الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

مهملين ، وليعظّموه ويوحّدوه ويقرّوا له بالربوبية ، وليعلموا أنّه خالقهم ورازقهم ، إذ شواهد ربوبيته دالّة ظاهرة وحججه نيّرة واضحة وأعلامه لائحة ، تدعوهم إلى توحيد الله عزوجل وتشهد على أنفسها لصانعها بالربوبية والإلهية ، لما فيها من آثار صنعه وعجائب تدبيره. فندبهم إلى معرفته لئلّا يبيح لهم أن يجهلوه ويجهلوا دينه وأحكامه ، لأنّ الحكيم لا يبيح الجهل به والإنكار لدينه ، فقال جلّ ثناؤه : ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) (١) وقال : ( بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) (٢) وكانوا محصورين بالأمر والنهي مأمورين بقول الحقّ غير مرخّص لهم في المقام على الجهل ، أمرهم بالسؤال والتفقّه في الدين فقال : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (٣) وقال : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٤).

فلو كان يسع أهل الصحّة والسلامة المقام على الجهل لما أمرهم بالسؤال ، ولم يكن يحتاج إلى بعثة الرسل بالكتب والآداب وكادوا يكونون عند ذلك بمنزلة البهائم ومنزلة أهل الضرر والزمانة ، ولو كانوا كذلك لما بقوا طرفة عين.

فلمّا لم يجز بقاؤهم إلّا بالأدب والتعليم وجب أنّه لا بدّ لكلّ صحيح الخلقة كامل الآلة من مؤدّب ودليل ومشير وآمر وناه وأدب وتعليم وسؤال ومسألة ، فأحقّ ما اقتبسه العاقل والتمسه المتدبّر الفطن وسعى له الموفّق المصيب العلم بالدين ، ومعرفة ما استعبد الله به خلقه من توحيده وشرائعه وأحكامه وأمره ونهيه وزواجره وآدابه.

إذ كانت الحجّة ثابتة والتكليف لازما والعمر يسيرا والتسويف غير مقبول فالشرط من الله جلّ ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة ليكون المؤدّي لها محمودا عند ربّه مستوجبا لثوابه وعظيم جزائه ، لأنّ الّذي يؤدّي بغير علم وبصيرة لا يدري ما يؤدّي ولا يدري إلى من يؤدّي.

وإذا كان جاهلا لم يكن على ثقة ممّا أدّى ولا مصدّقا ، لأنّ المصدّق لا يكون مصدّقا حتّى يكون عارفا بما صدّق به من غير شكّ ولا شبهة ، لأنّ الشاكّ لا يكون

__________________

(١) الأعراف : ١٦٩.

(٢) يونس : ٣٩.

(٣) التوبة : ١٢٢.

(٤) النحل : ٤٣.

٥٢١

له من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرّب مثل ما يكون من العالم المستيقن. وقد قال الله عزوجل : ( إِلّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (١) فصارت الشهادة مقبولة لعلّة العلم بالشهادة ، ولو لا العلم بالشهادة لم تكن الشهادة مقبولة.

والأمر في الشاكّ المؤدّي بغير علم وبصيرة إلى الله جلّ ذكره إن شاء تطوّل عليه فقبل عمله وإن شاء ردّ عليه ، لأنّ الشرط عليه من الله أن يؤدّي المفروض بعلم وبصيرة ويقين كيلا يكونوا ممّن وصفه الله تعالى : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) (٢) لأنّه كان داخلا فيه بغير علم ولا يقين ، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين ، وقد قال العالم عليه‌السلام : « من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه » وقال عليه‌السلام : « من أخذ دينه من كتاب الله وسنّة نبيّه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال » وقال عليه‌السلام : من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكّب الفتن.

ولهذه العلّة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة والمذاهب المستشنعة الّتي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلّها. وذلك بتوفيق الله عزوجل وخذلانه ، فمن أراد الله توفيقه وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرّا سبّب له الأسباب الّتي تؤدّيه إلى أن يأخذ دينه من كتاب الله عزوجل وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلم ويقين وبصيرة فذاك أثبت في دينه من الجبال الرواسي ، ومن أراد الله خذلانه وأن يكون دينه معارا مستودعا ـ نعوذ بالله منه ـ سبّب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل من غير علم وبصيرة ، فذاك في المشيئة إن شاء الله تبارك وتعالى أتمّ إيمانه وإن شاء سلبه إيّاه ، ولا يؤمن عليه أن يصبح مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، لأنّه كلّما رأى كبيرا من الكبراء مال معه ، وكلّما رأى شيئا استحسن ظاهره قبله ، وقد قال العالم عليه‌السلام : إنّ الله عزوجل خلق النبيّين على النبوّة فلا يكونون إلّا أنبياء ،

__________________

(١) الزخرف : ٨٦.

(٢) الحج : ١١.

٥٢٢

وخلق الأوصياء على الوصيّة فلا يكونون إلّا أوصياء ، وأعار قوما إيمانا فإن شاء تمّمه لهم وإن شاء سلبهم إيّاه ، قال : وفيهم جرى قوله : فمستقرّ ومستودع.

وذكرت أنّ امورا قد اشكلت عليك لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها ، وأنّك تعلم أنّ اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها ، وأنّك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممّن تثق بعلمه فيها. وقلت : إنّك تحبّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع [ فيه ] (١) من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام والسنن القائمة الّتي عليها العمل وبها يؤدّى فرض الله عزوجل وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقلت : لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سببا يتدارك الله بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملّتنا ويقبل بهم إلى مراشدهم.

فاعلم يا أخي أرشدك الله! أنّه لا يسع أحدا تمييز شي‌ء ممّا اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم‌السلام برأيه إلّا على ما أطلقه العالم بقوله عليه‌السلام : « اعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه » وقوله عليه‌السلام : « دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم » وقوله عليه‌السلام : « خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه‌السلام : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعكم ».

وقد يسّر الله ـ وله الحمد ـ تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخّيت ، فمهما كان فيه من تقصير فلم تقتصر نيّتنا في إهداء النصيحة ، إذ كانت واجبة لإخواننا وأهل ملّتنا ، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكلّ من اقتبس منه وعمل بما فيه في دهرنا هذا وفي غابره إلى انقضاء الدنيا ، إذ الربّ عزوجل واحد ، والرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيّين واحد ، والشريعة واحدة ، وحلال محمّد حلال وحرامه حرام إلى يوم القيامة (٢) انتهى كلام الإمام ثقة الإسلام نوّر الله مرقده الشريف.

__________________

(١) من المصدر.

(٢) الكافي ١ : ٥ ـ ٩.

٥٢٣

وأنا أقول : هنا فوائد لا بدّ من التنبيه عليها :

الاولى : أنّ كلامه قدس‌سره صريح في أنّه قصد بذلك التأليف إزالة حيرة السائل.

ومن المعلوم : أنّه لو لفّق كتابه هذا ممّا ثبت وروده عن أصحاب العصمة عليهم‌السلام وممّا لم يثبت لزاد السائل حيرة وإشكالا ، فعلم أنّ أحاديث كتابه هذا كلّها صحيحة ، ونحن بعد ما فتّشنا وتتبّعنا الأحاديث الواردة في بيان أنّهم عليهم‌السلام أمروا أصحابهم بتأليف ما يسمعونه منهم وينشرون في إخوانهم نسلا بعد نسل لتعمل بها الشيعة لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى ، وكتاب العدّة لرئيس الطائفة وكتاب الكشّي وكتاب الفهرست وغيرها من الكتب ، قطعنا بأنّ منشأ حكم المؤلّف قدس‌سره بصحّة جميع ما في كتبه أنّه أخذه من الاصول الّتي صنّفها أصحاب العصمة عليهم‌السلام بأمرهم ليكون مرجع الشيعة في عقائدهم وأعمالهم ، ولئلّا يحتاجون إلى العامّة فيهما ، لا سيّما في زمان الهرج وهو زمان الغيبة الكبرى.

وأيضا من المعلوم : أنّه لم يصرّح في هذا الكتاب بضابطة يميز بها بين الصحيح وغير الصحيح ، فلو لم يكن كلّها صحيحا لما قال : « يكتفي به المسترشد » * وأيضا

______________________________________________________

* لا شكّ أنّ كتاب الكليني رضى الله عنه أخباره أغلبها معمول بها من الصحيح والموثّق والحسن ، ويكفي ذلك في وجود ما يعلم منه الحقّ والرشاد من جملتها ، وقد نقلنا سابقا جملة من كلامه في أوّل الكافي ونبّهنا على عدم دلالته على اعتقاد المصنّف ؛ على أنّها لو كانت كلّها صحيحة لكانت غير محتاجة عند الاختلاف إلى العرض على كتاب الله ، وكان ينبغي عند ذكره هذا الحديث أن ينبّه على عدم احتياج ما في كتابه إلى العرض ، لأنّ ذلك إنّما هو في الّذي يشكّ في أنّه مرويّ عن الإمام عليه‌السلام وأمّا الّذي هو مثبوت من الاصول الصحيحة عنهم لا يحتاج إلى ذلك. والتنبيه على ذلك أضرّ وأعور (١) لأنّه هو الأمر الخفي لغير المعتاد بالأخبار لاحتمالها في نفسها الصدق والكذب ، فعدم التنبيه مع الضرورة إليه تقتضي أنّها ليست كذلك وأنّ وجه التمييز فيها محال على ما هو المعروف بين أرباب الحديث في صحّة الطرق وعدمها المأخوذ علمه من كتب الرجال المدوّنة قبل زمن الكليني وبعده ، ومع هذه الحالة لا حاجة إلى التنبيه. ولو كانت الاصول

__________________

(١) في نسخة الهامش : أعود. وكلاهما غير واضح المعنى في العبارة.

٥٢٤

ذكر قدس‌سره : فلم تقصر نيّتنا لإهداء النصيحة ، إذ كانت واجبة لإخواننا. ومن المعلوم : أنّ من لم يرض بتقصير في إهداء النصيحة لم يرض بأن يلفّق في كتابه الّذي صنّفه لإرشاد المسترشدين بين الأحاديث الصحيحة المأخوذة من الاصول المجمع عليها ، وبين الأحاديث الّتي لم يثبت صحّتها من غير ذكر ضابطة بها يميّز بين الصحيح وبين غير الصحيح منها ، وهذه المقدّمات قطعية عادية عند اولي الألباب.

الثانية : أنّ الترجيح باعتبار أفقهية الراوي وباعتبار أعدليته وباعتبار كثرة عدده

______________________________________________________

كلّها مثبتة من أصحاب الأئمّة بأمرهم لأجل عقائد الشيعة والخوف من وقوعهم في الجهالة ما جاز تدوين أحاديث مذهب المخالفين فيها بين أحاديث مذهب الشيعة وإدخال الإغراء بالجهل عليهم من غير احتياج إلى تقيّة ولا مناسبة بل مجرّد الضرر والتلبيس. والمصنّف جعل من جملة أسباب تأليف الاصول استغناء الشيعة في عقائدهم وأعمالهم عن الرجوع إلى العامّة ، فما الواجب لتدوين مذاهب العامّة وحفظها في اصولهم والاهتمام بها لو كان التدوين ـ كما ذكره المصنّف ـ بأمر الأئمّة من أصحابهم الثقات ، أهل العلم والفضل المتحرّزين عن تدوين غير الصحيح في اصولهم؟ وقد نبّهنا على أنّه لو فهم صريحا أخبار أصحاب كتب الحديث بصحّتها لم يحتج المتأخّر عنهم إلى التعب في صحّة طرقها ، ولما جاز لهم ردّ شي‌ء منها بضعف السند. والشيخ رحمه‌الله لم يعتن بتأليف كتابي الرجال إلّا للتفرقة في كتابيه في الحديث بين الصحيح وغيره ، ولو كان يجزم بصحّة ما في كتابيه وليس هناك أحاديث اخر غيرها يهتمّ بها فما الفائدة في اهتمامه واعتنائه بالتأليف فيها ، وكان غيرها للاشتغال به أولى. ولم ندر أيّ غرض صحيح للمصنّف في تكرار هذه الدعوى والاهتمام بها والتلزيقات الّتي يلزقها في إثباتها؟ إن كان مراده الاجتهاد في حفظ الحديث والعمل به وعدم تعطيله فمن هو من العلماء الّذين يتكلّم عليهم عطّل الأحاديث والعمل بها؟ فإنّا إذا رأينا كتبهم الاصول والفروع لا نجد حديثا في مسألة إلّا أوردوه صحيحا كان أو ضعيفا ، خصوصا العلّامة رحمه‌الله فإنّه قبل من الأحاديث وعمل بها ما لم يقبله غيره ، هذا والمصنّف يتكلّم عليه بأنّه خرب الدين وعطّل أحاديث أصحاب العصمة وعمل برأي المخالفين وقواعدهم افتراء وتعدّيا عليه بغير الواقع. وإن كان مراده : أنّ الدين تمامه وثبوته متوقّف على ذلك فالحمد لله الدين تامّ والمذهب معروف وفي الأحاديث المعتمد عليها ما يفي بذلك وزيادة. والله المستعان.

٥٢٥

مذكور في بعض الأحاديث الواردة في باب اختلاف الأحاديث ، وهو هنا لم يتعرّض لذلك ، لأنّه أخذ أحاديث كتابه كلّها من الاصول المقطوع بها المجمع عليها ، وحينئذ يضعف الترجيح باعتبار حال الراوي *.

الثالثة : أنّه سيجي‌ء في باب اختلاف الحديث أنّهم عليهم‌السلام أمرونا بالإرجاء والتوقّف بعد عجزنا عن وجوه الترجيحات الّتي قرّروها عليهم‌السلام وهو هنا لم يتعرّض له.

وأقول : قصده رحمه‌الله أنّ في باب العبادات المحضة بعد عجزنا عن وجوه الترجيحات المذكورة حكمهم عليهم‌السلام التخيير ، وما سيجي‌ء من وجوب الإرجاء والتوقّف إنّما ورد فيما ليس من باب العبادات المحضة كالدين والميراث ، فاندفع الإشكال بحمد الله ومنّه.

الرابعة : أنّ مرادهم عليهم‌السلام من المجمع عليه : الّذي أجمعت على اختياره قدماؤنا الأخباريون ، فإنّهم كانوا يختارون لأنفسهم ما كان واردا من باب بيان الحقّ.

[ ما ذكره الشيخ الثقة البرقي في أوّل كتاب المحاسن ]

وذكر عمدة علمائنا الأخباريّين الشيخ الثقة الصدوق أحمد بن محمّد بن خالد البرقي في أوّل كتاب المحاسن :

أمّا بعد ، فإنّ خير الامور أصلحها ، وأحمدها أنجحها ، وأسلمها أقومها ، وأرشدها أعمّها خيرا وأفضلها أدومها نفعا ، وأنّ قطب المحاسن [ الدين ] (١) وعماد الدين اليقين والقول المرضي والعمل الزكي. ولم نجد في وثيقة المعقول وحقيقة المحصول عند

______________________________________________________

* بعد أن ذكر الكليني رحمه‌الله عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّه مع الاختلاف الترجيح للعرض على كتاب الله علم أنّ هذه التراجيح الّتي ذكرها المصنّف لا يفيد مع المخالفة لكتاب الله ، فلذا لم يتعرّض لذكرها. وأيضا فالّذي نقله عن بعض الأحاديث من الترجيح ينافي كون جميع الأحاديث صحيحة ، لأنّ الترجيح إنّما يثبت مع احتمال الضعف في المرجوح ، وإلّا لو كانت كلّها صحيحة لم يكن للترجيح فيها مجال ، لانتفاء صحّة المعارضة في غير التقيّة ، ومعها لا يحتاج إلى ترجيح إذا لم يمكن الجمع من غير تقيّة.

__________________

(١) من المصدر.

٥٢٦

المناقشة والمباحثة لدى المقايسة والموازنة خصلة أجمع لفضائل الدين والدنيا ولا أشدّ تصفية لأقذاء العقل ولا أقمع لخواطر الجهل ولا ادعى إلى اقتناء كلّ محمود ونفي كلّ مذموم من العلم بالدين ، وكيف لا يكون كذلك ما من الله عزوجل سببه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مستودعه معدنه واولى النهى تراجمته وحملته؟ وما ظنّك بشي‌ء الصدق خلقه (١) والذكاء والفهم آلته والتوفيق والحلم قريحته واللين والتواضع سجيّته ، وهو الشي‌ء الّذي لا يستوحش معه صاحبه إلى شي‌ء ولا يأنس العاقل مع نبذه شي‌ء ، ولا يستخلف منه عوضا يوازيه ، ولا يعتاض منه بدلا يدانيه ، ولا تحول فضيلة ولا تزول منفعة. وأنّى لك بكنز باق على الإنفاق ولا تقدح فيه يد الزمان ولا تكلّمه غوائل الحدثان ، وأقلّ خصاله الثناء له في العاجل مع الفوز برضوان الله في الآجل ، وصاحبه على كلّ حال مقبول وقوله وفعله محتمل محمول ، وسببه أقرب من الرحم الماسّة ، وقوله أصدق وأوثق من التجربة وادراك الحاسّة ، هو ينجوه من تسليط التهم وتحاذير الندم. وكفاك من كريم مناقبه ورفيع مراتبه. إنّ العالم بما أدّى من صدق قوله شريك لكلّ عامل به في فعله. انتهى ما أردنا نقله عن أوّل كتاب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي قدس‌سره (٢).

وفي آخر كتاب السرائر لمحمّد بن إدريس الحلّي رحمه‌الله : ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب المحاسن تصنيف أحمد بن أبي عبد الله البرقي :

بسم الله الرحمن الرحيم ، قال أحمد بن أبي عبد الله البرقي في خطبة كتابه الّذي سمّاه بكتاب المحاسن :

أمّا بعد ، فإنّ خير الامور أصلحها ... (٣) إلى آخر ما نقلناه.

[ ما ذكره الشيخ الصدوق في أوّل كتاب من لا يحضره الفقيه ]

وذكر شيخنا الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه في أوّل كتاب من لا يحضره الفقيه :

__________________

(١) في المصدر : خلّته.

(٢) لم ترد هذه الخطبة في أوّل المحاسن المطبوع ، وإنّما نقلها مصحّح الكتاب عن مستطرفات السرائر.

(٣) السرائر ٣ : ٦٤١.

٥٢٧

أمّا بعد ، لمّا ساقني القضاء إلى بلاد الغربة وحصلني القدر منها بأرض بلخ من قصبة إيلاق وردها الشريف الدّين أبو عبد الله المعروف بنعمة ، وهو محمّد بن الحسن ابن إسحاق بن الحسين بن إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام فدام بمجالسته سروري وانشرح بمذاكرته صدري وعظم بمودّته تشرّفي ، لأخلاق قد جمعها إلى شرفه من صلاح وسكينة ووقار وديانة وعفاف وتقوى وإخبات. فذاكرني بكتاب صنّفه محمّد بن زكريّا المتطبّب الرازي وترجمه بكتاب « من لا يحضره الطبيب » وذكر أنّه شاف في معناه. وسألني أن اصنّف له كتابا في الفقه والحلال والحرام والشرائع والأحكام موفيا على جميع ما صنّفت في معناه ، واترجمه بكتاب « من لا يحضره الفقيه » ليكون إليه مرجعه وعليه معتمده وبه أخذه ، ويشترك في أجره من ينظر فيه وينسخه ويعمل بمودعه. هذا مع نسخه لأكثر ما صحبني من مصنّفاتي وسماعه لها وروايتها عنّي ووقوفه على جملتها ، وهي مائتا كتاب وخمس وأربعون كتابا. فأجبته ـ أدام الله توفيقه ـ إلى ذلك ، لأنّي وجدته أهلا له ، وصنّفت له هذا الكتاب بحذف الأسانيد لئلّا تكثر طرقه وإن كثر فوائده. ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما افتي به وأحكم بصحّته واعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي ، تقدّس ذكره وتعالت قدرته. وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، مثل : كتاب حريز بن عبد الله السجستاني ، وكتاب عبيد الله بن عليّ الحلبي ، وكتب عليّ بن مهزيار الأهوازي ، وكتب الحسين بن سعيد ، ونوادر أحمد بن محمّد بن عيسى ، وكتاب نوادر الحكمة تصنيف محمّد بن أحمد بن يحيى ابن عمران الأشعري ، وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله ، وجامع شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد رضى الله عنه ونوادر محمّد بن أبي عمير ، وكتب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي ورسالة أبي رضى الله عنه إليّ ، وغيرها من الاصول والمصنّفات الّتي طرقي إليها معروفة في فهرس الكتب الّتي رويتها عن مشايخي وأسلافي ـ رضي‌الله‌عنهم ـ وبالغت في ذلك جهدي ، مستعينا بالله ومتوكّلا عليه ومستغفرا من التقصير ، وما

٥٢٨

توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه انيب ، وهو حسبي ونعم الوكيل (١) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

فائدة

أقول أوّلا : كلّما راجعت وجداني وجدت قطعا عاديا بأنّ الأئمّة الثلاثة وسيّدنا لأجلّ المرتضى وسائر من ذكرنا اسمه ومن لم نذكر اسمه في كتابنا هذا من قدمائنا لم يفتروا ولم يكذبوا فيما أخبروا به من أنّ أحاديث كتبنا المتداولة ـ لا سيّما الكتب الأربعة ـ كلّها واردة عن أصحاب العصمة ، وكانت مسطورة في كتب أصحابهم المصنّفة بأمرهم وإشارتهم وأنّهم لم يدخلوا في كتبهم ما لم يعتمدوا عليه ممّا لم يثبت وروده عنهم عليهم‌السلام. ومن المعلوم : أنّه ما حصل في قلبي هذا القطع العادي إلّا بسبب ما اجتمع فيه ممّا بلغني من أحوالهم وأوضاعهم ، والكلّ بتأييد ربّي وبركات نبيّي وأئمّتي ـ صلوات الله عليهم ـ *.

______________________________________________________

* إنّ من أظهر خطئه فيما ادّعاه : أنّ السيّد المرتضى وابن إدريس وابن أبي عقيل وابن الجنيد والمفيد والشيخ الطوسي والصدوق أيضا وغيرهم من المتقدّمين يفتون في مسائل عديدة بخلاف ما في الكتب الأربعة من بعض الأحاديث ، فمن جملة ذلك : أنّ السيّد المرتضى ذهب إلى أنّ اليائسة من المحيض والّتي لم تحض عليها العدّة (٢) والأحاديث في الكافي ومن لا يحضره الفقيه (٣) متعدّدة واضحة صريحة بخلاف ذلك ، ومنها ما هو صحيح وليس مخالفا لظاهر الآية. وما اعتذر عنه من تأخّر في ذلك إلّا بأنّه لا يعمل بأخبار الآحاد.

وكذلك ابن إدريس والمفيد في مواضع فتواهما مخالف لما في الكتابين وابن بابويه في بعض رسائله كذلك.

وأمّا الشيخ رحمه‌الله ففي مواضع عديدة من التهذيب وغيره يضعّف الحديث المخالف لما يرجّحه ويذكر علّة ضعفه من ضعف راويه ، فلو كانت كلّها صحيحة ما جاز منه ذلك ، ولا وقع في مواضع أكثر من أن تحصى لمن تتبّعها.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢ ـ ٤.

(٢) الانتصار : ٣٣٤.

(٣) الكافي ٦ : ٧٥ ، ح ٢ و ٣ و ٤ ، الفقيه ٣ : ٥١٢ ، ح ٤٧٩٧.

٥٢٩

وأقول ثانيا : بعد التنزّل عن المقام الأوّل أنّه من المعلوم عادة أنّ مثل هؤلاء الأجلّاء إذا صنّفوا كتبا لإرشاد الطائفة المحقّة والعمل بما فيها والاعتماد عليها إلى قيام الساعة من غير نصب علامة مميزة بين ما ثبت وروده عنهم وبين ما لم يثبت لم يجمعوا فيها إلّا الأحاديث الصحيحة الثابتة عندهم صحّتها المأخوذة من العيون الصافية غير النافذة في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة.

وأقول ثالثا : من المعلوم أنّ نبيّنا وأئمّتنا ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ـ لم يضيّعوا من كان في أصلاب الرجال من شيعتهم. ومن المعلوم : أنّهم لم يجوّزوا لهم التمسّك بما تمسّكت به العامّة ، فتعيّن أن تكون لنا كتب مضبوطة مصحّحة ممهّدة من عندهم عليهم‌السلام.

وأقول رابعا : أنّ الروايات الدالّة على أنّهم عليهم‌السلام أمروا جمعا من أصحابهم بتأليف ما يسمعونه منهم لعمل الشيعة بها في زمان الهرج وعلى إخبارهم بوقوع ذلك من الشيعة متواترة معنى ، وإذا ترقّيت في هذه المباحث إلى هذه الدرجة من الإيضاح فحقّ لك أن تقول : « اطف المصباح قد طلع الصباح » وأن تقول لمن يكون بعد ذلك في ريب وشكّ :

______________________________________________________

ولو كان السيّد المرتضى وجملة من ذكره يعتقدون ما نسبه المصنّف إليهم كيف كان جاز لهم العمل بخلافها والتصريح بردّها بأنّها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا؟ وكيف يدّعي المصنّف أنّه حصل في قلبه القطع العادي بسبب ما بلغه من اتّفاقهم وأحوالهم وأوضاعهم؟ والحال أنّ مثل السيّد المرتضى والمفيد مع المعاصرة في زمن واحد قد ذكرنا نقلا عن السيّد ابن طاوس رحمه‌الله في رسالته : أنّ الاختلاف حصل بينهما في تسعين مسألة (١). ولو أراد أحد التتبّع لفتاويهما لزاد عن ذلك ؛ والحال فيمن تقدّمهم وتأخّر عنهم كذلك.

وما وقع في زمن الأئمّة عليهم‌السلام من اختلاف الآراء والمذاهب ووضع الأحاديث أزيد من ذلك. ولكن المصنّف على قدر إرادته يدّعي ويثبت ولا يتوقّف على صحّة الدليل.

__________________

(١) تقدّم ذكره في ص ٣٥ وفيها : خمس وتسعين مسألة.

٥٣٠

إذا لم تكن للمرء عين صحيحة

فلا غروا أن يرتاب والصبح مسفر *

فائدة أخرى

كنت دائما متفكّرا متحيّرا في أنّه لأيّ سبب لم يوفّق أحد لجمع الأحاديث كلّها من كتب شتّى لترتيبها وتهذيبها مثل ما وفّق الأئمّة الثلاثة المحمّدون العجميّون المشاركون في الاسم والكنية لأوّل من أظهر دين جدّه المكنون باقر علوم الأوّلين والآخرين ـ صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين المطهرين ـ حتّى وقفت على أحاديث كثيرة متوافقة المضمون ، فلنتبارك بذكر طرف منها :

ففي كتاب الكافي ـ في باب أنّ الإمام متى يعلم أنّ الأمر قد صار إليه ـ عن

______________________________________________________

* إذا صحّ ما ذكره كلّه ، فما المانع من دخول بعض الأحاديث الضعيفة في تلك الأحاديث مع تطاول الأزمان وتغيّر المذاهب وكثرة الزنادقة وذلك لا يخلّ بظهور الحقّ ومعرفة الصحيح منها كما وقع في أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد وفاته. والّذي نقل عن ابن أبي العوجاء أنّه وضع في الأحاديث أربعة آلاف حديث ، ولمّا اختلطت الأحاديث وصنّفت الكتب فيها واشتبه المقبول وغير المقبول ولم يتقيّدوا بإثبات الصحيح منها ـ كما نقل عن جماعة أجلّاء من أصحابنا مثل البرقي والعيّاشي وغيرهما ـ احتاجوا إلى تأليف كتب الرجال لتميز الأحاديث ويعرف الصحيح منها. وقد وضع بعض العلماء مؤلّفات طويلة في بيان الأحاديث الموضوعة.

ومع هذه الحال كيف يتّجه كلام المصنّف ودعواه التواتر عليه ، لكنّ الهوى يعمي ويصمّ. وكلامه يقتضي القدح في الأئمّة عليهم‌السلام ولا يدري قبحه ، لأنّ هذه الأحاديث كلّها مع اختلافها وتضادّها الموجب للاختلاف والاشتباه والعمل بغير ما هو الحقّ إذا حكمنا بصحّتها كلّها وثبوتها عن الأئمّة عليهم‌السلام فقد نسبناهم إلى إغراء أصحابهم بالجهل وإيقاعهم في الهلكات والشبهات من غير قدرة لهم في الخلاص منها ، ونعوذ بالله السميع العليم من ذلك! وما الّذي يوجب العاقل يخاف الله أن يرتكب هذا المحذور ويعتقد صوابه ورجحانه مع عدم الاحتياج إليه ولا تتوقّف الشريعة عليه؟ وإذا غشيت البصيرة تبعها البصر ولا ينفعها ضوء الشمس فضلا عن المصباح كما قال سبحانه وتعالى : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ).

٥٣١

عليّ بن أسباط قال ، قلت للرضا عليه‌السلام : انّ رجلا غرّ (١) أخاك إبراهيم ، فذكر له أنّ أباك في الحياة وأنّك تعلم من ذلك ما لا يعلم (٢) فقال : سبحان الله! يموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يموت موسى عليه‌السلام؟ قد والله مضى كما مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّ الله تبارك وتعالى لم يزل منذ قبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهلمّ جرّا يمنّ بهذا الدين على أولاد الأعاجم ويصرفه عن قرابة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهلمّ جرّا ، فيعطى هؤلاء ويمنع هؤلاء (٣).

وفيه في باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام : لمّا بعث الله عزوجل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا إلى الله عزوجل وجاهد في سبيله ، ثمّ أنزل الله ـ جلّ ذكره ـ عليه أن أعلن فضل وصيّك ، فقال : ربّ إنّ العرب قوم جفاة لم يكن فيهم كتاب ولم يبعث إليهم نبيّ ولا يعرفون فضل نبوّات الأنبياء ولا شرفهم ولا يؤمنون بي إن أنا أخبرتهم بفضل أهل بيتي ، فقال الله جلّ ذكره : ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) (٤) ( وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (٥) فذكر من فضل وصيّه ذكرا فوقع النفاق في قلوبهم ، فعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك وما يقولون فقال الله ـ جلّ ذكره ـ : يا محمّد! ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) (٦) ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) (٧) لكنّهم يجحدون بغير حجّة لهم. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألّفهم ويستعين ببعضهم على بعض ، ولا يزال يخرج لهم شيئا في فضل وصيّه حتّى نزلت هذه الآية ، فاحتجّ عليهم حين أعلم بموته ونعيت إليه نفسه ، فقال الله جلّ ذكره : ( فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) (٨) يقول : إذا فرغت فانصب علمك وأعلن وصيّك ، فأعلمهم فضله علانية فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » ثلاث مرّات (٩). والحديث الشريف طويل نقلنا منه موضع الحاجة.

وقد تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ بأنّ إمام الزمان ناموس العصر والأوان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يأتي بكتاب جديد على العرب

__________________

(١) في المصدر : عنى.

(٢) في المصدر : ما يعلم.

(٣) الكافي ١ : ٣٨٠ ، ح ٢.

(٤) النحل : ١٢٧.

(٥) الزخرف : ٨٩.

(٦) الحجر : ٩٧.

(٧) الأنعام : ٣٣.

(٨) الشرح : ٧ ـ ٨.

(٩) الكافي ١ : ٢٩٣ ، ح ٣.

٥٣٢

شديد وبأنّ أكثر عساكره أولاد العجم (١). وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتّقين.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله : ( وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) (٢) قال الصادق عليه‌السلام : لو نزل القرآن على العجم ما آمنت به العرب ، وقد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فضيلة العجم (٣).

وفي كتاب الملل والنحل لأبي الفتح محمّد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني ـ وهو موضع في خراسان بين نيسابور وخوارزم ـ : ومن الفلاسفة حكماء الهند من البراهمة لا يقولون بالنبوّات أصلا. ومنهم حكماء العرب وهم شرذمة قليلة ، لأنّ أكثر حكمهم فلتات الطبع وخطرات الفكر ، وربّما قالوا بالنبوّات.

ومنهم حكماء الروم وهم منقسمون إلى القدماء الّذين هم أساطين الحكمة وإلى المتأخّرين منهم ـ وهم المشّاءون [ وأصحاب الرواق ] (٤) وأصحاب أرسطاطاليس ـ وإلى فلاسفة الإسلام الّذين هم حكماء العجم ، وإلّا فلم ينقل عن العجم قبل الإسلام مقالة في الفلسفة ، إذ حكمهم كلّها كانت متعلّقات من النبوّات ، إمّا من الملّة المتقدّمة وإمّا من سائر الملل ، غير أنّ الصابئة كانوا يخلطون الحكمة بالصبوة. فنحن نذكر مذاهب الحكماء القدماء من الروم واليونانيّين على الترتيب الّذي نقل في كتبهم ، ونعقّب ذلك بذكر سائر الحكماء ، فإنّ الأصل في الفلسفة والمبدأ في الحكمة للروم وغيرهم كالعيال لهم (٥). انتهى ما أردنا نقله عن الملل والنحل.

انظر أيّها اللبيب إلى أنّه كانت عادة العجم دائما التمسّك بكلام أصحاب العصمة وأرباب الوحي ، وما كان دأبهم الاعتماد على فلتات الطبع ولا على الأنظار العقلية الّتي قد تصيب وكثيرا ما تخطئ ، كما يشهد بذلك من تتبّع كتب الاصوليين وغيرها. وهذا من جملة الأدلّة على أنّهم أصحاب أذهان مستقيمة وفطنة قويمة *.

______________________________________________________

* إنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) والحديث المشهور :

__________________

(١) راجع الغيبة للنعماني : ١٤٣ ، باب ما روي في صفته وسيرته وفعله عليه‌السلام.

(٢) الشعراء : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٢٤.

(٤) من المصدر.

(٥) الملل والنحل ٢ : ٦٠.

٥٣٣

قصّة حسنة :

قد بلغني أنّ بعض علماء العامّة طعن على الطائفة المحقّة بأنّ أفضل أهل الاجتهاد والاستنباط بينكم العلّامة الحلّي وقد رآه بعد موته ولده في المنام ، فقال لولده : « لو لا كتاب الألفين وزيارة الحسين عليه‌السلام لأهلكتني الفتاوى » فعلم أنّ مذهبكم باطل.

وقد أجاب عنه بعض فضلائنا بأنّ هذا المنام لنا لا علينا ، فإنّ كتاب الألفين

______________________________________________________

« لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلّا بالتقوى » (١) ويكفي شرف نوع العرب بأنّ محمّدا وذرّيّته ـ صلوات الله عليهم ، منهم وأمّا العجم فلا ينكر مدحهم ومزيد اختصاصهم بمحبّة أهل البيت وطاعتهم لهم قديما وحديثا وقد وقع في القرآن ما يشير إلى ذلك ، فإنّه ورد في بعض التفاسير عند قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرب على عاتق سلمان رضى الله عنه وقال : « هم قوم هذا وذووه » ثمّ قال : « لو كان الدين معلقا بالثريا لنالته رجال من أبناء فارس » (٢). وفي كلام أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ في حكاية الأشعث بن قيس لمّا قال لعليّ عليه‌السلام وهو يخطب على المنبر : غلبتنا هذه الحمراء على قربك ـ يعني العجم ـ فركض المنبر برجله حتّى قال صعصعة بن صوحان : ما لنا وللأشعث! ليقولنّ أمير المؤمنين اليوم في العرب قولا لا يزال يذكر. فقال عليّ ـ صلوات الله عليه ـ : « من يعذرني من هؤلاء الضياطرة؟ يتمرّغ أحدهم على فراشه تمرّغ الحمار ويهجر قوم للذكر فيأمرونني أن أطردهم ، ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين ، أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ليضربنّكم على الدين عودا كما ضربتم عليه بدءا » (٣).

وأمّا المدح بأنّهم كانوا تابعين للأنبياء فغير مسلّم على الإطلاق ، لأنّهم كانوا المجوس وعبدة النار ومن يخالف شعائر الإسلام رأسا ، ولهذا فرح المشركون من العرب لمّا غلبت الروم وحزن المسلمون ، وذكروا أنّ العلّة في ذلك هي فرح المشركين لمشاركة العجم لهم في عدم الكتاب وعبادة غير الله ، وحزن المسلمين لكون الروم النصارى أصحاب كتاب وشريعة في الجملة موافق لدين الإسلام. وعلى كلّ حال لا فائدة مهمّة لتحقيق الحال ، والمصنّف يحبّ لنفسه وجنسه التحمّس وإظهار المزيّة والخصوصيّة عن الناس بالاستحقاق ، وهو عين الخطأ الواضح.

__________________

(١) البحار ٢٢ : ٣٤٨ ، ح ٦٤.

(٢) الكامل للمبرّد ٢ : ٥٧٩.

(٣) الكامل للمبرّد ٢ : ٥٧٩.

٥٣٤

مشتمل على ألف دليل لإثبات مذهبنا وعلى ألف دليل لإبطال مذهب غيرنا.

ولقائل أن يقول : قد اشتهر بين العلماء أنّ تهذيب العلّامة الحلّي مختصر من المختصر الحاجبي ، وهو مختصر من المنتهى الحاجبي ، وهو مختصر من أحكام الآمدي ، وهو مختصر من محصول الفخر الرازي ، وهو مختصر من معتمد أبي الحسن البصري. وذكره السيّد السند العلّامة الأوحد السيّد جمال الدين محمّد الأسترابادي في شرح (١) تهذيب الاصول للعلّامة الحلّي.

فربّما يكون سبب ما رآه ولده في المنام : أنّه أعجبه كثير من القواعد الاصولية والاستنباطات الفقهية المذكورة في كتب العامّة ، فأدخلها في كتبه ، وهو في غفلة عن ابتنائهما على قواعد مخالفة لما هو من ضروريات مذهب الطائفة المحقّة *.

فائدة

قد ذكر رجل فاضل صالح ثقة في دار العلم شيراز ـ صانها الله عن الاعواز ـ

______________________________________________________

* أوّلا : إنّ المنام أضغاث أحلام وقليل أن يكون له أثر صادق ، إذا كثرت أخلاط الغذاء في البدن ، ومع هذا إذا كان الإنسان متصوّرا لشي‌ء وأكثر الهجس به يراه في منامه ، ولا شكّ أنّ الفتوى على خطر ولغير الضرورة والحاجة لا تحسن رغبتها والإقدام عليها ، وهذا لا شكّ أنّه مركوز في أذهان العارفين فكان هذا سببا لرؤيا ولده إن صحّ ذلك. وما ذكر من الجواب موافق لدفع أن يكون السبب في خطر الفتوى التعويل على الظنّ أيضا مع دفع حجّة المخالف ، لأنّ تلك الأدلّة أغلبها لا يفيد القطع والعلم عند الخصم.

هذا ، وقد رأينا في آثار لبعض الفضلاء : أنّ كتاب الألفين ليس من تأليف العلّامة ، وإنّما هو تأليف رجل من أقاربه سمّاه وأظنّه ابن اخت العلّامة ، وإن صحّ ذلك ارتفع هذا الأمر من أصله. ولم نعلم أيّ قواعد أدخلها العلّامة في كتبه وأيّ استنباطات كذلك وهي مبنيّة على قواعد مخالفة لضروريّات المذهب؟ فإنّ مسائل الاصول والفروع فيها ما هو متّفق وفيها ما هو متخالف ، وكلّ واحد من القسمين ظاهر بيّن ، ولا موافقة للعلّامة للمخالفين في شي‌ء من ذلك يخالف المذهب الحقّ ، فدعواها عليه ظاهرة الفساد والتعدّي بغير الحقّ.

__________________

(١) انظر الذريعة ١٣ : ١٦٩ ، الرقم ٥٧٣. و ٤ : ٥١١ ، الرقم ٢٢٨.

٥٣٥

قبل اشتغالي بهذا التأليف الشريف بعشرين سنة أنّه رأى في المنام : أنّ الإمام الثامن الضامن المربّي لأولاد الأعاجم ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين ـ أعطاه ورقة مكتوبة بخطّه الشريف وأمره بإيصالها إليّ ، وبأن يقول لي : احفظها فإنّ لك في حفظها منافع ، وأمره بأن يقول لي : بقي شي‌ء آخر نقوله لك في مكّة المعظّمة إن شاء الله تعالى بعد أن قدمت مكّة المشرّفة ـ زادها الله شرفا وتعظيما ـ وجاورت بها.

ذكر رجل ثقة عالم صدوق في أثناء مجاورتي بها أنّه رأى في المنام : أنّ الإمام عليه‌السلام أمرني بأن أكتب في مكّة المعظّمة بخطّي أحاديث كتاب الكافي. ثمّ رأيت أنا في المنام في حرم الله والمدينة المنوّرة ما كان متضمّنا لأمرين : أحدهما أنّ ربّي أعطاني بيتا رفيعا في الجنّة فسكنته ، والآخر أني رأيت بستانا فيه أشجار الورد وبينها شجرة أرفع من الباقي لها أصل متين ، فإذا أنا بهاتف يقول : « هذه الشجرة أنت والباقي الفضلاء المجتهدون » وكانوا كلّهم حاضرين في ذلك البستان وكانوا كلّهم أضيافي.

وقد رأيت في صغر سنّي في المنام : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أمرني بقراءة سورة الفاتحة عليه ، فقرأت كلّها عليه.

وقد رأيت أنّ الإمام الثامن الضامن ـ صلوات الله عليه ـ كتب ثلاثة أسطر لي فوق درسي (١).

والمقصود من رواية تلك المنامات أنّ هذا التأليف الشريف إنّما هو بتأييد الملك العلّام واعانة أهل الذكر عليهم‌السلام *.

______________________________________________________

* إنّ الاعتقاد في النفس وتخيّل المزيّة عليها على الغير في التقوى والكمال والعبادة وغير ذلك من أقبح الحالات المذمومة في العقل والشرع ، ولهذا ورد في الحديث ما معناه : إنّ الإنسان لو اعتقد أنّ له مزيّة على غيره في العبادة والمداومة عليها وأنّه يستحقّ بذلك حالة عند الله ورتبة لا يستحقّها غيره بتقصيره لم يوفّق لتحصيل ما وفّقت له ، لأنّه ليس لها أهلا. وبضدّه رجل

__________________

(١) خ : دراسي.

٥٣٦

فائدتان شريفتان

جعلناهما خاتمة الخاتمة :

الاولى : أنّه نقل القاضي الميبدي في الفواتح عن الباب الثلاثمائة والستّة والستّين من الفتوحات المكّية للشيخ محي الدين العربي : أنّ لله خليفة يخرج من عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ولد فاطمة يواطئ اسمه اسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جدّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، يبايع بين الركن والمقام ، يشبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخلق ـ بفتح الخاء ـ وينزل عليه في الخلق ـ بضمّ الخاء ـ أسعد الناس به أهل الكوفة ، يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا ، يضع الجزية ، ويدعو إلى الله بالسيف ، ويرفع المذاهب عن الأرض ، فلا يبقى إلّا الدين الخالص ، أعداؤه مقلّدة العلماء أهل الاجتهاد ، لما يرونه

______________________________________________________

اعتقد في نفسه غاية النقص والتقصير والعبادة وغيرها وأصبح زاريا على نفسه ومعترفا بالقصور في عبادته وطاعته وراجيا من الله عفوه وكرمه ، أحبط الله عمل الأوّل وأعطى الثاني جليل الكرامة والتفضّل (١).

والاعتقاد الأوّل هو الموجب غالبا لمزيد هذه التخيّلات ، حيث أنّها مركوزة في حاسّة الخيال بالدوام فتوجب لصاحبها الإقدام على الدعوى إذا عرضت له في المنام فيظنّها مقوّية ومصدّقة للمركوز سابقا في خيالاته ، فيرى الشي‌ء كأنّه في اليقظة.

وقد شاركه في ذلك بعض من ينتسب إليه في التلمذة وحذا حذوه في دعوى المنامات ، وما رأينا ترتّب على ذلك ـ رحمهما‌الله وسامحهما ـ إلّا ما يبعد فعله والإصرار عليه عن العقل والصواب واستحقاق اللوم والذمّ عليه.

ولو كان ما أتعب المصنّف نفسه فيه مجرّد إظهار ما اعتقده من الصواب وتنبيه الغافل من غير التعرّض الغير الجائز لحال العلماء ووصفهم بالفسق واتّباع العامّة وتعطيل أحاديث المعصومين وتخريب الدين وما يزيد عن ذلك في القباحة والشناعة ، ما كان لأحد عليه لوم ولا كلام ، لأنّه لو لم يكن لذلك نفع للناس فقد سوّد صحفه ولا ضرر فيه على أحد. وربما أن يكون منامه وما رأى فيه من الشجرة تأويله : أن يرى قباحة الانفراد في غير محلّه في مقام النكير

__________________

(١) انظر الكافي ٢ : ٣١٣ ، ح ٤.

٥٣٧

من الحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمّتهم ، فيدخلون كرها تحت حكمه خوفا من سيفه ، يفرح به عامّة المسلمين أكثر من خواصّهم ، يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف إلهيّ ، له رجال إلهيّون يجيبون دعوته وينصرونه. ولو لا أنّ السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله ، ولكنّ الله يظهره بالسيف والكرم فيطمعون ويخافون ويقبلون حكمه من غير إيمان ، بل يضمرون خلافه ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهبهم أنّه على ضلالة في ذلك الحكم ، لأنّهم يعتقدون أنّ أهل الاجتهاد وزمانه قد انقطع وما بقي مجتهد في العالم ، وأنّ الله لا يوجد بعد أئمّتهم أحدا له درجة الاجتهاد. وأمّا من يدّعي التعريف الإلهي بالأحكام الشرعية ، فهو عندهم مجنون فاسد الخيال لا يلتفتون إليه (١). هذا تمام الكلام المنقول فيها.

والثانية : أنّ أفضل الحكماء الإسلاميّين [ العلّامة الشيرازي أنّه كان من التناسخيّة ، وزعم جماعة من الفضلاء منهم الفاضل البرجندي : أنّ كتاب إخوان الصفا ألّفه جماعة ، ذكر ذلك في شرح التذكرة ووجده نسق الكلام في كلّ رسائله ،

______________________________________________________

والامتياز والرغبة في ذلك ، لأنّ كونه مع أضيافه حال اجتماعهم يقتضي في مقام الكمال أن يكون مقامه معهم بمنزلة الخادم لهم ولا يرى لنفسه الفضل عليهم في شي‌ء ، ويكون موافقا لهم مطيعا. فكان ينبغي أن يعتبر من ذلك ويرى أنّ هذه الحالة الّتي يعتقدها مزيّة وإلهاما وهي مخالفته لأجلّة العلماء في هذا الزمان الطويل والكلام عليهم وإظهار المزيّة والرفعة عليهم ، وإنّهم ليس لهم نسبة إليه في العلوم والمعارف والمنزلة عند الله والأئمّة عليهم‌السلام نظير ما رآه من قباحة الترفّع على أضيافه والانفراد عنهم بما يقتضي المزيّة عليهم وعدم مساواته لهم ، ويعرف أنّ الخطأ للمنفرد أقرب منه للجماعة ، فكان ينبغي أن يكون هذا المنام سببا لتيقّظه عن غفلته ورجوعه عن اعتقاده.

وعلى كلّ حال المنامات المتضمّنة لاعتقاد رآها في نفسه الكمال لا يكون إلّا من الشيطان ، لأنّه إذا وجد مدخلا سهلا للإغراء بالخطإ وتزيينه لصاحبه بحلية الصواب يرغب في إغرائه ويريه مخايل تؤكّد له ما عنده والإصرار عليه.

__________________

(١) شرح الديوان المنسوب إلى الامام عليه‌السلام للميبدي : ١٢٣.

٥٣٨

وغير ذلك من القرائن الّتي تظهر عند اللبيب إذا طالعه بكذب ذلك الزعم ] (١) وهو من الواقفين على موسى بن جعفر عليهما‌السلام يستفاد ذلك من صريح كلامه.

[ وكان في دولة العبّاسية. وقد أشار إلى حسبه في بعض رسائل ذلك الكتاب ، حيث قال في مباحث المخاصمة الواقعة بين زعماء الحيوانات وحكماء الجنّ وبين الإنس في مجلس الملك : فسكت الجماعة حينئذ ، فقام عند ذلك عالم حبر فاضل زكيّ مستبصر ، الفارسي النسبة ، العربي الدين ، الحنفي (٢) المذهب ، العراقي الأدب ، العبراني المخبر ، المسيحي المنهاج ، الشامي النسك ، اليوناني العلم ، الملكي السيرة ، الربّاني الأخلاق ، الإلهي الرأي ، وقال : الحمد لله ربّ العرش العظيم ... إلى آخره. والمقالة طويلة نقلنا منها موضع الحاجة.

وأظنّ أنّ درجة التاج للعلّامة الشيرازي ترجمة كتاب إخوان الصفا في كثير من مواضعه ، وكانت له يد طولى في توضيح الفنون المتعلّقة بالخيال ، يشهد بذلك من تتبّع كتابه هذا. وقد بالغ في كتابه في عود الإمام السابع وفي أنّ الإمام الثامن الضامن يعني الرضا عليه‌السلام ما بلغ رتبة والده ، وقد بالغ في إنكار غيبة الإمام [ الثامن يعني الرضا عليه‌السلام ] (٣) من خوف المخالفين وفي عود الإمام السابع مكان التاسع. وهذا الكلام منه صريح في رأي التناسخية ، خذلهم الله تعالى.

وبالجملة ، هو أراد في رسائله الواحدة والخمسين ـ الموافقة في العدد للصلوات الراتبة ـ أن يجمع بين قواعد الفلاسفة والشريعة المحمّدية صلى‌الله‌عليه‌وآله ومذهب الواقفية من الشيعة.

ونحن ننقل طرفا من كتابه من باب « خذ ما صفي ودع ما كدر » والحقّ أنّ له تنقيحات كثيرة في كلّ الفنون الرياضية وأشباه ذلك. ] (٤)

ذكر في رسالة بيان اللغات من كتاب إخوان الصفا مذاهب (٥) قدمائنا بوجه إجماليّ لطيف واختارها كما اخترناها ، حيث قال :

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ ، والعبارة مضطربة.

(٢) بعض النسخ : الحنيفي.

(٣) لم يرد في بعض النسخ.

(٤) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.

(٥) في ط : طريقة قدمائنا.

٥٣٩

اختلفت المذاهب والآراء والاعتقادات فيما بين أهل دين واحد ورسول واحد لافتراقهم في موضوعاتهم واختلاف لغاتهم وأهوية بلادهم وتباين مواليدهم وآراء رؤسائهم وعلمائهم الّذين يحزّبونهم (١) ويخالفون بينهم طلبا لرئاسة الدنيا ، وقد قيل في المثل : « خالف تذكر » لأنّه لو لم يطرح رؤساء علمائهم الاختلاف بينهم لم تكن لهم رئاسة ، وكانوا يكونون شرعا واحدا ، لأنّ أكثرهم متّفقون في الاصول مختلفون في الفروع.

مثال ذلك : أنّهم مقرّون بالتوحيد وصفات الله سبحانه وتعالى ممّا يليق به ، مقرّون بالنبيّ المبعوث إليهم ، متمسّكون بالكتاب المنزل من جهة الرسول المرسل إليهم ، مقرّون بإيجاب الشريعة ، مختلفون في الروايات الّتي وسائطها رجال مختلفون في المعاني ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من معجزته وفضيلته أنّه كان يخاطب كلّ قوم بما يفهمون عنه بحسب ما هم عليه وبحسب ما تتصوّره عقولهم ؛ فلذلك اختلفت الروايات وكثرت الديانات واختلفوا في خليفة الرسول ، فكان ذلك من أكثر أسباب الخلاف في الامّة إلى حيث انتهينا.

وأيضا فإنّ أصحاب الجدل والمناظرة ومن يطلب المناقشة والرئاسة اخترعوا من نفوسهم في الديانات والشرائع أشياء كثيرة لم يأت بها الرسول ولا أقرّ بها ، وابتدعوها.

وقالوا لعوام الناس : هذه سنّة الرسول ، وحسّنوا ذلك لأنفسهم حتّى ظنّوا هم أنّ الّذي قد ابتدعوه حقيقة قد أمر بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأحدثوا في الأحكام والقضايا أشياء كثيرة بآرائهم وعقولهم ، وضلّوا بذلك عن كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم واستكبروا عن أهل الذكر الّذين بينهم وقد امروا أن يسألوهم عمّا اشكل عليهم ، فظنّوا لسخافة عقولهم أنّ الله سبحانه ترك أمر الشريعة وفرائض الديانة ناقصة حتّى يحتاجوا إلى أن يتمّوها بآرائهم الفاسدة وقياساتهم الكاذبة واجتهادهم الباطل وما يخرصوه وما يخترعوه من أنفسهم. وكيف يكون ذلك! وهو يقول سبحانه وتعالى : ( ما فَرَّطْنا فِي

__________________

(١) كذا في صريح المصدر ، وفي النسخ يحتمل أن يقرأ : يخرّبونهم.

٥٤٠