الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

ومنها : أنّهم فرّقوا بين القضاء والإفتاء ، بأنّ الأوّل لا ينقض إلّا بقطعيّ ، لأنّه وضع لفصل الخصومات دون الثاني ، فلو حكم قاض في رؤية هلال عيد الفطر مثلا أو منازعة دنيوية بحكم مبنيّ على اجتهاده يجب على كلّ المجتهدين موافقته في ذلك الحكم الشخصي.

ومنها : أنّهم ذكروا أنّ الإجماع بالمعنى الّذي اعتبروه معصوم (١) عن الخطأ دون اجتهاده صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) فهو أقوى منه من وجه كما صرّحوا به.

ثمّ احتاجوا في تحصيل تلك الملكة إلى فتح أبواب اخر ففتحوها وسمّوها أدلّة شرعية.

ثمّ احتاجوا إلى وضع باب الترجيحات ، لكثرة وقوع التعارض بين الأمارات والخيالات الّتي اعتبروها ، وإلى القول بالتخيير في أحكامه تعالى عند العجز عن الترجيحات الّتي اعتبروها لئلّا يلزم تعطل الأحكام ، وإلى نصب رجل ثالث ليحكم على أحد المجتهدين للآخر عند تعارض اجتهاديهما لئلّا يلزم تعطّل الأحكام. ثمّ سدّوا باب القدح في جلّ ما اعتبروه بادّعاء الإجماع عليه.

فأوّل الأبواب الّتي منحوها ومعظمها الإجماع ، إذ عليه يبتنى سائر قواعدهم ، وفسّروه بتفاسير مختلفة متقاربة المعنى ، ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي : الإجماع اتّفاق المجتهدين من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر على أمر (٣) وفي جمع الجوامع : الإجماع اتّفاق مجتهدي الامّة بعد وفاة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر على أيّ أمر كان (٤). وقالوا : أيّ أمر كان يعمّ الإثبات والنفي والأحكام الشرعية واللغوية والعقلية والدنيوية فهو حجّة فيها ، كما جزموا به في الأوّلين ورجّحوه في الآخرين وادّعوا تحقّقه في مواضع لا تعدّ ولا تحصى من باب الخرص والتخمين.

والتزموا أن لا يلتفتوا إلى قول أهل الذكر عليهم‌السلام في تحقّق الإجماع ولا إلى قول من تمسّك بهم.

__________________

(١) في ط : معصوما.

(٢) كذا ، ولم نتحقّق المراد منه.

(٣) شرح القاضي : ١٢٢.

(٤) جمع الجوامع ٢ : ١٧٦.

١٠١

ومن تلك الأبواب القياس :

ومنها : استنباط الأحكام النظرية من عمومات كتاب الله تعالى وإطلاقاته من غير تفحّص عن حالهما هل هي منسوخة أو مخصّصة أو مقيّدة أو مؤوّلة أو لا؟ بسؤال أهل الذكر عليهم‌السلام عن ذلك ، ويقولون عند الاستنباط من ظاهر آية شريفة : نحن فحصنا الأحاديث النبوية المروية بطرقنا ولم يظهر عندنا نسخ ولا تخصيص ولا قيد ولا تأويل لتلك الآية ، فحصل لنا ظنّ متاخم لليقين أو غير متاخم بفقد تلك الامور ، وذلك لأنّها لو كانت لظهرت بعد التفتيش ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ما جاء به أظهره بين يدي أصحابه ، وتوفّرت الدواعي على أخذه ونشره ، ولم تقع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله فتنة انتهت إلى إخفاء بعضه.

ومنها : استنباط الأحكام النظرية من السنّة النبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير تفحّص عن حالها ، كما مرّ.

ومنها : شرع من قبلنا.

ومنها : التمسّك بالملازمات المختلفة فيها ، مثل أنّ الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن أضداده الخاصّة الوجودية ، ومثل أنّ تحقّق مأخذ الاشتقاق في ذات في زمان كاف في إطلاق المشتقّ على تلك الذات بعد زواله.

ومنها : التمسّك باستصحاب حكم شرعي مع طروّ حالة لم يعلم شمول الخطاب لها.

ومنها : التمسّك بالاستحسان.

ومنها : التمسّك بالمصالح المرسلة.

ومنها : التمسّك بالبراءة الأصلية في نفي حكم شرعي ظهرت شبهة مخرجة عن ـ الأصل كرواية ضعيفة ـ أو لم تظهر.

ومنها : التمسّك بخبر الواحد المظنون العدالة في نفس الأحكام الإلهية.

ومن تدابيرهم القول بأنّ أمر الشهادة آكد من أمر الرواية ولذلك احتيط في الشهادة ما لم يحتط في الرواية ، فزيد في شروطها فاعتبر في الشهادة الحرّية

١٠٢

والذكورة والعدد وعدم القرابة للمشهود له وعدم العداوة للمشهود عليه ، دون الرواية لأنّ الرواية أبعد عن التهمة.

وأقول : من المعلوم أنّه ينبغي أن يكون الأمر بالعكس ، لأنّه يثبت بالرواية حكم كلّي يعمّ المكلّفين إلى يوم القيامة وبالشهادة قضيّة جزئيّة ، ومن ثمّ تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بأنّه يكفي في باب الشهادات وإمام الجماعات العدالة الظاهرية (١) وبأنّه لا بدّ في راوي الحكم الإلهي العصمة أو من الثقة المأمون من الكذب والزّلّة (٢) *.

ومنها : قولهم بأنّ الحكم فيما لا دليل فيه نفي الحكم ، فنفي الدليل دليل على نفي الحكم ، لما ورد الشرع بأنّ ما لا دليل فيه لا حكم فيه ، فكان عدم الدليل لعدم الحكم مدركا شرعيا.

وملخّصه : أنّ عدم الدليل مدرك شرعي لعدم الحكم ، للإجماع على أنّ ما لا دليل فيه فهو منفيّ ، وذلك بعد ورود الشرع ، لظهور أنّه قبل ورود الشرع ليس من المدارك الشرعية ، كذا في الشرح العضدي (٣) وفي شرح الشرح للعلّامة التفتازاني.

أقول : من ضروريّات مذهب الإماميّة أنّ كلّ ما تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة وكلّ ما يختلف فيه اثنان ورد فيه خطاب وحكم من الله تعالى حتّى أرش

______________________________________________________

* الراوي للحكم عن الله سبحانه وتعالى بغير واسطة بشر لا شكّ في اشتراط عصمته ، وأمّا الراوي عنه بعد ذلك فيشترط فيه ما يشترط في صحّة الرواية ، ومع تطاول الأزمان وتعدّد طبقات الرواة المناسب فيه عدم المضايقة الّتي اعتبروها في الشهادة لكثرة الحاجة والضرورة إلى معرفة الأحكام والعمل بها ، فلو اعتبروا فيها ما اعتبروه في الشهادة انسدّ باب المعرفة لأغلب الأحكام من الحديث مع امتداد الزمان ، وهو مخالف للحكمة. وأيضا التهمة المانعة من القبول في الشهادة منتفية في الرواية ، والتوثيق والأمن من الكذب معتبر في الشهادة أيضا ، لأنّه داخل في مفهوم العدالة ، فلا تزيد الرواية عليها في ذلك ، كما يظهر من كلام المصنّف خلافه.

__________________

(١) راجع الوسائل ١٨ : ٢٨٨ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات.

(٢) راجع الوسائل ١٨ : ٨٩ ، الباب ١٠ و ١١ ومن أبواب صفات القاضي.

(٣) لم نعثر عليه.

١٠٣

الخدش ، فخلوّ واقعة عن حكم إلهيّ غير متصوّر عند أصحابنا.

فائدة

اعلم أنّ علماء العامّة مع كثرة المدارك الشرعيّة عندهم اختلفوا في تحقّق مجتهد الكلّ ، فذهب جماعة من محقّقيهم ـ كالآمدي وصدر الشريعة ـ إلى عدم تحقّقه ، والعجب كلّ العجب! من جمع من متأخّري أصحابنا حيث زعموا تحقّقه مع عدم اعتبار أكثر تلك المدارك عند أصحابنا.

فائدة

اعلم أنّ الاصوليّين من الخاصّة اتّفقوا على بطلان بعض تلك المدارك الّتي اعتبرتها العامّة وعلى صحّة بعضها واختلفوا في الباقي ، وسنشير إلى الأقسام الثلاثة ونحقّق المقام إن شاء الله تعالى بتوفيق الملك العلّام وهداية أهل الذكر عليهم‌السلام.

فائدة

الصواب عندي مذهب قدمائنا الأخباريّين وطريقتهم ، أمّا مذهبهم فهو أنّ كلّ ما تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتّى أرش الخدش ، وأنّ كثيرا ممّا جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأحكام وممّا يتعلّق بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل مخزون عند العترة الطاهرة عليهم‌السلام وأنّ القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية ، وكذلك كثير من السنن النبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأنّه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام الشرعية النظرية أصلية كانت أو فرعية إلّا السماع من الصادقين عليهم‌السلام. وأنّه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله ولا من ظواهر السنن النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر عليهم‌السلام بل يجب التوقّف والاحتياط فيهما ، وأنّ المجتهد في نفس أحكامه تعالى إن أخطأ كذب على الله تعالى وافترى وإن أصاب لم يؤجر ، وأنّه لا يجوز القضاء

١٠٤

ولا الافتاء إلّا بقطع ويقين ومع فقده يجب التوقّف ، وأنّ اليقين المعتبر فيهما قسمان : يقين متعلّق بأنّ هذا حكم الله في الواقع ، ويقين متعلّق بأنّ هذا ورد عن معصوم فإنّهم عليهم‌السلام جوّزوا لنا العمل به قبل ظهور القائم عليه‌السلام وإن كان في الواقع وروده من باب التقية ولم يحصل لنا منه ظنّ بما هو حكم الله تعالى في الواقع والمقدّمة الثانية متواترة عنهم معنى *.

فائدة

المعتبر من اليقين في البابين ما يشمل اليقين العادي فلا يتعيّن تحصيل ما هو

______________________________________________________

* أمّا إنّ جميع ما تحتاج إليه الامّة في التكليف قد ورد حكمه من الله ـ سبحانه وتعالى ـ فلا شكّ فيه. وأمّا إنّ ذلك مخزون عند الأئمّة عليهم‌السلام فإن كان المراد به أنّه معلوم عندهم فهو حقّ. وإن كان المراد به أنّ النبيّ خصّهم بعلمه دون غيرهم فهذا لا يجوز فيما يحتاج التكليف إليه ، لأنّه مرسول إلى تبليغ الناس كافّة ، فكيف يجوز إخفاؤه عنهم. نعم ، بعض ما لا يتوقّف عليه التكليف من الأسرار والحكم اختصّهم بها ـ صلوات الله عليهم ـ وأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ جميع ما يشتبه بعد تبليغه أو ينسى يجب على الأئمّة الرجوع إلى كتاب الله وعترته فيه.

وأمّا القرآن فإنّما انزل هدى ورحمة للعالمين ، والأحكام الّتي تضمّنها الظاهر منها الّتي لا يتحمّل الشكّ لا ريب في فهم المقصود منه. وأمّا المحكم والمتشابه فقد ردّ الله سبحانه علمه إلى أهل الذكر والعلماء ، ولا شكّ أنّ الأئمّة عليهم‌السلام أهل ذلك.

وأمّا قوله : إنّه لا يجوز استنباط الأحكام من ظواهر الكتاب ولا ظواهر السنن النبويّة ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر فمسلّم إن خفي علم ذلك على غيرهم ولكن أمكن استفادته منهم عليهم‌السلام صريحا ، وأمّا إذا لم يمكن ذلك بأن لا يوجد من آثارهم نصّ صريح يعتمد عليه في مسألة بعد تمام التفحّص والاجتهاد ، فما الّذي يمنع من استنباط الحكم فيها من اصول وقواعد ترجع إليهم عليهم‌السلام ولا تخرج عن مذهبهم بالقوّة الّتي جعلوا حصولها العمدة في الهداية إلى الصواب؟ لأنّها إنّما يكون عطيّة من الله سبحانه وموهبة إلهيّة تحصل بعد تحقّق الاجتهاد ، مصداقا لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) فلا تحصل إلّا لمن أراد الله إيصاله إلى الحقّ والصواب.

والمصنّف ـ سامحه الله ـ أوّلا ينقل عن القدماء أشياء بمجرّد الدعوى من غير برهان ،

١٠٥

أقوى منه من أفراد اليقين ، وباب اليقين العادي باب واسع يشهد بذلك اللبيب اليقظاني النفس ، والاصوليّون بنوا على هذا الباب كثيرا من قواعدهم كحجّية الإجماع ، وكذلك المتكلّمون ، وإن شئت أن تعلمه كما علمنا فانظر إلى الشرح العضدي للمختصر الحاجبي وإلى شرح المواقف والمقاصد وغيرها.

فائدة

كان المتعارف بين قدمائنا وفي كلام الأئمّة عليهم‌السلام الوارد في وكلاء الصاحب عليه‌السلام وفي غيرهم جواز الاعتماد على خبر الثقة ، ومن المعلوم : أنّ النسبة بين الثقة في الأخبار وبين ظنّ العدالة ـ الّذي اعتبره العلّامة رحمه‌الله (١) ومن وافقه من أصحابنا على وفق العامّة ـ عموم من وجه ، صرّح بذلك الشهيد الثاني في بعض تصانيفه في جواز الاعتماد على خبر البائع الثقة في استبراء الجارية (٢) ووقع هذا الإطلاق في صحيحة عمر بن يزيد في باب الشهادة (٣) وصرّح رئيس الطائفة في كتاب الفهرست بأنّ كثيرا من أصحاب الاصول كانوا ينتحلون المذاهب الفاسدة وكانت كتبهم

______________________________________________________

وثانيا يسند إلى الأحاديث أشياء كذلك ويجترئ على الحكم بأنّ المجتهد إذا أصاب لم يوجر وأنّ القضاء والإفتاء بقول مطلق لا يجوز إلّا بقطع ويقين. ويظهر من سياق كلامه استناد ذلك كلّه إلى ما عرفه من الحديث. وهذا إقدام عجيب! لأنّ الرجوع إلى العمل بالظنّ في مواضع عديدة قد ثبت الإذن فيها عنهم عليهم‌السلام والمصنّف نقله واعترف به ، وأنّ قضاء من يتحاكم إليه من الشيعة إذا عرف شيئا من قضاياهم عليهم‌السلام ماض على الخصم ولا يجوز ردّه والوعيد والتهديد على المراد. وكلّ هذا لاتّباع الهوى ، لا يتنبّه به المصنّف ولا يرجع عن الخطاء.

وأمّا قسمته اليقين إلى قسمين فلم يظهر لي معناه ، لأنّ اليقين والعلم إن أراد به الاعتقاد فلا يلزم مطابقته للواقع دائما ، وإن أراد به الّذي لا يقبل احتمال غيره فالحديث لا يصل إلى هذه المرتبة ما لم يكن مشافهة عن المعصوم عليه‌السلام. والحديث الوارد من باب التقيّة إذا ثبت عندنا ولم نعلم أنّه من حكم التقيّة حكمنا به وعلمنا على حدّ غيره ، لا تفاوت بينهما في العلم واليقين إذا حصلا.

__________________

(١) راجع مبادئ الوصول : ٢٠٣ ـ ٢١٠.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ٣٨٦.

(٣) الفهرست : ٤.

١٠٦

معتمدة وصرّح في كتاب العدّة بأنّه يجوز العمل بخبر الثقة في الرواية وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه (١).

وفي الكافي في باب تسمية من رآه عليه‌السلام : محمّد بن عبد الله ومحمّد بن يحيى جميعا عن عبد الله بن جعفر الحميري قال : اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو رحمه‌الله عند أحمد بن إسحاق فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف ، فقلت له :

يا أبا عمرو قد أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه‌السلام قال :

سألته وقلت : من اعامل أو عمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له : العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون. وأخبرني أبو عليّ أنّه سأل أبا محمّد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال له : العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان ، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك. قال : فخرّ أبو عمرو ساجدا وبكى ، ثمّ قال : سل ، فقلت له : أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمّد عليه‌السلام؟ فقال : إي والله! ورقبته مثل ذا ، وأومأ بيده (٢). والحديث طويل نقلنا منه موضع الحاجة.

والتصريح بأنّه لا يعتمد في باب الرواية إلّا على رواية الثقة وقع في أحاديث كثيرة ، سيجي‌ء في كلامنا نقل طرف منها ، فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.

وأنا أقول : ما أفاده الشيخ قدس‌سره في غاية الجودة ، لأنّ خبر الثقة في الرواية فرد من أفراد الخبر المحفوف بالقرينة الموجبة للعلم والقطع ، وكأنّ هذه الدقيقة كانت منظورة لقدمائنا في العمل بخبر الواحد الثقة (٣) وغفل عنها العلّامة الحلّي فتحيّر في تحقيق طريقة قدمائنا ووقع في حيص وبيص حتّى نسب إليهم أنّهم كانوا يعتمدون في عقائدهم أيضا على مجرّد خبر الواحد الظنّي العدالة (٤). هكذا ينبغي أن تحقّق هذه المباحث. والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب ، وذلك فضل الله يؤتيه من

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ١٣٤ ، ١٥٢.

(٢) الكافي ١ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ، ح ١.

(٣) في هامش ط ما يلي : وغفل عنها المتأخّرون فتحيّروا في تحقيق طريقة قدمائنا ووقعوا في حيص وبيص حتّى نسب العلّامة الحلّي إليهم ( خ ل ).

(٤) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ١٤٧.

١٠٧

يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وقد رأيت في سحر ليلة الجمعة في مكّة المعظّمة في المنام : أنّه يخاطبني واحد من أخيار الأنام في مقام التسلية بقوله تعالى : ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (١) وكان السبب فيه أنّي كنت حزينا على ما فات منّي في بعض المساعي فأخذتني غفوة في تلك الليلة بعد أن صلّيت صلاة الليل وصلاة الوتر ، فلمّا أصبحت وفتحت الكافي للنظر في مبحث كان في قصدي ، فإذا أنا بقول الصادق عليه‌السلام في تفسير هذه الآية الشريفة : المراد بها أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام (٢). فالحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن *.

______________________________________________________

* إنّ الخلاف في قبول خبر الثقة غير الإمامي معروف ، وما ذكره عن القدماء وكلام الأئمّة من الاعتماد عليه لا نسلّم عمومه ، بل مخصوص بالإماميّ الثقة ؛ وكذلك كلام الشهيد الثاني. وإخبار أبي محمّد عليه‌السلام بتوثيق العمري وابنه وقبول كلامهما لا يقتضي قبول الثقة مطلقا سواء كان فاسد المذهب أو صحيحه ، ونهاية ما يدلّ على قبول قول العدل الإمامي ، لأنّ التوثيق داخل في معنى العدالة. هذا إن لم نقل : للسفراء خصوصيّة في قبول قولهم لا يلزم وجود مثلها في غيرهم. وما نقله عن الشيخ رحمه‌الله فهو أحد القولين ، لا أنّه يقتضي الاتّفاق على ذلك.

والعجب! إنّه جعل الخبر الموثّق في الرواية فردا من أفراد الخبر المحفوف بالقرينة الموجبة للعلم والقطع سواء كان من الإماميّة أو من غيرهم ، وعلى هذا يلزم أن يكون خبر العدل الواحد الإمامي يوجب العلم والقطع بطريق أولى ، لأنّ التوثيق من جملة لوازم العدالة ، والحال أنّ الشيخ وغيره صرّحوا بإفادة الخبر المحفوف بالقرائن العلم والقطع وإفادة غيره من خبر العدل الواحد الخالي عن القرائن الظنّ ، وأنّ الخلاف بين من عمل بخبر الواحد وبين من ردّه ليس إلّا فيما يفيد الظنّ لا العلم ، لأنّ ما أفاد العلم بالتواتر والقرائن لا نزاع فيه للسيّد وأتباعه ولا لغيره.

وأغرب من ذلك! أن يجعل هذا الخطاء الظاهر دقيقه تنبّه بزيادة فضيلته إليها وغفل عنها العلّامة وعابه بذلك ، ورجع إلى قبيح العادة من ادّعائه الانفراد بالتحقيق والتحمّس به ، وأنّ ذلك فضل الله قد اختصّه به ، وكان هذا الاختصاص من الله سبحانه حيث لم يجد في المتقدّمين

__________________

(١) البقرة : ٢٦٩.

(٢) انظر الكافي ١ : ٢٠٢ ، ح ١ وج ٢ : ٢٨٤ ، ح ٢٠.

١٠٨

وأمّا طريقتهم فهي أنّهم لم يعتمدوا فيما ليس من ضروريّات الدين من المسائل الكلامية والاصولية والفقهية وغيرها من الامور الدينية إلّا على الأخبار الصحيحة الصريحة المروية عن العترة الطاهرة عليهم‌السلام.

ومعنى الصحيح عندهم مغاير لما اصطلح عليه المتأخّرون من أصحابنا على وفق اصطلاح العامّة ، وأوّلهم العلّامة ـ على ما سيجي‌ء نقله عن بعض أصحابنا ـ فإنّ معناه عندهم ما علم علما قطعيا وروده عن المعصوم ولو كان من باب التقية. وباصطلاح القدماء تكلّم السيّد الإمام العلّامة والقدوة الهمام الفهّامة سيّد المتكلّمين وسند الفقهاء والاصوليّين السيّد الأجل المرتضى رضى الله عنه في جواب المسائل التبّانيات المتعلّقة بأخبار الآحاد ، حيث قال : إنّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا معلومة مقطوعة على صحّتها ، إمّا بالتواتر من طريق الإشاعة والإذاعة أو بأمارة وعلامة دلّت على صحّتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص (١) هذا الكلام نقله صاحب كتاب المنتقى في

______________________________________________________

والمتأخّرين له أهلا غيره. وأكّد ذلك القبيح عند العقلاء بالعود إلى ما يوجبه زيادة الهجس في الشي‌ء من المنامات والتخيّلات الواهية الّتي لا يليق بأدنى كامل ذكرها باللفظ ، فضلا عن تدوينها والافتخار بها في كتاب!

ومن هذا وغيره عند تأمّل ... (٢) يعلم خطاؤه في تصاويره وأفكاره.

وما فسّر الصادق عليه‌السلام به الآية فضله عامّ جميع العلماء الإماميّة ، لا انفراده بهذه الخصوصيّة كما يظهر من سياق مدحه لنفسه ، لأنّ العلماء ليس لهم استناد ولا حكم

في شي‌ء من الأحكام إلّا من حديثهم عليهم‌السلام تفصيلا وإجمالا ؛ على أنّ هذا الأمر الّذي يدّعي وجوب إظهاره عليه من بيان خطاء المتقدّمين عليه وأنّ ما اعتقده من هذه الدعاوي هو الحقّ المبين والصراط المستقيم ، وأنّهم كانوا في ضلالة من بعدهم عن الحديث وعدم رجوعهم إليه وترجيحهم العمل بالظنّ الفاسد على العمل بالخبر القاطع واتّباعهم للعامّة وقد نهوا عن اتّباعهم وامروا بمخالفتهم ، لو كان ذلك حقّا لوجب على الله سبحانه من باب اللطف وبركة الإيمان وشرف

__________________

(١) لم نعثر عليه في مجموعة رسائله.

(٢) هنا كلمة مختصرة ، تحتمل المنصف ، أو المصنّف.

١٠٩

أوائل كتابه عن السيّد المرتضى (١) *.

______________________________________________________

الحديث أن يلقي في ذهن كلّ من سمع كلامه ودعاويه أن يتقبّله باذن سميعة وعين بصيرة ويد طويلة ، بحيث لا تجوز معارضة الشكّ والريب فيه حتى تنقذ الناس من هذه الضلالة العامّة في الزمن الطويل ؛ فما وجدنا هذه الخصوصيّة تعدّت غير صاحبها ولا انتفع منها من يكون له أدنى عقل وتميز بل جلبت على صاحبها سوء الاعتقاد والنسبة إلى الجهل وضعف العقل وسوء العاقبة دنيا وآخرة. والله المستعان ، ونسأله من كرمه العفو والمسامحة.

* ممّا يدلّ على أنّ السيّد قدس‌سره أراد بكلامه خلاف ما أراده المصنّف أنّ الكافي ومن لا يحضره الفقيه متقدّمان على السيّد ، وما وجدنا أقواله أكثرها إلّا مخالفا لما فيهما ، ولا يعتذر عن المخالفة لما فيهما إلّا بأنّها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا. وقال من جملة كلامه ـ قدّس الله روحه ـ في الردّ للعمل بخبر الواحد : إنّه لم يرد الشرع به (٢). ولم يجوّز تخصيصه للكتاب وقال : لو سلّمنا ورود الشرع به بالعمل لم تكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص (٣) فعلم أنّ مراد السيّد من الأخبار الّتي عناها ما ثبتت عنده بالتواتر والقرائن لا كلّ الأخبار المسطورة في الكتب الأربعة. وقد نبّهنا على ذلك سابقا وبيّنّا أنّ المفيد رحمه‌الله وغيره لو كان معتقدا لصحّتها كلّها ـ كما يدّعيه المصنّف ـ لم يجز له ولا لغيره مخالفة مضمونها في مسألة من المسائل الّتي اعتمدوا فيها على الظنّ في حكمهم وفتواهم ، مع أنّ الأمر بخلاف ذلك لمن تتبّع أحكامهم في الفروع.

والمحقّق رحمه‌الله ادّعى الإجماع على العمل بخبر الواحد ، وذلك لأنّه قال في مبحث التخصيص به الكتاب وعدم جوازه ما معناه : إنّ دلالة الإجماع على دلالة العمل به إنّما هي فيما لا يوجد عليه دلالة ، فإذا وجدت الدلالة القرآنيّة سقط وجوب العمل به (٤). وفي ذلك دلالة واضحة أنّ المراد من الخبر الّذي لا يجوز التخصيص به للكتاب الخبر المفيد للظنّ ، لأنّ الخبر المفيد للعلم لا نزاع عندنا في جواز التخصيص به كالمتواتر وغيره ممّا يفيد القطع ، والمحقّق لا مخالفة له فيه ، هذا مع تصريحه في غير هذا الموضع بأنّ المراد من خبر الواحد ما ذكرناه. والمصنّف يريد لأجل هواه أن يلزم المرتضى والشيخ وغيرهم بمقتضى خطائه وصحّة اعتقاده ، وهم يصرحون وينادون بخلاف ذلك.

__________________

(١) منتقى الجمان ١ : ٢ ـ ٣.

(٢) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٥٢.

(٣) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٢٨١.

(٤) معارج الأصول : ٩٦.

١١٠

وكذلك عمدة علمائنا الأخباريّين شيخنا الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه قدس‌سره تكلّم باصطلاح القدماء حيث ذكر في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه : أنّ كلّ ما ذكره فيه صحيح وأنّه حجّة بينه وبين الله تعالى (١).

وكذلك الإمام ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني قدس‌سره تكلّم باصطلاح القدماء حيث ذكر في أوائل كتاب الكافي ما محصّله : أنّه صنّفه لأن يزول به إشكال من تحيّر في الأحكام بسبب اختلاف الروايات وعدم تمكّنه من التمييز بين الصحيح

______________________________________________________

وممّا يزيد ما أشرنا إليه وضوحا وبيانا أنّه في المعالم نقل عن السيّد أنّه أورد على نفسه فقال : إذا سددتم باب العمل بالأخبار فعلى أيّ شي‌ء تعوّلون في الفقه كلّه؟ وأجاب بما حاصله : أنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة من مذهب أئمّتنا عليهم‌السلام فيه بالأخبار المتواترة وما لم يتحقّق ذلك فيه ـ ولعلّه الأقلّ ـ يعوّل فيه على إجماع الإماميّة. ثمّ قال في المعالم : وذكر ـ أي السيّد ـ كلاما طويلا محصّله : أنّه إذا أمكن تحصيل القطع من طرق ذكرها تعيّن العمل عليه ، وإلّا كنّا مخيّرين بين الأقوال المختلفة لفقد دليل التعيين (٢) انتهى كلامهم رحمهم‌الله.

وإذا تأمّلت هذا الكلام عرفت أنّه ليس لكلّ مسألة من الاصول والفروع يوجد لنا عليها دليل من الحديث مقطوع به ، وأنّ سبب الاختلاف في الأقوال عدم وجود دليل القطع ، وعرفت خلل ما يدّعيه المصنّف : من أنّ كتب الحديث الأربعة جميع ما فيها مأخوذ من اصول معلومة صحيحة كلّها عن أهل البيت عليهم‌السلام مقطوع بها ، لأنّ تلك الاصول كانّها كانت غائبة عن السيّد وابن الجنيد وابن أبي عقيل من القدماء وأمثالهم حتّى غفلوا عنها وخالفت فتاواهم غالبا ما فيها ولم نر السيّد ذكرها عند علمه بالمقطوع به من أخبار أهل البيت ولا تعرّض لشي‌ء منها ولا لطريقه إليها عند الحاجة والسؤال عن ذلك بعد ردّه لأخبار الآحاد ، بل أجاب بما يقتضي إمّا الغفلة عنها أو عدم اطّلاعه عليها ، وهذا لا يتصوّر بعد فرض اطّلاع غيره ممّن لم يكن في رتبته ، وإمّا لعلمه بعدم صحّة جميع ما فيها وأنّ أخبارها غير موجبة للعلم في كلّ مسألة كما هو الظاهر من أحاديث الكتب الأربعة والمعتقد لمؤلّفيهم باعتبار مخالفة بعضهم بل كلّهم في بعض المسائل لما فيها واعتراف الشيخ في مواضع كثيرة بضعف طريق ما رواه ، ويردّه بسبب ضعف راويه.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣ ، مقدمة المؤلّف.

(٢) معالم الدين : ١٩٦.

١١١

منها وغير الصحيح منها ، ولأن يكتفي به المتعلّم والمسترشد ويأخذ منه معالم دينه بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام (١).

ومن المعلوم أنّه رحمه‌الله لم يذكر في كتابه هذا قاعدة بها يميّز بين الحديث الصحيح وغيره ، فعلم أنّ كلّ ما فيه صحيح ، فإنّه لو كان ملفّقا من صحيح وغير صحيح لزاد السائل الإشكال والحيرة ولما جاز اكتفاء المتعلّم به وأخذ المسترشد منه. وأيضا من الامور المعلومة عند من تتبّع كتب الأخبار والرجال : أنّ الاصول الصحيحة والأحاديث المعتمدة عليها كانت في زمن الإمام ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني قدس‌سره ممتازة عن غيرها. ومن المعلوم أنّه لم يقع من مثله أن يجمع بينهما في كتاب واحد في مقام الهداية والإرشاد من غير نصب علامة مائزة ، ذلك ظنّ الّذين لا يوقنون.

وكذلك رئيس الطائفة قدس‌سره تكلّم باصطلاح القدماء حيث ذكر في أوائل كتاب الاستبصار موافقا لما صرّح به في كتاب العدّة (٢) كما حقّقه المحقّق الحلّي واختاره في اصوله (٣).

وفي أوائل المعتبر ما محصوله : أنّ أخبار كتب قدمائنا الّتي كانت متداولة بينهم وكانوا مجمعين على ورودها عن المعصومين عليهم‌السلام لا يخلو من أقسام ثلاثة : من جملتها ما يكون مضمون الخبر متواترا. ومن جملتها ما يكون احدى القرائن الموجبة للقطع بصحّة مضمون الخبر موجودة. ومن جملتها ما لا يكون هذا ولا ذاك. وإنّ القسم الثالث ينقسم إلى أقسام : من جملتها خبر انعقد إجماعهم على نقله عنهم عليهم‌السلام بمعنى أنّهم لم ينقلوا عنهم عليهم‌السلام في بابه إلّا إيّاه أو ما يوافقه. ومن جملتها خبر ليس كذلك ، ولكن انعقد إجماعهم على صحّته بمعنى وروده عن المعصوم مع قيد عدم ظهور مانع شرعي عن العمل به ، وأنّ كلّ خبر عمل به في كتابي الأخبار وغيرهما من الكتب لا يخلو عن الأقسام المذكورة (٤) *.

______________________________________________________

* من تأمّل حقيقة الحال عرف أنّ الاختلاف في الأخبار والتنافي كان حاصلا في زمن

__________________

(١) الكافي ١ : ٨ ، مقدّمة المؤلّف.

(٢) الاستبصار ١ : ٣ ، عدّة الاصول ١ : ١٢٦.

(٣) معارج الاصول : ١٤٧.

(٤) راجع المعتبر ١ : ٢٩.

١١٢

وكذلك المحقّق الحلّي قدس‌سره تكلّم باصطلاح القدماء في العبارة الّتي تقدّم نقلها عن كتاب المعتبر ، حيث اختار في العمل بخبر الواحد ما اختاره رئيس الطائفة بعينه ، حيث قال : والتوسّط أصوب ، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب اطراحه (١).

______________________________________________________

الكليني ، والصحيح والضعيف كذلك ، وهو الّذي أوجب له نقل الأخبار الّتي لم يتحقّق كذبها خوفا من ضياعها ، حيث إنّها كثيرة التفرّق في الكتب ، وأحال معرفة صحيحها من غيره على تنبيه أصحاب علم الرجال ممّن تقدّم عليه. ولو كانت كلّها صحيحة مأخوذة من اصول لا شكّ في صحّتها لوجب التنبيه على ذلك ، لأنّه علم أنّ ما شكي إليه من الاختلاف ما كان سببه إلّا اختلاف الأحاديث من الصحّة والضعف ، فكان يلزم عليه ان ينبّه صريحا في أوّل كتابه : أنّي ما اعتمدت ولا دوّنت إلّا ما قطعت بصحّته ويبيّن وجه ذلك ومن أيّ أصل صحيح أخذه ؛ على أنّهم صرّحوا بأنّه لا يجوز الاختلاف في الحديث المتواتر لكونه مفيدا للعلم مقطوعا به ، ولو كانت الأحاديث في كتب الحديث المعلومة مقطوعا بها ثابتة الصحّة عن الأئمّة عليهم‌السلام لما جاز فيها الاختلاف ، والأمر بخلاف ذلك.

هذا كلّه مع ما بيّنّاه سابقا من فساد دعوى المصنّف ويكفي أصحاب الكتب الأربعة أن يكون الداعي لجمعها خوفا من اندراس الحديث وضياعه ، ولم يمكنهم عند ذلك تمييز الصحيح والضعيف باليقين ، فجمعوا منها ما حسن الظنّ لهم به ولم يعلموا كذبه ومخالفته قطعا لمذهب أهل البيت ، وأحالوا في العمل به على ما يتحقّق

من حال رواته كما فعله الشيخ رحمه‌الله في أحكامه وفتاواه ، وغيره أيضا كذلك.

وللشيخ المحقّق المدقّق بهاء الدين العاملي ـ قدّس الله روحه ـ هنا كلام محصّله : إنّ المتقدّمين كان لهم سبيل إلى معرفة الحديث الصحيح بتكرّره في الاصول القديمة أو وجوده في أصل عرض على أحد من الأئمّة عليهم‌السلام وعرفت صحّته بقرينة أو غير ذلك ممّا يفيد ثبوت الصحّة ، وكان ذلك في زمانهم متيسّرا علمه. ثمّ قال رحمه‌الله : وابن بابويه رحمه‌الله جرى في كتابه على متعارف المتقدّمين [ من ] إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ، فحكم بصحّة جميع ما أورده ، مع أن كثيرا من تلك الأحاديث بمعزل عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتأخّرين ؛ والّذي بعث

__________________

(١) راجع المعتبر ١ : ٣٠.

١١٣

فائدة

للمتأخّرين إيرادات كثيرة في باب العمل بخبر الواحد على رئيس الطائفة قدس‌سره فأوردوا بعضها على ما ذكره في أوائل كتاب الاستبصار ، وبعضها على ما ذكره في كتاب التهذيب ، وبعضها على ما ذكره في كتاب العدّة. ومن جملة تلك الإيرادات التناقض والاضطراب.

ومن الموردين الشهيد الثاني قدس‌سره في شرح رسالته في دراية الحديث (١) وبعد ما تحيط خبرا بما ذكره المحقّق الحلّي في تحقيق كلام رئيس الطائفة قدس‌سرهما (٢) وبما ذكرناه من زيادات وتوضيحات من قبلنا لا يبقى مجال لهذه الإيرادات.

لا يقال : في مواضع من كتاب من لا يحضره الفقيه ما يدلّ على القدح في بعض أحاديث كتاب الكافي من جملتها أنّه بعد ما ذكر توقيعا من التوقيعات الواردة من الناحية المقدّسة في باب الرجل يوصي إلى رجلين قال : هذا التوقيع عندي بخطّ أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام. وفي كتاب محمّد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله رواية خلاف ذلك التوقيع عن الصادق عليه‌السلام (٣) ثمّ قال : لست افتي بهذا الحديث ـ مشيرا إلى ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني عن الصادق عليه‌السلام ـ بل افتي بما عندي بخطّ

______________________________________________________

المتأخّرين على هذا الاصطلاح من تقسيم الحديث الصحيح والحسن والموثّق والضعيف : أنّه لما طالت المدّة واندرست بعض الاصول لإخفائها من الخوف من حكّام الجور والضلال فلم يتيسّر لهم تداول انتساخها ووصل إليهم من ذلك الكتب الأربعة المشهورة في هذا الزمان ، فالتبست الأحاديث المأخوذة من الاصول المعتمدة والمأخوذة من غير المعتمدة واشتبهت المتكرّرة في كتب الاصول السابقة بغير المتكرّرة ، وخفي عليهم كثير من تلك الامور الّتي كانت يتّفق لقدمائها ولم يمكنهم تمييز ما يعتمدون عليه منها ، فاحتاجوا إلى قانون تتميّز به ، فشكر الله سعيهم (٤).

هذا ملخّص كلامه ـ قدّس الله روحه ـ وهو عين الواقع وغاية التحقيق. والمصنّف ينسب العلماء في هذا التقسيم إلى الإحداث وفعل غير الصواب بل إلى غاية الخطاء!

__________________

(١) شرح البداية : ٩٠.

(٢) راجع معارج الاصول : ١٤٧.

(٣) الكافي ٧ : ٤٧.

(٤) الحبل المتين : ٢٧٠.

١١٤

الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ولو صحّ الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير ، كما أمر به الصادق عليه‌السلام وذلك أنّ الأخبار لها وجوه ومعان وكلّ إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس (١) انتهى كلامه.

ومن جملتها أنّه ـ بعد أن نقل حديثا في باب الوصيّ يمنع الوارث ـ قال : ما وجدت هذا الحديث إلّا في كتاب محمّد بن يعقوب الكليني (٢) وما رويته إلّا من طريقه ، حدّثني به غير واحد منهم محمّد بن محمّد بن عصام الكليني رضى الله عنه عن محمّد ابن يعقوب (٣) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّه ليس قوله : « ولو صحّ الخبران » صريحا في عدم صحّة الخبر الّذي في الكافي ، لاحتمال أن يكون قصده الإشارة إلى القاعدة الكلّية المذكورة في كلامهم عليهم‌السلام في باب الخبرين المتعارضين ، فإنّ تلك العبارة مذكورة هناك ولاحتمال أن يكون قصده نفي تساويهما في الصحّة ، فإنّ من المعلوم أنّ خطّ المعصوم أصحّ من النقل بوسائط ، وبعد التنزّل عن المقامين نقول : ربّما يكون محمّد ابن بابويه عند تكلّمه بهذا الكلام غافلا عمّا ذكره محمّد بن يعقوب في أوائل كتابه. *

______________________________________________________

* لا يخفى ما في جواب الشهيد الثاني رحمه‌الله وجواب المصنّف.

أمّا الأوّل : فلأنّه مترتّب على القطع بصحّة خبر الكافي ، وحصول التنافي والتضادّ بين كلام الإمامين لا يجوز في العقل في غير التقيّة ، على أنّ إثبات أحاديث التقيّة في الاصول الّتي يدّعي المصنّف تدوينها وعرضها بأمرهم عليهم‌السلام في نهاية البعد ، لأنّ احتمال التقيّة لو أمكن في بعض الموارد لا يكون غالبا إلّا عند جواب الإمام عليه‌السلام حتّى يبعد من الإمام عليه‌السلام عدم تنبيه السامع من أصحابه عليه لئلّا يلزم إغراؤه بالجهل ، لأنّه يحكم بصحّة مضمون ما سمعه ويعمل به ، وأمّا تدوين حديث التقيّة من أصحاب الأئمّة الموثوق بهم في اصولهم فأيّ ضرورة داعية إليه؟ ولم ينتهوا عليه ، لأن تلك الاصول مصونة ومحفوظة عن ظهورها لغير أهلها ، فكيف يجوز لهم إثبات غير دين الأئمّة فيها من غير إشارة إلى ذلك ، ويعلمون أنّ من بعدهم لا يفرقون بين أحاديثها ويأخذون الجميع على ظواهرها ، والمقصد والباعث على جمع الحديث وتدوينه ليتمّ دين الأئمّة عليهم‌السلام

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٠٣ ، ح ٥٤٧٢.

(٢) الكافي ٧ : ٦٩.

(٣) الفقيه : ٤ / ٢٢٢ ، ح ٥٥٢٦.

١١٥

ولأنّا نجيب عن الثاني بأنّ عدم وجدانه لا يدلّ على عدم وجوده في الاصول المعتمدة.

______________________________________________________

دين الحقّ في كلّ زمان ، فهل تدليس وإغراء أعظم من ذلك؟ ولو أمكن ذلك لعلّة من العلل على خلاف ما يقتضيه العقل فلا يكون إلّا نادرا ، والحال أنّ أكثر الاختلاف لا يحملونه إلّا على التقيّة وكان ردّه بالضعف أولى. ومع ظهور الصحّة المصطلحة إن كان هناك ترجيح رجع إليه ، وإلّا يجري فيه ما نقلوه عن الأئمّة عليهم‌السلام عند ذلك.

وأمّا الثاني (١) : فضعف الاحتمالين في جوابه ظاهر ، وما ذكره من التنزّل فهو جار على عادته من نسبة الغفلة والذهول لغيره وتنزيه نفسه عن ذلك. والّذي يظهر أنّ أسباب الغفلة والذهول عن حقائق الامور أقرب إليه رحمه‌الله من غيره ، وأثر ذلك ظاهر لا يحتاج بيانا. وقد أشرنا سابقا إلى أنّه لا مجال لإنكار وجود الضعيف في الكتب المشهورة ، لشدّة الاختلاف بينها (٢) على وجه يحيل العقل أنّها كلّها صحيحة يحصل القطع بأنّها ثابتة عن الأئمّة عليهم‌السلام لأنّهم صرّحوا بأنّه لا يجوز الاختلاف في المتواتر ، وعلّة ذلك أنّه مفيد للعلم ، فما الفرق إذا حكمنا بأن الكتب الأربعة كذلك؟

وممّا يؤكّد ذلك مخالفة بعضهم في فتواهم لما أورده من الحديث ، وهو من الشيخ رحمه‌الله كثير ، ففي بعضها يردّه بضعف روايته بأنّه فاسد المذهب لا يعوّل على روايته ، وبعضها أنّ ما تضمّنه مخالف للإجماع وغير ذلك.

ومن جملة ما يؤكّد الضعف في بعض الأحاديث أن محمّد بن سنان قد تكثّرت روايته في أغلب الأحكام ، وغيره من أمثاله أيضا كثير ، وقال الفضل بن شاذان في بعض كتبه : إنّ من الكذّابين المشهورين بالكذب ابن سنان وليس بعبد الله ، ودفع أيّوب بن نوح إلى حمدويه دفترا من أحاديث محمّد بن سنان فقال : إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا ، فإنّي كتبت عن محمّد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه شيئا فإنّه قال قبل موته : كلّ ما حدّثتكم به لم يكن لي سماعا ولا رواية وإنّما وجدته (٣). ونقل عنه أيضا أشياء رديئة (٤). وقد ذكر الأصحاب جملة ممّن كان يروي عن الضعفاء وإن كان هو ثقة في نفسه.

__________________

(١) يعني جواب المصنّف.

(٢) في الأصل : بينهما.

(٣) الكشّي : ٥٠٦ ، ح ٩٧٧ ، و ٥٠٧ ، ٩٧٩.

(٤) في الأصل : رويه ، والظاهر ما أثبتناه.

١١٦

فائدة

ذكر الفاضل المدقّق الشيخ حسن ابن العالم الربّاني الشهيد الثاني ـ قدّس الله سرّهما ـ في أوائل كتاب المنتقى ولقد كانت حالة الحديث مع السلف الأوّلين على طرف النقيض ممّا هو فيه مع الخلف الآخرين ، فأكثروا لذلك فيه المصنّفات وتوسّعوا في طرق الروايات وأوردوا في كتبهم ما اقتضى رأيهم إيراده من غير التفات إلى التفرقة بين صحيح الطريق وضعيفه ولا تعرّض للتمييز بين سليم الإسناد وسقيمه ، اعتمادا منهم في الغالب على القرائن المقتضية لقبول ما دخل الضعف طريقه ، وتعويلا على الامارات الملحقة لمنحطّ الرتبة بما فوقه ، كما أشار إليه الشيخ رحمه‌الله في فهرسته ، حيث قال : « إنّ كثيرا من مصنّفي أصحابنا وأصحاب الاصول ينتحلون المذاهب الفاسدة ، وكتبهم معتمدة » وغير خاف أنّه لم يبق لنا سبيل إلى الاطّلاع على الجهات الّتي عرفوا منها ما ذكروا حيث حظّوا بالعين وأصبح حظّنا الأثر وفازوا بالعيان وعوّضنا عنه بالخبر ، فلا جرم انسدّ عنّا باب الاعتماد على ما كانت لهم أبوابه مشرعة ، وضاقت علينا مذاهب كانت المسالك لهم فيها متسعة ـ إلى أن قال ـ اصطلح المتأخّرون من أصحابنا على تقسيم الخبر باعتبار اختلاف أحوال رواته إلى الأقسام الأربعة المشهورة (١) انتهى.

وأقول : في بعض كلامه بحث ، وهو : أنّ بعض تلك الأبواب انسدّ وبقيت لنا ـ بحمد الله تعالى ـ أبواب مفتوحة فيها الكفاية ، وسيجي‌ء زيادة تحقيق لهذا المقام في كلامنا إن شاء الله تعالى.

ثمّ قال في موضع آخر من كتاب المنتقى : القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح قطعا ، لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالّة على صدق الخبر وإن اشتمل طريقه على ضعف كما أشرنا إليه سالفا ، فلم يكن للصحيح كثير مزيّة توجب له التمييز باصطلاح أو غيره ، فلمّا اندرست تلك الآثار واستقلّت الأسانيد بالأخبار اضطرّ المتأخّرون إلى تمييز الخالي من الريب وتعيين البعيد عن الشكّ ، فاصطلحوا

__________________

(١) منتقى الجمان ١ : ٢ ـ ٤.

١١٧

على ما قدّمنا بيانه ، ولا يكاد يعلم وجود هذا الاصطلاح قبل زمن العلّامة إلّا من السيّد جمال الدين ابن طاوس رحمه‌الله وإذا اطلقت الصحّة في كلام من تقدّم فمرادهم منها الثبوت أو الصدق (١) انتهى كلامه قدس‌سره.

وأقول : من تأمّل فيما ذكره المحقّق الحلّي في أوائل كتاب المعتبر (٢) وفي كتاب الاصول في مبحث العمل بخبر الواحد (٣) وفي فهرستي الشيخ والنجاشي (٤) وفيما ذكر رئيس الطائفة في مبحث العمل بخبر الواحد من كتاب العدّة (٥) وما ذكره في آخر كتابي الأخبار (٦) وغيرها بعين الاعتبار والاختبار يقطع بأنّ أحاديث الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المتداولة في زماننا مكتوبة من اصول قدمائنا الّتي كانت مرجعهم في عقائدهم وأعمالهم ، ويقطع بأنّ الطرق المذكورة في تلك الكتب إنّما ذكرت لمجرّد التبرّك باتّصال السند وباتّصال سلسلة المخاطبة اللسانية إلى مؤلّفي تلك الاصول ، ولدفع تعيير العامّة أصحابنا بأنّ أحاديثهم مأخوذة من اصول قدمائهم وليست بمعنعنة *. ويقطع بأنّ بعض تلك الطرق من مشايخ الإجازة المحضة ، من

______________________________________________________

* قد قدّمنا ما يدلّ على فساد هذا الوهم ، ويؤكّده أنّه لو كان الأمر كذلك لوجب على مؤلّفي الكتب الأربعة التنبيه عليه صريحا غير مرّة ، لأن الحديث في حدّ ذاته محتمل للصدق والكذب ما لم ينبّه عليه ، خصوصا بعد إخبار مؤلّفي الكتب بما حصل فيه من التضادّ والاختلاف الموهم لحصول ذلك في كلّ حديث ، ومجرّد التبرّك باتّصال السند لا يوازي جواز حصول ظنّ ضعف الحديث بذكر رجل مشهور بفساد المذهب والكذب في طريقه ، مع كونه صحيح الاتّصال بالمعصوم عليه‌السلام وأيّ غرور أزيد من ذلك! وأيضا التزام مثل هذا في جميع الأخبار والتعب فيه مع كونه محتمل للضرر لا يقابل الوجه الضعيف الّذي ذكره من جهة المخالفين. والمصنّف هذه طريقته حيث إنّه بنى أصل فضيلته على هذا الاعتقاد وأنّه لم يتنبّه إليه غيره ، التزم في ترويحه (٧) وتكرّر استدلالاته إلى مثل هذه التمحّلات الواهية. ولو كان الأمر كما ذكره لم يجز للمرتضى ترك

__________________

(١) المصدر : ١٤ ـ ١٥.

(٢) المعتبر ١ : ٣٣.

(٣) معارج الاصول : ١٤١.

(٤) انظر مقدّمتيهما.

(٥) عدّة الاصول ١ : ١٢٦.

(٦) انظر التهذيب ١٠ : ٤ ( شرح المشيخة ) والاستبصار ٤ : ٣٠٤.

(٧) كذا.

١١٨

غير سماع من الشيخ أو قراءة عليه خصوصيّات كلّ ما رواه ، فلا يتوقّف على تلك الطرق صحّة أحاديثنا عند التحقيق والنظر الدقيق ، بل اعتماد الأئمّة الثلاثة وغيرهم ـ قدّس الله أرواحهم ـ على تلك الاصول الّتي كانت متواترة النسبة إلى مؤلّفيها في زمانهم كما أنّ الكتب الأربعة كذلك في زماننا.

وأقول : حقيقة الإجازة إخبار إجمالي وهي تنقسم إلى قسمين عند التحقيق :

أحدهما : إخبار إجمالي بامور مضبوطة في كتب شخصية معلومة (١) عند المخاطب في حال الإجازة. وثانيهما : إخبار إجمالي بامور مضبوطة في الواقع ، لا في علم المخاطب.

وللفاضل صاحب المنتقى والمعالم رحمه‌الله هنا تحقيق متعلّق بالكتب الأربعة لا بأس بنقله.

قال في كتاب المعالم : الإجازة في العرف إخبار إجمالي بامور مضبوطة معلومة مأمون عليها من الغلط والتصحيف ونحوهما ، وما هذا شأنه لا وجه للتوقّف في قبوله ، والتعبير عنه بلفظ « أخبرني » وما في معناه مقيّدا بقوله « إجازة » تجوّز مع القرينة فلا مانع منه ، ومثله آت في القراءة على الراوي ، لأنّ الاعتراف إخبار إجمالي.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنّما يظهر حيث لا يكون متعلّقها معلوما بالتواتر ونحوه ، ككتب أخبارنا الأربعة ، فإنّها متواترة إجمالا ، والعلم بصحّة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا ، وإنّما فائدتها حينئذ بقاء اتّصال سلسلة الإسناد بالنبيّ والأئمّة ـ عليه وعليهم الصلاة والسلام ـ وذلك أمر مطلوب مرغوب للتيمّن كما لا يخفى (٢) انتهى كلامه رحمه‌الله.

______________________________________________________

العمل بما تضمّنه وردّ ما خالف فتياه منها بأنّه أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، ولما جاز للمفيد وغيره مخالفة ما فيها في أحكامهم وفتواهم.

__________________

(١) خ : كتاب شخصيّ معلوم.

(٢) معالم الدين : ٢٠٩ و ٢١٢.

١١٩

وأقول : قد علمت أنّ الإجازة قسمان ، فاعلم أنّ أحد قسميها لا مدخل له في العمل أصلا ، بل تنحصر فائدته في مجرّد التبرّك ونحوه.

فائدة

ذكر الشيخ العالم المتبحّر المعاصر بهاء الدين محمّد العاملي في أوائل كتاب مشرق الشمسين : استقرّ اصطلاح المتأخّرين من علمائنا ـ رضي‌الله‌عنهم ـ على تنويع الحديث المعتبر ولو في الجملة إلى الأنواع الثلاثة المشهورة ، أعني « الصحيح » و « الحسن » و « الموثّق » بأنّه إن كان جميع سلسلة سنده إماميّين ممدوحين بالتوثيق فصحيح ، أو إماميّين ممدوحين بدونه كلّا أو بعضا مع توثيق الباقي فحسن ، أو كانوا كلّا أو بعضا غير إماميّين مع توثيق الكلّ فموثّق. وهذا الاصطلاح لم يكن معروفا بين قدمائنا ـ قدّس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق « الصحيح » على كلّ حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه أو اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه ، وذلك بامور :

منها : وجوده في كثير من الاصول الأربعمائة الّتي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمة ـ سلام الله عليهم ـ وكانت متداولة لديهم في تلك الأعصار مشتهرة بينهم اشتهار الشمس رابعة النهار.

ومنها : تكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعدا بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة.

ومنها : وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم كزرارة ومحمّد بن مسلم والفضيل بن يسار ، أو على تصحيح ما يصحّ عنهم كصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن وأحمد بن محمّد بن أبي نصر ، أو على العمل بروايتهم كعمّار الساباطي ونظرائه ممّن عدّهم شيخ الطائفة في كتاب العدّة ، كما نقله عنه المحقّق في بحث التراوح من المعتبر.

ومنها : اندراجه في أحد الكتب الّتي عرضت على أحد الأئمّة ـ عليهم الصلاة

١٢٠