الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

وقسم حاصل من طلب الله تعالى والعمل بالظنّ ، ومدّعاك القسم الثاني ودليلك يدلّ على القدر المشترك ، فلو تمّ دليلك يلزم تحقّق القسم الثاني في أهل الفترة.

والوجه الثاني أيضا مردود لما سنحقّقه ، ومن تأمّل في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (١) وفي نظائره يقطع بأنّه تعالى مهّد طريقة كلّ من سلكها نجا من الغلط والخطأ ، وتلك الطريقة التمسّك بأصحاب العصمة في كلّ ما يحتاج إليه من العقائد والأعمال ، والتوقّف عند عدم الظفر بكلامهم عليهم‌السلام ومن المعلوم : أنّ من لم يسلك هذه الطريقة ما استفرغ وسعه.

ثمّ أقول : إن شئت تحقيق المقام بما لا مزيد عليه فاستمع لما نتلو عليك من الكلام بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام.

فنقول : الاختلاف في الفتاوى قسمان :

أحدهما : أن يكون سببه اختلاف ما بلغهم من الروايات.

ومن المعلوم أنّ هذا النوع من الاختلاف لا يؤدّي إلى تناقض ، لابتناء أحد القولين على ما ورد من باب التقية ـ كما حقّقه رئيس الطائفة قدس‌سره وقد مرّ توضيحه (٢) ـ والاختلافات الواقعة بين قدمائنا الأخباريّين وأصحاب الأئمّة عليهم‌السلام من هذا القبيل ، كما تقدّم نقله عن رئيس الطائفة.

وثانيهما : أن يكون سببه غير ذلك من الاستنباطات الظنّية.

ومن المعلوم : أنّه لم يرد إذن من الله تعالى في ذلك ، بل تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار بأنّ المفتي المخطئ ضامن ويلحقه وزر من عمل بفتياه (٣) وقال الله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (٤).

ومن المعلوم : أنّ كلّ حكم تحتاج إليه الامّة قد أنزله الله في كتابه لكن لا تبلغه عقول الرجال ، وقد بيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لامّته وبيّنه أمير المؤمنين عليه‌السلام كذلك.

ومن المعلوم : أنّه لا اختلاف فيما أنزل الله تعالى كما مرّ بيانه سابقا ، فكلّ من اختلف في الفتوى ولم يكن سببه ابتناء أحد قوليه على حديث وارد من باب التقية

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

(٢) انظر ص ٩٦.

(٣) راجع ص ١٩٣.

(٤) المائدة : ٤٤.

٣٢١

يكون حاكما بغير ما أنزل الله *.

______________________________________________________

* إنّه ليس للمصنّف مجال في الاعتذار عن اختلاف العلماء المتقدّمين إلّا سبب التقيّة ، ونسب ذلك أيضا بغير الواقع إلى رئيس الطائفة رحمه‌الله والحال أنّا سابقا نقلنا كلامه رحمه‌الله في العدّة وأنّه جعل الاختلاف الّذي حصل دليلا على اتّفاقهم على العمل بخبر الواحد الموجب للظنّ ، وبسبب ذلك حصل الاختلاف ، وأنّه لو كانت تلك الأخبار كلّها صحيحة ثابتة بالتواتر والقرائن المفيدة للعلم لما حصل اختلاف ، وقد أشرنا إلى أنّ التقيّة لا يجوّزها العقل إلّا في أماكن نادرة ، كما إذا كان السائل عامّي المذهب ويحتاج إلى اتّقائه ، أو السائل غيره ولكن كان في المجلس أو من يسمع من يتّقى منه ، حتّى لو كان حينئذ السائل من الشيعة أو السامع لزم على الإمام عليه‌السلام من باب الرحمة واحتمال الوقوع في خلاف الحقّ والإغراء بالجهل أن ينبّهه على ذلك بكلّ ما أمكن. ولو وقع مثل هذا من واحد منّا لما حسن منه من غير تنبيه ، فكيف من مثل الأئمّة عليهم‌السلام؟ وكيف يليق بعاقل أن ينسب إلى الأئمّة عليهم‌السلام أمرهم لأجلّاء أصحابهم بتدوين أحاديث المذهب مع أحاديث العامّة في أصل واحد؟ ليكون ذلك سببا للإغراء بارتكاب غير الحقّ والعمل به ، لخفائه عن المكلّفين حيث لم يقع التمييز بينهما في تلك الاصول. ولا مجال لأن يكون سببه التقيّة ، لأنّها لا تحصل بذلك مع إثبات الجهتين ووضوح التضادّ والتخالف بينهما.

وكذلك القول في أصحابهم إذا كان تدوينهم الاصول من أنفسهم بغير أمر الأئمّة أو علمهم عليهم‌السلام لأنّهم من الأجلّاء وإذا كان لهم طريق سليم من الاشتباه وإيقاع الغير في الخطأ فلا يجوز لهم ارتكاب ما يخالف ذلك ، فعلم أنّ الاختلاف إنّما نشأ من اشتباه الصحيح والضعيف واختلاف المذاهب واندراس الاصول الصحيحة الّتي عرضت عليهم عليهم‌السلام كما حصل في الإخبار عن النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ من كثرة الكذب فيها في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله فضلا عمّا وقع بعد مماته ، والحال واحد ولم يجئ في الآثار عنهم عليهم امتناع ذلك في أحاديثهم ، بل ورد عنهم ما يصرّح بوقوع ذلك من قول الصادق عليه‌السلام : « إنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه » (١) فالحمل على ذلك أنسب من الحمل على التقيّة ؛ على أنّه ليس في كلّ خلاف يناسب المقام فيه الحمل على التقيّة. والمصنّف معذور في التجائه إلى هذه الحجّة الواهية لترويج دعواه.

وأمّا ما استدلّ به المصنّف من ضمان الحاكم ومن الحكم بغير ما أنزل الله ، فهو مخصوص

__________________

(١) الكشّي : ٣٠٥ ، الرقم ٥٤٩.

٣٢٢

وأقول : يمكن أن يقال : الجماعة الّتي وقع منهم القسم الثاني من الاختلاف ـ وهم جماعة قليلة نشئوا في زمن الغيبة الكبرى ، أوّلهم : الأقدمان ابن الجنيد وابن أبي عقيل فيما أظنّ ، ثمّ بعدهما نسج على منوالهما الشيخ المفيد ثمّ ابن إدريس الحلّي ، ثم العلّامة الحلّي ، ثمّ من وافقه من المتأخّرين ـ معذورون من جهة غفلتهم عن أنّ سلوك طريقة الاستنباطات الظنّية مناقض لما هو من ضروريات مذهبنا من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما جاء في كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة بحكم وخطاب قطعي وقد أودع كلّ ما جاء به عند الأئمّة عليهم‌السلام أمر الناس بسؤالهم في كلّ ما لا يعلمون والردّ إليهم والتمسّك بكلامهم عليهم‌السلام * وهم عليهم‌السلام مهّدوا اصولا لرجوع الشيعة إليها ، لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى.

______________________________________________________

بالّذي يجترئ على الحكم من رأيه من غير دليل مأذون من أصحاب الشرع في اتّباعه والتعويل عليه. وإذا سلّمنا أنّ لله تعالى في كلّ مسألة حكما واحدا لا يختلف ـ كما هو قول بعضهم ـ واجتهدنا غاية الاجتهاد فلم نحصل العلم بذلك كان ذلك الظنّ بعد الاجتهاد كما أفاده كلام المحقّق رحمه‌الله.

* سلّمنا أنّ الاختلاف نشأ من ابن الجنيد وابن أبي عقيل ، والاختلاف الّذي نشأ في زمان الأئمّة والمذاهب الّتي اختلفت والأحاديث الّتي وردت عنهم عليهم‌السلام من المدح والقدح معا في حقّ أجلّاء أصحابهم وغيرهم ممّا لا يحتمل التقيّة في أغلبها من أيّ سبب نشأ؟ وقد قدّمنا ما ورد عنهم عليهم‌السلام من شكاية بعض أصحابهم للصادق عليه‌السلام ممّا يقع بين أصحابه من الاختلاف ، فوافقه على ذلك وذمّهم على ما أوجب لهم هذا الاختلاف ، فكيف يدّعي المصنّف حدوث الاختلاف وينسب العلماء الأجلّاء المتقدّمين والمتأخّرين إلى الغفلة وتقليد المتأخّرين للأوّلين في ذلك حيث نسجوا على منوالهم؟ مع أنّ ذلك غير جائز لهم. هذا مع اتّساع علومهم واطّلاعهم وقربهم من زمن الأئمّة عليهم‌السلام بحيث لو تعمّر المصنّف أضعاف أعمارهم ما اطّلع ولا وصل إلى قليل ممّا عرفوه وأدركوه وتنبّهوا إليه. ومن أين علم المصنّف أنّ طريق الاستنباطات الظنّية الّتي قد صار الإجماع والاتّفاق عليها من المؤالف والمخالف مناقض لما هو من ضروريّات مذهبنا؟ بعد ما تبيّن عدم إمكان العلم في جميع المسائل والأحكام وجواز خفاء بعض أدلّة المسائل وإمكان عدم وصوله إلينا بطريق القطع والعلم ، وذلك لا ينافي وجودها في نفسها ولا يستلزمه.

٣٢٣

ومن القسم الثاني من الاختلاف (١) ذهاب شيخنا المفيد ـ قدّس الله سرّه ـ إلى جواز التمسّك بالاستصحاب في نفس أحكامه تعالى وفي نفيها ، وقد مرّ توضيحه في مسألة من دخل في الصلاة بتيمّم لفقد الماء ثمّ وجد الماء في أثنائها (٢) وذهابه إلى أنّه من دخل في الصلاة بتيمّم ثمّ سبقه الحدث فأصاب ماء يتوضّأ ويبني ، بخلاف من دخل الصلاة بوضوء وسبقه الحدث فإنّه يتوضّأ ويستأنف الصلاة (٣) مع أنّه تواترت الأخبار بأنّ الحدث في أثناء الصلاة ينقضها (٤) والباعث له على ذلك أنّه كان في بعض الأحاديث لفظ « أحدث » فسبق ذهنه إلى حمله على وقوع الحدث من المصلّي وغفل عن احتمال أن يكون المراد مطر السماء ، بل هذا الاحتمال أظهر لفظا ومعنى ، كما حقّقناه في بعض كتبنا.

والسبب الّذي ذكره صاحب المعالم في صيرورة كثير من أحاديث أصحابنا مضمرا في تأليفات المتأخّرين بعد كونه غير مضمر في اصول قدمائنا من أنّه كانت عادة قدمائنا ذكر اسم الإمام المنقول عنه الحديث في أوّل الباب ثمّ ذكر الضمائر الراجعة إليه في سائر الأبواب ، فلمّا نقل المتأخّرون تلك الأحاديث إلى تأليفاتهم وغيّروا ترتيب الأحاديث والتزموا أن لا يتصرّفوا في عبارات القدماء أتوا بتلك

______________________________________________________

والوجدان أبين شاهد بذلك ، لأنّ المصنّف لم يصل إليه من الحديث غير الكتب المشهورة وقد وصلت إلينا ، وهي المعتمدة عنده المقطوع بصحّتها ، فما وجدنا فيها الدلالة على كلّ فرع ومسألة من فروع التكليف ، بل أغلب المسائل قد وقع فيها الاشتباه والحيرة بسبب عدم وجود حديث صحيح يدلّ على حكمها ، فأين تلك الأحاديث الّتي جاءت لاحتياج الامّة بحكم وخطاب قطعيّ في كلّ واقعة ولم تظهر عند الحاجة إليها؟ ولو كان خفاؤها لا يجوز في الحكمة لوجب ظهورها لكلّ محتاج ظهور الشمس من غير سؤال عنها. فعلم أنّ الشريعة لا يتوقّف على ذلك كما هو بحمد الله دين الحقّ واضح وشريعته لأهله من زمن الأئمّة عليهم‌السلام إلى ظهور القائم عليه‌السلام إن شاء الله تعالى ثابتة ، ولا يحتاج إلى استدراك ولا تجديد ، كما يدّعيه خيالات المصنّف وتصوّراته الواهية.

__________________

(١) وهو أن يكون سببه الاستنباطات الظنّية ، لا اختلاف الروايات.

(٢) مرّ في ص ٢٨٤.

(٣) المقنعة : ٦١.

(٤) راجع الوسائل ٤ : ١٢٤٠ باب بطلان الصّلاة بحصول شي‌ء من نواقض الطهارة في اثنائها.

٣٢٤

الضمائر من غير سبق مرجعها ، فصارت تلك الأحاديث مضمرة ، جار (١) في هذا الحديث وأشباهه.

هذا كلّه بعد التنزّل عن حمله على التقيّة. والصواب حمله على التقية ، لأنّ أبا حنيفة ذهب إلى ذلك (٢) لكن ما خصّص الحكم بالمتيمّم.

وذهابه (٣) إلى أنّ ماء الأواني ولو كان كرّا ينجس بمجرّد ملاقاة النجاسة.

وذهاب ابن الجنيد إلى جواز العمل بالقياس ثمّ رجع عنه (٤).

وذهاب ابن أبي عقيل إلى عدم انفعال الماء القليل بورود النجاسة عليه (٥).

السؤال الرابع

أن يقال : كيف عمل الأخباريّين في فعل وجوديّ يحتمل أن يكون حراما في الشريعة ظهرت فيه شبهة الحرمة ـ كحديث ضعيف ـ أو لم تظهر؟

وجوابه :

أنّ مقتضى قواعدهم وجوب التوقّف ، ومصداق التوقّف ترك كلّ فعل وجوديّ لم نقطع بجوازه ، فيجب ترك ذلك الفعل وترك تفسيق فاعله وإنّما قلنا : هذا مقتضى قواعدهم ، لأنّه يستفاد :

من الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في ثلاثة (٦).

ومن الأحاديث المشتملة على وجوب التوقّف والتثبّت في كلّ واقعة لم نعلم حكمها (٧).

ومن الحديث الّذي أخذه محمّد بن إدريس الحلّي عن أصل حسن بن محبوب وذكره في آخر السرائر ، وذكره الإمام ثقة الإسلام في باب الكتمان ، حيث قال محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن أبي عبيدة الحذّاء قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ

__________________

(١) خبر لقوله : والسبب الّذي ذكره صاحب المعالم ....

(٢) راجع البدائع الصنائع ١ : ٢٢٠ ، س ١٧.

(٣) أي ذهاب المفيد قدس‌سره.

(٤) لم نظفر بمأخذه.

(٥) راجع المختلف ١ : ١٧٦.

(٦) معاني الأخبار : ١٩٦.

(٧) الوسائل ١٨ : ٣٧ ح ٣٨ نقلا من تفسير النعماني.

٣٢٥

أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا ، وإنّ أسوأهم عندي حالا وأمقتهم الّذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنّا فلم يعقله اشمأزّ منه وجحده وكفّر من دان به ، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا اسند ، فيكون بذلك خارجا من ولايتنا (١).

ومن الحديث الّذي ذكره الشيخ السعيد قطب الدين الراوندي قدس‌سره في الرسالة الّتي صنّفها لإثبات صحّة أحاديث أصحابنا ، حيث قال : قال الصادق عليه‌السلام : لا تكذّبوا بحديث أتى به مرجئي ولا قدري ولا خارجي فنسبه إلينا ، فإنّكم لا تدرون لعلّه شي‌ء من الحقّ فتكذبوا الله (٢).

وأقول : قد جرت بيني وبين جمع من المنسوبين إلى العلم هذه الحكاية بعينها ، فرأيتهم كلّما رويت عندهم حديثا من أحاديث أئمّتنا ولم يجدوه موافقا لما في كتب من يقول بالاجتهادات الظنّية من متأخّري أصحابنا غضبوا وقدحوا فيه وفيمن يرويه ومن يعمل به. وأسأل الله العفو والعافية *.

لا يقال : مقتضى ما ذكره محمّد بن عليّ بن بابويه في مبحث القنوت من كتاب من لا يحضره الفقيه واستدلّ به على جواز القنوت بغير العربي ، حيث ذكر قال

______________________________________________________

* العذر لهم في الغضب عند ذلك واضح ، بل ربما واجب ، لأنّ الأمر المخالف لما اتّفقت عليه الامّة بل الامم خارج عن طور العقل ، فكيف يعوّل عليه؟ وأيضا فإنّا قد بيّنّا أنّ الحديث نظير القرآن فكما وقع في القرآن ما لا يمكن حمله على ظاهره ولا بدّ فيه من التأويل بالاتّفاق كذلك الحديث. والمصنّف يحمل الحديث على ظاهره حيث كان ولا يتوقّف في إيراد الحديث على ما يتوهّم موافقته لمطلوبه على صحّته أو ضعفه ، بل أكثر ما يورده من الضعيف ، فإذا أورد حديثا وكان ما ينافيه في كتب المجتهدين أرجح في العمل والدلالة كيف لا يغضب السامع له عند اعتقاد ترجيح المرجوح على الراجح ويقدح فيه وفي المرجّح له والعامل به؟ وظاهر كلام المصنّف أنّ ذلك لمجرّد الهوى والعصبيّة ، ونعوذ بالله! أن ينسب أحد أهل العلم والفضل والصلاح إلى هذه النسبة المخرجة عن العدالة ، بل ربما عن الدين. وجرأة المصنّف على الإقدام في حقّ العلماء بمثل هذه القبائح مع ادّعاء التقوى والخوف من الله غريب وعجيب!

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٩١ ، الكافي ٢ : ٢٢٣ ح ٧.

(٢) لا يتوفّر لدينا كتابه ، نقله في البحار ٢ : ١٨٧ ، ح ١٦.

٣٢٦

الصادق عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (١) إباحة كلّ شي‌ء (٢) ما لم يبلغنا فيه نهي.

ومن المعلوم : أنّ المراد نهي يكون اتّباعه واجبا ، والمفروض فيما نحن بصدده عدم بلوغ ذلك النهي.

لأنّا نقول : النهي قسمان : نهي خاصّ ونهي عامّ ، والنهي العامّ قد بلغنا ، إذ علمنا من الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في ثلاثة ومن نظائره وجوب التوقّف علينا في كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا عندنا ، معلّلا بأنّ الشريعة قد كملت ولم تبق واقعة خالية من حكم وارد من الله تعالى ، ومعلّلا بالحذر عن ارتكاب المحرّمات والوقوع في الهلكات من غير علم *.

وبهذا الجواب يندفع ما يتّجه أن يقال : ذكر شيخنا الصدوق في كتاب التوحيد في باب الاستطاعة : حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار رضى الله عنه قال : حدّثنا سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون وما اضطرّوا إليه والحسد والطيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة (٣).

وذكر في باب التعريف والحجّة والبيان : حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى

______________________________________________________

* مقتضى كلام المصنّف أنّ الصادق عليه‌السلام غفل عن هذا المعنى الّذي تفطّن إليه المصنّف! حتّى أطلق عليه‌السلام القول بأنّ « كلّ شي‌ء مطلق حتّى يرد فيه نهي » بل كان ينبغي له عليه‌السلام أن يأمر بالتفحّص والتوقّف ، لكون ذلك الحكم لا يجوز أن يكون مغفولا عنه من الشارع وأنّ الوصول إليه ممكن وكلامه عليه‌السلام في هذا المكان وغيره من إطلاقاته عليه‌السلام مفاده : أنّ كلّ حكم لم يصل إلينا به تكليف فتكليفه مرفوع عنّا ، وهذا هو عين دليله من الله سبحانه وتعالى. وأيّ دليل أوضح من هذا وأظهر؟ لأنّ مقتضاه عدم انتظارنا في ذلك الحكم شيئا آخر يوجب التوقّف فيه ، وذلك لا يوجب نقصان الشريعة بل هو من أكمل متمّماتها ، لأنّ مفاده قاعدة كلّية نفعها عامّ.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣١٦ ، ح ٩٣٧.

(٢) خ : كلّ فعل.

(٣) التوحيد : ٣٤٤ ، ح ٢٤.

٣٢٧

العطّار رضى الله عنه عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن ابن فضّال ، عن داود بن فرقد ، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (١).

حدّثنا أبي رضى الله عنه قال حدّثنا سعد بن عبد الله عن القاسم بن محمّد الأصبهاني ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث النخعي القاضي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من عمل بما علم كفي ما لم يعلم (٢).

ومقتضى هذه الأحاديث الشريفة أيضا أن لا يتعلّق بنا تكليف ما لم يبلغنا الخطاب الدالّ عليه.

وجه الاندفاع : أنّ الخطاب العامّ الدالّ على وجوب ترك كلّ فعل وجوديّ لم نقطع بجوازه بلغنا ، وهو الحديث المشتمل على حصر الامور في اليقين وفي الشبهة ، وعلى وجوب ترك ما ليس بيقينيّ جوازه ، والأحاديث المشتملة على وجوب التوقّف في كلّ واقعة لم نعلم حكمها بعينه *.

لا يقال : يلزم من الحديث الّذي ذكره ابن بابويه بطلان الحسن والقبح الذاتيّين ، كما ذهب إليه جمهور الأشاعرة حيث قالوا : لو عكس الله تعالى وجعل الكفر واجبا وخلافه حراما لما كان قبيحا ولا محالا ذاتيا.

لأنّا نقول : هنا مسألتان : إحداهما : الحسن والقبح الذاتيان.

والاخرى : الوجوب والحرمة الذاتيان.

والّذي يلزم من ذلك بطلان الثانية لا بطلان الاولى ، وبين المسألتين بون بعيد.

ألا ترى أنّ كثيرا من القبائح العقليّة ليس بحرام في الشريعة ، ونقيضه ليس

______________________________________________________

* هذه الأحاديث واضحة صريحة في نفي ما يدّعيه ، أنطقه الله بها وعرّفه مضمونها ليكون حجّة عليه ، لأنّه ربما لو لم يعلمها كان له حجّة الجهل إن صحّ العذر عنه بها. وما ذكره في وجه الاندفاع مجرّد دعاو على عادته بيّن فسادها وعدم ثبوتها. وما أشار إليه من الأحاديث إن صحّ وصحّت فلا بدّ من حملها على وجه لا تنافي هذه الأحاديث المعتبرة الصريحة في نفي ما يدّعيه.

__________________

(١) التوحيد : ٤٠١ ، ح ٩.

(٢) التوحيد : ٤٠٥ ، ح ١٧.

٣٢٨

بواجب في الشريعة؟ ومعنى القبيح العقلي : ما ينفر الحكيم عنه وينسب فاعله إلى السفه ، على ما ذكره المحقّق الطوسي في بعض تصانيفه *.

وقد سنح لي شيئان يؤيّدان معنى (١) هذا الحديث الشريف :

أحدهما : نقليّ وهو قول الصادق عليه‌السلام : إنّ من قولنا : إنّ الله يحتجّ على العباد بما اتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى (٢).

وجه التأييد أنّ هذا الحديث الشريف يدلّ على أنّه لم يتعلّق بأحد تكليف إلّا بعد بلوغ الخطاب إليه. وأمّا قوله عليه‌السلام : « بما أتاهم وعرّفهم » فيحتمل أن يكون إشارة إلى ما تواترت به الأخبار عنهم عليهم‌السلام : من أنّه أخذ الإقرار بالربوبيّة من الأرواح في

______________________________________________________

* الحديث الّذي أشار إليه حديث القنوت. والاعتراض الّذي عليه وأشار إليه المصنّف تقريره : إنّ الحديث أفاد إباحة كلّ شي‌ء لم يبلغ المكلّفين فيه نهي ، وذلك تقتضي إباحة القبيح الّذي لم يرد فيه نهي بخصوصه. وهذا معنى بطلان الحسن والقبح الذاتي.

وجواب المصنّف عن ذلك غير متّجه ، لأنّ المقرّر أنّ العقل لم يجوّز ورود الشرع بما يقطع العقل ويقضي بقبحه ، ولهذا الدليل النقلي لا يعارض العقلي. وورود الشرع بما يوافق العقل في الأحكام الّتي يقضي العقل بحسنها ويقطع ويجزم بذلك يكون الشرع معاضدا لها أو كاشفا عن حكم العقل. وكذلك الكلام فيما يقضي العقل بقبحها. والّذي ليس للعقل فيه دلالة على حسنه أو قبحه يرجع حسنه وقبحه إلى أمر الشارع ونهيه ، والعقل لا يعارض ذلك ، لجواز حكمة خفيّة لا يطلع عليها العقل توجب الحسن أو القبح.

إذا تقرّر ذلك علم أنّ القبيح لا شكّ أنّ العقل مانع منه ومبطل لدليل جوازه لو فرض وروده من جهة الشرع ، فكيف يلزم الحكم بإباحته إذا لم يرد فيه بالخصوص نهي من الشرع؟ فظهر أنّ المفهوم من الحديث إباحة ما لم يقض العقل بقبحه بطريق القطع ، وذلك لا يبطل الحسن والقبح الذاتيّين.

وقول المصنّف : إنّ كثيرا من القبائح العقليّة ليس بحرام في الشريعة غير مسلّم ولا جائز اعتقاده. نعم ما لم يجزم العقل بقبحه ويحتمل له وجه محسّن لا معارضة للعقل فيه ، ويقضي بحسنه عند ورود الشرع به ، إذ لا مانع له من ذلك.

__________________

(١) خ : مضمون.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤ ، ح ٤.

٣٢٩

يوم « ألست بربّكم » (١) أو إلى ما يفهم من بعض الروايات : من أنّه إذا أراد الله تعالى تعلّق التكليف بأحد يلهمه بأنّه موجود وبأنّه واحد وبأنّه له رضى وسخط وبدلالات واضحة على ذلك (٢) وبأنّ مقتضى حكمته عزوجل أن يعيّن أحدا لتعليم الناس ما يرضيه وما يسخطه ، ثمّ يبلغه دعوى النبوّة والمعجزة على وفقها وما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الواجبات والمحرّمات ، وحينئذ يتعلّق به التكليف لا قبله. ومن ثمّ وقع التصريح في مواضع من كتاب الكافي ـ منها باب الشكّ (٣) ومنها باب من يعبد الله على حرف (٤) ـ بأنّ بعض من بلغتهم الدعوة أقرّوا بالشهادتين باللسان وشكّوا في نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا في التوحيد ، فإنّه دخلت معرفة التوحيد قلوبهم.

وثانيهما : عقليّ وهو أنّه من المعلوم : أنّ هذه التكاليف الظاهرية الشرعية مشتركة بين من يقدر على الأفكار والأنظار الّتي ذكرتها المعتزلة للخلاص عن شبهة لزوم إفحام الأنبياء عليهم‌السلام وبين من لم يقدر ، فعلم أنّ مناط تعلّق التكاليف كلّها السماع من الشارع ، وعلم عدم استقلال العقل بتعلّق تكليف ، وعلم بطلان مذهب المعتزلة في هذه المسألة ، فمعنى الحديث الّذي ذكره ابن بابويه في مبحث القنوت : أنّه لم يتعلّق تكليف بأحد إلّا بعد بلوغ الخطاب *.

______________________________________________________

* الظاهر من الحديث : أنّ حجّة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على عباده بأنّه أودع في كلّ مكلّف قوّة الإدراك والمعرفة وكمّلها بالعقل ، فلم يبق لمكلّف حجّة في الجهل بوجوده سبحانه وإدراك جلاله وكماله وما يصحّ عليه وما يمتنع. وهذا معنى الحديث بأنّ « كلّ مولود يولد على الفطرة » (٥) وقوّة المعرفة وضعفها منوطة بحسب حال المكلّف. وشاهد ذلك المشهور من دليل العجوز (٦).

وما يعتقده المصنّف ويستدلّ عليه من أنّ الإسلام والإيمان ومعرفة الله ليس في قدرة العبد وإنّما ذلك منحة من الله سبحانه وتعالى ـ ويعترض به على ما حصل عليه الاتّفاق من العلماء : أنّ المعارف الخمس واجبة على كلّ مكلّف وأنّها نظريّة من قدرة العبد ، ولا يجوز له التقليد فيها ،

__________________

(١) راجع الكافي ٢ : الباب ٣ و ٧٠ من أبواب كتاب الإيمان والكفر.

(٢) انظر التوحيد : ٣٩٩ ، ح ٤.

(٣) راجع الكافي ٢ : الباب ٣ و ٧٠ من أبواب كتاب الإيمان والكفر.

(٤) راجع الكافي ٢ : الباب ١٧٧ من أبواب كتاب الإيمان والكفر.

(٥) البحار ٣ : ٢٧٩.

(٦) إشارة إلى ما ورد عنه عليه‌السلام من قوله : « عليكم بدين العجائز » البحار ٦٩ : ١٣٥ و ١٣٦.

٣٣٠

واعلم أنّ مذهب جمهور الأشاعرة جواز الانعكاس. وأمّا مذهب بعضهم ـ كالفاضل المدقّق بدر الدين الزركشي ـ فهو أنّ الحسن والقبح ذاتيان والوجوب والحرمة شرعيان ، وأنّه لا ملازمة بينهما ، فقال في شرح جمع الجوامع :

تنبيهات :

الأوّل : المعتزلة لا ينكرون أنّ الله تعالى هو الشارع للأحكام ، إنّما يقولون : إنّ العقل يدرك أنّ الله تعالى شرّع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها ، فهما عندهم مؤدّيان إلى العلم بالحكم الشرعي ، والحكم الشرعي تابع لهما لا عينهما ، فما كان حسنا جوّزه الشرع وما كان قبيحا منعه ، فصار عند المعتزلة حكمان : أحدهما عقلي ، والآخر شرعي تابع له. فبان أنّهم لا يقولون : إنّه بمعنى العقاب والثواب ليس بشرعي أصلا ، خلافا لما توهّمه عبارة المصنّف وغيره.

الثاني : ما اقتصر عليه المصنّف من حكاية قولهم هو المشهور. وتوسّط قوم

______________________________________________________

وأنّ كلّ إنسان عاقل إذا رجع فكره وتعقّله يحصل له القدر الواجب من ذلك ، وهو أمر يشهد به الوجدان ويمنع ذلك كلّه ـ فساده ظاهر ، لأنّه يلزم على ما اعتقده أن لا يحسن من الله تعالى مؤاخذة من لم يحصل منه هذه المعارف إذا لم يمنحه بها. ولم يتنبّه أنّ الواقع في ظاهر بعض الأحاديث ممّا يخالف المذهب المتّفق عليه كثير في باب الأفعال والآجال والأرزاق والهداية ، وأنّه لا بدّ من تأويلها بما يوافق العقل والحقّ ، كما وقع نظيره في القرآن الشريف. وباب اللطف من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتخصيصه لبعض عباده به لحكمة خفيّة تقرّبه إلى الطاعة لا مساغ لإنكاره ، لكن ليس ذلك هو السبب التامّ في حصول الهداية ولولاه لما أمكن حصولها ، لأنّ الله ـ سبحانه ـ قد مكّن العبد من تحصيلها بدون ذلك. وعلى هذا المعنى تحمل الأحاديث الدالّة بظاهرها على نسبة الهداية والإضلال والأفعال وما شابه ذلك إليه ـ سبحانه وتعالى ـ حتّى لا يلزم صحّة قول المجبّرة المعلوم البطلان.

وأمّا الأحكام الشرعيّة التكليفيّة فالمعلوم رجوعها إلى الشارع ، وقد علمنا منهم عليهم‌السلام بالنصّ : أنّ كلّ ما يصل إلينا التكليف به تعيّن ، وما لم يصل فهو موضوع عنّا ، وأنّ كلّ ما لم يرد فيه نهي فهو مباح ، ووضعه عنّا وإباحته كلاهما من الأدلّة الشرعيّة المستفادة من النصّ. والمصنّف يمنع ذلك من غير دليل.

٣٣١

فقالوا : قبحها ثابت بالعقل والعقاب يتوقّف على الشرع ، وهو الّذي ذكره أسعد بن عليّ الزنجاني من أصحابنا وأبو الخطّاب من الحنابلة وذكره الحنفيّة وحكوه عن ابي حنيفة نصّا ، وهو المنصور ، لقوّته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتناقض.

فهاهنا أمران : أحدهما : ادراك العقل حسن الأشياء وقبحها. والثاني : أنّ ذلك كاف في الثواب والعقاب وإن لم يرد شرع ، ولا ملازمة بين الأمرين بدليل ( أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ ) أي بقبح فعلهم ( وَأَهْلُها غافِلُونَ ) أي لم يأتهم الرسل والشرائع ، ومثله ( لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) أي من القبائح فيقولوا ( رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ) (١) انتهى كلام الفاضل الزركشي.

السؤال الخامس

أن يقال : كيف عملكم معشر الأخباريّين في حديث ضعيف يدلّ على وجوب فعل وجوديّ؟

وجوابه أن يقال :

نوجب التوقّف (٢) عن تعيين أحد المحتملات ، ومصداقه في هذه المباحث أن لا يقع منه فعل أو قول أو ترك مبنيّ على القطع بأحد المحتملات بعينه ، ويجوز له أن يأتي بفعل أو قول أو ترك يجامع جميع المحتملات أو يجامع حال التردّد والشكّ فيها ، فإذا دار الفعل بين الوجوب والحرمة يجب عليه تركه ما دام كذلك ، وإذا دار بين الوجوب والندب والكراهة فله فعله بنيّة مطلقة وله تركه * ، ويجب السؤال والتفتيش عن الحكم ونحن معذورون ما دمنا ساعين (٣).

______________________________________________________

* بل الأولى في الجواب أن يقال : بعد العلم بضعف الحديث إن حصل معه مؤيّد ومرجّح عملنا به ، وإلّا رددناه بنصّ الكتاب الدالّ على عدم قبوله إذا علمنا عدم عدالة راويه. والتوقّف إنّما يكون مع تساوي الدليلين الواجب أو الراجح العمل بكلّ واحد منهما إن انفرد. والاحتياط

__________________

(١) شرح جمع الجوامع : لا يوجد لدينا.

(٢) في ط إضافة : بحسب الفتوى.

(٣) ط : مأمورون ساعون.

٣٣٢

ومن الموضحات لذلك قولهم عليهم‌السلام ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (١).

السؤال السادس

كيف عملكم في حديث صحيح يحتمل الوجوب والحرمة كأمر يحتمل التهديد؟

وجوابه أن يقال :

نوجب التوقّف ، ومصداقه هنا الترك كما مرّ. وممّا يوضح هذا المقام ما رواه ثقة الإسلام في كتاب الكافي ، عن كتاب صفوان ، عن معاوية بن عمّار قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة كانت مع قوم فطمثت فأرسلت إليهم فسألتهم؟ فقالوا : ما ندري أعليك إحرام أم لا وأنت حائض ، فتركوها حتّى دخلت الحرم؟ قال : إن كان عليها مهلة فلترجع إلى الوقت فلتحرم منه ، وإن لم يكن عليها وقت فلترجع إلى ما قدرت عليه بعد ما تخرج من الحرم بقدر ما لا يفوتها (٢).

وما رواه عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عن ابن بكير ،

______________________________________________________

بالفعل في موضع لا يحصل للمكلّف ظنّ مشروعيّته إذا أوقعه على وجه العبادة ، فيكون تشريعا ولا تتحقّق في نيّته قصد القربة إذا اكتفينا بها عن نيّة الوجه في مثل الاحتياط وغيره. وما يقع في بعض الأوهام من تسويغ الاحتياط مطلقا بأيّ حال كان من الأوهام الفاسدة ، لأنّ الفعل إذا لم يرد فيه إذن من الشارع ولو بالظنّ يكون فعله على وجه العبادة لا شكّ أنّه تشريع في الدين ولا يجزئ عن الواجب. ومجرّد الاحتمال العقلي لا يسوّغ ذلك.

وممّا يوضحه : أنّ الفعل المكلّف به ، المكلّف لا يخرج من عهدته إلّا إذا أتى به على الوجه المشروع ، ومن أعظم شروطه النيّة ، فإذا وصف بوجوب أو ندب في حال نيّته لا بدّ أن يكون جازما أو ظانّا أحدهما حتّى يصدق الوصف. وكذلك إذا اكتفينا بنيّة القربة لا بدّ أن يرجّح كون الفعل مأذونا فيه من الشارع ومأمورا به حتّى يمكن فيه قصد القربة بوجه. ولا يخرج ذلك الفعل عن كونه تشريعا محرّما فكيف يكون مجزئا ويحصل به الاحتياط المبرئ للذمّة؟ ولو فرضنا أنّه كان مطابقا للواقع في نفس الأمر ، لأنّه وقع على غير الوجه المشروع في ظاهر الشرع. والله أعلم.

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ٤٠١ ، ح ٩.

(٢) الكافي ٤ : ٣٢٥ ، ح ١٠.

٣٣٣

عن زرارة ، عن اناس من أصحابنا حجّوا بامرأة معهم فقدموا إلى الوقت وهي لا تصلّي ، فجهلوا أنّ مثلها ينبغي أن تحرم ، فمضوا بها كما هي حتّى قدموا مكّة وهي طامث حلال ، فسألوا الناس ، فقالوا : تخرج إلى بعض المواقيت فتحرم منه وكانت إذا فعلت لم تدرك الحجّ ، فسألوا أبا جعفر عليه‌السلام فقال : تحرم من مكانها قد علم الله نيّتها (١).

وجه التوضيح : أنّها تركت فعلا واجبا في الواقع لاحتمال حرمته عندها والإمام عليه‌السلام قرّرها على ذلك ولم ينكر عليها ، بل استحسن نيّتها بقوله عليه‌السلام : قد علم الله نيّتها.

السؤال السابع

أن يقال : كيف عملكم في حديث صحيح يحتمل الحرمة والكراهة؟

وجوابه :

أنّا نوجب التوقّف. وقد مرّ بيان مصداقه.

السؤال الثامن

أن يقال : كيف عملكم في حديث صحيح يحتمل الوجوب والندب؟

وجوابه أن يقال :

نوجب التوقّف عن تعيين أحد الاحتمالين ، ثمّ نقول : إن كان ظاهره الوجوب يجب فعله بنيّة مطلقة احتياطا ، وكذلك مع تساوي الاحتمالين ، وإن كان ظاهره الندب وباطنه الوجوب فوجوبه موضوع عنّا.

وبعد ما أحطت خبرا :

بالأحاديث الناطقة بوجوب التوقّف والتثبت في كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا واضحا.

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث المتواتر بين الفريقين : إنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وشبهات بين ذلك. والوقوف عند الشبهات خير من

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٢٤ ، ح ٥.

٣٣٤

الاقتحام في الهلكات ، ومن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (١).

وبقول الكاظم عليه‌السلام في صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، حيث قال ، فقلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا (٢).

وبما روى الفريقان عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ومن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه (٣).

وبقول الكاظم عليه‌السلام في مكاتبة عبد الله بن صباح : أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك (٤).

وبقولهم عليهم‌السلام : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (٥).

سهل عليك (٦) الجواب عن هذه الأسئلة.

وهنا فائدتان :

الاولى : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حصر الامور في ثلاثة : إحداها بيّن رشدها ، وثانيها بين غيّها ، وثالثها ما ليس هذا ولا ذاك وسمّاها شبهة ، فعلم من ذلك أنّ كلّ ما ليس بيقينيّ حتّى الظنّي شبهة.

الفائدة الثانية : أنّه في كلامهم عليهم‌السلام وقع إطلاق الجاهل على غير القاطع بالحكم سواء كان شاكّا أو ظانّا ، والجاهل بهذا المعنى يجب عليه التوقّف. ووقع إطلاقه على الغافل الذاهل ذهنه عن تصوّر المسألة. والجاهل بالمعنى الأخير لا يجب عليه الاحتياط ، وإلّا لزم تكليف الغافل.

وقد وردت في هذا المعنى صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه‌السلام

__________________

(١) نقله في البحار ٢ : ٢٢١ عن الاحتجاج.

(٢) الكافي ٤ : ٣٩١ ، ذيل الحديث ١.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٤ ، ح ٤٠ و ٤١ ، السنن الكبرى ٥ : ٣٣٥.

(٤) التهذيب : ٢ : ٢٥٩ ، ح ٦٨ ، وفيه : عبد الله بن وضّاح.

(٥) التوحيد للصدوق : ٤٠١ ، ح ٩.

(٦) متعلّق بقوله : وبعد ما أحطت خبرا.

٣٣٥

قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممّن لا تحلّ له أبدا؟ فقال : لا ، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. فقلت : بأيّ الجهالتين أعذر بجهالته أن يعلم أنّ ذلك محرّم عليه أم بجهالته أنّها في عدّة؟ فقال : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأنّ الله حرّم عليه ذلك ، وذلك لأنّه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت : هو في الاخرى معذور؟ قال : نعم إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها. فقلت : وإن كان أحدهما متعمّدا والآخر بجهالة؟ فقال : الّذي تعمّد لا يحلّ له أن يرجع إلى صاحبه أبدا (١).

وإنّما قلنا : إنّ المراد بالجاهل في هذه الصحيحة الغافل لا الظانّ والمتردّد ، لأنّهما يقدران على الاحتياط ، دون الغافل.

السؤال التاسع

أن يقال : كيف عملكم معاشر الأخباريّين في الظواهر القرآنية مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) وقوله تعالى : ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) (٣) وقوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (٤) وفي ظواهر السنن النبوية مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (٥)؟

وجوابه أن يقال :

نحن نوجب الفحص عن أحوالهما بالرجوع إلى كلام العترة الطاهرة عليهم‌السلام فإذا ظفرنا بالمقصود وعلمنا حقيقة الحال عملنا بهما ، وإلّا أوجبنا التوقّف والتثبّت ، ولا نجوّز التمسّك بما تمسّكت به العامّة : من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يخصّ أحدا بتعليم كلّ ما جاء به وبتعليم تفسير القرآن وما جاء به من نسخ أو قيد أو تأويل أو تخصيص بل أظهر كلّ ما جاء به عند أصحابه وتوفّرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله فتنة أوجبت

__________________

(١) الاستبصار ٣ : ١٨٦ ، ح ٣.

(٢) المائدة : ١.

(٣) النساء : ٤٣ ، المائدة : ٦.

(٤) المائدة : ٦.

(٥) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٠ ، ح ٩٣.

٣٣٦

إخفاء بعضه ، ومن أنّه لو لا ذلك لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وللزم الاغراء بالجهل ، وذلك لما علم من المذهب ضرورة : من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أودع كلّ ما جاء به عند العترة الطاهرة عليهم‌السلام وأمر الناس بسؤالهم والردّ ـ أي الرجوع ـ إليهم ، وأيّ بيان أقوى من ذلك؟ *

______________________________________________________

* إنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنزل القرآن هدى للناس وتبيانا لكلّ شي‌ء ، فما اختصّ به أمّة دون أمّة ولا حجب فيه علم التكليف عن الناس بعد قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) غاية الأمر أنّ فيه محكما ومتشابها ومجملا ومفصّلا وناسخا ومنسوخا ، ولا يجوز أن يخاطب الله بما لا يفهم من التكاليف العامّة المحتاج إلى علمها وبيانها ، فإذا ورد في القرآن لفظ ظاهر المعنى لا يختلف العرب في فهمه وجب حمله على ذلك المعنى وأنّه هو المراد منه ، وإلّا لزم الاغراء بالجهل وكان مخالفا لقوله : ( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) وقوله : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ) وقوله : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) ونحو ذلك ، فلو لم يفهمه أهل اللسان انتفت فائدة التخصيص. وقد علمنا أنّ في القرآن أسرارا غير ظاهرة لكلّ أحد ، وليس ذلك مخلّا بالتكليف ، وامرنا عند اشتباهها بسؤال أهل الذكر عنها. ولا بدّ في الحكمة من وجود القيّم بذلك ، ففي حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أصلها ويجب عليه إظهار كلّ ما تتوقّف عليه الشريعة. وبعده عليه‌السلام ليس كلّ لفظ وكلّ حكم في القرآن لا يعرف معناه ولا حكمه إلّا بالنصّ عن الأئمّة عليهم‌السلام ولو كان القرآن لا يمكن فهمه لكلّ أحد لم يأمر الله سبحانه بالاستماع له أمرا عامّا ، لعدم الفائدة. ولا يمكن لكلّ سامع الاستفهام عند السمع ولمّا عرف إعجازه ، لأنّ غير المفهوم لا يظهر وجه الاعجاز فيه.

وما ورد في القرآن عن الأئمّة عليهم‌السلام من المعاني الغير الظاهرة عند العامّة فأمور مخصوصة محصورة قابلة للاشتباه واختلاف المعنى ، فلا يلزم من ذلك توقّف غيرها على النصّ منهم عليهم‌السلام.

ولا ريب أنّ الصحابة ما كانوا يتوقّفون في فهم كلّ معنى في جميع معاني ألفاظ القرآن على سؤال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا نقل ذلك أحد ولا حصل اختلاف بين المفسّرين في المعاني الظاهرة. ولمّا أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنين عليه‌السلام بسورة « براءة » ليقرأها على الناس ما فهم من ذلك إلّا أنّ كلّ من سمعها يفهم معناها من غير احتياج في كلّ ما قرأه عليهم إلى تفسيره وعدم فهمهم لو لا ذلك. ولو توقّف فهمهم على تفسيره ربما لم يصدّقوه فتنتفي الفائدة في تلاوتها عليهم من غير فهم المعنى ، وذلك ظاهر ؛ وكذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا كان يتلو ما انزل عليه على الناس حال نزوله. نهاية

٣٣٧

ولنذكر أمثلة لوجوب التوقّف والاحتياط :

منها : إذا وقع النكاح لم نعلم صحّته وفساده يجب على الزوج ترك الاستمتاع بها وترك التزوّج بخامسة وباختها ، ويجب على الزوجة أن لا تمكّنه من نفسها وأن لا تتزوّج بغيره ، ويجب على الزوج أحد الامور الثلاثة : إمّا طلاقها ، وإمّا العقد الجديد ، وإمّا الإنفاق عليها إن رضيت بمجرّد الإنفاق ، وإن طلبت أحد الأمرين الطلاق أو العقد الجديد يجب عليه ، ولو امتنع من ذلك لوجب حبسه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن باب الدفاع. ولو هرب فرارا من أحد الأمرين ولم يتمكن منه فلقائل أن يقول : يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » ومن الحديث الشريف المتضمّن لجواز أن يطلّق الحاكم زوجة مفقود الخبر بعد الاستخبار عنه (١) من باب مفهوم الموافقة المسمّى بالقياس الجليّ والقياس بطريق الأولى جواز أن يطلّقها.

ومنها : إذا وقع بيع بستان لا نعلم صحّته يقوم أحد من باب الحسبة بعمارته ، ولا يجوز للبائع ولا للمشتري التصرّف في ثمرته ويجوز حفظها وبيعها من باب الحسبة إلى أن يظهر الحقّ ، ولو كلّف أحدهما الآخر باختيار أحد الأمرين من الاقالة وتجديد الصيغة الصحيحة يجب على الآخر ذلك.

ولو أبى أو هرب فرارا فقد مضى حكمها.

السؤال العاشر

كيف عملكم معاشر الأخباريّين فيما إذا علمنا اشتغال الذمّة بعبادة وتحيّرنا في

______________________________________________________

الأمر إذا حصل الاشتباه في شي‌ء منه كانوا يراجعونه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسؤال عنه وغيره لا يحتاج إلى ذلك.

فعلم أنّ ظواهر القرآن وعموماته إذا لم يظهر ما ينافيها على اشتهارها عند المخالف والمؤالف في زمان الأئمّة عليهم‌السلام ولم يظهر منهم عليهم‌السلام إنكار لشي‌ء منها ولا مخالفة حكم من أحكامهم لا وجه للتوقّف فيها على وصول نصّ الأئمّة عليهم‌السلام إلينا بعلمها بخصوصها كما يقوله المصنّف. وكذلك الكلام في الحديث المشهور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على حدّ ما ذكرناه في ظواهر القرآن.

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٥٤٧ ، ح ٤٨٨٣.

٣٣٨

وجه الخلاص منها لجهلنا بكيفيّتها؟

وجوابه :

أنّا نوجب التوقّف ، ومصداقه هنا الاحتياط بالجمع بين الفعلين الوجوديّين كما مرّ بيانه ، مثاله : إذا عزم مسافر على إقامة عشرة ثمّ بدا له قبل أن يصلّي صلاة تامّة أو بعدها ولم يقطع بما هو حكم الله ولم يتمكّن من سؤال عالم به ، يجب عليه الاحتياط بأن يجمع بين القصر والإتمام ، لدخوله تحت الأحاديث المتضمّنة وجوب التوقّف والتثبّت ، وتحت القاعدة الشريفة المستفادة من كلام الكاظم عليه‌السلام في صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج المتقدّمة ونظائرها ، ويجب عليه الإمساك عن المفطرات بنيّة الاحتياط ، كما مرّ في مسألة المتحيّر في وجوب صلاة الجمعة عليه أو صلاة الظهر مكانها.

لا يقال : الجمع بين القصر والإتمام غير متلقّى من الشارع ، فيكون بدعة.

لأنّا نقول : في الأحاديث المتضمّنة لوجوب الاحتياط ولوجوب التوقّف في كلّ واقعة لم نعلم حكمها بعينه إذن وتصريح بوجوب الجمع ، ولا استبعاد في ذلك بل له نظائر في الشريعة :

من جملتها : من فاتته صلاة لا يعلمها بعينها.

ومن جملتها : من يريد الصلاة في الثوبين المشتبهين *.

______________________________________________________

* وجه الاحتياط فيما يعلم بفعله براءة الذمّة من الأمر الّذي قد علم تكليف المكلّف به واضح ، لأنّه أمر ممكن ولا مشقّة فيه ، هذا مع تساوي الاحتمالات.

ولو ترجّح بعضها بحيث لم يبق لغيره نوع ترجيح عوّلنا على الراجح واجتزينا به. وليس مثل هذا الاحتياط المأمور به سببا عن عدم جواز التعويل على الظنّ ، بل إنّما هو لأنّ لنا طريقا إلى تحصيل العلم بفعل ما كلّفنا به ، كما في حكم السفر عند اشتباه بلوغ المسافة وعدمه ؛ وكذلك الصلاة في الثوبين المشتبهين والصلاة على وجه يحصل اليقين بأنّه أدى الفريضة المجهولة من جملتها ؛ وكذلك المتحيّر في جهة القبلة ، وأمثال ذلك كلّه ظاهر. وجعل المصنّف حكم وطء الزوجة المشتبهة مخالفا لما هو بصدده لا وجه له ، لأنّ الاحتياط جار فيه ، غاية الأمر أنّ في غيره بالفعل وفيه بالترك.

٣٣٩

ومن جملتها : المتحيّر في تعيين جهة القبلة.

بخلاف ما إذا وجب على رجل وطء امرأته واشتبهت بأجنبية ، فإنّه وجب عليه الترك ، لأنّ وطء الأجنبيّة محرّم مطلقا. بخلاف الجمع بين القصر والإتمام فإنّه محرّم عند العلم بوجوب إحداهما بعينها ، لا مطلقا.

السؤال الحادي عشر

كيف عملكم معاشر الأخباريّين فيما إذا كانت الحيرة في غير أحكام الله تعالى؟

______________________________________________________

وأمّا ما أجاب به في مشروعيّة الاحتياط فغير واف بدفع محذور التشريع ، وقد قدّمنا أنّ الاحتياط لا يشرع عند ترجّح الحكم وظهور أدلّته بحيث لا يبقى لمخالفه إلّا الاحتمال الضعيف الّذي لا يمكن معه تخيّل الإذن فيه من الشارع عند نيّته ليكون عبادة. وممّا ينبّه على ذلك أنّ احتمال آخر يوم من شعبان أن يكون من رمضان لا مانع منه بحسب الإمكان ، ولا يجوز الاحتياط فيه بالصوم بنيّة أنّه من رمضان ، لأنّه تشريع محرّم.

وعدّ المصنّف مسألة المسافر بعد نيّة الإقامة وصلاة فريضة من جملة مسائل الحيرة والتوقّف غريب! لأنّ المحقّق ـ قدّس الله روحه ـ قال في شرائعه في بحث المسافر : ولو نوى الإقامة ثمّ بدا له رجع إلى التقصير ، ولو صلّى صلاة واحدة بنيّة الإتمام لم يرجع. وقال الشارح أخي السيّد ـ قدّس الله روحه ـ في المدارك عند شرحه لهذه المسألة : هذا الحكم ثابت بإجماعنا ، والأصل فيه ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي ولّاد الحنّاط قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم بها عشرة أيّام فاتمّ الصلاة ثمّ بدا لي بعد أن لا اقيم بها فما ترى لي اتم أم اقصّر؟ فقال : إن كنت دخلت المدينة وصلّيت بها صلاة فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصّر حتّى تخرج منها ، وإن كنت حين دخلتها على نيتك المقام فلم تصلّ فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتّى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار إن شئت فانو المقام عشرا وأتمّ ، وإن لم تنو المقام فقصّر ما بينك وبين شهر ، فإذا مضى لك شهر فأتمّ الصلاة (١).

وبعد الإجماع والحديث والمصنّف يعتقد أنّ كلّ الأحاديث مقطوع بصحّتها وثبوتها ، فكيف يسوّغ في هذه المسألة التوقّف والاحتياط؟

__________________

(١) مدارك الأحكام ٤ : ٤٦٣ ، الوسائل ٥ : ٥٣٢ ب ١٨ من أبواب صلاة المسافر ، ح ١.

٣٤٠