باب الشبهات في نفس الأحكام ويجب التوقّف والاحتياط عندها كما تواترت به الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام (١) وسنذكر إن شاء الله تعالى طرفا منها.

وبحمد الله سبحانه وتعالى وفور أحاديثهم عليهم‌السلام في أمّهات الأحكام وفيما تعمّ به البلوى من غيرها ومخاطبتهم الرعية على قدر ما وجدوا فيهم من الأفهام قد قضى الوطر عن معرفة الاعتبارات العقلية الاصولية ، وعن الدلالات الظنّية ، وعمّا في

______________________________________________________

الحكم من أحاديث أهل البيت ويعتمدون فيه على الرأي والقياس بل على ما يخالف مذهب الأئمّة عليهم‌السلام وأمّا إرادة مطلق الاجتهاد فهو في مقام إنكار الضروريّات الّتي قد ثبت الاتّفاق عليها من الخاصّ والعامّ على ما بيّنّاه سابقا. وقوله من وجوب التمسّك بالكتب المؤلّفة بأمرهم فما تحقّقنا من أمرهم ورضاهم من الاصول المشهورة إلّا بما عرض على الصادق عليه‌السلام وقبله ، وهو لا يزيد على ثلاثة اصول. ومع هذا فالاجتهاد المنهيّ عنه لو سلّمنا عمومه ، فلا شكّ فيه إذا كان صاحبه تاركا للحديث ومعرضا عنه في فتواه وأحكامه ومتعمّدا غيره ، وهذا مجتهد والشيعة منزّهون عنه.

__________________

(١) راجع الوسائل ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

٩٢

التمسّك بهما من التعارضات وأنواع الإشكالات ، وعن تجويز التخيير في أحكام الله تعالى عند تعادل الأمارات في نظر صاحب الملكة الّتي اعتبروها ـ ونجانا الله من الوقوع في الهلكات وعن الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ـ وعن الحاجة إلى نصب رجل ثالث يقول : « حكمت بأحد الاجتهادين على الآخر » ليحصل فصل الخصومات بقوله : « حكمت » عند تعارض اجتهاد المجتهدين كما تقدّم في الصورتين ، وعن الحاجة إلى الفرق بين فتوى المجتهد على وجه كلّي وحكم القاضي على وجه جزئي في واقعة مخصوصة بأنّ الأوّل تنقض باجتهاد حادث بعده ، والثاني لا تنقض ، لأنّه نصبه الإمام الأعظم ليفصل الخصومات ، فلو جاز نقضه بحكم حادث للزم التسلسل.

ويؤيّد ما ذكرناه ما سننقله عن كتاب المعالم حيث قال ذكر السيّد المرتضى أنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة من مذاهب أئمّتنا عليهم‌السلام فيه بالأخبار المتواترة. وما سننقله عن رئيس الطائفة من انعقاد الإجماع على صحّة الأحاديث الّتي عمل بها *. وما سننقله عن كتاب الكافي وعن كتاب من لا يحضره الفقيه وعن المحقّق الحلّي وعن غيرهم ، وقد وجدنا في مواضع من كلام رئيس الطائفة قدس‌سره ما يوافق ما نقلناه عن قدمائنا من عدم جواز الاعتماد في أحكام الله تعالى على طريق يؤدّي إلى الاختلاف.

منها : ما ذكره في أوّل كتاب تهذيب الحديث ، حيث قال : ذاكرني بعض

______________________________________________________

* لو كان الاجتهاد مانعا من العمل بأخبار أهل البيت عليهم‌السلام كان لمنعه وجه ظاهر. وأمّا مجتهد الشيعة فلا يرجع إلى الاجتهاد إلّا عند تعذّر الحديث المفيد للحكم ممّا يعتمد عليه ويصحّ الاستناد إليه ؛ ومع ذلك فمرجعه فيه إلى اصول أهل البيت وما ثبت الإذن عنهم فيه. وإيراد المصنّف كلامه في ذلك على العلّامة وغيره لا موجب له إلّا مجرد التعدّي عليهم والغيبة لهم ، وإلّا فمتى وقع من العلّامة وغيره من المجتهدين المتقدّمين والمتأخّرين أن يكون في المسألة حديث يعتمد عليه وتركوا العمل به ورجعوا إلى ظنّ الاجتهاد ، فنسبة إهمال الحديث إليهم والعدول عن العمل به إلى الامور الظنّيّة واتّباع العامّة في ذلك عين الجهل وقلّة التدبّر ، لأنّهم كلّهم اتّفقوا على العمل بخبر الواحد الصحيح ، والعلّامة زاد على بعضهم في العمل بالموثّق صونا لتعطيل الخبر إذا ترجّح العمل به.

٩٣

الأصدقاء ـ أيّده الله تعالى بأحاديث أصحابنا ـ أيّدهم الله تعالى ـ وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضادّ حتّى لا يكاد يتفق خبر إلّا وبإزائه ما يضادّه ولا يسلم حديث إلّا وفي مقابلته ما ينافيه حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرّقوا بذلك في إبطال معتقدنا ، وذكروا أنّه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الّذي يدينون الله تعالى به ويشنّعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع ، ويذكرون أنّ هذا ممّا لا يجوز أن يتعبّد به الحكيم ولا أن يبيح العمل به العليم ، وقد وجدناكم أشدّ اختلافا من مخالفيكم وأكثر تباينا من مباينيكم ، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل حتّى دخل على جماعة ممّن ليس لهم قوّة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة ، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحقّ لما اشتبه عليه الوجه في ذلك وعجز عن حلّ الشبهة.

ومنها : ما ذكره في أواخر كتاب العدّة ـ وهو أحسن الكتب الاصولية الّتي

______________________________________________________

وكلام السيّد المرتضى ـ رضوان الله تعالى عليه ـ صريح في عدم تواتر ما في الكتب الأربعة وفي عدم العلم بصحّتها بالقرائن ، لأنّه لو كان ذلك لوجب عليه العمل بها كما عمل بما ثبت عنده ، وأكثر أقواله مخالفة لما فيها ، ويصرّح بأنّها خبر آحاد لا توجب علما ولا عملا.

وما نقله عن الشيخ الطوسي رئيس الطائفة ـ قدّس الله روحه ـ من انعقاد الإجماع على صحّة الأحاديث الّتي عليها فغير مسلّم ، وإنّما ذكر الإجماع للاستدلال به على جواز العمل بخبر الواحد ، حيث إنّه وجد الفرقة المحقّة مجمعة على العمل به ، وسيأتي بيان ذلك صريحا في محلّه.

والمصنّف يدّعي أنّ كلّ ما يحتاج إليه المكلّف من الاصول والفروع موجود في الأحاديث ، فإن كان ذلك في الأحاديث الّتي وصلت إلينا فمنعه ظاهر بالوجدان ، ولو كان الأمر كذلك لما احتاج الناس إلى الاجتهاد ، وإذا تتبّعت مسائل الاصول من مذهب السيّد المرتضى ومن تقدّم عليه أو تأخّر لا تجد فيه إلّا أدلّة العقل. اللهم إلّا أن كان نادرا ، ولو كان لهم دليل يعتمد عليه من النقل لما عدلوا عنه فكأنّ المتقدّمين لم يطّلعوا على ذلك ، وبقي الأمر بالحكمة مخفيّا ومستورا عنهم إلى أن جاء إبّان إظهاره للمصنّف واختصاصه به رحمه‌الله.

٩٤

صنّفها الخاصّة ـ حيث قال في مبحث الاجتهاد : واعلم أنّ كلّ أمر لا يجوز تغيّره عمّا هو عليه من وجوب إلى حظر أو من حسن إلى قبح ، فلا خلاف بين أهل العلم المحصّلين أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف وأنّ الحقّ فيه في واحد ، وأنّ من خالفه ضالّ فاسق وربّما كان كافرا ، وذلك نحو القول بأنّ العالم قديم أو محدث وإذا كان محدثا هل له صانع أم لا؟ والكلام في صفات الصانع وتوحيده وعدله والكلام في النبوّة والإمامة وغير ذلك ، وكذلك الكلام في أنّ الظلم والعبث والكذب قبيح على كلّ حال وأنّ شكر المنعم وردّ الوديعة والإنصاف حسن على كلّ حال ، وما يجري مجرى ذلك. وإنّما قالوا ذلك ، لأنّ هذه الأشياء لا يصحّ تغيّرها في نفسها ولا خروجها عن صفتها الّتي هي عليها. وأمّا ما يصحّ تغيّره في نفسه وخروجه من الحسن إلى القبح ومن الحظر إلى الاباحة ، فلا خلاف بين أهل العلم أنّه كان يجوز أن يختلف المصلحة في ذلك ، فما يكون حسنا من زيد يكون قبيحا من عمرو وما يقبح من زيد في حال بعينها يحسن منه في حالة اخرى ، ويختلف ذلك بحسب اختلاف أحوالهم وبحسب اجتهادهم. وإنّما قالوا ذلك ، لأنّ هذه الأشياء تابعة للمصالح والألطاف ، وما هذا حكمه فلا يمتنع أن يتغيّر الحال فيه ؛ ولهذه العلّة جاز النسخ ونقل المكلّفين عمّا كانوا عليه إلى خلافه بحسب ما يقتضيه مصالحهم ، إلّا أنّ مع تجويز ذلك في العقل هل ثبت ذلك بالشرع أم لا؟ فقد اختلف العلماء في ذلك ، فذهب أكثر المتكلّمين والفقهاء إلى أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم ، وهو مذهب أبي عليّ وأبي هاشم وأبي الحسن وأكثر المتكلّمين ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه فيما حكاه أبو الحسن عنهم ، وقد حكى غيره من العلماء عن أبي حنيفة خلافه. وذهب الأصمّ وبشر المريسي إلى أنّ الحقّ في واحد من ذلك وهو ما يقولون به وأنّ ما عداه خطأ ، حتّى قال الأصمّ : إنّ حكم الحاكم ينقض به ، ويقولون : إنّ المخطئ غير معذور في ذلك إلّا أن يكون خطؤه صغيرا وأنّ سبيل ذلك سبيل الخطأ في اصول الديانات. وذهب أهل الظاهر فيما عدا القياس من الاستدلال وغيره إلى أنّ الحقّ من ذلك في واحد.

٩٥

وأمّا الشافعي فإنّ كلامه يختلف في كتبه ، فربّما قال : إنّ الحقّ في واحد وعليه دليل قائم وأنّ ما عداه خطأ ، وربّما مرّ في كلامه أنّ كلّ مجتهد قد أدّى ما كلّف به ، وربّما يقول : إنّه قد أخطأ خطأ موضوعا عنه. وقد اختلف أصحابه في حكاية مذهبه ، فمنهم من يقول : إنّ الحقّ في واحد من ذلك وإنّ عليه دليلا وإن لم يقطع على الوصول إليه وإنّ ما عداه خطأ ، لكنّ الدليل على الصواب من القولين لمّا غمض ولم يظهر كان المخطئ معذورا. ومنهم من يحكي : أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم وإن كان أحدهما يقال فيه قد أخطأ الأشبه عند الله.

والّذي أذهب إليه ـ وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين المتقدّمين والمتأخّرين وهو الّذي اختاره سيّدنا المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله ـ : أنّ الحقّ في واحد وأنّ عليه دليلا من خالفه كان مخطئا فاسقا.

واعلم أنّ الأصل في هذه المسألة القول بالقياس والعمل بأخبار الآحاد ، لأنّ ما طريقه التواتر وظواهر القرآن فلا خلاف بين أهل العلم أنّ الحقّ فيما هو معلوم من ذلك ، وإنّما اختلف القائلون بهذين الأصلين فيما ذكرناه ، وقد دلّلنا على بطلان العمل بالقياس وخبر الواحد الّذي يختصّ المخالف بروايته ، وإذا ثبت ذلك دلّ على أنّ الحقّ في الجهة الّتي فيها الطائفة المحقّة. وأمّا على ما اخترته من القول في الأخبار المختلفة المرويّة من جهة الخاصّة فلا ينقض ذلك ، لأنّ غرضنا في هذا المكان أن نبيّن أنّ الحقّ في الجهة الّتي فيها الطائفة المحقّة دون الجهة الّتي خالفها ، وإن كان حكم ما يختصّ به الطائفة والاختلاف الّذي بينها الحكم الّذي مضى الكلام عليه في باب الكلام في الأخبار ، فلا تنافي بين القولين ، وهذه الجملة كافية في هذا الباب (١) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وسيأتي في كلامنا ما ذكره قدس‌سره في باب الكلام في الأخبار إن شئت فارجع إليه ، ومحصول كلامه هناك : أنّ اختلاف فتاوى أصحابنا المبنيّ على اختلاف الفتاوى الواردة عنهم عليهم‌السلام لا يستلزم تناقضا بين تلك الفتاوى حتّى يكون الحقّ في واحد ، وذلك لأنّ كلّ واحد منهم يقول : هذه الفتوى ثبت ورودها (٢) عنهم عليهم‌السلام ولم يظهر

__________________

(١) عدّة الاصول ٢ : ٧٢٣ ـ ٧٢٦.

(٢) خ : رواها ثقة.

٩٦

عندي إلى الآن أنّ ورودها من باب التقيّة ، وكلّما هو كذلك يجوز لنا العمل به إلى ظهور القائم عليه‌السلام وإن كان وروده في الواقع من باب التقيّة. وكلّ واحدة منهما حقّ ، إحداهما عند الاختيار والاخرى عند ضرورة التقية. بخلاف اختلاف الفتاوى المبنيّ على غير ذلك ، فإنّه يستلزم التناقض بينها ، لأنّ كلّ واحد منهم يقول أوّلا : هذا حكم الله في الواقع حال الاختيار بحسب ظنّي ، ثم يقول : كلّ ما هو كذلك يجوز لي ولمقلّدي العمل به قطعا ويقينا (١).

فائدة

انقسام علماء الإماميّة إلى الأخباريّين والاصوليّين مشهور في كتب العامّة كآخر شرح المواقف ، حيث قال : كانت الإماميّة أوّلا على مذهب أئمّتهم حتّى تمادى بهم الزمان فاختلفوا وتشعّبت متأخّروهم إلى المعتزلة وإلى الأخبارية (٢) ، وأوائل كتاب الملل والنحل للشهرستاني حيث قال في باب : الإماميّة كانوا في الأوّل على مذهب أئمّتهم في الاصول ، ثمّ لمّا اختلفوا في الروايات عن أئمّتهم وتمادى الزمان اختار كلّ فرقة طريقة ، فصارت الإماميّة بعضها معتزلة إمّا وعيدية وإمّا تفضيلية ، وبعضها أخبارية إمّا مشبّهة وإمّا سلفية (٣) انتهى كلامه.

وفي كتب الخاصّة ، كنهاية بحر العلوم العلّامة الحلّي قدس‌سره حيث قال في مبحث العمل بخبر الواحد المظنون العدالة الخالي عن القرائن لترويج ما ذهب إليه من جواز الاعتماد على خبر الواحد في الفروع : أمّا الإماميّة فالأخباريّون منهم لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام والاصوليون منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره وافقوا على خبر الواحد ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه (٤) انتهى كلامه أعلى الله مقامه (٥) وفيه بحثان آتيان في

______________________________________________________

* هذا التقسيم منشؤه عموم اسم « الإماميّة » للفرق المعروفة المتعدّدة ، لاشتراكهم

__________________

(١) في خ زيادة : من حيث إنّه ظنّي ، لا من حيث وروده من باب التقيّة.

(٢) شرح المواقف ٨ : ٤٢٣.

(٣) الملل والنحل : ١ / ١٦٥.

(٤) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ١٤٧.

(٥) هذا التقسيم منشؤه عموم اسم « الإماميّة » للفرق المعروفة المتعدّدة ، لاشتراكهم

٩٧

كلامنا إن شاء الله تعالى.

فائدة

أقول : العامّة لمّا أنكروا أنّ لله سبحانه وتعالى في كلّ زمان علما هاديا منصوبا من قبله تعالى ، حاكما على الامّة مفترض الطاعة معصوما عن الخطأ دافع الشبهات حلّال المشكلات ، عالما بكلّ ما تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة ، فاصلا بين الحقّ والباطل فيما تشاجرت فيه العقول أو تحيّرت ، ناطقا عن وحي إلهي لا رأي بشري ، وسدّوا باب التمسّك بالعترة الطاهرة عليهم‌السلام.

مع أنّ الحديث الشريف المتواتر معنى بين الفريقين : إنّي تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلّوا ، كتاب الله عزوجل وأهل بيتي عترتي ، أيّها الناس اسمعوا وقد بلّغت أنكم ستردون عليّ الحوض فأسألكم عمّا فعلتم في الثقلين ، والثقلان كتاب الله عزوجل وأهل بيتي فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ) (١).

وفي رواية اخرى : إنّي قد تركت فيكم أمرين لن تضلّوا بعدي ما إن تمسّكتم

______________________________________________________

في الانتساب لبعض الأئمّة في الجملة ـ كالزيديّة والفطحيّة والواقفة وغيرهم ـ فنسبة تشعّب الآراء والاختلاف إليهم واضح. وأمّا الإماميّة الاثنا عشريّة بالخصوص فلا يتأتّى في حقّهم ذلك ، وكلام صاحب الملل يشير إلى ما ذكرناه. وكأنّ المصنّف خصّ هذا التقسيم بعلماء الشيعة ، ولهذا استشهد بكلام العلّامة ، وكلامه (٢) غيره شاهد بذلك صريحا ، وغاية ما يستفاد منه أنّه أراد بالاصوليّين الّذين صنّفوا كتب الحديث ـ كالشيخ وأمثاله ـ وإلّا فهم قسم واحد بالنسبة إلى العمل بالأخبار ، غاية الأمر أنّ منهم من لا يعمل بخبر الواحد ، ومنهم من يعمل به.

ولقد بالغ المصنّف رحمه‌الله هنا في مدح العلّامة ـ قدّس الله روحه ـ شاهدا له بأنّه بحر العلوم ، فكيف هذا البحر الواسع لم ينشعب منه شعبة لإدراك ما أدركه المصنّف ولم يوفّقه الله لذلك! اللهمّ إلّا أن يكون هذا المدح للتوصّل به إلى أمر يعود على النفس أثره وغايته ، كما لا يخفى.

__________________

(١) راجع صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ باب فضائل علي بن أبي طالب ، ح ٣٦ ، المستدرك للحاكم ٣ : ٣٧ ، بحار الأنوار ٢٣ : ١٥٢ ، ح ١١٣ و ١١٤.

(٢) كذا ، والظاهر : كلام.

٩٨

بهما ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنّ اللطيف الخبير قد عهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كهاتين. ( وجمع بين مسبّحتيه ) ولا أقول كهاتين ( وجمع بين المسبّحة والوسطى ) فتسبق إحداهما الاخرى ، فتمسّكوا بهما لا تزلّوا ولا تضلّوا ، ولا تقدّموهم فتضلّوا (١).

ناطق (٢) بوجوب التمسّك بكلامهم عليهم‌السلام إذ معنى التمسّك بالمجموع هو التمسّك بكلامهم عليهم‌السلام إذ لا تفسير لكتاب الله إلّا التفسير المسموع منهم ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لن يفترقا » وكذلك حديث : « مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » (٣). وحديث : « ستفترق أمّتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة منها ناجية والباقي في النار » (٤) وغيرها من الأحاديث المتواترة بين الفريقين. وقد تحيّر جمع من أفاضل الفريقين في وجه دلالة الحديث الأخير وحده على المطلوب ، ووجهه :

أنّ سياقه صريح في أنّ بين الفرقة الناجية وبين سائر الفرق تضادّا كلّيّا في العقائد والأعمال الشرعية.

ومن المعلوم : أنّ هذا المعنى متحقّق بين أصحابنا وغيرهم ، لتفرّد أصحابنا بأن أوجبوا السماع منهم عليهم‌السلام كلّ مسألة نظرية شرعية أصلية كانت أو فرعية ، وسائر الطوائف خالفونا في ذلك ، وهذا الاختلاف انتهى إلى الاختلاف في كثير من الأحكام الشرعية. ولهذا المقام زيادة تحقيق سيجي‌ء في كلامنا إن شاء الله تعالى.

احتاجوا (٥) لحفظ ظاهر الشريعة إلى فتح بابي الاجتهاد والإجماع ففتحوهما *

______________________________________________________

* أصل ما اعتبره المخالفون من جميع ما أورده المصنّف : هو أنّ الاتّفاق واقع على انقطاع تجدّد تكليف بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فجميع التكاليف وأحكام الله استوفاها الرسول وعلّمها ، غاية الأمر أنّ ظهورها كلّها للامم في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ممكن ، بل وقع ما يتوقّف عليه العلم بالتكليف ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤١٥ ، المستدرك للحاكم ١ : ٩٣ بلفظ : إنّي تركت فيكم شيئين.

(٢) خبر لقوله : مع أنّ ...

(٣) راجع المستدرك على الصحيحين ٢ : ٣٤٣ ، كنز العمّال ١٢ : ٩٥ ، المعجم الكبير للطبراني ٣ : ٤٥ ـ ٤٦ ، بحار الأنوار ٢٣ : ١١٩.

(٤) راجع سنن الدارمي ٢ : ٢٤١ ، تهذيب تاريخ دمشق الكبير ٤ : ١١٨ ، بحار الأنوار ١٠ : ١١٤.

(٥) جواب لقوله في أوّل الفائدة : العامّة لمّا أنكروا ...

٩٩

ثمّ علماؤهم دبّروا تدابير عرفية واخترعوا قوانين سياسية :

منها : أنّهم قسّموا الأحكام الشرعية إلى قسمين : قسم نصب الشارع دلالة قطعية عليه ، وقسم نصب الشارع دلالة ظنّية عليه.

ومنها : أنّهم جعلوا الامّة قسمين :

القسم الأوّل : « المجتهد » واعتبروا فيه ملكة مخصوصة مخفية غير منضبطة ، ولذلك يقع الاختلاف في كثير من الأفاضل بين أهل الخبرة هل هم مجتهدون أم لا ، واعتبروا في العمل بظنّه قدرا من بذل الوسع ، هو كذلك أمر مخفي غير منضبط.

والقسم الثاني : « المقلّد » وأوجبوا عليه العمل بظنّ المجتهد في المسائل الّتي ليست من ضروريّات الدين ولا من ضروريّات المذهب ، ولذلك سمّوه « مقلّدا » فلو كان عنده حديث صحيح صريح في مسألة نظرية شرعية لم يطّلع عليه المجتهد وجب عليه طرحه والأخذ بظنّ المجتهد المخالف له المبني على استصحاب أو براءة أصلية أو شبهها.

______________________________________________________

لكن بعد ذلك يجوز خفاء بعضها ، لعدم وجود نصّ صريح به ، ويمكن استخراج حكمه من اصول الشريعة بالاستنباط والاجتهاد ، وأثبتوا ذلك بنقلهم تعدّد أهل الفتوى في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل الخلفاء الأربعة وعبد الله بن العبّاس وغيرهم ، وتجويز الاجتهاد للرسل الّذي كان يرسلهم للجهات ، وبقوله تعالى : ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ) وذلك

أنّ اثنين من الصحابة قطع أحدهما من نخل المشركين الجيّد والآخر الردي‌ء ، والأوّل أراد غيظ المشركين بقطع الجيّد ، والثاني أراد بقاه لنفع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا سألهم الرسول عن ذلك كان هذا جوابهم وأذن الله لهم في ذلك وكان اجتهادهم.

وأمّا أصحابنا فإنّهم بعد انقضاء الزمن الطويل واندراس الكتب المعتمدة في الرواية ولم يجدوا في أغلب الأحكام إلّا أخبار الآحاد مع عدم وفائها بأحكام الفروع في الدلالة صريحا ولا فحوى ، احتاجوا أيضا إلى طريقة الاجتهاد والاستنباط بحيث لا يخرج فتواهم عن موافقة حديث الأئمّة واصولهم المعتمدة ولا بدّ من الرجوع إلى قواعدها بنوع من الاستدلال.

ودعوى أنّ كلّ مسألة من الفروع يمكن استفادة حكمها من نصّ الحديث بخصوصها فممّا يشهد بتعذّره الوجدان ، ودعوى المصنّف ذلك مكابرة في العيان عند الإنصاف.

١٠٠