الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

الفصل السابع

في بيان من يجب رجوع الناس إليه في القضاء والإفتاء

ذكر الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه في كتاب كمال الدين وتمام النعمة : حدّثنا محمّد بن محمّد بن عصام رضى الله عنه قال حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمّد بن عثمان العمري رضى الله عنه أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل اشكلت عليّ ، فورد في التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام : أمّا ما سألت عنه أرشدك الله ووفّقك ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم (١) وهذا الحديث الشريف بهذا السند مذكور أيضا في كتاب الاحتجاج للطبرسي رحمه‌الله (٢).

وفي كتاب الرجال لعمدة القدماء المحدّثين الشيخ أبي عمرو محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي ، وفي اختيار رئيس الطائفة من ذلك الكتاب : حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا.

أبو عليّ محمّد بن أحمد بن حمّاد المروزي المحمودي يرفعه قال : قال الصادق عليه‌السلام : اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من روايتهم عنّا ، فإنّا لا نعدّ الفقيه منهم فقيها حتّى يكون محدّثا ، فقيل له : أو يكون المؤمن محدّثا؟ قال يكون مفهّما والمفهّم المحدّث.

عليّ بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : اعرفوا منازل الناس منّا على قدر

__________________

(١) كمال الدين ٢ : ٤٨٣.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٤٧٠.

٣٠١

رواياتهم عنّا.

أبو الحسن أحمد بن حاتم بن ماهويه قال كتبت إليه ـ يعني أبا الحسن الثالث عليه‌السلام ـ أسأله عمّن آخذ معالم ديني وكتب أخوه أيضا ، فكتب إليهما : فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا ، فإنّهم كافوكما إن شاء الله تعالى (١). وهذه الأخبار مسندة في كتاب رجال الكشّي وفي كتاب الاختيار للشيخ ، تركنا الأسانيد روما للاختصار واعتمادا على تواتر القدر المشترك بين تلك الأخبار وعلى كونها مأخوذة من الاصول المجمع على صحّتها.

وفي الكافي عن عليّ بن حنظلة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : اعرفوا منازل الناس منّا على قدر روايتهم عنّا (٢).

وفي كتاب الاحتجاج لشيخنا العلّامة الطبرسي ـ قدّس الله سرّه ـ بسنده عن أبي محمّد العسكري عليه‌السلام قال الحسين بن عليّ عليه‌السلام : من كفل لنا يتيما قطعته عنّا محنتنا باستارنا (٣) فواساه من علومنا الّتي سقطت إليه حتّى أرشده وهداه قال الله عزوجل : يا أيّها العبد الكريم المواسي! أنا أولى بالكرم منك ، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كلّ حرف علّمه ألف ألف قصر وضمّوا إليها ما يليق بها من سائر النعم (٤).

وفي كتاب الكافي عن معاوية بن عمّار قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل راوية لحديثكم يبثّ ذلك في الناس ويسدّده (٥) في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعلّ عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيّهما أفضل؟ قال : الراوية لحديثنا يسدّده في قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد (٦).

وروى أئمّة الحديث الثلاثة ـ قدّس الله أرواحهم ـ بسندهم عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما خلاف ، فرضيا بالعدلين واختلف العدلان بينهما عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ فقال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ، ولا

__________________

(١) رجال الكشّى : ٤ ، الرقم ٧.

(٢) الكافي ١ : ٥٠ ، ح ١٣.

(٣) في المصدر : محبّتنا باستتارنا.

(٤) الاحتجاج ١ : ١٦.

(٥) في الكافي : ويشدّده.

(٦) الكافي ١ : ٣٣ ، ح ٩.

٣٠٢

يلتفت إلى الآخر (١).

وعن أبي خديجة قال : بعثني أبو عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابنا فقال : قل لهم إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى بينكم في شي‌ء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق ، اجعلوا بينكم رجلا ممّن عرف حلالنا وحرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضيا ، وإيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر (٢).

وفي مقبولة عمر بن حنظلة ـ بزعم العلّامة ومن وافقه ، وإلّا فهي صحيحة لما حقّقناه سابقا ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا تكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ فقال عليه‌السلام :

من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّه ثابتا ، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله عزوجل أن يكفر بها قلت : كيف يصنعان؟ قال : انظروا إلى من كان منكم روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فلترضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك (٣).

وعن أبي خديجة قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (٤).

وروى الإمام ثقة الإسلام بسنده عن محمّد بن حكيم قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : جعلت فداك! فقّهنا في الدين وأغنانا الله تعالى بكم عن الناس حتّى أنّ الجماعة منّا ليكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه إلّا وتحضره المسألة ويحضره جوابها فيما منّ الله علينا بكم ... الحديث (٥).

وبسنده عن سماعة بن مهران عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال قلت : أصلحك الله! إنّا نجتمع فنتذاكر ما عندنا ، فما يرد علينا شي‌ء إلّا وعندنا فيه مسطّر ، وذلك ممّا

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٨ ح ٣٢٣٢ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ ح ٥٠ ، الكافي ١ : ٦٧ ، ضمن الحديث ١٠.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٠٣ ، ح ٥٣.

(٣) التهذيب ٦ : ٢١٨ ح ٦ ، الكافي ٧ : ٤١٢ ح ٥.

(٤) الكافي ٧ : ٤١٢ ، ح ٤.

(٥) الكافي ١ : ٥٦ ، ح ٩.

٣٠٣

أنعم الله به علينا بكم (١).

وبسنده عن عبد الله بن سنان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يجيئني القوم فيسمعون منّي حديثكم فأضجر ولا أقوى ، قال : فاقرأ عليهم من أوّله حديثا ومن وسطه حديثا ومن آخره حديثا (٢).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام لأبان بن تغلب : اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإنّي احبّ أن أرى في شيعتي مثلك (٣).

وقال الصادق عليه‌السلام لسليم بن أبي حبّة : ائت أبان بن تغلب ، فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا ، فما روى لك فاروه عنّي (٤).

وقال الصادق عليه‌السلام لفيض بن المختار : إذا أردت بحديثنا فعليك بهذا الجالس وأومأ بيده إلى رجل من أصحابه فسألت أصحابنا عنه ، فقالوا : زرارة بن أعين (٥).

وقال الصادق عليه‌السلام رحم الله زرارة بن أعين! لو لا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي عليه‌السلام (٦).

وقال الصادق عليه‌السلام : ما أحد أحيى ذكرنا وأحاديث أبي عليه‌السلام إلّا زرارة وأبو بصير ليث المرادي ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي هؤلاء حفّاظ دين الله وأمناء أبي عليه‌السلام على حلال الله وحرامه (٧).

وقال الصادق عليه‌السلام : أقوام كان أبي عليه‌السلام يأتمنهم على حلال الله وحرامه وكانوا عيبة علمه ، وكذلك اليوم هم عندي ، هم مستودع سرّي أصحاب أبي عليه‌السلام حقّا إذا أراد الله بأهل الأرض سوءا صرف بهم عنهم السوء ، هم نجوم شيعتي أحياء وأمواتا ، يحيون ذكر أبي عليه‌السلام بهم يكشف الله كلّ بدعة ، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأويل الغالين ، ثمّ بكى قال الراوي : فقلت : من هم؟ فقال : هم صلوات الله عليهم ورحمة الله أحياء وأمواتا : بريد العجلي ، وزرارة ، وأبو بصير ، ومحمّد بن مسلم (٨).

وقال الصادق عليه‌السلام لعبد الله بن أبي يعفور ، حيث قال له عليه‌السلام : إنّه ليس كلّ ساعة

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٧ ، ح ١٣. (٢) الكافي ١ : ٥٢ ، ح ٥.

(٣) رجال النجاشي : ١٠.

(٤) رجال النجاشي : ١٢.

(٥) رجال الكشّي : ١٣٥ ، ح ٢١٦.

(٦) رجال الكشّي : ١٣٦ ، ح ٢١٧.

(٧) رجال الكشّي : ١٣٦ ، ح ٢١٩.

(٨) رجال الكشّي : ١٣٧ ، ح ٢٢٠.

٣٠٤

ألقاك ولا يمكن القدوم ويجي‌ء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني ، قال : فما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي؟ فإنّه قد سمع من أبي وكان عنده وجيها (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : بشّر المخبتين بالجنّة : بريد بن معاوية العجلي ، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي ، ومحمّد بن مسلم ، وزرارة ، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه ، لو لا هؤلاء لانقطعت آثار النبوّة واندرست (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام لشعيب العقرقوفي ، حيث قال له عليه‌السلام : ربّما احتجنا أن نسأل الشي‌ء فممّن نسأل؟ قال : عليك بالأسدي ، يعني : أبا بصير (٣).

وأقول : الأحاديث الناطقة بأمرهم عليهم‌السلام بالرجوع في الفتوى والقضاء إلى رواة أحاديثهم وأحكامهم متواترة معنى ، وتلك الأحاديث صريحة في وجوب اتّباع الرواة فيما يروونه عنهم عليهم‌السلام من الأحكام النظريّة ، وليست فيها دلالة أصلا على جواز اتّباع ظنونهم الحاصلة من ظواهر كتاب الله أو أصل أو استصحاب أو غيرها ، ولا دلالة فيها على اشتراط أن يكون الرواة المتّبعون أصحاب الملكة المعتبرة في المجتهدين.

ومن المعلوم : أنّ المقام مقام البيان والتفصيل ، فيعلم بقرينة المقام علما عاديّا قطعيا بأنّ تلك الظنون وكذلك تلك الملكة غير معتبرين عندهم عليهم‌السلام.

ومن جملة غفلات المتأخّرين من أصحابنا ـ كالعلّامة الحلّي ، والمحقّق الحلّي في اصوله لا في معتبره ، وكالشهيد الأوّل والثاني والفاضل الشيخ عليّ ـ قدّس الله أرواحهم ـ أنّهم زعموا أنّ المراد من تلك الأحاديث المجتهدون (٤).

وإنّما قلنا : إنّه من جملة غفلاتهم ، لأنّا نعلم علما قطعيا عاديا أنّهم لو لم يذهلوا عمّا استفدنا من كلامهم عليهم‌السلام ومن كلام قدمائنا :

من أنّه لا بدّ في باب القضاء والفتوى من أحد القطعين.

ومن أنّه كما لا يجوز التقصير في تبليغ الأحكام لا ينبغي في الحكمة الإلهية

__________________

(١) رجال الكشّي : ١٦١ ، ح ٢٧٣.

(٢) رجال الكشّي : ١٧٠ ، ح ٢٨٦.

(٣) رجال الكشّي : ١٧١ ، ح ٢٩١.

(٤) مورد زعمهم هو مبحث الاجتهاد والتقليد في الاصول والقضاء في الفقه.

٣٠٥

أن لا يمهّد لأهل زمان الغيبة الكبرى مرجعا يرجعون إليه في عقائدهم وأعمالهم ـ ما سوى الامور الّتي هي شغل الإمام مثل إجراء الحدود ـ فعلم أنّ لنا كتبا ممهّدة من جهة الأئمّة عليهم‌السلام بأمر الملك العلّام.

ومن أنّ أسباب قطعنا بأحكامهم وأحاديثهم عليهم‌السلام كثيرة وافرة * من جملتها :

______________________________________________________

* إنّ ما أورده من الأحاديث كلّها مؤدّاها ومفادها الرجوع إلى أحاديثهم وشريعتهم إمّا بالعلم أو الظنّ عند عدم التمكّن من العلم ، وهذا لا نزاع فيه إلّا من المصنّف. والّذي يدلّ على ذلك أمرهم عليهم‌السلام بالرجوع إلى من روى حديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم ، فإنّ من المعلوم أنّه ليس المراد من ذلك أن يكون المرجوع إليه لا بدّ أن يعرف كلّ حديث في الأحكام وكلّ حلال وحرام ، للعلم بتعذّر ذلك على كلّ أحد غيرهم عليهم‌السلام.

وقد روى الصدوق في من لا يحضره الفقيه رواية أبي خديجة بسند صحيح عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكرم ، وفيها بعض مغايرة لما ورد هنا ، إلّا أنّ فيها « انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا تحاكموا إليه » (١) فعلم من ذلك أنّه يكفي في الحاكم هنا أن يعرف شيئا منهما ، ولم يقيّدوا في ذلك حكم الحاكم أن لا يحكم إلّا بعد العلم بما يحكم به عنهم ويقطع بنصّهم عليه ، وإن لم يتيسّر له ذلك لا يجترئ على الحكم لظنّه أنّه غير خارج عن حكمهم عليهم‌السلام بل أطلقوا له الحكم وأمروا بالرضا بقبوله وحذّروا من ردّه ، وهو يقتضي أن يكون إذنهم له أن يحكم بما تصل إليه معرفته وقدرته من علم أو استنباط يؤدّي إليه رجحان ظنّه أنّه من حكمهم عليهم‌السلام ولا يخرج عن مذهبهم. وكما أنّه ليس في الأخبار تصريح بجواز اتباع الظنّ الحاصل من ظاهر أو أصل أو اشتراط أن تكون الرواة المتّبعون أصحاب الملكة المعتبرة في المجتهد ـ على ما زعمه المصنّف ـ كذلك ليس فيها ما ينفي ذلك.

وما نقله عن الفضلاء من زعمهم أنّ المراد من تلك الأحاديث المجتهدون وجعله منهم من باب الغفلة ، فالعقل والاعتبار يقتضي صحّة ما ذكروه ، لأنّ إطلاق الأمر في الرجوع في المسائل والأحكام إلى من نصّوا عليه بقول مطلق في كلّ ما يسأل عنه يقتضي ذلك ، لأنّ معرفة دلالة الحديث وصحّته وموادّ الخطأ فيه وسلامته من احتمال خلاف الظاهر وصحّة متنه وعدم وجود ما ينافيه لا يتأتّى لغير من لم يحصّل مرتبة الاجتهاد ، ولا يؤمن على غيره الغلط والخطأ وحمل

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٣ ، الرقم ٣٢١٦.

٣٠٦

أنّهم عليهم‌السلام في مدّة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة أظهروا دين جدّهم ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ـ عند جمع كثير وجمّ غفير من الأفاضل الثقات المحقّقين يزيدون على خمسة آلاف رجل ، وأمروهم بأن يكتبوا بين أيديهم ما يسمعونه منهم عليهم‌السلام لتعمل بها الشيعة ـ لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى ـ ولئلّا تحتاج إلى سلوك ما سلكته العامّة من الاستنباطات الظنّيّة ، فألّفوا بأمرهم عليهم‌السلام اصولا كثيرة كانت بخطّ تلك الأفاضل الثقات وبإملائهم عليهم‌السلام. ومن جملتها : تقريرهم عليهم‌السلام في تلك المدّة الطويلة أصحابنا على الاعتماد على تلك الاصول في عقائدهم وأعمالهم بل تصريحهم عليهم‌السلام بذلك.

______________________________________________________

الكلام على غير المراد منه وعدم معرفة صحّة الحديث وضعفه ، فكيف يليق من الإمام عليه‌السلام إطلاق حكمه للناس في كلّ ما يسألونه عنه؟ ومتى يتيسّر لأحد أن يعلم حكم جميع ما يسأل عنه في زمانهم بطريق العلم والقطع؟ من غير احتياج إلى مراجعتهم عليهم‌السلام لو لا توسعة الحال عليهم وعلمهم عليهم‌السلام بأنّ حال من أشاروا إليهم بالفضل والمعرفة قابل لمعرفة أحكامهم بالنصّ والاستنباط بحيث لا يخرجون في فتواهم عن اصولهم عليهم‌السلام. وإذا جاز هذا الإطلاق في زمانهم لأهل المعرفة والفضل مع إمكان الوصول إليهم عليهم‌السلام ولو بالوسائط ، فمع تعذّر ذلك يكون إذنهم لأهل الفضل والورع والاجتهاد الّذي يؤمن معه الوقوع في الخطأ وجهالة محاذير (١) صحّة الأحاديث بالطريق الأولى. والعجب كلّ العجب! من تصوّر المصنّف بطلان الاجتهاد والتقليد وإمكان كلّ مكلّف أن يعلم بنفسه حكم مسألة من الأحاديث بالقطع والجزم ، والفرض أنّ المجتهد مع علمه ومعرفته واطّلاعه على ما يحتمل فيه الخطأ في الحديث وما لا يحتمل ، هيهات أن يمكنه تحصيل العلم والقطع في بعضها! فكيف الجاهل الّذي لا يعرف دلالة لفظ الحديث وحقيقته من مجازه وفاعله من مفعوله وعامّة من خاصّه وصحيحه من سقيمه ، من أين يعلم أنّ هذا حكم الأئمّة عليهم‌السلام وقولهم في كلّ مسألة يريدها؟ وهل يخفى امتناع ذلك على عاقل؟ فكيف يفعل غير المجتهد في الاختلاف الواقع في غالب الأحكام الّتي قد أعجز العلماء العظماء الجمع بينها؟ ومن أين يعرف ترجيح البعض على البعض حتّى يستفيد حكم مسألته بالعلم والقطع؟

__________________

(١) في نسخة : « معاذير » وعلى كلّ منهما لا يستقيم المعنى.

٣٠٧

ومن تصريح (١) الأئمّة الثلاثة وغيرهم ـ قدّس الله أرواحهم ـ بأنّهم أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الاصول المجمع على صحّتها أو بأنّ كلّها صحيح.

لما وقعوا (٢) في هذه الشبهات. والله أعلم بحقائق الامور *.

______________________________________________________

ولم يوضح المصنّف طريقا إلى استعلام الأحكام لكلّ مكلّف يستغني معها عن الاجتهاد والتقليد. ونهاية المفهوم من كلامه صحّة جميع ما في الكتب الأربعة من الأحاديث وأنّها وافية بأحكام الله ، فيلزم على قوله أنّ كلّ من فهم منها حديثا يعمل به حيث لم يكن له قدرة على غير ذلك من معرفة تقيّة أو مخالفة لما هو المعلوم ضرورة خلاف مدلوله ، وكذلك لغيره أن يعمل بضدّ ذلك الحديث المنافي ، وله نفسه أن يعمل به في وقت آخر ، لأنّها كلّها صحيحة ، وليس من قدرته ـ كما هو الفرض ـ تمييز شي‌ء منها ولا ترجيحه ، ولا مجتهد يرجع إليه في ذلك ، بل لا يجب عليه الاستفهام والسؤال إذا تعذّر ذلك أو لم يتعذّر ، لأنّ المفهوم من اعتقاد المصنّف أنّه لا يحتاج الأمر إلى شي‌ء من ذلك ، لسهولة التناول من الأحاديث لكلّ أحد. وهذا هو الموافق بالاستغناء عن الاجتهاد والتقليد على مقتضى قوله.

* قد تكرّر دعوى المصنّف أنّ الاصول المشهورة كلّها كانت صحيحة مقطوعة الثبوت عن الأئمّة عليهم‌السلام وأنّ الأئمّة الثلاثة أخذوا ما ألّفوه منها وأنّهم اعترفوا بصحّة كلّ ما دوّنوه ، لأنّه مأخوذ منها. وكلّ من الدعويين غير ظاهر.

أمّا الاولى : فإنّها لو كانت تلك الاصول كما يزعم المصنّف أنّها كتبت بأمر الأئمّة وبين أيديهم عليهم‌السلام لم يجز فيها الاختلاف والتضادّ ولا تدوين أحاديث التقيّة فيها ، لأنّ غاية حفظها وكتابتها لأجل عدم وقوع الشيعة في الخطأ وارتكاب غير الحقّ كما فعله المخالفون ، خصوصا وهم عليهم‌السلام يعلمون أنّ الشيعة في حال الغيبة ليس لهم سبيل إلى علم الصحيح والموافق للمذهب مع الاختلاف ، فكيف يجوّزون لأصحابهم كتابة ما فيه الاختلاف والتقيّة من دون تنبيه على الموافق بالمذهب منه؟ وأيّ فائدة وضرورة لتدوين أحاديث التقيّة في كلّ تلك الأصول؟ وهلّا كانت تلك الاصول الّتي كتبت بين أيديهم عليهم‌السلام منزّهة عن الاختلاف وأحاديث التقيّة؟ لأنّ

__________________

(١) عطف على قوله : ومن أنّ ... ومن أنّ ... ومن أنّ ... في الصفحة السابقة.

(٢) جواب لقوله : لو لم يذهلوا عمّا استفدنا ....

٣٠٨

......................................................

______________________________________________________

الغرض منها الهداية وليس المقصود بها الاشتهار للمخالف والمؤالف ، لأنّها محفوظة مصونة مكتومة عن غير أربابها ، فما الضرورة الّتي أوجبت هذا الاختلاف والتقيّة وتدوين كلّ ذلك في تلك الاصول الّتي ليست مكشوفة للاطّلاع عليها للبعيد والقريب ، وحكمها حكم الآثار والدعوات المنقولة عنهم ليس فيها من الاختلاف والتقيّة ما في الأحاديث ، مع أنّ تجريد الحديث عمّا يوجب الشبهة والحيرة أتمّ من تجريد الدعوات والآثار الواردة عنهم في غير التكاليف الواجبة. فلو كانت تلك الاصول كلّها صحيحة لم يجوّز العقل فيها وقوع هذا الاختلاف. هذا ، مع أنّ النقل والاعتبار يقضي بأنّه لا موجب للتقيّة في تدوين أحاديثها في تلك الاصول بوجه من الوجوه ، لأنّه ما من حديث للتقيّة إلّا وبإزائه حديث أو أحاديث مخالفة له واردة على الصحيح من مذهب الشيعة ، فكيف يجامع ذلك إرادة التقيّة بتدوينها في الاصول الّتي غايتها والمقصود بها هداية الشيعة وحفظ أحكام مذهب الحقّ؟ وخصوصا مع دعوى المصنّف بأنّ أكثرها بأمر الأئمّة عليهم‌السلام وأنّها كتبت بين أيديهم ولم ينبّهوا على الموافق منها والمخالف. وما السبب في إدخال أحكام العامّة الباطلة فيها الموجبة للحيرة والاشتباه بغير ضرورة ولا فائدة؟ في كلّ ذلك دليل على أنّ أغلب هذه الأحاديث المخالفة للمذهب إمّا مدخولة في الحديث من أهل الشقاق ـ كما نقل من صريح كلام بعضهم ذلك ـ وإمّا أنّ الراوي سمع الحديث ولم يعلم ما يخالفه من الموافق للمذهب فأثبته كما سمعه ، واختلطت الأحاديث ، ولم يتيسّر لها في زمانهم عليهم‌السلام من تميزها بسواء لهم ولا أصحاب الاصول التقوا إلى ذلك (١) إن صحّ أنّها مدوّنة في اصولهم ، وذلك بعيد عنهم لجلالتهم عن ذلك ، خصوصا مع كون بعضها في زمن الأئمة وإمكان استعلام الحال فيها.

وكأنّ المصنّف لم يكن في حال اليقظة لمّا نظر إلى كتاب الاستبصار! وهذا الاختلاف الواقع بين الأحاديث والأكثر موافق لمذاهب العامّة وليس للجمع بين أغلبها سبيل إلّا أن كان بنهاية البعد وعدم المناسبة ، وبعضها لم يكن فيه إلّا الردّ والقطع من الشيخ رحمه‌الله بعدم صحّته. فما كان اهتمام الأئمّة عليهم‌السلام إلّا بالمخالفين حتّى أمروا أصحابهم بتدوين مذاهبهم في الاصول المراد منها هداية الشيعة ؛ على أنّ العقل والضرورة تقضي بأنّ تلك الاصول لو كانت كلّها كلام الأئمّة عليهم‌السلام وصحيحة عنهم ما جاز فيها اختلاف حديث ولا تقيّة ، لأنّه ورد عنهم عليهم‌السلام : « إنّ كلام الابن هو

__________________

(١) العبارة من قوله : « ولم يتيسّر ... » إلى هنا مغلوطة أو مصحّفة.

٣٠٩

......................................................

______________________________________________________

بعينه كلام الأب ، وعلى هذا إلى جبرئيل عليه‌السلام » (١) ولا ضرورة إلى تدوين ما فيه التقيّة مع عدم التنبيه عليه لو احتمله العقل في أصل من تلك الاصول ، خصوصا مع حكم المصنّف بعدم جواز الاجتهاد ، فإنّ غير المجتهد من أين يعرف حديث التقيّة من غير التقيّة لو جوّز بأحواله التمييز في تلك الاصول بين الأحاديث إلى الشيعة (٢) المحتاجين إلى العمل بها بعد تدوينها ونقلها. وأيضا كيف جاز خفاء هذا الأمر الّذي يدّعي المصنّف أنّه من الضروريّات وتواترت به الأخبار عن القدماء أصحاب المتون ، مثل ابن الجنيد وابن أبي عقيل والمفيد والسيّد المرتضى ومن في عصرهم ومن تقدّم عليهم ومن تأخّر ، حتّى أنّ القدماء أتعبوا أنفسهم في تحقيق رجال سند تلك الأحاديث الثابتة في الاصول بالقطع من غير احتياج إلى اعتبار السند بوجه لأيّ غرض لهم في ذلك إذا كان الحديث معلوم الصحّة بدون ذلك؟ والتبرّك يحصل باتّصال السند من غير حاجة إلى ذكر ما يوهم غير العارف كذب الحديث وإدخال الشبهة عليه ، فلو لا أنّ الاشتباه والضعف والكذب كان محتملا فيها كما وقع التصريح من الأئمّة بالكذب عنهم وعن الرسول ـ صلّى الله عليه وعليهم ـ لما أتعب القدماء والمتأخّرون أنفسهم في تأليف كتب الرجال لتمييز الصحيح من غيره ، ولما حصل الاختلاف بين العلماء الّذي وصل في الكثرة إلى حدّ قال الشيخ رحمه‌الله : إنّه ربّما يزيد عن الاختلافات بين الأئمّة الأربعة للمخالفين ، وصرّح بأنّ سبب هذا الاختلاف اختلاف الحديث وعدم ظهور الصحيح منها بالقطع والجزم (٣).

وأمّا الثانية (٤) : فإنّا رأينا الصدوق رحمه‌الله أفتى بخلاف ما في الكافي في بعض المسائل ، بل أفتى بخلاف ما في من لا يحضره الفقيه في بعض مؤلّفاته غيره. وأورد في نافلة شهر رمضان حديثا وذهب إلى خلافه ، وصرّح بأنّه لم يعتقد مضمونه وإنّما أورده ليفهم منه الجواز (٥). وكيف جاز له عدم اعتقاد مضمونه وهو يعلم أنّه من كلام الأئمّة عليهم‌السلام ولم يحمله على التقيّة؟ فعلم أنّه حاكم بضعفه من غير وجه التقيّة لو ناسب حمله عليها.

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٤٩ ح ٦٢.

(٢) كذا ، والعبارة مشوّشة.

(٣) عدّة الاصول ١ : ١٣٨.

(٤) يعني الدعوى الثانية للماتن قدس‌سره تقدّم اولاهما في ص ٣٧٢.

(٥) الفقيه ٢ : ١٣٩.

٣١٠

......................................................

______________________________________________________

والكليني حكم في مولد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل (١) والشيخ رحمه‌الله أورد من الأحاديث ما يقتضي أنّه السابع عشر (٢) والمعروف من كلّ الأصحاب مخالفة الكليني في ذلك ، فكيف جاز هذا التخالف في كلّ الأحاديث في الكتب الأربعة صحيحة مقطوع بها؟ وإذا علم أصحاب الكتب ذلك كيف جاز لهم هذا الاختلاف الّذي لا يمكن الجمع بينه إلّا بحمل التقيّة؟ وأيّ ضرورة للكليني في فتواه وتدوينها في كتابه أن يخالف الحقّ من مذهب الشيعة؟ ولا يجوز في كتب الفتوى للشيعة ذلك بوجه من الوجوه ، بل كيف جاز للكليني رحمه‌الله مع اختلاف الأحاديث أن يعوّل على الموافق لمذهب العامّة والمأمور به عند الاختلاف من الأئمّة عليهم‌السلام العمل بما يخالف مذهبهم.

والشيخ رحمه‌الله في جواز نقص شهر رمضان وتمامه أورد جملة أحاديث (٣) وحكم بعدم صحّتها وقطع بذلك ، مع أنّه دوّنها وأثبتها كغيره في كتابه. وله مواضع عديدة من أمثال ذلك.

ولم يتعرّض أحد من الأئمّة الثلاثة رحمهم‌الله إلى التصريح بما يدّعيه المصنّف ، وإنّما المفهوم من كلامهم أنّهم أخذتهم غيرة الدين على جمع هذه الأحاديث خوفا من ضياعها كما ضاعت أكثر أصولها أيضا في زمانهم وما بعده ، واكتفوا في نقلها بما حسن ظنّهم به وبإمكان صحّته وأحالوا العلم بالتمييز بينها على ما عرّفوه ودوّنوه من كتب الرجال ، ولهذا التزموا إلى ذكر جميع أسانيدها ولم يهملوها اكتفاء بأخذها من الاصول لعلمهم بأنّ فيها ما لا يقطع بصحّته ولا بكذبه. والظاهر منهم ومن عدم اعتمادهم على كلّ ما نقلوه ذلك ، فإلزام المصنّف لهم بالاعتراف بما يدّعيه لهم وهم ينفونه أعجب العجائب!

* * *

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٣٩.

(٢) مصباح المتهجّد : ٧٣٣.

(٣) راجع التهذيب ٤ : ١٥٤ باب ٤١.

٣١١

الفصل الثامن

في جواب الأسئلة المتّجهة على ما استفدناه وقرّرناه من كلام أئمّتنا عليهم‌السلام ومن كلام قدمائنا ، كأحمد بن أبي عبد الله البرقي في كتاب المحاسن ، ومحمّد بن الحسن الصفّار في كتاب بصائر الدرجات ، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره ، ومحمّد بن يعقوب الكليني في أوّل الكافي.

السؤال الأوّل

إنّ الفاضل المدقّق محمّد بن إدريس الحلّي رحمه‌الله أخذ أحاديث من اصول قدمائنا الّتي كانت عنده وذكرها في باب هو آخر أبواب كتاب السرائر.

ومن جملة ما أخذه من جامع البزنطي صاحب الرضا عليه‌السلام هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّما علينا أن نلقي عليكم الاصول ، وعليكم أن تفرّعوا (١).

أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : علينا إلقاء الاصول إليكم ، وعليكم التفريع (٢).

والحديثان ناطقان بجواز الاجتهاد في نفس أحكامه تعالى.

وجوابه أن يقال :

هذان الحديثان موافقان لما حقّقناه سابقا واستفدناه من كلامهم عليهم‌السلام لأنّ المراد

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٧٥.

(٢) السرائر ٣ : ٥٧٥.

٣١٢

منهما أنّ استنباط الأحكام النظرية ليس شغل الرعيّة ، بل علينا أن نلقي إليهم نفس أحكامه تعالى بقواعد كلّية وعليهم استخراج الامور (١) الجزئية عن تلك القواعد الكلّية ، مثال ذلك قولهم عليهم‌السلام : « إذا اختلط الحلال بالحرام غلب الحرام » (٢) وقولهم عليهم‌السلام : « كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه » (٣) وقولهم عليهم‌السلام : « الشكّ بعد الانصراف لا يلتفت إليه » (٤) وقولهم عليهم‌السلام : « ليس ينبغي لك أن تنقض يقينا بشكّ أبدا وإنّما تنقضه بيقين آخر » (٥) *.

وهنا فائدة شريفة :

هي أنّ الأنظار العقلية قسمان :

قسم يكون تمهيده مادّة الفكر فيه بل صورته أيضا من جانب أصحاب العصمة ، وقسم لا يكون كذلك.

فالقسم الأوّل : مقبول عند الله تعالى مرغوب إليه ، لأنّه معصوم عن الخطأ.

والقسم الثاني : غير مقبول ، لكثرة وقوع الخطأ فيه. وإثبات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رسالته على الامّة إمّا من باب أنّه من باب بعد الاطّلاع على معجزته يحصل القطع بدعواه بطريق الحدس كما يفهم من الأحاديث ، أو من القسم المقبول من النظر والفكر ، واستخراج الرعيّة الفروع من القواعد الكلّية المتلقّاة منهم عليهم‌السلام من هذا القسم

______________________________________________________

* الّذي يظهر من لفظ « التفريع » واستعماله أنّ المراد به غير ما ذكره المصنّف ، لأنّ الكلّي الصادق على جزئيّات معلومة ـ مثل ما ذكره من الأمثلة ـ غير محتاج إلى تفريع ولا إلى بيان. والمناسب بمعنى التفريع هو الاستنباط والاستخراج من دلائل اللفظ بالفحوى أو الالتزام أو دلالة عرفيّة أو عاديّة أو مجازيّة ، ونحو ذلك. وهذا معنى الاجتهاد ، إذ ليس كلّ مكلّف له أهليّة التفريع حتّى يكون عليه ذلك. فعلم أنّهم عليهم‌السلام إنّما أرادوا من له قدرة على ذلك ، وكان المصنّف غنيّا عن إيراد هذين الحديثين ، ولكن الحقّ يزهق الباطل.

__________________

(١) ط : الصور.

(٢) عوالي اللآلي ٣ : ٤٦٦ ، ح ١٧.

(٣) التهذيب ١ : ٧٩ ، ح ٧٢.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٤٨ ، ح ٣١.

(٥) التهذيب ١ : ٨ ، ح ١١.

٣١٣

المقبول. هكذا ينبغي أن تحقّق هذه المباحث وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء *.

السؤال الثاني

إنّه لا مفرّ للأخباريّين عن العمل بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها ، وذلك لأنّ الحديث ولو كان صحيحا باصطلاحهم وهو المقطوع بوروده عن أهل الذكر عليهم‌السلام قد يحتمل التقيّة ، وقد يكون دلالته ظنّية ، وعلى التقديرين لا يحصل القطع.

وجوابه أن يقال :

أكثر أحاديثنا المدوّنة في كتبنا صارت دلالتها قطعيّة بمعونة القرائن الحالية أو المقالية وأنواع القرائن كثيرة :

من جملتها : أنّ الحكيم في مقام البيان والتفهيم لا يتكلّم بكلام يريد به خلاف ظاهره ، لا سيّما من اجتمعت فيه نهاية الحكمة مع العصمة. وقد مرّ زيادة

______________________________________________________

* إنّه لم يظهر من كلامه نتيجة له في هذا الكلام ، لأنّ جعله القسم الثاني الغير الناشئ عن تمهيد أصحاب العصمة غير مقبول ينافي إثبات نبوّته عليه‌السلام بعد الاطّلاع على معجزاته بطريق الحدس ، لأنّه لا دخل له حينئذ بقواعد ممهّدة من أصحاب العصمة ، وإنّما منشؤه دلالة العقل ، فلا يكون من القسم المقبول. وترديده في إثبات نبوّته عليه‌السلام بين ما ذكرناه وبين أن يكون من القسم المقبول الراجع إلى القواعد الممهّدة من أصحاب العصمة ، فيلزم من ذلك الدور ، لأنّ معرفة إمامتهم وعصمتهم موقوف على معرفة النبيّ ـ عليه وعليهم‌السلام ـ وأيّ عاقل يتصوّر ذلك؟ لأنّ معرفة النبيّ في جميع الأزمان لا يكون إلّا بدليل العقل بسبب المعجزات ، فكيف يرجع فيها إلى غير المعجزات المعلومة بالتواتر والضرورة من الدين.

وما ذكره من استخراج الرعيّة أنّه من القسم المقبول فهذا عين اعتقادنا على ما قرّرناه ، ولا يوافق مدّعاه لو تأمّله بنظر صحيح ، بل هو إبطال له. وما وجدنا في كلامه المتهافت في هذا المقام ما يوجب له التحقيق فيه حتّى تحسن منه هذه الحماسة ، بل ما وجدنا إلّا عدم ارتباط كلامه بعضه ببعض من غير مناسبة.

٣١٤

توضيح لذلك في كلامنا (١) *. ومن جملتها : تعاضد الأخبار بعضها بعضا. ومن جملتها : خصوصيّات أجزاء بعض الأحاديث. ومن جملتها : قرينة السؤال والجواب والدلالة الّتي لم تصر قطعيّة بمعونة القرائن لا توجب الحكم عندهم وإنّما توجب التوقّف.

وأمّا احتمال التقيّة فغير قادح فيما حقّقناه لما سبق : من أنّه يكفي أحد القطعين ومن أنّ مناط العمل القطع بأنّ الحكم ورد عنهم عليهم‌السلام لا الظنّ بأنّه حكم الله في الواقع.

وممّا يدلّ على الفرق بين الجهتين ما ذكره الفاضل الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ـ رحمهما‌الله تعالى ـ في كتاب المعالم ، حيث قال ـ في مقام الردّ على من تمسّك في جواز العمل بخبر الواحد بأنّه يفيد الظنّ فيكون معتبرا كما اعتبر الشارع شهادة العدلين لإفادتها الظنّ ـ : ليس الحكم في الشهادة منوطا بالظنّ بل بشهادة العدلين فينتفي بانتفائها ، فهي ـ كما أشار إليه المرتضى رضى الله عنه في معنى الأسباب أو الشروط الشرعية ـ كزوال الشمس وطلوع الفجر بالنسبة إلى الأحكام المتعلّقة

______________________________________________________

* هذه الدعاوي الّتي يخترعها المصنّف على قدر ما يخطر بباله من غير بيّنة ولا برهان كثيرة منكورة ، ونحن نقلّب عليه الدعوى ونقول : إذا كان دأب الحكيم البيان التفهيم والإرشاد إلى الحقّ بأمر واضح ، كيف جاز منه ومن أجلّاء أصحابه أن يدوّنوا الأحاديث المختلفة المتضادّة وأن يثبتوا معها الأحاديث المخالفة للمذهب من غير ضرورة التقيّة ـ لما بيّنّاه ـ حتّى التبس الحقّ وظهرت الحيرة من غير موجب ظاهر أوجب لهم ارتكاب هذا المحذور المنافي لغرضهم وقصدهم؟ وكيف يمنع المصنّف من إرادة غير المعنى الظاهر من الحكيم والحال أنّ كتاب الاستبصار بتمامه في الجمع بين الأحاديث الّتي لا يجوز إرادة ظاهرها ، وأجهد الشيخ رحمه‌الله نفسه في تأويلها بما يوافق العقل والحقّ؟ وهيهات ان صحّ (٢) له ذلك في أغلبها! على أنّ الحقّ متى وضح في زمانهم عليهم‌السلام؟ والدار دار ابتلاء حتّى يتّضح الحقّ والعمل به بعد غلبتهم ، وقد حصل الاختلاف والاشتباه بين معتقديهم وأتباعهم في زمانهم عليهم‌السلام وبعد زمانهم ، فما يدّعيه المصنّف الضرورة والوجدان يناديان ببطلانه.

__________________

(١) مرّ في ص ١٧٨.

(٢) كذا ، والظاهر : أن يصحّ.

٣١٥

بهما. بخلاف محلّ النزاع ، فإنّ المفروض فيه كون التكليف منوطا بالظنّ انتهى كلامه ـ أعلى الله مقامه ـ *.

ولنذكر مثالا ، فنقول : عند من يعمل بالدلالات الظنّية والاجتهادات الخرصية يجوز في الحديث الوارد في من احتلم في أحد المسجدين الإفتاء بإطلاق لفظه تارة وبتقييده اخرى بحسب القرائن الحالية بغالب الأحوال ، وذلك بحسب اختلاف آراء المجتهدين ، فكلّ يعتمد على مقتضى ظنّه من ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر. وعند الأخباريّين المتمسّكين بالتوقّف أو اليقين يجوز الإفتاء بالقدر الّذي دلالة لفظه عليه قطعية ، ويجب التوقّف عن الفتوى والعمل في القدر الزائد عليه. فعلى قول من رجّح من أهل الاجتهاد جانب إطلاق اللفظ يجب التيمّم ولو كان زمان الغسل أقلّ أو مساويا لزمان التيمّم ولم يحتج غسله إلى إزالة النجاسة في المسجد ، بأن يكون نائما في المسجد الحرام مثلا فيحتلم فيدخل السيل فيه فيقوم من النوم وهو واقع جوف السيل. وعلى قول من رجّح جانب القرينة يجب الغسل في الصورة المفروضة ويحرم التيمّم. وعلى قول من تساوى الاحتمالان في نظره يجب التوقّف عند بعض والحكم التخيير عند بعض.

وعلى طريقة الأخباريّين يجب التوقّف عن تعيين أحد الاحتمالين لو لم تكن دلالة من خارج تعيّن أحدهما **. ومصداق التوقّف في بعض المواضع ترك الأفعال

______________________________________________________

* كلام المعالم ليس فيه مناسبة لما يريده من عدم جواز التعويل على الظنّ ولا على عدم جواز العمل بخبر الواحد المفيد للظنّ ، لأنّ مذهبه العمل به ، وإنّما أراد به ردّ دليل المستدلّ عليه بمشابهته للظنّ الحاصل من شهادة الشاهدين وقد ثبت العمل به بأنّ هذا الدليل ليس في محلّه ، لأنّ السيّد المرتضى رحمه‌الله جعل التعويل على شهادة الشاهدين من قبيل الأسباب كما مثّل به لا من حصول الظنّ ، فإنّه يجب التعويل عليها وإن لم يحصل الظنّ منها.

** إن الحكم المعتمد في هذه المسألة هو أنّ الأمر ورد بالتيمّم مطلقا ، ولكن نعلم من خارج أنّ العلّة فيه تحريم اللبث في المسجد بأيّ حالة كانت من غير طهارة من الجنابة مع الاختيار ، فللضرورة ابيح زمان التيمّم والأمر به مطلقا وارد على ما هو الظاهر الغالب في العادة

٣١٦

الوجودية ، وفي بعض المواضع الجمع بين الفعلين الوجوديّين ، وفي بعض المواضع الإتيان بفعل وجوديّ مع الإطلاق في نيّته أو مع ترديد مآله ومآل الإطلاق واحد أو مع ذكر الاحتياط في نيّته. ومآل الكلّ واحد ، كما سيجي‌ء تحقيقه في كلامنا إن شاء الله تعالى.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأنّا نعلم اشتغال الذمّة بأحد الفعلين الوجوديين ولا نعلمه بعينه ، ونعلم أنّ حرمة الجمع بينهما مخصوصة بما إذا علمنا الفعل الواجب بعينه.

فإن قلت : كيف يكون نيّتهما؟

قلت : قصد القربة المطلقة في العبادات كافية ، ولو تنزّلنا عن ذلك المقام فله قصد الوجوب المطلق في كلّ واحد منهما ، ومرادي من المطلق ما يعمّ الواجب بالأصالة والواجب من باب المقدّمة.

ولقائل أن يقول : قد علمنا جواز الغسل بل وجوبه من جهة وجوب مقدّمة الواجب ، ومن المعلوم : أنّ الأمر بالشي‌ء لا يستلزم النهي عن أضداده الوجودية ، ومن المعلوم إجزاء الغسل عن التيمّم فإذا اغتسل سقط عنه التيمّم [ إذا خطر بباله تلك المقدّمات ] (١).

ويرد عليه : أنّه عسى أن لا يجزي الغسل ويتعيّن التيمم في حكم الله تعالى ، فلا بدّ من الجمع بينهما لتحصيل اليقين ببراءة الذمّة. وإذا تحيّر الفقيه في وجوب صلاة الجمعة عليه في زمن الغيبة وجوبا عينيا وفي وجوب صلاة الظهر بدلها ، يجب عليه التوقّف عن تعيين أحد الاحتمالين كما هو مقتضى الأحاديث ، ومصداق هذا التوقّف بحسب ظاهر النظر أيضا الجمع بين الفعلين الوجوديّين ـ أعني صلاة

______________________________________________________

من عدم تيسّر الاغتسال أو طول زمانه عن زمان التيمّم ، فإذا علم قصر زمانه أو مساواته وحكمنا بتعيّنه لأنّ الطهارة الترابيّة لا يؤمر بها إلّا مع تعذّر المائيّة لم يكن في ذلك مخالفة لمدلول الحديث ولا خروج عنه ولا ما يوجب التوقّف ، ولم يكن ذلك من الاجتهادات الخرصيّة المستحقّة للوصف بالأوصاف الشنيعة ، كما أقدم عليه المصنّف على عادته من الجرأة على العلماء بالأوصاف القبيحة بغير الحقّ.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في ط.

٣١٧

الجمعة وصلاة الظهر ـ لأنّا نعلم اشتغال الذمّة بإحداهما ولا نعلمها بعينها ، ونعلم أنّ الاشتباه ليس مسقطا لوجوبها.

وقد ظهر عليك من ذلك أنّ حرمة الجمع بينهما مخصوصة بما إذا علمنا ما هو الواجب بعينه. على أنّ القاعدة الشريفة المتقدّمة المستفادة من قوله عليه‌السلام : « إذا أصبتم بمثل هذا ولا تدرون فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا » (١). ومن حديث إطباق السماء المتضمّن لوجوب الاحتياط بأن تصلّى أربع صلوات إلى أربع جهات (٢) ومن غيرهما ، تقتضي وجوب الاحتياط بالجمع بين الفعلين الوجوديّين في هذين الموضعين وأشباههما ، ومصداقه عند النظر الدقيق الاكتفاء بصلاة الظهر بعد فوت وقت صلاة الجمعة ، لقطعنا بأنّ صلاة الظهر حينئذ مبرئة للذمّة ، وبأنّها غير بدعة. ويحتمل أن تكون صلاة الجمعة بدعة ، لفقد بعض شرائطها. بخلاف ما إذا تحيّر الفقيه في تعيين قدر المسافة هل هو عند الشارع أربعة فراسخ أو ثمانية؟ فإنّ احتمال البدعة مشترك حينئذ بين القصر والإتمام ، وكذلك احتمال الوجوب. وبخلاف ما إذا تخيّر بين وجوب التيمّم وبين وجوب الغسل للخروج عن المسجد ، فإنّ احتمال البدعة واحتمال الوجوب مشترك بين الطرفين. فافهم فإنّ هذه من معظمات الدقائق واحفظها تنتفع بها كثيرا.

السؤال الثالث

إنّه قد ذكر المحقّق الحلّي في اصوله ـ وهو في أكثر أبوابه اختصار كتاب العدّة لرئيس الطائفة مع زيادات وإيرادات من قبله ، رجع عنها في أواخر عمره في كتاب المعتبر ـ في مقام الردّ على ما نقلناه عن رئيس الطائفة ( حيث قال : والّذي أذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين المتقدّمين والمتأخّرين وهو الّذي اختاره سيّدنا المرتضى قدّس الله روحه ، وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله أنّ الحقّ في واحد وأنّ عليه دليلا ، من خالفه كان مخطئا فاسقا (٣) انتهى ) : وأمّا ما يفتقر إلى

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٩١ ، ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٤٥ ، ح ١٢.

(٣) العدّة ٢ : ٧٢٥.

٣١٨

اجتهاد ونظر ، فإنّه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه ، فإن أخطأ لم يكن مأثوما ، ويدلّ على وضع الإثم عنه وجوه :

أحدها : أنّه مع استفراغ الوسع يتحقّق العذر فلا يتحقّق الإثم.

الثاني : أنّا نجد الفرقة المحقّة مختلفة في الأحكام الشرعية اختلافا شديدا حتّى يفتي الواحد منهم بالشي‌ء ويرجع عنه إلى غيره ، فلو لم يرتفع الإثم لعمّهم الفسق وشملهم الإثم ، لأنّ القائل منهم بالقول إمّا أن يكون استفرغ وسعه في تحصيل ذلك الحكم أو لم يكن ، فإن لم يكن تحقّق الإثم ، وإن استفرغ وسعه في تحصيل ذلك الحكم ثمّ لم يظفر ولم يعذر تحقّق الإثم أيضا.

الثالث : الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح ، فجاز أن يختلف بالنسبة إلى المجتهدين كاستقبال القبلة ، فإنّه يلزم كلّ من غلب على ظنّه أنّ القبلة في جهة أن يستقبل تلك الجهة إذا لم يكن له طريق إلى العلم ، ثمّ تكون الصلاة مجزية لكلّ واحد منهم وإن اختلفت الجهات.

فإن قيل : لا نسلّم أنّ مع استفراغ الوسع يمكن الغلط في الحكم ، وذلك لأنّ الواقعة لا بدّ فيها من حكم شرعي ولا بدّ من نصب دلالة على ذلك الحكم ، فلو لم يكن للمكلّف طريق إلى العلم بها لكان نصبها عبثا ، أو لما كان لذلك المخطئ طريق إلى العلم بالحكم مع تقدير استفراغ الوسع ، وذلك تكليف بما لا يطاق. والجواب : قوله : لا بدّ من نصب دلالة.

قلنا : مسلّم ، لكن ما المانع أن يكون فرض المكلّف مع الظفر بتلك الدلالة العمل بمقتضاها ، ومع عدم الظفر بها يكون الحكم في الواقعة لا ذلك الحكم ، ومثاله : جهة القبلة ، فإنّ مع العلم بها يجب التوجّه ومع عدم العلم يكون فرضه التوجّه إلى الجهة الّتي يغلب على ظنّه أنّها جهة القبلة ، وكذلك العمل بالبيّنة عند ظهور العدالة وخفاء الفسق ولو ظهر فسقها لوجب اطراحها ، فما المانع أن تكون الأدلّة الّتي وقع فيها النزاع كذلك؟ ألا ترى! أنّ العموم يخصّص مع وجود المخصّص ويعمل بعمومه مع عدم المخصّص (١)

__________________

(١) معارج الاصول : ١٨١ ـ ١٨٢.

٣١٩

انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وأقول : جوابه :

إنّ الوجه الثالث من الوجوه الّتي ذكرها المحقّق مبنيّ على مقدّمة ظنّية وعلى قياس أحكام الله تعالى على غيرها وكلاهما مردودان ، ومن المعلوم أنّ العمل بالظنّ في نفس أحكام الله تعالى ينتهي إلى تخريب الدين وإلى تصحيح ما وقع من الحروب من المنافقين وأعداء الدين ـ كما تقدّم في كلامنا ـ وأنّ العمل بالظنّ في غير أحكامه تعالى كتعيين جهة القبلة وعدد الركعات وقيم المتلفات واروش الجنايات لا ينتهي إلى ذلك *.

والوجه الأوّل أيضا مردود ، لأنّ خلاصته جارية فيمن كان في زمن الفترة واستفرغ وسعه وعمل بخلاف الشريعة ، فإنّه معذور كما تواترت به الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام مع أنّه عمل بخلاف الشريعة. والحلّ أن يقال : كونهم معذورين أعمّ من كون فعلهم مشروعا ، لجواز أن يكون سبب كونهم معذورين غفلتهم عن بعض القواعد الشرعية.

وحاصل النقض والحلّ انّ المعذورية قسمان :

قسم حاصل من تخلية الله تعالى جمعا من عباده كما في أهل الفترة ، فإنّه يكلّفهم يوم القيامة لا في الدنيا ، كما تواترت به الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام (١).

______________________________________________________

* كأنّ المحقّق ـ قدّس الله روحه الزكيّة ـ نظر إلى ما عرض للمصنّف من الشبهة والخيالات بلحظ الغيب ، لأنّ كلامه رحمه‌الله يتضمّن شبهة المصنّف بعينها والجواب عنها بأوضح دليل. ولينظر المنصف في جواب المصنّف كيف أعجزه الردّ حتّى ادّعى ابتناءه على مقدّمة ظنّية وعلى قياس ، وردّهما بمجرّد القول من غير دليل ولا بيّنة ، وتمّم الخطأ بإخراجه ما عدّده من الأحكام من أحكام الله تعالى حتّى لا يناسب قياس غيرها من أحكام الله عليها لأنّها غير أحكام الله ، والفرض أنّ ذلك ليس بقياس ، وإنّما هو للاشتراك في الحكمة المجوّزة لاعتماد الظنّ في ذلك عند تعذّر العلم.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٤٨ ، ح ١ و ٦ و ٧.

٣٢٠