الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

في أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام. وما ليس بمتواتر على ضربين : فضرب منه يوجب العلم أيضا وهو كلّ خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم ، وما يجري هذا المجرى يجب أيضا العمل به وهو لاحق بالقسم الأوّل. والقرائن أشياء كثيرة :

منها : أن يكون مطابقة لأدلّة العقل ومقتضاه.

______________________________________________________

ثمّ إنّه رحمه‌الله بعد أن أطال الكلام في الاختلاف في العمل بخبر الواحد قال : فأمّا ما اخترته من المذهب ، وهو أنّ خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عن واحد من الأئمّة عليهم‌السلام وكان ممّن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ـ لأنّه إن كان هناك قرينة تدلّ على ذلك كان الاعتبار بالقرينة وكان ذلك موجبا للعلم ونحن نذكر القرائن فيما بعد ـ جاز العمل به. والّذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار الّتي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ـ إلى أن قال ـ هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمّة ومن زمان الصادق عليه‌السلام الّذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته ، فلو لا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه ؛ ولأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو.

ثمّ قال بعد كلام طويل : وممّا يدلّ أيضا على جواز العمل بهذه الأخبار الّتي أشرنا إليها ما ظهر بين الفرقة المحقّة من الاختلاف الصادر عن العمل بها ، فإنّي وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام ، يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى باب الديات. وذكر بعض تفاصيل ذلك ـ إلى أن قال ـ وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم‌السلام من الأحاديث المختلفة الّتي تختصّ الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار ومن كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث ، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل ؛ وذلك أشهر من أن يخفى ، حتّى إنّك لو تأمّلت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على خلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك (١) انتهى كلامه ـ رفع الله مقامه ـ.

وأقول : إنّ من تأمّل هذا الكلام كلّه عرف أنّ الشيخ جازم بوجود الصحيح والضعيف في الحديث من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وزمن الأئمّة ومن بعدهم ، واستدلاله بالإجماع على العمل بخبر

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ٨٩ ـ ١٣٨.

١٤١

ومنها : أن تكون مطابقة لظاهر القرآن إمّا لظاهره أو عمومه أو دليل خطابه أو فحواه ، فكلّ هذه القرائن توجب العلم وتخرج الخبر من حيّز الآحاد وتدخله في باب المعلوم.

ومنها : أن تكون مطابقة للسنّة المقطوع بها إمّا صريحا أو دليلا أو فحوى أو عموما.

ومنها : أن تكون مطابقة لما أجمع المسلمون عليه.

ومنها : أن تكون مطابقة لما أجمعت عليه الفرقة المحقّة ، فإنّ جميع هذه القرائن تخرج الخبر من حيّز الآحاد وتدخله في باب المعلوم وتوجب العمل به.

وأمّا القسم الآخر ، فهو كلّ خبر لا يكون متواترا ويتعرّى من واحدة من هذه القرائن فإنّ ذلك خبر واحد ويجوز العمل به على شروط ، فإذا كان خبرا لا يعارضه

______________________________________________________

الواحد الّذي ليس معه قرينة وتعليله ذلك بأنّ إجماعهم فيه معصوم يدلّ على الاعتراف بأنّهم كانوا يعملون بخبر الواحد وإن لم يحصل منه العلم ، لأنّ الفرض أنّه مجرّد عن القرائن الّتي تحصل معها العلم. وعرف أيضا أنّه معترف بأنّ سبب اختلاف العلماء المتقدّمين اختلاف الأخبار ، وأنّ ما أثبته في كتابيه من تلك الأخبار المختلفة ، فلو كانت الأخبار كلّها من زمن الأئمّة عليهم‌السلام إلى زمان الشيخ ومن بعده ثابتة منقولة من اصول محقّقة معلوما ثبوتها عن الأئمّة عليهم‌السلام لا يتطرّق إليها الكذب ـ كما يتوهّمه المصنّف ـ وأنّ ما في الكتب الأربعة كلّها محقّقة الثبوت والصحّة ، ما جاز من الشيخ هذا الكلام الصريح في خلاف ذلك في مواضع عديدة لا يحصل الاشتباه ولا التأويل ، وما جاز أيضا أن يردّ أحد من العلماء المتقدّمين والمتأخّرين حديثا من هذه الأحاديث ، ولا أن لا يعمل بها بعد أن يعلم صحّتها ويقطع بذلك. وكيف يجوز فيه الاختلاف؟ ولم يجعلوا علّة ذلك إلّا إفادته العلم ، فإذا كانت الأخبار المنقولة عن الاصول ـ على دعوى المصنّف ـ كلّها تفيد العلم فكيف جاز فيها الاختلاف دون غيرها ممّا يفيد العلم.

والمصنّف معظم كتابه قد صرفه في هذه الدعاوى وتكرارها وبنى أساسه في خطائه عليها ، وقد حار (١) في ترفيعها وتشييدها والفساد يتظاهر من جوانبها من كلّ ناحية.

__________________

(١) نسخة هامش الحجريّة : جاز. وكلاهما غير واضح المعنى.

١٤٢

خبر آخر فإنّ ذلك يجب العمل به ، لأنّه من الباب الّذي عليه الإجماع في النقل ، إلّا أن تعرف فتاويهم بخلافه فيترك لأجلها العمل به. وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ينظر في المتعارضين فيعمل على أعدل الرواة في الطريقين ، وإن كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا ، وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وهما عاريان من جميع القرائن الّتي ذكرناها نظر ، فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الّذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر ، لأنّه يكون العامل به عاملا بالخبرين معا ، وإذا كان الخبران يمكن العمل بكلّ واحد منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحا أو تلويحا أو لفظا أو دليلا وكان الآخر عاريا من ذلك كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شي‌ء من الأخبار ، وإذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر وكان متحاذيا كان العامل مخيّرا في العمل بأيّهما شاء ، وإذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين إلّا بعد طرح الآخر جملة لتضادّهما وبعد التأويل بينهما كان العامل أيضا مخيّرا في العمل بأيّهما شاء من جهة التسليم. ولا يكون العاملان بهما على هذا الوجه إذا اختلفا وعمل كلّ واحد منهما على خلاف ما عمل عليه الآخر مخطئا ولا متجاوزا حدّ الصواب ، إذ روي عنهم عليهم‌السلام أنّهم قالوا : إذا ورد عليكم حديثان ولا تجدون ما ترجّحون به أحدهما على الآخر ممّا ذكرناه كنتم مخيّرين في العمل بهما ، ولأنّه إذا ورد الخبران المتعارضان وليس بين الطائفة إجماع على صحّة أحد الخبرين ولا على ابطال الخبر الآخر فكأنّه إجماع على صحّة الخبرين ، وإذا كان إجماعا على صحّتهما كان العمل بهما جائزا سائغا. وأنت إذا فكّرت في هذه الجملة وجدت الأخبار كلّها لا تخلو من قسم من هذه الأقسام ، ووجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه الأقسام (١) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣ ـ ٥.

١٤٣

وإن شئت تحقيق كلامه قدس‌سره ليندفع عنه جميع اعتراضات المتأخّرين وليوافق ما ذكره في كتاب العدّة ويوافق ما فهمه المحقّق الحلّي وصاحب كتابي المعالم والمنتقى من كلامه قدس‌سره فاستمع لما نتلوا عليك من الكلام ، وبالله التوفيق وبيده أزمّة التحقيق.

فأقول : ملخّص كلامه : أنّ الأخبار المسطورة في كتبنا الّتي انعقد إجماع قدماء الطائفة المحقّة على ورودها عن المعصومين عليهم‌السلام وكانت مرجعا لهم فيما يحتاجون إليه من عقائدهم وأعمالهم ـ كلّ ذلك بأمر بعض الأئمّة وبتقرير بعض آخر منهم صلوات الله عليهم على ذلك ـ تنحصر في أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل : أن تكون صحّة مضمونه متواترة ، فلذلك لا يجوز فيه التناقض.

والثاني : أن توجد قرينة دالّة على صحّة مضمونه ، ومن القرائن : أن يكون مضمونه مطابقا للدليل العقلي القطعي ، كالخبر الدالّ على أنّ التكليف لا يتعلّق بغافل عنه ما دام غافلا (١) والخبر الدالّ على أنّ الفعل الواجب الّذي حجب الله العلم بوجوبه عن العباد موضوع عنهم ما داموا كذلك (٢) لا للدليل العقلي الظنّي كالاستصحاب وكجعل عدم ظهور المدرك على حكم شرعي مدركا على عدم ورود ذلك الحكم في الواقع. ومن القرائن : أن يكون مضمونه مطابقا لما هو من ضروريّات الدين من ظواهر القرآن. وعليه فقس الباقي ، والقسمان يوجبان العلم والقطع بما هو حكم الله في الواقع.

والقسم الثالث : ما لا يكون هذا ولا ذاك ، ويجوز العمل به على شروط راجعة إلى شي‌ء واحد وهو أن لا يوجد معارض أقوى منه. ووجه جواز العمل بهذا القسم أنّه لا يخلو من أمرين : لأنّه إمّا من الباب الّذي عليه الإجماع في النقل بمعنى أنّ قدماءنا لم ينقلوا إلّا إيّاه أو ما يوافقه ، أو من الباب الّذي وقع الإجماع على صحّته ، ومعنى الصحّة هاهنا ثبوت وروده عن المعصوم مع عدم ظهور مانع عن العمل به ، وهذا التفسير لكلام رئيس الطائفة موافق لما ذكره في كتاب العدّة (٣) ولما ذكره المحقّق الحلّي (٤) وصاحب المعالم في تحقيق كلامه (٥).

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤.

(٣) راجع عدّة الاصول ١ : ١٢٦.

(٤) راجع معارج الاصول : ١٤٧.

(٥) راجع معالم الدين : ١٩٨.

١٤٤

وهنا احتمال آخر في تفسير كلام الشيخ وهو أن يقال : مراده من « الأخبار » مطلق الأخبار ، ومراده [ من العلم ] العلم بنفس الدليل لا بنفس المدلول ليعمّ ظنّي الدلالة ، ومراده من « الشروط » الشروط المذكورة في كتب الاصول من إسلام الراوي وإيمانه وعدالته وضبطه. لكن حينئذ يرد عليه أبحاث كثيرة في كتب المتأخّرين مسطورة ويخالف كلامه في كتاب العدّة ويختلّ مقصوده بالكلّية.

ولنمهّد هنا مقدّمة ثمّ نشتغل بنقل كلام العدّة وغيره فأقول :

صريح كلام رئيس الطائفة قدس‌سره أنّه لا يجوز العمل بخبر لا يوجب القطع بما هو حكم الله في الواقع أو حكم ورد عنهم عليهم‌السلام ويجوز العمل بخبر يوجب القطع بورود الحكم عنهم عليهم‌السلام وإن لم يوجب القطع بما هو حكم الله في الواقع. وما صرّح به رئيس الطائفة هو المستفاد من الروايات المتواترة عن العترة الطاهرة عليهم‌السلام وهو مراد علم الهدى عند التحقيق ، فصارت المناقشة بين النحريرين العلمين المقدّسين ـ قدّس الله سرّهما ـ لفظية لا معنوية كما توهّمه العلّامة ومن تبعه. والحمد لله والطول والمنّة.

وقد اختار المحقّق الحلّي وابن إدريس ما اختاره رئيس الطائفة بعينه.

وأنا اخترت مختارهم ، لتواتر الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بجواز العمل بخبر الثقة وبخبر يفيد العلم بورود الحكم عنهم عليهم‌السلام (١) وبالتوقّف عند خبر لا يفيد القطع بورود الحكم عنهم عليهم‌السلام (٢) *.

______________________________________________________

* هذا الصريح الّذي ادّعاه على الشيخ لم نعلم أين وجده؟ فإنّا قد بيّنّا مذهب الشيخ رحمه‌الله وتجويز العمل بخبر الواحد المفيد للظنّ ، وهذا الصريح ينافيه ذلك. ونقله أيضا عنه تجويز العمل بخبر يوجب القطع بورود الحكم عنهم عليهم‌السلام وإن لم يوجب القطع بما هو حكم الله في الواقع من غير تقييد بكونه على وجه التقيّة إذا لم نعلم بها لا مناسبة لإطلاقه ، لأنّ الحكم إذا ثبت بالقطع عنهم عليهم‌السلام فلا يجوز مخالفته للواقع في غير ما قلناه. وجعله النزاع بين الشيخ وبين السيّد

__________________

(١) راجع الوسائل ١٨ : ٥٢ ، الباب ٨ من ابواب صفات القاضي.

(٢) راجع الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي.

١٤٥

ثمّ أقول : الّذي قطعت به قطعا عاديّا من تتبّع الأحاديث ومن تتبّع كلام علمائنا أنّه كانت عند أصحاب الأئمّة كتب واصول كانوا يرجعون إليها فيما يحتاجون إليه من عقائدهم وأعمالهم مع تمكّنهم من أخذ الأحكام بطريق القطع واليقين ومن استعلام أحوال أحاديث تلك الكتب والاصول عنهم عليهم‌السلام مع نهاية فضلهم واحتياطهم وورعهم وحرص الأئمّة عليهم‌السلام لا سيّما الصادقين عليهما‌السلام في إرشادهم وهدايتهم.

ثمّ اعلم أنّ سبب اعتمادهم على تلك الكتب والاصول لا يخلو من امور :

منها : قطعهم بأنّ الراوي كان ثقة في الرواية.

ومنها : استعلام حال كتابه من بعض أصحاب العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ.

ومنها : عرض كتابه على كتاب آخر مقطوع بصحّته ، وأنّ الأئمّة الثلاثة ـ رحمهم‌الله تعالى ـ أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الكتب والاصول *.

______________________________________________________

المرتضى وابن إدريس لفظيّا لا معنويّا وأن العلّامة توهّم ذلك أغرب من الأوّل. وكذلك ادّعاؤه موافقة المحقّق الحلّي على ما أفاده وادّعاه ، والحال أنّ الاختلاف بين المرتضى وابن إدريس وبين الشيخ والمحقّق في الظهور والوضوح كنار على علم. وما كفاه فساد هذه الدعوى حتّى ينسب العلّامة الجليل فيها إلى الوهم ، وهو أحقّ به وبالخطاء في ذلك! وما ادّعاه من تواتر الأخبار بجواز العمل بقول الثقة بقول مطلق وإن كان فاسد المذهب قد بيّنا فيما تقدّم فساده وأنّه مختصّ بمن علم الأئمّة عليهم‌السلام ثقته وإيمانه.

* هذا عين النزاع ، فإنّه لو صحّ ذلك لما جاز منهم الغفلة عن التنبيه عليه ولما ناسب وصلهم الحديث بالسند الضعيف الموهم لضعفه غالبا عند غير المطّلع. وقصد اتّصال السند والمحافظة عليه للتبرّك لا يحسن مع استلزامه هذا المحذور القريب. وقد نقل العلّامة رحمه‌الله في الخلاصة عن الحسن بن عليّ بن فضّال أنّه قال : عليّ بن أبي حمزة يعني البطائني كذّاب متّهم ملعون ، قد رويت عنه أحاديث كثيرة وكتب تفسير القرآن من أوّله إلى آخره ، إلّا انّي لا أستحلّ أن أروي عنه حديثا واحدا (١). وقال ابن الغضائري في حقّه ما يقارب ذلك ويزيد عليه (٢).

فإذا كان هذا كلام القدماء وتصريحهم بكثرة ما رواه هذا الراوي عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام

__________________

(١) الخلاصة : ٢٣١.

(٢) مجمع الرجال ٤ : ١٥٧.

١٤٦

وذكر الفاضل المتبحّر المعاصر بهاء الدين محمّد العاملي في كتاب مشرق الشمسين : المعتبر حال الراوي وقت الأداء لا وقت التحمّل ، فلو تحمّل الحديث طفلا أو غير إماميّ أو فاسقا ثمّ أدّاه في وقت يظنّ أنّه كان مستجمعا فيه لشرائط القبول قبل ، ولو ثبت أنّه كان في وقت غير إماميّ أو فاسقا ثمّ تاب ولم يعلم أنّ الرواية عنه هل وقعت قبل التوبة أو بعدها لم تقبل حتّى يظهر لنا وقوعها بعد التوبة.

فإن قلت : إنّ كثيرا من الرواة ـ كعليّ بن أسباط والحسين بن يسار ، وغيرهما ـ كانوا أوّلا من غير الإماميّة ثمّ تابوا ورجعوا إلى الحقّ والأصحاب يعتمدون على حديثهم ويثقون بهم من غير فرق بينهم وبين ثقات الإماميّة الّذين لم يزالوا على الحقّ ، مع أنّ تاريخ الرواية عنهم غير مضبوط ليعلم أنّه هل كان بعد الرجوع إلى الحقّ أو قبله ، بل بعض الرواة ماتوا على مذاهبهم الفاسدة من الوقف وكانوا شديدي التصلّب فيه ولم ينقل رجوعهم إلى الحقّ في وقت من الأوقات أصلا ، والأصحاب يعتمدون عليهم ويقبلون أحاديثهم كما قبلوا حديث « عليّ بن محمّد بن رباح » وقالوا : إنّه صحيح الرواية ثبت معتمد على ما يرويه (١) وكما قبل المحقّق في المعتبر رواية « عليّ بن أبي حمزة » عن الصادق عليه‌السلام معلّلا ذلك بأنّ تغيّره إنّما كان في زمن الكاظم عليه‌السلام فلا يقدح فيما قبله (٢) وكما حكم العلّامة في المنتهى بصحّة حديث « إسحاق بن جرير » (٣) وهؤلاء الثلاثة من رؤساء الواقفية.

قلت (٤) : المستفاد من تصفح كتب علمائنا المؤلّفة في السير والجرح والتعديل :

______________________________________________________

وهذه حاله وأمثاله في الرواة كثيرة ، فكيف يوثق بصحّة كلّ الأحاديث؟

والشيخ في التهذيب روى أحاديث متعدّدة في أسانيدها « عليّ بن حديد » وقال :

إنّ عليّ بن حديد ضعيف لا يعوّل على ما يتفرّد بنقله وقد رويت عنه عدّة أخبار (٥).

فعلم أنّ ما يقوله المصنّف لا مجال لصحّته وقبوله بوجه من الوجوه ؛ وقد سئمت النفس من تكراره وتعليله لصحّة دعواه بما لا يزيد إلّا خطأ وفسادا.

__________________

(١) النجاشى : ٢٥٩ ، الرقم ٦٧٩.

(٢) المعتبر ١ : ٦٨.

(٣) المنتهى ٢ : ٣١٠.

(٤) استطراد كلام الشيخ البهائي قدس‌سره.

(٥) التهذيب ٧ : ١٠١ ، ح ٤١ ، باب بيع الواحد بالاثنين.

١٤٧

أنّ أصحابنا الإماميّة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ كان اجتنابهم عن مخالطة من كان من الشيعة على الحقّ أوّلا ثمّ أنكر إمامة بعض الأئمّة عليهم‌السلام في أقصى المراتب ، وكانوا يحترزون عن مجالستهم والتكلّم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم ، بل كان تظاهرهم بالعداوة لهم أشدّ من تظاهرهم بها للعامّة ، فإنّهم كانوا يتأقون العامّة ويجالسونهم وينقلون عنهم ويظهرون لهم أنّهم منهم خوفا من شوكتهم ، لأنّ حكّام الضلال منهم. وأمّا هؤلاء المخذولون فلم يكن لأصحابنا الإماميّة ضرورة داعية إلى أن يسلكوا معهم على ذلك المنوال وسيّما الواقفية ، فإنّ الإماميّة كانوا في غاية الاجتناب لهم والتباعد عنهم حتّى أنّهم كانوا يسمّونهم بـ « الممطورة » أي : الكلاب الّتي أصابها المطر! وأئمّتنا عليهم‌السلام لم يزالوا ينهون شيعتهم عن مخالطتهم ومجالستهم ويأمرون بالدعاء عليهم في الصلاة ويقولون : إنّهم كفّار مشركون زنادقة وإنّهم شرّ من النواصب ، وأنّ من خالطهم وجالسهم فهو منهم ، وكتب أصحابنا مملوّة بذلك كما يظهر لمن تصفّح كتاب الكشّي وغيره ، فإذا قبل علماؤنا ـ سيّما المتأخّرون منهم ـ رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعوّلوا عليها ومالوا إليها وقالوا بصحّتها مع علمهم بحاله ، فقبولهم لها وقولهم بصحّتها لا بدّ من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرّق به القدح إليهم ولا إلى ذلك الرجل ، لثقة الراوي عمّن هذا حاله ، كأن يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحقّ وقوله بالوقف ، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحقّ ، وأنّ النقل إنّما وقع من أصله الّذي ألّفه واشتهر عنه قبل الوقف ، أو من كتابه الّذي ألّفه بعد الوقف ولكنّه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الّذين عليهم الاعتماد ، ككتب « عليّ بن الحسن الطاطري » فإنّه وإن كان من أشدّ الواقفية عنادا للإماميّة ، إلّا أنّ الشيخ شهد له في الفهرست بأنّه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبروايتهم ؛ إلى غير ذلك من المحامل الصحيحة. والظاهر أنّ قبول المحقّق ـ طاب ثراه ـ رواية « عليّ بن أبي حمزة » مع شدّة تعصّبه في مذهبه الفاسد مبنيّ على ما هو الظاهر من كونها منقولة عن أصله ، وتعليله مشعر بذلك ، فإنّ الرجل من أصحاب الاصول. وكذلك قول العلّامة بصحّة رواية « إسحاق بن جرير » عن الصادق عليه‌السلام

١٤٨

فإنّه كان من أصحاب الاصول أيضا. وتأليف أمثال هؤلاء اصولهم كان قبل الوقف ، لأنّه وقع في زمان الصادق عليه‌السلام فقد بلغنا عن مشايخنا ـ قدّس الله أرواحهم ـ أنّه كان من دأب أصحاب الاصول انّهم إذا سمعوا من أحد الأئمّة عليهم‌السلام حديثا بادروا إلى إثباته في اصولهم كي لا يعرض لهم النسيان لبعضه أو كلّه بتمادي الأيّام وتوالي الشهور والأعوام ، والله أعلم بحقائق الامور (١) انتهى [ كلامه أدام الله أيّامه ] (٢).

وأنا أقول : هذا الفاضل يوم تكلّم بما تقدّم نقله عنه من قوله : « والّذي بعث المتأخّرين على العدول عن متعارف القدماء ووضع ذلك الاصطلاح الجديد ... الخ » (٣) كان غافلا عن لازم هذا الكلام الأخير ، لأنّ قوله : « كانوا يحترزون عن مجالستهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم » وقوله : « فقبولهم لها وقولهم بصحّتها لا بدّ من ابتنائه على وجه صحيح » يستلزم أن يكون أحاديث الكافي كلّها صحيحة ، وكذلك كلّ حديث عمل به رئيس الطائفة قدس‌سره لأنّ الكليني صرّح بصحّة كلّ أحاديث الكافي (٤) ورئيس الطائفة صرّح بأنّه لم يعمل إلّا بحديث مأخوذ من الاصول المجمع عليها (٥).

ولنشتغل بذكر كلام العدّة فنقول : ذكر رئيس الطائفة في كتاب العدّة ـ بعد نقل الأقوال المختلفة في العمل بخبر الواحد الخالي عن القرائن الموجبة للقطع بصحّة مضمونه ، أي بأنّ مضمونه حكم الله في الواقع ـ : فأمّا ما اخترته من المذهب ، فهو أنّ خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عن واحد من الأئمّة عليهم‌السلام وكان ممّن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ، لأنّه إن كان هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر كان الاعتبار بالقرينة وكان ذلك موجبا للعلم ـ ونحن نذكر القرائن فيما بعد ـ جاز العمل به. والّذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار الّتي رووها في تصانيفهم

__________________

(١) مشرق الشمسين ( المطبوع مع الحبل المتين ) : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٢) لم يرد في المطبوع.

(٣) تقدّم نقله عنه في ص ٩٥.

(٤) صرّح بذلك في مقدّمة كتابه.

(٥) صرّح به في العدة ١ : ١٢٦.

١٤٩

ودوّنوها في اصولهم لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ، حتّى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشي‌ء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلّموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله ، هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمّة ومن زمان الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام الّذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته ، فلو لا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه * ، لأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو.

والّذي يكشف عن ذلك : أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظورا في الشريعة عندهم لم يعملوا به أصلا ، وإذا شذّ منهم واحد عمل به في بعض المسائل أو استعمله على وجه المحاجّة لخصمه ـ وإن لم يعلم اعتقاده ـ تركوا قوله وأنكروا عليه وتبرّءوا من قوله ، حتّى أنّهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملا بالقياس ، فلو كان العمل بخبر الواحد يجري ذلك المجرى لوجب أيضا فيه مثل ذلك وقد علمنا خلافه.

فإن قيل : كيف تدّعون الإجماع على الفرقة المحقّة في العمل بخبر الواحد

______________________________________________________

* هذا ممّا يؤكّد ما شرحناه سابقا ، لأنّ الاستدلال على الجواز بعدم الإنكار لا يناسب أن يكون ذلك في الأخبار المقطوع بصحّتها وثبوتها عن الأئمّة عليهم‌السلام في الاصول المدوّنة ، والمصنّف يدّعي على الشيخ أنّه عارف بثبوت تلك الاصول وأنّها موجودة عنده ، ليتمّ له دعوى ثبوت ما في الكتب الأربعة بالجزم والقطع بصحّتها. وإذا كان العمل للمتقدّمين بتلك الاصول الثابتة لم يسغ لأحد الإنكار عليهم في العمل بها ، وإنّما ساغ الإنكار بالعمل بها لأنّها ليست متواترة ولا محفوفة بالقرائن فلا تفيد إلّا الظنّ ، فيسوغ الإنكار ومنافاة القبول ، فعملهم بها من غير نكير يدلّ على جواز ذلك ، خصوصا وقد قال الشيخ بعد ذلك فيما نقله عنه : وجود الاختلاف من الأصحاب بحسب اختلاف الأحاديث يدلّ على أنّ مستندهم إليها ، إذ لو كان العمل بغيرها ممّا طريقه القطع لوجب أن يحكم كلّ واحد بتضليل مخالفه وتفسيقه ، فلمّا لم يحكموا بذلك دلّ على أنّ مستندهم الخبر ، وعلى جواز العمل به ( انتهى كلام الشيخ الّذي نقله عنه رحمه‌الله ) وأقول بعد هذا الكلام : هل يحتمل كلام الشيخ شيئا ممّا يدّعيه المصنّف من موافقته على اعتقاده؟ ولكن الهوى يعمي ويصمّ.

١٥٠

والمعلوم من حالها أنّها لا ترى العمل بخبر الواحد؟ كما أنّ المعلوم من حالها لا ترى العمل بالقياس ، فإن جاز ادّعاء أحدهما جاز ادّعاء الآخر.

قيل لهم : المعلوم من حالها الّذي لا ينكر ولا يدفع أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الّذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصمون بطريقه ، فأمّا ما يكون راويه منهم وطريقة أصحابهم فقد بيّنا أنّ المعلوم خلاف ذلك ، وبيّنّا الفرق بين ذلك وبين القياس أيضا ، وأنّه لو كان معلوما حظر العمل بخبر الواحد لجرى مجرى العلم بحظر القياس ، وقد علم خلاف ذلك.

فإن قيل : أليس شيوخكم لا تزال يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يعمل به ويدفعونهم عن صحّة ذلك ، حتّى أنّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلا ، ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك سمعا لأنّ السمع لم يرد به ، وما رأينا أحدا منهم تكلّم في جواز ذلك ولا صنّف فيه كتابا ولا أملأ فيه مسألة ، فكيف تدّعون أنتم خلاف ذلك؟

قيل له : الّذين أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنّما كلّموا من خالفهم في الاعتقاد ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمّنة للأحكام الّتي يروون هم خلافها ، وذلك صحيح على ما قدّمناه ولم تجدهم اختلفوا فيما بينهم ، وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه إلّا مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحّتها ، فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم لمكان الأدلّة الموجبة للعلم أو الأخبار المتواترة بخلافه. فأمّا من أحال ذلك عقلا فقد دلّلنا فيما مضى على بطلان قوله وبيّنّا أنّ ذلك جائز ، فمن أنكره كان محجوجا بذلك. على أنّ الّذين اشير إليهم في السؤال أقوالهم متميّزة من بين أقوال الطائفة المحقّة ، وعلمنا أنّهم لم يكونوا أئمّة معصومين ، وكلّ قول علم قائله وعرف نسبه وتميّز من أقاويل سائر الفرقة المحقّة لم يعتدّ بذلك القول ، لأنّ قول الطائفة إنّما كان حجّة من حيث كان فيها معصوم ، فإذا كان القول صادرا من غير معصوم علم أنّ قول المعصوم داخل في باقي الأقوال ووجب المصير إليه على ما نبيّنه في باب الإجماع.

فإن قيل : إذا كان العقل يجوّز العمل بخبر الواحد والشرع قد ورد به ما الّذي

١٥١

حملكم على الفرق بين ما ترويه الطائفة المحقّة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهلّا عملتم بالجميع أو منعتم من الكلّ؟

قيل : العمل بخبر الواحد إذا كان دليلا شرعيا فينبغي أن نستعمله بحيث قرّرته الشريعة ، والشرع يرى العمل بما ترويه طائفة مخصوصة ، فليس لنا أن نتعدّى إلى غيرها ، كما أنّه ليس لنا أن نتعدّى من رواية العدل إلى رواية الفاسق ، وإن كان العقل مجوّزا لذلك ، اجمع على أنّ من شرط العمل بخبر الواحد أن يكون راويه عدلا بلا خلاف ، وكلّ من اسند إليه ممّن خالف الحقّ لم تثبت عدالته بل ثبت فسقه ، فلأجل ذلك لم يجز العمل بخبره.

فإن قيل : هذا القول يؤدّي إلى أن يكون الحقّ في جهتين مختلفتين إذا عملوا بخبرين مختلفين ، والمعلوم من حال أئمّتكم وشيوخكم خلاف ذلك.

قيل له : المعلوم من ذلك أنّه لا يكون الحقّ في جهتهم وجهة من خالفهم في الاعتقاد ، فأمّا أن يكون الحقّ في جهتين إذا كان ذلك صادرا من خبرين مختلفين. فقد بيّنّا أنّ المعلوم خلافه. والّذي يكشف عن ذلك أيضا : أنّ من منع من العمل بخبر الواحد يقول : إنّ هاهنا أخبارا كثيرة لا ترجيح لبعضها على بعض والإنسان فيها مخيّر ، فلو أنّ اثنين اختار كلّ واحد منهما العمل بواحد من الخبرين أليس كانا يكونان مختلفين وقولهما حقّ على مذهب هذا القائل ، فكيف يدّعى أنّ المعلوم خلاف ذلك؟ ويبيّن ذلك أيضا أنّه قد روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن اختلاف أصحابه في المواقيت وغير ذلك ، فقال عليه‌السلام : « أنا خالفت بينهم » (١) فترك الإنكار لاختلافهم ثمّ أضاف الاختلاف إلى أنّه أمرهم ، فلو لا أنّ ذلك جائز لما جاز ذلك منه عليه‌السلام.

فإن قيل : اعتباركم الطريقة الّتي ذكرتموها في وجوب العمل بخبر الواحد يوجب عليكم قبولها فيما طريقه العلم ، لأنّ الّذين أشرتم إليهم إذا قالوا قولا طريقه العلم من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة وغير ذلك ، فسئلوا عن الدلالة على صحّته أحالوا على هذه الأخبار بعينها ، فإن كان هذا القدر حجّة فينبغي أنّ يكون حجّة في

__________________

(١) راجع التهذيب ٢ : ٢٥٢.

١٥٢

وجوب قبولها فيما طريقه العلم ، وقد أقررتم بخلاف ذلك.

قيل له : نحن لا نسلّم أنّ جميع الطائفة تحيل على أخبار الآحاد فيما طريقه العلم ممّا عددتموه ، وكيف نسلّم ذلك؟ وقد علمنا بالأدلّة الواضحة العقلية أنّ طريق هذه الامور العقل أو ما يوجب العلم من أدلّة الشرع فيما يمكن ذلك فيه ، وعلمنا أيضا انّ الإمام المعصوم لا بدّ أن يكون قائلا به ، فنحن لا نجوّز أن يكون قول المعصوم داخلا في قول القائلين (١) في هذه المسائل بالأخبار ، وإذا لم يكن قوله داخلا في جملة أقوالهم فلا اعتبار بها وكانت أقوالهم في ذلك مطرحة. وليس كذلك القول في أخبار الآحاد ، لأنّه لم يدلّ دليل على أنّ قول الإمام داخل في جملة أقوال المنكرين لها ، بل بيّنّا أنّ قوله عليه‌السلام داخل في جملة أقوال العاملين بها ، وعلى هذا سقط السؤال. على أنّ الّذي ذكروه مجرّد الدعوى من الّذي اشير إليه ممّن يرجع إلى الأخبار في هذه المسائل ، فلا يمكن إسناد ذلك إلى قول علماء متميّزين ، وإن قال ذلك بعض غفلة أصحاب الحديث فذلك لا يلتفت إليه على ما بيّنّاه.

فإن قيل : كيف تعملون بهذه الأخبار ونحن نعلم أنّ رواتها أكثرهم كما رووها رووا أيضا أخبار الجبر والتشبيه وغير ذلك من الغلوّ والتناسخ وغير ذلك من المناكير ، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال هؤلاء؟

قيل لهم : ليس كلّ الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه وغير ذلك ممّا ذكر في السؤال ولو صحّ أنّه نقله لم يدلّ على أنّه كان معتقدا لما تضمّنه الخبر ، ولا يمتنع أن يكون إنّما رواه ليعلم أنّه لم يشذّ عنه شي‌ء من الروايات ، لا لأنّه يعتقد ذلك ونحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم ، بل اعتمادنا على العمل الصادر من جهتهم وارتفاع النزاع فيما بينهم ، فأمّا مجرّد الرواية فلا حجّة فيه على حال.

فإن قيل : كيف تعوّلون على هذه الأخبار وأكثر رواتها المجبّرة والمشبّهة والمقلّدة والغلاة والواقفية والفطحية وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ، ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به ،

__________________

(١) في العدّة : العالمين.

١٥٣

وهذا مفقود في هؤلاء ، وإن عوّلتم على عملهم دون روايتهم فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء الّذين ذكرناهم وذلك يدلّ على جواز العمل بأخبار الكفّار والفسّاق.

قيل لهم : لسنا نقول بأنّ جميع أخبار الآحاد يجوز العمل بها ، بل لها شرائط نحن نذكرها فيما بعد ، ونشير هاهنا إلى جملة من القول فيه :

فأمّا ما يرويه العلماء المعتقدون للحقّ فلا طعن على ذلك بهذا السؤال. وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة فالصحيح الّذي اعتقده أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا في الأصل معفوّ عنه ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه ، على أنّ من أشاروا إليه لا نسلّم أنّهم كلّهم مقلّدة بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة كما تقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة ، وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحجج في ذلك ينبغي أن يكونوا غير عالمين ، لأنّ إيراد الحجج والمناظرة صناعة وليس يقف حصول المعرفة على حصولها كما قلنا في أصحاب الجمل ، وليس لأحد أن يقول : إنّ هؤلاء ليسوا من أصحاب الجمل ، لأنّهم إذا سألوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الله تعالى أو صحّة النبوّة قالوا : كذا روينا ، ويروون في ذلك كلّه الأخبار ، وليس هذا طريقة أصحاب الجمل ، وذلك أنّه لا يمتنع أن يكون هؤلاء أصحاب الجمل وقد حصلت لهم المعارف بالله تعالى ، غير أنّهم لمّا تعذّر عليهم إيراد الحجج في ذلك أحالوا على ما كان سهلا عليهم ، وليس يلزمهم أن يعلموا أنّ ذلك لا يصحّ أن يكون دليلا إلّا بعد أن يتقدّم المعرفة بالله ، وإنّما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين وهم عالمون على الجملة كما قدّرناه ، فما يتفرّع عليه الخطأ فيه لا يوجب التكفير ولا التضليل. وأمّا الفرق الّذين أشاروا إليهم من الواقفية والفطحية وغير ذلك فعن ذلك جوابان :

أحدهما : إنّ ما يرويه هؤلاء يجوز العمل به إذا كانوا ثقات في النقل ـ وإن كانوا مخطئين في الاعتقاد ـ إذا علم من اعتقادهم تمسّكهم بالدين وتحرّجهم من الكذب ووضع الأحاديث ، وهذه كانت طريقة جماعة عاصروا الأئمّة عليهم‌السلام نحو عبد الله بن بكير وسماعة بن مهران ، ونحو بني فضّال من المتأخّرين عنهم ، وبني سماعة ، ومن

١٥٤

شاكلهم ، فإذا علمنا أنّ هؤلاء الّذين أشرنا إليهم ـ وإن كانوا مخطئين في الاعتقاد من القول بالوقف وغير ذلك ـ كانوا ثقات في النقل فما يكون طريقه هؤلاء جاز العمل به.

والجواب الثاني : أنّ جميع ما يرويه هؤلاء إذا اختصّوا بروايته لا يعمل به ، وإنّما يعمل به إذا انضاف إلى روايتهم رواية من هو على الطريقة المستقيمة والاعتقاد الصحيح فحينئذ يجوز العمل به ، فأمّا إذا تفرّد فلا يجوز ذلك فيه على حال ، وعلى هذا سقط الاعتراض.

فأمّا ما رواه الغلاة ومن هو مطعون عليه في روايته ومتّهم في وضع الأحاديث ، فلا يجوز العمل بروايته إذا انفرد ، فإذا انضاف إلى روايته رواية بعض الثقات جاز ذلك ويكون ذلك لأجل رواية الثقة دون روايته.

وأمّا المجبّرة والمشبّهة ، فأوّل ما في ذلك أنّا لا نعلم أنّهم مجبّرة ولا مشبّهة ، وأكثر ما معنا أنّهم كانوا يروون ما يتضمّن الجبر والتشبيه ، وليس روايتهم لها على أنّهم كانوا معتقدين لصحّتها ، بل بيّنا الوجه في روايتهم لها و (١) أنّه غير الاعتقاد لمتضمّنها. ولو كانوا معتقدين للجبر والتشبيه كان الكلام على ما يروونه كالكلام على ما ترويه الفرق المتقدّم ذكرها ، وقد بيّنّا ما عندنا في ذلك. وهذه جملة كافية في إبطال هذا السؤال.

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الّذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجرّدها؟ بل إنّما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها لأجلها عملوا ، ولو تجرّدت لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يمكن الاعتماد على عملهم بها.

قيل له : القرائن الّتي تقترن بالخبر وتدلّ على صحّته أشياء كثيرة مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنّة والإجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنّه ليس في جميع المسائل الّتي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك ، لأنّها أكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاويهم ، لأنّه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن ، لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ودليله ومعناه ، ولا في السنّة المتواترة

__________________

(١) في العدّة : أو.

١٥٥

لعدم ذلك في أكثر الأحكام ، بل لوجودها في مسائل معدودة ، ولا في الإجماع لوجود الاختلاف في ذلك ، فعلم أنّ ادّعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة ، ومن ادّعى القرائن في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معوّلا على ما يعلم ضرورة خلافه مدافعا لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه. ومن قال عند ذلك : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشي‌ء ورد الشرع به ، وهذا حدّ أحد يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ، لأنّه يكون معوّلا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه.

وممّا يدلّ أيضا على جواز العمل بهذه الأخبار الّتي أشرنا إليها ما ظهر بين الفرق المحقّة من الاختلاف الصادر عن العمل بها ، فإنّي وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى باب الديات من العبادات والأحكام والمعاملات والفرائض وغير ذلك ، مثل اختلافهم في العدد والرؤية في الصوم ، واختلافهم في أنّ التلفظ بثلاث تطليقات هل تقع واحدة أم لا؟ ومثل اختلافهم في باب الطهارة مقدار الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء ، ونحو اختلافهم في حدّ الكرّ ، ونحو اختلافهم في استئناف الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين ، واختلافهم في اعتبار أقصى مدّة النفاس واختلافهم في عدد فصول الأذان والإقامة وغير ذلك في سائر أبواب الفقه ، حتّى أنّ بابا منه لا يسلم إلّا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوى.

وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم‌السلام من الأحاديث المختلفة الّتي يختصّ الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها ، وذلك أشهر من أن يخفى حتّى أنّك لو تأمّلت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك ، ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه ولم ينته إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفه ، فلو لا أنّ العمل

١٥٦

بهذه الأخبار كان جائزا لما جاز ذلك ، وكان يكون من عمل بخبر عنده أنّه صحيح يكون مخالفه مخطئا مرتكبا للقبيح يستحقّ التفسيق بذلك ، وفي تركهم ذلك والعدول عنه دليل على جواز العمل بما عملوا به من الأخبار. فإن تجاسر متجاسر إلى أن يقول : كلّ مسألة ممّا اختلفوا فيه عليه دليل قاطع ومن خالفه مخطئ فاسق يلزمه أن يفسق الطائفة بأجمعها ويضلّل الشيوخ المتقدّمين كلّهم ، فإنّه لا يمكن أن يدّعي على أحد موافقته في جميع أحكام الشرع ، ومن بلغ إلى هذا الحدّ لا يحسن مكالمته ويجب التغافل عنه بالسكوت ، وإن امتنع من تفسيقهم وتضليلهم فلا يمكنه إلّا لأنّ العمل بما عملوا به كان حسنا جائزا خاصّة ، وعلى اصولنا أنّ كلّ خطأ وقبيح كبير ، فلا يمكن أن يقال : إنّ خطأهم كان صغيرا فانحبط ـ على ما تذهب إليه المعتزلة ـ فلأجل ذلك لم يقطعوا الموالاة وتركوا التفسيق فيه والتضليل.

فإن قال قائل : أكثر ما في هذا الاعتبار أن يدلّ على أنّهم غير مؤاخذين بالعمل بهذه الأخبار وأنّه قد عفي عنهم ، وذلك لا يدلّ على صوابهم ، لأنّه لا يمتنع أن يكون من خالف الدليل منهم أخطأ وأثم واستحقّ العقاب إلّا أنّه عفي له عن خطئه واسقط عنه ما استحقّه [ من العقاب ] (١).

قيل له : الجواب عن ذلك من وجهين :

أحدهما : أنّ غرضنا بما اخترناه من المذهب هو هذا وأنّ من عمل بهذه الأخبار لا يكون فاسقا مستحقّا للعقاب ، فإذا سلّم لنا ذلك ثبت لنا ما هو الغرض المقصود.

والثاني : أنّ ذلك لا يجوز ، لأنّه لو كان قد عفي لهم عن العمل بذلك مع أنّه قبيح يستحقّ به العقاب واسقط عقابهم لكانوا مغرين بالقبيح ، وذلك لا يجوز ، لأنّهم إذا علموا أنّهم إذا عملوا بهذه الأخبار لا يستحقّون العقاب لم يصرفهم عن العمل بها صارف ، فلو كان فيها ما هو قبيح العمل به لما جاز ذلك على حال.

فإن قيل : لو كانت هذه الطريقة دالّة على جواز العمل بما اختلف من الأخبار المتعلّقة بالشرع من حيث لم ينكر بعضهم على بعض ولم يفسق بعضهم بعضا ينبغي

__________________

(١) أثبتناها من العدّة.

١٥٧

أن يكون دالّة على صوابهم فيما طريقه العلم ، فإنّهم قد اختلفوا في الجبر والتشبيه والتجسيم والصورة وغير ذلك ، واختلفوا في أعيان الأئمّة عليهم‌السلام ولم نرهم قطعوا الموالاة ولا أنكروا على من خالفهم ، وذلك يبطل ما اعتمدتموه.

قيل : جميع ما عددتموه من الاختلاف الواقع بين الطائفة ، فإنّ النكير واقع فيه من الطائفة والتفسيق حاصل فيه ، وربّما تجاوزوا ذلك أيضا إلى التكفير ، وذلك أشهر من أن يخفى ، حتّى أنّ كثيرا منهم جعل ذلك طعنا على رواية من خالفه في المذاهب الّتي ذكرت في السؤال وصنّفوا في ذلك الكتب ، وصدر عن الأئمّة عليهم‌السلام أيضا النكير عليهم نحو إنكارهم على من يقول بالتجسيم والتشبيه والصورة والغلوّ وغير ذلك. وكذلك من خالف في أعيان الأئمّة عليهم‌السلام لأنّهم جعلوا ما يختصّ الفطحية والواقفية والناووسية وغيرهم من الفرق المختلفة بروايته لا يقبلونه ولا يلتفتون إليه ، فلو كان اختلافهم في العمل بأخبار الآحاد يجري مجرى اختلافهم في المذاهب الّتي أشرنا إليها لوجب أن يجروا فيها ذلك المجرى ، ومن نظر في الكتب وسبر أحوال الطائفة وأقاويلها وجد الأمر بخلاف ذلك ، وهذه أيضا طريقة معتمدة في هذا الباب.

وممّا يدلّ أيضا على صحّة ما ذهبنا إليه : أنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار فوثّقت الثقات منهم وضعّفت الضعفاء ، وفرّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته وبين من لا يعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم وذمّوا المذموم ، وقالوا : فلان متّهم في حديثه وفلان كذّاب وفلان مخلّط وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد وفلان واقفي وفلان فطحي ، وغير ذلك من الطعون الّتي ذكروها وصنّفوا في ذلك الكتب ، واستثنوا الرجل من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم ، حتّى أنّ واحدا منهم إذا أنكر حديثا نظر في إسناده وضعفه براويه. هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم. فلو لا أنّ العمل بما يسلم من الطعن ويرويه من هو موثوق به جائزا لما كان بينه وبين غيره فرق ، وكان يكون خبره مطرحا مثل خبر غيره ، فلا يكون فائدة لشروعهم فيما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق وترجيح الأخبار بعضها على بعض ، وفي ثبوت ذلك دليل على صحّة ما اخترناه.

١٥٨

فصل (١) : في ذكر القرائن الّتي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد أو على بطلانها وما يرجّح به الأخبار بعضها على بعض ، وحكم المراسيل. القرائن الّتي تدلّ على صحّة متضمّن الأخبار الّتي لا توجب العلم أشياء أربعة :

منها : أن تكون موافقة لأدلّة العقل وما اقتضاه ، لأنّ الأشياء في العقل إذا كانت إمّا على الحظر أو الإباحة على مذهب قوم أو الوقف على ما نذهب إليه ، فمتى ورد الخبر متضمّنا للحظر أو الإباحة فلا يكون هناك ما يدلّ على العمل بخلافه وجب أن يكون ذلك دليلا على صحّة متضمّنه عند من اختار ذلك. وأمّا على مذهبنا الّذي نختاره في الوقف ، فمتى ورد الخبر موافقا لذلك وتضمّن وجوب التوقّف كان ذلك دليلا أيضا على صحّة متضمّنه إلّا أن يدلّ دليل على العمل بأحدهما فيترك الخبر (٢) والأصل. ومتى كان الخبر متناولا للحظر ولم يكن هناك دليل يدلّ على الإباحة فينبغي أيضا المصير إليه ولا يجوز العمل بخلافه إلّا أن يدلّ دليل يوجب العمل بخلافه ، لأنّ هذا حكم مستفاد بالعقل ، ولا ينبغي أن نقطع على حظر ما تضمّنه ذلك الخبر ، لأنّه خبر واحد لا يوجب العلم فنقطع به ولا هو موجب العمل فنعمل به. وإن كان الخبر متضمّنا للإباحة ولا يكون هناك خبر آخر أو دليل شرعي على خلافه وجب الانتقال إليه والعمل به وترك ما اقتضاه الأصل ، لأنّ هذا فائدة العمل بأخبار الآحاد ، ولا ينبغي أن نقطع على متضمّنه لما قدّمناه من وروده موردا لا يوجب العلم.

ومنها : أن يكون الخبر مطابقا لنصّ الكتاب إمّا خصوصه أو عمومه أو دليله أو فحواه ، فإنّ جميع ذلك دليل على صحّة متضمّنه ، إلّا أن يدلّ دليل يوجب العلم يقترن بذلك الخبر يدلّ على جواز تخصيص العموم به أو ترك دليل الخطاب ، فيجب حينئذ المصير إليه. وإنّما قلنا ذلك لما نبيّنه فيما بعد من المنع من جواز تخصيص العموم بأخبار الآحاد ، إن شاء الله تعالى.

ومنها : أن يكون الخبر موافقا للسنّة المقطوع بها من جهة التواتر ، فإنّ ما يتضمّنه الخبر الواحد إذا وافقه مقطوع على صحّته أيضا وجاز العمل به وإن لم يكن

__________________

(١) استطراد كلام الشيخ في العدّة.

(٢) في العدّة : له الخبر.

١٥٩

ذلك دليلا على صحّة نفس الخبر ، لجواز أن يكون الخبر كذبا وإن وافق السنّة المقطوع بها.

ومنها : أن يكون موافقا لما أجمعت الفرقة المحقّة عليه ، فإنّه متى كان كذلك دلّ أيضا على صحّة متضمّنه. ولا يمكننا أيضا أن نجعل إجماعهم دليلا على صحّة نفس الخبر ، لأنّهم يجوز أن يكونوا أجمعوا على ذلك عن دليل غير هذا الخبر أو خبر غير هذا الخبر ولم ينقلوه استغناء بإجماعهم على العمل به ، ولا يدلّ ذلك على صحّة نفس هذا الخبر.

فهذه القرائن كلّها تدلّ على صحّة متضمّن أخبار الآحاد ، ولا يدلّ على صحّتها أنفسها ، لما بيّنّاه من جواز أن تكون الأخبار مصنوعة وإن وافقت هذه الأدلّة.

فمتى تجرّد الخبر عن واحد من هذه القرائن كان خبرا واحدا محضا ، ثمّ ينظر فيه فإن كان ما تضمّنه هذا الخبر هناك ما يدلّ على خلاف متضمّنه من كتاب أو سنّة أو إجماع وجب اطراحه والعمل بما دلّ الدليل عليه. وإن كان ما تضمّنه ليس هناك ما يدلّ على العمل بخلافه ولا يعرف فتوى الطائفة فيه نظر ، فإن كان هناك خبر آخر يعارضه ممّا يجري مجراه وجب ترجيح أحدهما على الآخر ـ وسنبيّن من بعد ما يرجّح به الأخبار بعضها على بعض ـ وإن لم يكن هناك خبر آخر يخالفه وجب العمل به ، لأنّ ذلك دليل إجماع منهم على نقله ، وإذا أجمعوا على نقله وليس هناك دليل على العمل بخلافه فينبغي أن يكون العمل به مقطوعا عليه. وكذلك إن وجد هناك فتاوى مختلفة من الطائفة وليس للقول المخالف له مستند إلى خبر آخر ولا إلى دليل يوجب العلم وجب اطراح القول الآخر والعمل بالقول الموافق لهذا الخبر ، لأنّ ذلك القول لا بدّ أن يكون عليه دليل ، فإذا لم يكن هناك دليل يدلّ على صحّته ولسنا نقول بالاجتهاد والقياس حتّى يسند ذلك القول إليه ولا هناك خبر آخر يضاف إليه ، وجب أن يكون ذلك القول مطروحا ووجب العمل بهذا الخبر والأخذ بالقول الّذي يوافقه.

وأمّا القرائن الّتي تدلّ على العمل بخلاف ما يتضمّنه الخبر الواحد فهو أن يكون هناك دليل مقطوع به من كتاب أو سنّة مقطوع بها أو إجماع من الفرقة المحقّة على

١٦٠