الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

وروى محمّد بن يعقوب الكليني ورئيس الطائفة قدس‌سرهما بسندهما عن ضمرة بن أبي ضمرة ، عن أبيه ، عن جدّه قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أحكام المسلمين على ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى (١).

أقول : معنى هذا الحديث : أنّ اختلاف المتخاصمين عند القاضي إمّا ناش من الجهل بحكم الله ، أو ناش من ذكر أحدهما قضية شخصية وإنكار الآخر إيّاها ، فعلى الأوّل جواب القاضي أن يأتي بحديث عن أئمّة الهدى ، وعلى الثاني جوابه طلب الشاهد من المدّعي أو طلب اليمين من المنكر.

وفي كتاب الشيخ العالم الورع الصدوق أبي عمرو محمّد بن عبد العزيز الكشّي رحمه‌الله محمّد بن مسعود قال حدّثني جعفر بن أحمد بن أيّوب ، قال : حدّثني العمركي ، قال : حدّثني أحمد بن شيبة ، عن يحيى بن المثنّى ، عن عليّ بن الحسن وزياد ، عن حريز قال : دخلت على أبي حنيفة وعنده كتب كادت تحول فيما بيننا وبينه ، فقال لي : هذه الكتب كلّها في الطلاق (٢) قال ، قلت : نحن نجمع هذا كلّه في حرف ، قال : ما هو؟ قال ، قلت : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) (٣) فقال لي : وأنت لا تعلم شيئا إلّا برواية؟ قلت : أجل ، قال لي : ما تقول في مكاتب كانت مكاتبته ألف درهم فأدّى تسعمائة وتسعة وتسعين درهما ثمّ أحدث ـ يعني الزنا ـ فكيف نحدّه؟ فقلت : عندي بعينها حديث حدّثني محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنّ عليّا كان يضرب بالسوط وبثلثه وبنصفه وببعضه وبقدر أدائه. فقال لي : ما لي لا أسألك عن مسألة لا يكون فيها شي‌ء ، فما تقول في جمل أخرج من البحر؟ فقلت : إن شاء [ فليكن جملا وإن شاء ] (٤) فليكن بقرة إن كانت عليه فلوس أكلناه ، وإلّا فلا (٥).

واعلم أنّ انحصار طريق العلم بنظريّات الدين في الرواية عنهم عليهم‌السلام وعدم جواز التمسّك في العقائد الّتي يجوز الخطأ فيها عادة بالمقدّمات العقلية وفي الأعمال

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٣٢ ح ٢٠ ، التهذيب ٦ : ٢٨٧ ح ٣.

(٢) في الكشّي زيادة : وأنتم! وأقبل يقلّب بيده.

(٣) الطلاق : ١.

(٤) ما بين المعقوفتين أثبتناه من الكشّي.

(٥) رجال الكشّي : ٣٨٤ ، ح ٧١٨.

٢٤١

بالاستنباطات الظنّية من كتاب الله أو من سنّة رسوله أو من الاستصحاب أو من البراءة الأصلية عن الأحكام الشرعية أو من القياس أو من إجماع المجتهدين وأشباهها ، كان من شعار متقدّمي أصحابنا أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام حتّى صنّفوا في ذلك كتبا ، ومن الكتب المصنّفة في ذلك « كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد » ذكره النجاشي في ترجمة إسماعيل بن عليّ بن إسحاق (١).

ومن الموضحات لما ذكرناه ما رواه رئيس الطائفة بسنده عن خراش ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت : جعلت فداك! إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : ليس كما يقولون إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه (٢).

قلت : جماعة من متأخّري أصحابنا قالوا : هذه الرواية متروكة الظاهر من حيث تضمّنها سقوط الاجتهاد بالكلّية (٣).

وأنا أقول : هي محمولة على ظاهرها ، ومعناها سقوط الاجتهاد في نفس أحكام الله تعالى بالكلّية فكأنّه عليه‌السلام قال : إنّ الجاهل بحكم الله في مسألة الإطباق لا يحتاج إلى أن يجتهد فيها ، بل له مندوحة عن ذلك وهي سلوك طريق التوقّف والاحتياط كما تواترت به الأخبار عنهم عليهم‌السلام في كلّ مسألة لم يكن حكم الله فيها بيّنا واضحا.

وفي الكافي ـ في باب سؤال العالم وتذاكره ـ عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن أبي جعفر الأحول ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا يسع الناس حتّى يسألوا ويتفقّهوا ويعرفوا إمامهم ، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقيّة (٤).

أقول : هذا الحديث الشريف ونظائره صريحان في أنّه يجوز للرعيّة أن تعتمد على قول إمامه في العقائد أيضا ، كمسألة القضاء والقدر.

محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز ،

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣١.

(٢) التهذيب ٢ : ٤٥ ، ح ١٢.

(٣) منهم السيّد العاملي في المدارك ٣ : ١٣٧.

(٤) الكافي ١ : ٤٠ ، ح ٤.

٢٤٢

عن زرارة ومحمّد بن مسلم وبريد العجلي قالوا : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لحمران بن أعين في شي‌ء سأله : إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون (١).

وفي كتاب الكافي ـ في باب نصّ الله عزوجل ورسوله على الأئمّة عليهم‌السلام واحدا فواحدا (٢) ـ أحاديث صريحة فيما نحن بصدد بيانه ، من تلك الجملة قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلّوا : كتاب الله عزوجل وأهل بيتي عترتي ، أيّها الناس اسمعوا وقد بلّغت ، إنّكم ستردون عليّ الحوض فأسألكم عمّا فعلتم في الثقلين ، والثقلان : كتاب الله جلّ ذكره وأهل بيتي ، فلا تسبقوهم فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ، فوقعت الحجّة بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالكتاب الّذي يقرأه الناس. فلم يزل يلقي فضل أهل بيته بالكلام وبيّن لهم بالقرآن ، قال جلّ ذكره : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٣) قال : الكتاب [ هو ] الذكر ، وأهله آل محمّد عليهم‌السلام أمر الله عزوجل بسؤالهم ولم يؤمروا بسؤال الجهّال ، وسمّى الله عزوجل القرآن ذكرا ، فقال تبارك وتعالى : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٤). وقال عزوجل ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ ) (٥) وقال عزوجل : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٦) وقال عزوجل : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (٧) فردّ الأمر ـ أمر الناس ـ إلى اولي الأمر منهم الّذين أمر بطاعتهم وبالردّ إليهم (٨).

وفي الكافي في باب « معرفة الإمام والردّ إليه » : عن ربعي بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : أبى الله أن تجري الأشياء إلّا بأسباب ، فجعل لكلّ شي‌ء سببا وجعل لكلّ سبب شرحا وجعل لكلّ شرح علما وجعل لكلّ علم بابا ناطقا عرفه من عرفه وجهله من جهله ذاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن (٩).

وفي الكافي ـ في باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام هم الهداة ـ عدّة من أصحابنا عن أحمد

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٠ ، ح ٢.

(٢) بل في باب بعده.

(٣) النحل : ٤٣.

(٤) النحل : ٤٤.

(٥) الزخرف : ٤٤.

(٦) النساء : ٥٩.

(٧) النساء : ٨٣.

(٨) الكافي ١ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، ح ٣.

(٩) الكافي ١ : ١٨٣ ، ح ٧.

٢٤٣

ابن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد وفضالة بن أيّوب ، عن موسى ابن بكر ، عن الفضيل بن يسار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال كلّ إمام هاد للقرن الّذي هو فيهم (١).

وعن بريد العجلي عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنذر ، ولكلّ زمان منّا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبيّ الله ، ثمّ الهداة من بعده عليّ ثمّ الأوصياء واحد بعد واحد (٢).

وفي الكافي روايات مذكورة في تفسير قوله عزوجل : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٣) وفي تفسير قوله تعالى : ( إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ ) (٤).

منها : رواية فضيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام : الذكر القرآن ، ونحن قومه ونحن المسئولون (٥).

ومنها : رواية الوشّاء عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سمعته يقول : قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : على الأئمّة من الفرض ما ليس على شيعتهم ، وعلى شيعتنا ما ليس علينا ، أمرهم الله عزوجل أن يسألوا قال : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) فأمرهم أن يسألونا ، وليس علينا الجواب ، إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا (٦).

ومنها : رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : كتبت إلى الرضا عليه‌السلام كتابا فكان في بعض ما كتبت قال الله عزوجل : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) وقال الله عزوجل : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (٧) فقد فرضت عليهم المسألة ولم يفرض عليكم الجواب؟ قال ، قال الله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ ) (٨).

وأنا أقول : مضمون هذه الرواية الشريفة متواتر معنى. وما اشتهر في كتب العامّة وكتب اصول الخاصّة : من أنّه لا يجوز تأخير البيان ـ كما هو الواقع ـ عن وقت

__________________

(١) الكافي ١ : ١٩١ ، ح ١.

(٢) الكافي ١ : ١٩١ ، ح ٢.

(٣) النمل : ٤٣.

(٤) الزخرف : ٤٤.

(٥) الكافي ١ : ٢١١ ، ح ٥.

(٦) الكافي : ١ / ٢١٢ ، ح ٨.

(٧) التوبة : ١٢٢.

(٨) الكافي : ١ / ٢١٢ ، ح ٩. والآية : القصص : ٥٠.

٢٤٤

الحاجة إنّما يتّجه على مذهب العامّة ، حيث قالوا بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تقع فتنة انتهت إلى إخفاء بعض ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكره في كتب اصول الخاصّة من باب العجلة وقلّة التأمّل في أسرار المسألة.

ومن المعلوم : أنّ هذه الرواية الشريفة المتواترة معنى وكلّ فتوى واردة منهم عليهم‌السلام في باب التقيّة ناطقة ببطلان تلك القاعدة الاصولية ، وكم من قاعدة اصولية أبطلناها بأحاديث متواترة عن العترة الطاهرة عليهم‌السلام. والله وليّ التوفيق *.

لا يقال : البيان من باب التقيّة نوع من البيان ، لأنّا نقول أوّلا : معنى القاعدة بيان

______________________________________________________

* ليس المفهوم من الروايات المذكورة إلّا أنّ الأئمّة عليهم‌السلام أعلم بما فيه الصلاح للسائل عند سؤالهم من الإجابة عند السؤال وعدمها ، لأنّه لا يجوز في العقل ولا الشرع إخفاء الحكم الشرعي عند الحاجة إليه وقد امر بالتبليغ ، ومن ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. وليس في الرواية تصريح بخصوص جواز ذلك مطلقا حتّى يبطل قول من لم يجوّزه ، وهذه المسألة من جملة مسائل الاصول المتّفق على البحث عنها وتدوينها في مسائل الاصول الّتي لا يستدلّون عليها إلّا بالدلائل القطعية القاطعة ، فمن جملتها : أنّ تجويز ذلك تنافي الحكمة وقت الاحتياج ويلزم منه الإغراء بالجهل إذا أراد المخاطب من العامّ الخاصّ ولم يتنبّه للمخاطب به المكلّف (١) وقت الحاجة إلى امتثاله. وهذا الحكم عامّ في خطاب القرآن والحديث ، فأيّ مناسبة بينه وبين عدم وجوب ردّ الإمام في واقعة جزئيّة لمصلحة اقتضت ذلك ولم تستلزم جهالة ولا مفسدة ، لإمكان العلم بها في غير ذلك الوقت.

والمسألة الاصوليّة مفروضة في أنّه هل يجوز عليه ـ سبحانه وتعالى ـ أن يخاطب في التكليف بخطاب له ظاهر ويريد خلاف ظاهره ولم يبيّن لنبيّ ولا وصيّ أنّه يريد خلاف ظاهره ويوضح له المراد عند الحاجة؟ وقد نقل في المعالم الإجماع من أهل العدل على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة (٢) وغيره لذلك. ومنافاة الجواز للعقل والحكمة ظاهرة ولا يجوز نسبة ذلك للأئمّة عليهم‌السلام لأنّ كلامهم لا يخالف دليل العقل. فلم يكف المصنّف أنّه ارتكب غير الجائز حتّى يتمدح به وتجعله فضيلة اختصّ بها دون الامم السالفة واللاحقة ، فهل جهل أعظم من ذلك؟

__________________

(١) كذا ، والظاهر في العبارة : ولم ينبّه المخاطب المكلّف به.

(٢) معالم الدين : ١٥٧.

٢٤٥

ما هو الواقع. وثانيا : أنّه قد لم يرد عنهم عليهم‌السلام جواب أصلا.

لا يقال : فيلزم الحرج حينئذ على شيعتهم. لأنّا نقول : طريق الاحتياط مسلك واسع والناس ملهمون برعايته عند حيرتهم في كلّ ما يهتمّون به.

وفي كتاب بصائر الدرجات لعمدة المحدّثين محمّد بن الحسن الصفّار قدس‌سره روايات ناطقة بما نحن بصدده ـ في باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام عندهم اصول العلم ورثوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يقولون برأيهم ـ من تلك الجملة :

يعقوب بن يزيد ، عن محمّد بن أبي عمير عن عمر بن اذينة ، عن الفضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : لو حدّثنا (١) برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا ، ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فبيّنها لنا (٢).

أقول : إذا كان الاعتماد على الرأي أي الظنّ مفضيا إلى الخطأ من أصحاب العصمة فيكون في غيرهم بالطريق الأولى مفضيا إلى الخطأ والضلالة.

وفي كتاب المجالس لابن بابويه : حدّثنا أبي رحمه‌الله قال حدّثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا سلمة بن الخطاب ، قال : حدّثنا أبو طاهر محمّد بن تسنيم الورّاق ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبيه ، عن الصادق جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم لأصحابه معاشر أصحابي! إنّ الله جلّ جلاله يأمركم بولاية عليّ بن أبي طالب والاقتداء به ، فهو وليّكم وإمامكم من بعدي ، لا تخالفوه فتكفروا ولا تفارقوه فتضلّوا ، إنّ الله جلّ جلاله جعل عليّا علما بين الإيمان والنفاق ، فمن أحبّه كان مؤمنا ومن أبغضه كان منافقا ، إنّ الله جلّ جلاله جعل عليّا وصيّي ومنار الهدى بعدي ، فهو موضع سرّي وعيبة علمي وخليفتي في أهلي ، إلى الله أشكو ظالميه من أمّتي (٣) وصلّى الله على رسوله محمّد وآله الطاهرين وسلّم كثيرا.

حدّثنا أبي ، قال : حدّثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، قال : حدّثنا عليّ بن أسباط ، قال : حدّثنا عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : يا أبا بصير نحن شجرة العلم ونحن أهل بيت

__________________

(١) في المصدر : لو أنّا حدّثنا.

(٢) بصائر الدرجات : ٢٩٩ ، ح ٢.

(٣) أمالي الصدوق : ٢٣٤ ، ح ١٩.

٢٤٦

النبيّ وفي دارنا مهبط جبرئيل ونحن خزّان علم الله ونحن معادن وحي الله ، من تبعنا نجا ومن تخلّف عنّا هلك حقّا على الله عزوجل (١).

ومن خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام المنقولة في كتاب نهج البلاغة : وناظر قلب اللبيب به يبصر أمده ويعرف غوره ، ونجده داع دعا وراع رعى ، فاستجيبوا للداعي واتبعوا الراعي ، قد خاضوا بحار الفتن وأخذوا بالبدع دون السنن ، وأرز المؤمنون ونطق الضالّون المكذّبون ، نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلّا من أبوابها ، فمن أتاها من غير بابها سمّي سارقا (٢).

أقول : المراد من « الداعي » سيّد المرسلين ، ومن « الراعي » أمير المؤمنين صلّى الله عليهما وعلى أولادهما الطاهرين.

وأقول : من المعلوم أنّه لم يرد منهم عليهم‌السلام إذن في التمسّك في نفس أحكامه تعالى أو نفيها بالاستصحاب أو بالبراءة أو بظواهر كتاب الله أو بظواهر سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير معرفة ناسخهما من منسوخهما وعامّهما من خاصّهما ومقيّدهما من مطلقهما ومؤوّلهما من غير مؤوّلهما من جهتهم عليهم‌السلام فمن تمسّك بتلك الامور كان سارقا. وهذا بعد التنزّل عن الأحاديث الناطقة بأنّهم منعوا عن ذلك.

وفي الكافي ـ في باب تذاكر الإخوان ـ محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن صالح بن عقبة ، عن يزيد بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : تزاوروا فإنّ في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكرا لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم وإن تركتموها ظللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم (٣).

وفي الكافي ـ في باب دعائم الإسلام ـ عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه وعبد الله بن الصلت جميعا ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : بني الإسلام على خمسة أشياء ، ثمّ قال : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته ، إنّ الله عزوجل يقول : ( مَنْ

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٢٥٢ ، ح ١٥.

(٢) نهج البلاغة : ٢١٥ ، ح ١٥٤.

(٣) الكافي ٢ : ١٨٦ ، ح ٢.

٢٤٧

يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (١) أما لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان (٢). والحديث الشريف طويل نقلنا منه موضع الحاجة.

وفي كتاب المحاسن للبرقي ـ في باب الشرائع ـ عنه عن أبي طالب ، عن عبد الله بن الصلت ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : بني الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية ، والولاية أفضلهنّ ، لأنّها مفتاحهنّ والوالي هو الدليل عليهنّ. قال : ثمّ قال : ذروة الإسلام وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته ، إنّ الله تعالى يقول : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) أما لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ في ثواب ولا كان من أهل الإيمان. ثمّ قال : اولئك المحسن منهم يدخله الله في الجنّة بفضل رحمته (٣).

وفي الكافي ـ في باب أنّه ليس شي‌ء من الحقّ في أيدي الناس إلّا ما خرج من عند الأئمّة عليهم‌السلام ـ أحاديث ناطقة بما نحن بصدده :

منها : قال أبو جعفر عليه‌السلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة : شرّقا وغرّبا فلا تجدان علما صحيحا إلّا شيئا خرج من عندنا أهل البيت (٤). ما قال الله للحكم : ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) (٥) فليذهب الحكم يمينا وشمالا ، فو الله لا يؤخذ العلم إلّا من أهل البيت نزل عليهم جبرائيل عليه السّلام (٦).

وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي ـ في احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام على المهاجرين والأنصار حكاية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أيّها الناس! عليّ بن أبي طالب فيكم بمنزلتي ،

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) الكافي ٢ : ١٨ ـ ١٩ ، ح ٥.

(٣) المحاسن ١ : ٤٤٦ ، ح ٤٣٦.

(٤) الكافي ١ : ٣٩٩ ، ح ٣.

(٥) الزخرف : ٤٣.

(٦) الكافي ١ : ٤٠ ، ح ٥.

٢٤٨

فقلّدوه دينكم وأطيعوه في جميع اموركم ، فإنّ عنده جميع ما علّمني الله عزوجل من علمه وحكمه ، فاسألوه وتعلّموا منه ومن أوصيائه بعده (١).

ـ الوجه الحادي عشر ـ (٢)

أن نقول : ذهبت العامّة إلى العمل بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بعدمها ، وإلى دوام العمل بظنون أربعة من مجتهديهم دون غيرهم من المجتهدين الأقدمين. والعلّامة ومن وافقه من أصحابنا وافقوا العامّة في المقام الأوّل وخالفوهم في المقام الثاني ، فقالوا قول الميّت ـ أي ظنّه ـ كالميّت (٣) ويلزم الفريقين أحد الأمرين : إمّا القول بأنّ مظنونات المجتهدين ليست من شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وإمّا القول بأنّ حلالها وحرامها لا يستمرّان إلى يوم القيامة ، وقد تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بأنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه صلى‌الله‌عليه‌وآله حرام إلى يوم القيامة (٤) بل هذا من أجلى ضروريّات الدين *.

ـ الوجه الثاني عشر ـ

إنّهم صرّحوا بأنّ محلّ الاجتهاد مسألة لم تكن من ضروريّات الدين ولا من

______________________________________________________

* كلا الملازمتين المذكورتين لا وجه للزومهما ، لأنّ ظنّ المجتهدين غير خارج عن الشريعة بعد إثبات صحّة الاجتهاد ، وظنّ الميّت لا ينافي ذلك إذا أخرجه الدليل بالخصوص. والاجتهاد لا يوجب قطع استمرار الشريعة ، لأنّ حكم المجتهد لا يخرج عن حكم الله في نفس الأمر أو الظاهر ، لاتّفاق الشيعة على ما هو المنقول عنهم على أنّ المجتهد معذور وغير مأثوم إن قلنا : إنّ حكم الله واحد ، وإن قلنا : إنّه يختلف بحسب ظنّ المجتهدين وإنّ العقل لا يمنع من ذلك فهو ظاهر ، فثبت على التقديرين أنّ الاجتهاد غير خارج عن الشريعة ولا قاطع لاستمرارها ، وتعريف الاجتهاد والفقه صريح فيما ذكرناه ، فأين اللزوم الّذي أثبته المصنّف ، إلّا أن كان على اعتقاده من تحريم الاجتهاد وتخطئة المجتهد واثمه وإن أصاب الحقّ. ومخالفته في ذلك لجميع الامم وانفراده به كاف في وضوح خطائه.

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ١٤٨.

(٢) من وجوه إبطال التمسك بالاستنباطات الظنّيّة ، تقدّم الوجه العاشر في ص ١٩٢.

(٣) مبادئ الوصول : ٢٤٨.

(٤) الكافي ١ : ٩.

٢٤٩

ضروريات المذهب ولم تكن لله دلالة قطعيّة عليها. ونحن قد أثبتنا أنّ لله عزوجل في كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة حكما معيّنا ودليلا قطعيا عليه ، وأنّ كلّ الأحكام والدلالات القطعية عليها ـ أي النصوص الصريحة فيها ـ محفوظ عند معادن وحي الله تعالى وخزّان علمه والناس مأمورون بطلبها من عندهم عليهم‌السلام *.

______________________________________________________

* سلّمنا أنّ مسائل الشريعة كلّها معلومة للأئمّة ومخزونة عندهم عليهم‌السلام لكن لو أمكن وصولها إلينا بالفعل على وجه يوجب القطع بصحّتها عنهم عليهم‌السلام لما عدلنا عن ذلك إلى غيره بوجه من الوجوه. والمدعى لحصوله في هذا الزمان بل وغيره ممّا تقدّم مجازف في دعواه حدّ المجازفة ، والوجدان يكفي في فساد دعواه ، وكيف يصحّ ذلك مع ما وقع من الاختلاف في زمانهم عليهم‌السلام وبعده في المذاهب والروايات والفتاوى بين العلماء والفضلاء الأجلّاء؟ فلو كان يتيسّر لهم ذلك لم يحصل بينهم اختلاف ، لأنّ الحقّ واحد وكلامهم عليهم‌السلام لا يختلف فيه. وحملهم على التقصير في التوصّل إلى علم الحقّ فيه مع إمكانه ووجود ما يدلّ عليه قطعا ـ كما يدّعيه المصنّف في هذا الزمان فضلا عن ذلك الزمان القريب الّذي يمكن تخيّل العقل حصول ذلك فيه ـ يقتضي نسبتهم إلى خلاف المشروع إن تعمّدوا ذلك أو إلى الجهل والغفلة وضعف العلم ، وكلا الأمرين لا يتصوّره عاقل ، خصوصا بعد أن نبّه رئيس الطائفة وغيره على أنّ سبب الاختلاف عدم التمكّن من العلم والتعويل على أخبار الآحاد الّتي لا يحصل بها العلم (١).

وإذ قد علمنا أنّ لله تعالى في كلّ مسألة دليلا قطعيّا. فإمّا أن يجوز خفاء بعضه عن المكلّفين وهو خلاف المدّعى ، وإمّا أن يجب ظهوره للناس ليعملوا به ـ وعلى هذا كانت الحكمة تقتضي مساواة غير الشيعة لهم في ذلك ، ولا يجوز خفاؤه عن مكلّف ، لأنّ الحقّ سبحانه لم يرسل رسوله إلّا لهداية الإنس والجنّ وتبليغهم ما أنزل الله عليه ، ولا يجوز له إخفاء حكم من أحكام الله تعالى ، ولوجب ظهوره وعدم الاختلاف في الواقع ؛ ذلك لأنّ ظهور دليل الحقّ لكلّ مكلّف لا يقبل النزاع فيه ، لأنّه قطعيّ ـ وهو خلاف الواقع ، لأنّه لو لا اشتباه الحال في الحديث والقرآن لما حصل الاختلاف ، ولم يمكن فيه إلزام الخصم لخصمه بالدليل القاطع الّذي حكم المصنّف بتيسّر العلم به وتحصيله في كلّ وقت. ولا نشكّ أنّ لله تعالى في كلّ أمر حكما محقّقا ، لكنّ الكلام في ظهوره وتيسّر علمه في جميع الأزمان ، ولو كانت الحكمة تقتضي ذلك لما تخلّف.

__________________

(١) انظر عدّة الاصول ١ : ١٠٠.

٢٥٠

فائدة

الإمام ثقة الإسلام قدس‌سره في كتاب الكافي ذكر بابا يشتمل على أنّهم عليهم‌السلام أمرونا بالتمسّك بالأحاديث المسطورة عنهم في الكتب في زمن الغيبة الكبرى (١) ثمّ ذكر بابين : في أحدهما أبطل التقليد (٢) وفي الباب الآخر أبطل الرأي (٣) أي الاجتهاد. والعلّامة الحلّي ومن وافقه غفلوا عن الأبواب الثلاثة وعن أشباهها.

______________________________________________________

فعلم أنّ في حكمة الله تعالى بطريق الابتلاء خفاء كثير من أحكام التكليف في الاصول والفروع ، ولم يكن خفاؤها موجبا لعدم إمكان الاطّلاع عليها ، بل بالتوجّه إلى الحقّ ـ التوجّه الصادق الخالي عن الدنس ـ تحصل الهداية إليها مصداقا لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) وبسبب عدم تيسّر العلم بصحّة الأخبار وتواترها في كلّ زمان ظهر مزيّة القرآن على غيره من المعجزات الّتي لا سبيل للاشتباه فيه ، بخلاف غيره ممّا بعد العهد به. ولمّا كان حصول العلم والقطع في كلّ الأحكام متعذّرا بالوجدان ـ خصوصا في هذا الزمان ـ ألجأت الحاجة والضرورة إلى الرجوع إلى الاجتهاد ، لرجحان الظنّ الحاصل فيه على غيره ، لإذن الأئمّة عليهم‌السلام في الرجوع عند عدم العلم إلى ما هو أدون من ظنّ المجتهد ، فإليه يكون الرجوع بالطريق الأولى.

* قد نبّهنا على أنّ كلام الأئمّة عليهم‌السلام في مثل هذه المواضع إنّما يعنون بالتقليد والرأي أحوال العامّة وعملهم في زمانهم بذلك والإعراض عن تقليدهم عليهم‌السلام والعمل بأحاديثهم. والمصنّف لأجل إثبات دعواه يفسّر من عنده الرأي المنهيّ عن اتّباعه في كلام الأئمّة عليهم‌السلام بمطلق الاجتهاد الشامل لاجتهاد الشيعة ، وهذا عين الخطأ ، فإنّهم عليهم‌السلام في الغالب في كلامهم لا ينفكّ ذكر الرأي عن القياس والاستحسان معه ، وذلك مخصوص بالمخالفين. ونسبة المصنّف الغفلة عمّا ذكره للعلّامة ومن بعده ممّن وافقه دون من تقدّمه لم يعلم وجهه فإنّا لم نعلم أحدا من الإماميّة وغيرهم من فرق المسلمين قائلا ببطلان الاجتهاد والتقليد غيره ، فكأنّ العلّامة ومن وافقه ومن تقدّمه لم يطّلعوا على هذه الأبواب أو لم يفهموا معناها ، حتّى وفّق الله في آخر الزمان بوجود المصنّف ونبّه عليها وعلى معناها على ما يريد.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥١.

(٢) الكافي ١ : ٥٣.

(٣) الكافي ١ : ٥٤.

٢٥١

فائدة

أقول : يتلخّص من كلام أهل التحقيق من الاصوليّين : أنّ الأحكام الشرعية تنقسم إلى أقسام أربعة ضروريّات الدين ، وضروريّات المذهب ، ونظريّ نصب الله تعالى عليه دلالة قطعية ، ونظريّ نصب الله تعالى عليه دلالة ظنّية لا قطعية ، وأنّ موضع الاجتهاد وكذلك موضع التقليد إنّما هو القسم الرابع.

وتحقيق المقام : أنّ ضروري الدين ـ على ما سمعناه من محقّقي مشايخنا قدّس الله سرّهم ـ هو الّذي علماء ملّتنا وعلماء غير ملّتنا يعرفون أنّه ممّا جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ. وعلى قياس ذلك ضروريّ المذهب هو الّذي علماء مذهبنا وعلماء غير مذهبنا يعرفون أنّه ممّا قال به صاحب مذهبنا كبطلان العول والتعصيب. وقد ظهر عليك وانكشف لديك ممّا ذكرناه معنى نظيريهما ، وقد مرّ أنّ طائفة من الاصوليّين يقولون : إنّ موضع الاجتهاد مسألة ليس لله فيها حكم ، وطائفة يقولون ليس لله فيها دلالة أصلا على حكمه.

فائدة

ضروريّات الدين ليست ضروريّة بالمعنى المصطلح عليه عند المنطقيّين وذلك لوجهين :

أحدهما : أنّهم حصروا الضروريّات في الستّ وليس علمنا بوجوب الصلاة مثلا داخلا في الستّ.

وثانيهما : أنّ علمنا بها إنّما يحصل بالنصّ ، ومن هنا انكشف لديك أنّ ضروري الدين وضروريّ المذهب ونظيريهما من اصطلاحات الاصوليّين.

وبالجملة ، معنى ضروريّ الدين ما يكون دليله واضحا عند علماء الإسلام بحيث لا يصلح لاختلافهم فيه بعد تصوّره. ومعنى ضروريّ المذهب ما يكون دليله واضحا عند علماء المذهب بحيث لا يصلح الاختلاف فيه.

٢٥٢

فائدة شريفة في كثير من المواضع نافعة

قد كان كثير من المسائل في الصدر الأوّل من ضروريّات الدين ثمّ صار من نظريّاته في الطبقات اللاحقة بسبب التلبيسات الّتي وقعت والتدليسات الّتي صدرت ، ومن هذا الباب خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام وممّا يوضح هذا المقام ما تواترت به الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام من انقسام الناس بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصدر الأوّل إلى مؤمن ومرتدّ (١) ومن انقسامهم في الصدر اللاحق إلى المؤمن والضالّ والناصبي من غير ارتداد ، كما قال الله عزوجل : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضّالِّينَ ) *.

______________________________________________________

* جعل المصنّف خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام من ضروريّات الدين أوّلا مناف لما فسّر ضروريّ الدين به ، لأنّها لو كانت كذلك لم يقع فيها اختلاف بين علماء الإسلام ، بل إنّما هي من ضروريّات المذهب على ما عرّفه به ، والتلبيسات والتدليسات حصلت من الأوّل. هذا عند الشيعة.

وأمّا عند العامّة : فخلافته في وقتها المتأخّر عن الثلاثة صارت من ضروريّات الدين ، لاتّفاق المسلمين عليها. وخروج الخوارج عنها لا يلزم منه نظريّتها ، لأنّهم لا يعدّون من المسلمين. وانقسام الناس إلى مؤمن ومرتدّ واضح ، لأنّه لا مجال في ذلك الوقت لحصول شبهة يعذر صاحبها ، لاتّضاح الحقّ. وأمّا في الصدور اللاحقة ربما يحصل العذر بالشبهة ، فلا يوجب ذلك الردّة عن الإسلام. وكلام المصنّف غير متناسب ، فلم يستفد منه فائدة مهمّة كما ادّعاه.

* * *

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢٧٠ ، ح ٣٩٨ ، تفسير العيّاشي ١ : ٢٠٠ ، ١٥١.

٢٥٣

الفصل الثاني

في بيان انحصار مدرك ما ليس من ضروريّات الدين

من المسائل الشرعية أصلية كانت أو فرعية في السماع عن الصادقين عليهم‌السلام

ولي فيه أدلّة :

الأوّل : عدم ظهور دلالة قطعية واذن في جواز التمسّك في نظريات الدين بغير كلام العترة الطاهرة عليهم‌السلام ولا ريب في جواز التمسّك بكلامهم عليهم‌السلام فتعيّن ذلك. والأدلّة المذكورة في كتب العامّة وكتب متأخّري الخاصّة على جواز التمسّك بغير كلامهم مدخولة أجوبتها واضحة ممّا مهّدناه ونقلناه لا نطول الكلام بذكرها ودفعها *.

الدليل الثاني : الحديث المتواتر بين الفريقين : « إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي : كتاب الله عزوجل وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (١) ومعنى الحديث كما يستفاد من الأخبار المتواترة أنّه يجب التمسّك بكلامهم ، إذ حينئذ يتحقّق التمسّك بمجموع الأمرين. والسرّ فيه : أنّه لا سبيل

______________________________________________________

* قد بيّنّا مرارا عديدة : أنّه لا نزاع في وجوب التمسّك بكلام الأئمّة عليهم‌السلام في كلّ ما يمكن علمه أو ظنّه منهم عليهم‌السلام فلا خروج في الحالين عن كلامهم ولا عن مذهبهم ، وكلام المتأخّرين وعملهم صريح فيما ذكرناه فكيف ينسبهم المصنّف إلى أمر شنيع وهم بريئون منه؟ لأنّ اجتهادهم واستنباطهم لا يخرج عنهم ولا عن اصولهم ولا عن أمرهم عليهم‌السلام وكلّ ذلك قد تقرّر بدليل واضح. والمصنّف جهده أن ينسب إلى العلماء الأجلّاء ما يبرءون منه.

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٤ ، الكافي ١ : ٢٩٤ ، ح ٣ ، الخصال : ٦٥ ، ح ٩٧.

٢٥٤

إلى فهم مراد الله إلّا من جهتهم عليهم‌السلام لأنّهم عارفون بناسخه ومنسوخه والباقي منه على الإطلاق والمؤوّل وغير ذلك ، دون غيرهم ، خصّهم الله والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك.

والدليل الثالث : أنّ كلّ طريق غير التمسّك بكلامهم عليهم‌السلام يفضي إلى اختلاف الفتاوى والكذب على الله تعالى ، وكلّ ما هو كذلك مردود غير مقبول عند الله ، لما تقدّم من الروايات المتواترة معنى.

والدليل الرابع : أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا سابقا أنّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها.

والدليل الخامس : أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بأنّ مراده تعالى من قوله : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) ومن نظائرها من الآيات الشريفة أنّه يجب سؤالهم عليهم‌السلام في كلّ ما لم يعلم.

والدليل السادس : أنّ العقل والنقل قاضيان بأنّ المصلحة في بعث الرسل وإنزال الكتب رفع الاختلاف والخصومات بين العباد ليتمّ نظام معاشهم ومعادهم ، فإذا كان من القواعد الشرعيّة جواز العمل بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه أو بنفيها لفاتت المصلحة ، لحصول الاختلاف والخصومات كما هو المشاهد *.

______________________________________________________

* إنّ الحكمة في إرسال الرسل إنّما هي لبيان التكليف والحقّ للناس ، لئلّا يكون للناس على الله حجّة ، وأمّا أنّه يجب مع ذلك أن لا يحصل بعده اختلاف فمنعه ظاهر ، وليست الرسل ولا الأئمّة عليهم‌السلام متكفّلة بذلك ، وإنّما عليهم البلاغ ، ووجدان الاختلاف في جميع الامم شاهد بذلك. ولو كان إرسال الرسل لأجل حصول هذه الغاية ويعلم الله أنّها لا تحصل انتفت فائدة الإرسال. والعمل بالظنّ الّذي قد ثبت الإذن فيه من الشارع بالدليل العقليّ والنقليّ لا ينافي هذه المصلحة في المسائل الفرعيّة ، لأنّها لا دخل لها في نظام المعاش ، بل ربما كانت سببا لصلاحهم ودفع حيرتهم وتوقّفهم عند الامور ، المضطرّين إلى معرفة تكليفهم فيها ، وقد أخبر الرسول باختلاف أمّته كما اختلفت الامم قبلها ، فلو كان وجه الاختلاف الغير الجائز منشؤه العمل بالظنّ

__________________

(١) النمل : ٤٣.

٢٥٥

والدليل السابع : التوقيع المنقول بطرق واضحة ـ كما سيجي‌ء بيانه ـ المشتمل على قول إمام الزمان ناموس العصر والأوان ـ سلام الله عليه ـ « وأمّا الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم » (١) وأنا حجّة الله عليهم ونظائره من الروايات.

والدليل الثامن : قولهم عليهم‌السلام : هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة (٢).

والدليل التاسع : مبنيّ على دقيقة شريفة تفطّنت لها بتوفيق الله تعالى ، وهي أنّ العلوم النظرية قسمان :

قسم ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الاختلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار. والسبب فيه : أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة وإمّا من جهة المادّة ، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء ، لأنّ معرفة الصورة من الامور الواضحة عند الأذهان المستقيمة ، ولأنّهم عارفون بالقواعد المنطقية وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة. والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم لقرب مادّة الموادّ فيها إلى الاحساس.

وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن الإحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظرية الفقهية وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق ، كقولهم : « الماهيّة لا يتركّب من أمرين متساويين » وقولهم : « نقيض المتساويين متساويان » ومن ثمّ وقع الاختلاف والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية وبين علماء الإسلام في اصول الفقه والمسائل الفقهية وعلم الكلام وغير ذلك من غير فيصل. والسبب في ذلك ما ذكرناه : من أنّ القواعد

______________________________________________________

وجب على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله التنبيه بالصريح على ذلك والتحذير منه بالخصوص ولم يكتف بما وقع في القرآن ، لأنّه مخصوص بمحالّه لا يتعدّاها إلى جميع الأحوال ، وإلّا لما جاز التعويل على الظنّ أبدا في كلّ الأحكام وبطلانه ظاهر.

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٤٧٠.

(٢) الكافي ١ : ٤٠ ، ح ٣.

٢٥٦

المنطقية إنّما هي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة ، إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة تقسيم المواد على وجه كلّي إلى أقسام ، وليست في المنطق قاعدة بها نعلم أنّ كلّ مادّة مخصوصة داخلة في أيّ قسم من تلك الأقسام ، بل من المعلوم عند اولي الألباب امتناع وضع قاعدة تكفل بذلك.

وممّا يوضح ما ذكرناه من جهة النقل الأحاديث المتواترة معنى الناطقة بأنّ الله تعالى أخذ ضغثا من الحقّ وضغثا من الباطل فمغثهما ثمّ أخرجهما إلى الناس ، ثمّ بعث أنبياءه يفرّقون بينهما ففرقتهما الأنبياء والأوصياء ، فبعث الله الأنبياء ليفرّقوا (١) ذلك ، وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم الناس من يفضّل الله ومن يختصّ ، ولو كان الحقّ على حدة والباطل على حدة كلّ واحد منهما قائم بشأنه ما احتاج الناس إلى نبيّ ولا وصيّ ، ولكنّ الله عزوجل خلطهما وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمّة من عباده (٢).

وممّا يوضحه من جهة العقل ما في شرح العضدي للمختصر الحاجبي ، حيث قال في مقام ذكر الضروريات القطعية :

منها : المشاهدات الباطنية ، وهي ما لا يفتقر إلى العقل كالجوع والألم.

ومنها : الأوّليات ، وهي ما يحصل بمجرّد العقل كعلمك بوجودك وأنّ النقيضين يصدق أحدهما.

ومنها : المحسوسات ، وهي ما يحصل بالحسّ.

ومنها : التجربيات ، وهي ما يحصل بالعادة كإسهال المسهل والإسكار.

ومنها : المتواترات ، وهي ما يحصل بالأخبار تواترا كبغداد ومكّة.

وحيث قال في مقام ذكر الضروريات الظنّية : إنّها أنواع :

الحدسيّات ، كما نشاهد نور القمر يزداد وينقص بقربه وبعده من الشمس فنظنّ أنّه مستفاد منها.

والمشهورات ، كحسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم ، وكالتجربيات الناقصة وكالمحسوسات الناقصة.

__________________

(١) في المصدر : ليعرفوا ذلك.

(٢) رجال الكشي : ٢٧٥ ، ح ٤٩٤.

٢٥٧

والوهميات : ما يتخيّل بمجرّد الفطرة بدون نظر العقل أنّه من الأوّليات ، مثل كلّ موجود متحيّز.

والمسلّمات : ما يتسلّمه الناظر من غيره (١).

وحيث قال في مقام ذكر أصناف الخطأ في مادّة البرهان : الثالث جعل الاعتقاديات والحدسيات والتجربيات الناقصة والظنّيات والوهميات ممّا ليس بقطعي كالقطعي وإجراؤها مجراه ، وذلك كثير (٢).

وحيث قال في مبحث الإجماع : والجواب أنّ إجماع الفلاسفة على قدم العالم عن نظر عقلي وتعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ، وأمّا في الشرعيات فالفرق بين القاطع والظنّي بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز (٣) انتهى كلامه.

فإن قلت : لا فرق في ذلك بين العقليات والشرعيات ، والشاهد على ذلك ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في الأصوليين وفي الفروع الفقهية.

قلت : إنّما نشاهد (٤) ذلك من ضمّ مقدّمة عقلية باطلة بالمقدّمة النقلية الظنّية أو القطعية.

ومن الموضحات لما ذكرناه من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادّة الفكر : أن المشّائيّين ادّعوا البداهة في أنّ تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين ، وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولي. والاشراقيّين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل وفي أنّ الشخص الأوّل باق ، وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتّصال.

ومن الموضحات لما ذكرناه : أنّه لو كان المنطق عاصما عن الخطأ من جهة المادّة لم يقع بين فحول العلماء العارفين بالمنطق اختلاف ، ولم يقع غلط في الحكمة الإلهية وفي الحكمة الطبيعية وفي علم الكلام وعلم اصول الفقه [ والفقه (٥) ] كما لم يقع في علم الحساب وفي علم الهندسة.

__________________

(١) شرح القاضي : ١٩.

(٢) شرح القاضي : ٣٤.

(٣) شرح القاضي : ١٢٦.

(٤) في ط : نشأ.

(٥) لم يرد في ط.

٢٥٨

إذا عرفت ما مهّدنا من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم فقد عصمنا عن الخطأ وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم عنه ، ومن المعلوم أنّ العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب شرعا وعقلا.

ألا ترى أنّ الإماميّة استدلّت على وجوب عصمة الإمام بأنّه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتّباع الخطأ ، وذلك محال لأنّه قبيح عقلا.

وأنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت أنّ مقتضاه : أنّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه تعالى أصلا سواء كان ظنّي الدلالة أو ظنّي المتن أو ظنّيهما.

والعجب كلّ العجب! أنّ جمعا من الأفاضل القائلين بصحّة هذا الدليل رأيتهم قائلين بجواز العمل بالدليل الظنّي ونبّهتهم على تنافي لازميها فلم يقبلوا ، فقلت في نفسي :

إذا لم تكن للمرء عين صحيحة

فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر *

______________________________________________________

* إنّا قد بيّنّا أنّ المحذور الّذي اعتبرت العصمة لأجله على دعواه ـ وهو احتمال إخباره بغير الحقّ من وهم أو نسيان أو تعمّد ـ يأتي هذا المحذور في كلّ مخبر ، فيلزم أن لا يفيد خبره العلم إلّا بعد ثبوت عصمته ، فلا يجوز قبوله مع الاحتمال وإن كان الاحتمال ضعيفا وبيّنّا أنّ الأوصاف والشروط الّتي تعتبر في النبيّ والإمام من الكمالات والنزاهة عن النقائص لا تعتبر في غيرهم ، وأنّ الراوي يكفينا في تصديقه العلم بعدالته ، كما دلّ عليه القرآن وثبوت الحقّ بشهادة العدلين والاكتفاء بخبر العدل الواحد في مواضع ، ومتى يحصل القطع والعلم من الخبر في كلّ حكم؟ والاصوليّون صرّحوا بالفرق بين القرآن والخبر بأنّ القرآن قطعي المتن ظنّي الدلالة والخبر عكسه ، ودليل السمع محصور فيهما فكيف يتحقّق القطع والعلم؟ مع أنّه لا بدّ فيهما من الرجوع إلى الظنّ. ولو اعتبرنا في كلّ حكم ومسألة العلم والقطع من الأخبار بحكمها لانسدّ باب العمل في كثير من الأحكام وتعطّلت الشريعة السمحة الّتي جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ودعوى تيسّر ذلك في زماننا وزمن من تقدّمنا غير زمن الأئمّة عليهم‌السلام لمن كان يمكنه علم أمرهم عليهم‌السلام دعوى واضحة الفساد ناشئة عن تمام الجهالة. والمصنّف يتعجّب من مخالفة الفضلاء له في خطأ منه واضح ، والتعجّب من خطائه أحقّ ، وما أحسن ما يقال هنا :

٢٥٩

فائدة شريفة نافعة

فيها توضيح لما اخترناه من أنّه لا عاصم عن الخطأ في النظريات الّتي مباديها بعيدة عن الإحساس إلّا التمسّك بأصحاب العصمة عليهم‌السلام وهي أن يقال : الاختلافات الواقعة بين الفلاسفة في علومهم والواقعة بين علماء الإسلام في العلوم الشرعية السبب فيها إمّا أنّ أحد الخصمين ادّعى بداهة مقدّمة هي مادّة الموادّ في بابها وبنى عليها فكره ، والخصم الآخر ادّعى بداهة نقيضها واستدلّ على صحّة نقيضها وبنى عليه فكره أو منع صحّتها. وإمّا أنّ أحد الخصمين فهم من كلام خصمه غير مراده ولم يخطر بباله مراده فاعترض عليه ، فلو خطر بباله احتمال مراده لرجع عن ذلك.

وبالجملة سبب الاختلاف : إمّا إجراء الظنّ مجرى القطع ، أو الذهول والغفلة عن بعض الاحتمالات ، أو التردّد والحيرة في بعض المقدّمات. ولا عاصم عن الكلّ إلّا التمسّك بأصحاب العصمة عليهم‌السلام والمنطق بمعزل عن أن ينتفع به في هذه المواضع وإنّما الانتفاع به في صورة الأفكار فقط.

* * *

______________________________________________________

عجبا للمرء يبدو جهله

واضحا للناس ما فيه خفا

ليس يدري بالّذي فيه

وإن وضح العيب تعامى ونفى

لا أرى أغفل منه في الورى

أحدا إذ نفسه ما عرفا

٢٦٠