الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

الإباحة ونتكلّم عليه إن شاء الله تعالى.

واستدلّ كثير من الفقهاء على أنّ الأشياء على الحظر أو الوقف بقوله تعالى : ( وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) وبقوله : ( لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٢) فقالوا : بيّن الله تعالى أنّه لا يستحقّ أحد العقاب ولا يكون لله عليهم حجّة إلّا بعد إنفاذ الرسل ، وذلك يفيد أنّ من جهتهم يعلم حسن هذه الأشياء أو قبحها ، وهذا لا يصحّ الاستدلال به من وجوه :

أحدها : أنّ هاهنا امورا كثيرة معلومة من جهة العقل وجوبها وقبحها ، مثل : ردّ الوديعة وشكر المنعم والإنصاف وقضاء الدين وقبح الظلم والعبث والكذب والجهل وحسن الاحسان الخالص ، وغير ذلك ، فعلمنا أنّه ليس المراد بالآية ما ذكروه ، ومتى ارتكبوا [ أنّ ] (٣) دفع هذه الأشياء [ ليست ] (٤) معلومة إلّا بالسمع علم بطلان قولهم وكانت المسألة خارجة عن هذا الباب.

ومنها : أنّ لله حججا كثيرة غير الرسل من أدلّة العقل الدالّة على توحيده وعدله وجميع صفاته الّتي من لا يعرفها لا يصحّ أن يعرف صحّة السمع ، فكيف يقال : لا تقوم الحجّة إلّا بعد انفاذ الرسل؟ والمعنيّ في الآيتين أن تحملا على أنّه إذا كان المعلوم أنّ لهم الطافا ومصالحا لا يعلمونها إلّا بالسمع وجب على القديم تعالى إعلامهم إيّاها ، ولم يحسن أن يعاقبهم على تركها إلّا بعد تعريفهم إيّاها ، ولم تقم الحجّة عليهم إلّا بعد إنفاذ الرسل ، ومتى كان الأمر على ذلك وجبت بعثة الرسل ، لأنّه لا يمكن معرفة هذه الأشياء إلّا من جهتهم.

واستدلّ من قال هذه الأشياء على الإباحة بأن قالوا : نحن نعلم ضرورة أنّ كلّ ما يصحّ الانتفاع به ولا ضرر على أحد فيه عاجلا ولا آجلا ، فإنّه حسن كما يعلم أنّ كلّ ما لا نفع فيه عاجلا ولا آجلا قبيح ، فدافع أحد الأمرين كدافع الآخر ، وإذا ثبت ذلك وكانت هذه الأشياء لا ضرر فيها عاجلا ولا آجلا فيجب أن تكون حسنة. قالوا : ولا يجوز أن يكون فيها ضرر أصلا لأنّه لو كان كذلك لم يكن إلّا لكونها

__________________

(١) الاسراء : ١٥.

(٢) النساء : ١٦٥.

(٣) لم يردا في خ والمصدر.

(٤) لم يردا في خ والمصدر.

٤٦١

مفسدة في الدين ، ولو كان كذلك لوجب على القديم تعالى إعلامنا ذلك ، فلمّا لم يعلمنا ذلك علمنا أنّها حسنة ، وقد مضى في دليلنا ما يمكن أن يكون كلامنا على هذه الشبهة ، وذلك أنّا قلنا : إنّ هذه الأشياء لا نأمن أن يكون فيها ضرر آجل ، وإذا لم يأمن ذلك قبح الإقدام عليها كما لو قالوا : قطعنا أنّ فيها ضررا.

وأجبنا عن قولهم : « إنّه لو كان فيها ضرر لكان ذلك لأجل المفسدة وذلك يجب على القديم إعلامنا إيّاه بأن قلنا : لا يمتنع أن تتعلّق المفسدة بإعلامنا جهة الفعل على وجه التفصيل ويكون مصلحتنا في الوقف والشكّ وتجويز كلّ واحد من الوجهين في الفعل ، وإذا كان ذلك جائزا لم يجب عليه تعالى إعلامنا ذلك وجاز أن يقتصر بالمكلّف على هذه المنزلة.

واستدلّوا أيضا بأن قالوا إذا صحّ أن يخلق تعالى الأجسام خالية من الألوان والطعوم فخلقته تعالى للطعم واللون لا بدّ أن يكون فيه وجه حسن ، ولا يخلو ذلك من أن يكون لنفع نفسه أو لنفع الغير أو خلقها ليضرّ بها ، ولا يجوز أن يخلقها لنفع نفسه لأنّه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، ولا يحسن أن يخلقها ليضرّ بها ، لأنّ ذلك قبيح الابتداء به ، فلم يبق إلّا أنّه خلقها لنفع الغير ، وذلك يقتضي كونها مباحة.

والجواب عن ذلك من وجوه :

أحدها : أنّه إنّما خلق هذه الأشياء إذا كانت فيها ألطاف ومصالح وإن لم يجز لنا أن ننتفع بها بالأكل بل نفعنا بالامتناع منها فيحصل لنا به الثواب ، كما أنّه خلق أشياء كثيرة يصحّ الانتفاع بها ومع ذلك فقد حظرها بالسمع مثل شرب الخمر وأكل الميتة والزنا ، وغير ذلك. وليس لهم أن يقولوا : إنّ هذه الأشياء إنّما حظرها لما كانت مفسدة في الدين وأعلمنا ذلك ، وليس كذلك ما يصحّ الانتفاع به ولا يعلم ذلك فيه ، وذلك أنّا قد بيّنّا أنّه لا فرق بين أن يتعلّق المصلحة بإعلامنا من جهة الفعل من قبح أو حسن فيجب عليه أن يعلمنا ذلك ، وبين أن يتعلّق المصلحة بحال لنا يجوز معها كلّ واحد من الأمرين ، فيجب أن يقتصر بنا على تلك الحال ، لأنّ المراعى حصول المصلحة وإذا ثبت ذلك لحق ثبات ما علمنا قبحه على طريق القطع والثبات في أنّه

٤٦٢

لا يحسن منّا الإقدام عليه.

ومنها : أنّ على مذهب كثير من أهل العدل إنّما خلق الطعوم والأراييح في الأجسام لأنّها لا تصحّ أن يخلو منها ، فجرت في هذا الباب مجرى الأكوان الّتي لا يصحّ خلوّ الجسم منها ، وخلق الجسم إذا ثبت أنّه مصلحة وجب أن يخلق معه جميع ما يحتاج إليه في وجوده.

ومنها : أنّ الانتفاع بهذه الأشياء قد يكون بالاستدلال بها على الله تعالى وعلى صفاته فليس الانتفاع مقصورا على التناول فحسب.

وليس لهم أن يقولوا : إنّه كان يمكن الاستدلال بالأجسام على وحدانيّة الله تعالى وعلى صفاته ، فلا معنى لخلق الطعوم ، وذلك أنّه لا يمتنع أن يخلقها لما ذكرناه وإن كان الجسم يصحّ الاستدلال به ويكون ذلك زيادة في الأدلّة.

ولسنا ممّن يقول : لا يجوز أن ينصب على معرفته أدلّة كثيرة ، لأنّا إن قلنا ذلك أدّى إلى فساد أكثر الأدلّة الّتي يستدلّ بها على وحدانيّة الله تعالى ، فإذا ينبغي أن يجوز أن يخلقها للاستدلال بها وذلك يخرجها عن حكم العبث ويدخلها في باب ما خلقت للانتفاع بها.

وليس لهم أن يقولوا : إذا صحّ الانتفاع من الوجهين بالاستدلال والتناول فينبغي أن يقصد به الوجهين ، وذلك أنّ هذا محض الدعوى لا برهان عليها ، بل الّذي يحتاج إليه أن يعلم أنّه لم يخلقها إلّا لوجه ، فأمّا أن يقصد بها جميع الوجوه الّتي يصحّ الانتفاع بها فلا يجب ذلك ؛ على أنّا قد بيّنا أنّه لا يمتنع أن يفرض في أحد الوجهين مفسدة في الدين ، فيحسن أن يخلقها للوجه الآخر ويعلمنا أنّ فيها فسادا في الدين متى تناولناها فيجب علينا أن نمتنع منها.

فإن قيل : إذا أمكن خلقها للوجهين ولم يقصدهما كان عبثا من الوجه الّذي لم يقصد الانتفاع به ، وجرى ذلك مجرى فعلين يقصد بأحدهما الانتفاع ولا يقصد بالآخر ذلك فيكون ذلك عبثا.

قيل له : ليس الأمر على ذلك ، لأنّ الفعل الواحد إذا كان فيه وجه من وجوه

٤٦٣

الحكمة خرج من باب العبث وإذا كان له وجوه اخر كان يجوز أن يقصد ، وليس كذلك الفعلان ، لأنّه إذا قصد وجه الحكمة في أحدهما بقي الآخر خاليا من ذلك وكان عبثا ، وليس كذلك الفعل الواحد على ما بيّنّاه.

فإن قيل : الانتفاع بالاعتبار بالطعوم لا يمكن إلّا بعد تناولها ، لأنّ الطعم ليس ممّا يدرك بالعين فينتفع به من هذه الجهة ، فإذا لا بدّ من تناوله حتّى يصحّ الاعتبار به.

قيل : الاعتبار يمكن بتناول القليل منه وهو قدر ما يمسك الرمق ويبقى معه الحياة ، وقد بيّنّا أنّ ذلك القدر في حكم المباح ، وليس الاعتبار موقوفا على تناول شي‌ء كثير من ذلك. ويمكن أن يقال أيضا : إنّه يصحّ أن يعتبر بها إذا تناولها غير المكلّف من سائر أجناس الحيوان ، فإنّه إذا شاهد أجناس الحيوان تتناول تلك الأشياء ويصلح عليها أجسامها أو ينفسد بحسب اختلافها واختلاف طبائعها جاز معه أن يعتبر بذلك وإن لم يتناولها المكلّف أصلا.

وبمثل هذا أجاب المخالف من قال : نحن لا نفرّق بين السموم والأغذية ، بأن قال : يرجع إلى حال الحيوانات الّتي ليست مكلّفة إذا شاهدها يتناول أشياء ينتفع بها جعل ذلك طريقة إلى تجربته ، فإنّ ذلك ممّا ينصلح عليه أيضا جسمه.

وذلك مثل ما أجبنا به عن السؤال الّذي أوردوه في هذا الباب واستدلّوا أيضا بقوله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (١) وبقوله عزوجل : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (٢) وما شاكل ذلك من الآيات. وهذه الطريقة مبنيّة على السمع. ونحن لا نمتنع من أن يدلّ دليل السمع على أنّ الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف ، بل عندنا الأمر على ذلك وإليه نذهب ، وعلى هذا سقطت المعارضة بالآيات.

واستدلّ كثير من الناس على أنّ هذه الأشياء على الحظر أو الوقف ، بأن قالوا : قد علمنا أن التحرّز عن المضارّ واجب في العقول ، وإذا كان ذلك واجبا لم يحسن منّا أن نقدم على تناول ما لا نأمن أن يكون سمّا قاتلا فيؤدّي ذلك إلى العطب ، لأنّا لا نفرّق

__________________

(١) الأعراف : ٣٢.

(٢) المائدة : ٤.

٤٦٤

بين ما هو سمّ وما هو غذاء وإنّما ننتظر في ذلك إعلام الله تعالى لنا ما هو غذاؤنا والفرق بينه وبين السموم القاتلة.

واعترض من خالف في هذا الاستدلال بأن قال : يمكننا أن نعلم ذلك بالتجربة ، فإنّا إذا شاهدنا الحيوان الّذي ليس بمكلّف يتناول بعض الأشياء فيصلح عليه جسمه علمنا أنّه غذاء ، وإذا تناول شيئا يفسد عليه علمنا أنّه مضارّ ، فحينئذ اعتبرنا بأحوالهما.

وقال من نصر هذا الدليل : إنّ الحيوان يختلف طباعه ، فليس ما يصلح الحيوان المستبهم يعلم أنّه يصلح الحيوان الناطق ، لأنّ هاهنا أشياء كثيرة تغذّي كثيرا من الحيوان ويصلح عليها أجسامها وإن كان متى تناولها ابن آدم هلك ، منها : أنّ الظبا يأكل شحم الحنظل ويتغذّى به ولو أكل ذلك ابن آدم لهلك في الحال ، وكذلك النعامة تأكل النار وتحصل في معدتها ، ولو أكل ذلك ابن آدم لهلك في الحال ، وكذلك يقال : إنّ الفأرة تأكل البيش (١) فتعيش به ورائحة ذلك تقتل ابن آدم ، فليس طبائع الحيوان على حدّ واحد وإذا لم يكن على حدّ واحد لم يجز أن نعتبر بأحوال غيرنا أحوال نفوسنا.

ولمن خالفهم في ذلك أن يقول : أحسب أنّه لا يمكن أن نعتبر بأحوال الحيوان المستبهم أحوال الحيوان من البشر ، أليس لو أقدم واحد منهم على طريق الخطأ والجهل على ما يذهبون إليه على تناول هذه الأشياء يعرف بذلك الخطأ ما هو غذاء وفرّق بينه وبين السمّ ، فينبغي أن يجوز لغيره أن يعتبر به ويجوز له بعد ذلك التناول منها وإن لم يرد سمع ، لأنّه قد أمن العطب والهلاك. فالمعتمد في هذا الباب. ما ذكرناه أوّلا في صدر هذا الباب. فهذه جملة كافية في هذا المعنى إن شاء الله تعالى (٢) انتهى ما أردنا نقله من كتاب العدّة لرئيس الطائفة قدس‌سره.

وأنا أقول : إن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام ، بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام.

فأقول : يستفاد من ظواهر الآيات الكريمة وتصريحات الأحاديث الشريفة بطلان

__________________

(١) بكسر الباء نبت ببلاد الهند ، وهو سمّ. ( لسان العرب ٦ : ٣٦٩ ).

(٢) عدّة الاصول ٢ : ٧٣٩ ـ ٧٥١.

٤٦٥

الوجوب والحرمة الذاتيّين ، بل أقول : الدليل العقلي قائم على ذلك بأن نقول : لو كان الوجوب والحرمة بمعنى استحقاق العقاب ذاتيّين لكانا جاريين في أفعاله تعالى ، ومن المعلوم المتّفق عليه بطلانه. والقبيح الذاتي هو الفعل الّذي يتّصف بصفة إذا علمها الحكيم ينفّر عنه كما أفاده سلطان المحقّقين نصير الدين الطوسي رحمه‌الله في الفصول النصيرية (١) وكلّ من قال بالقبيح الذاتي بهذا المعنى قال بأنّ فاعله يستحقّ الذمّ في نظر الحكيم إذا فعله مع العلم باتّصافه بتلك الصفة. ومنهم من زاد على ذلك فقال بأنّ فاعله يستحقّ العقاب أيضا.

ثمّ اتّفقوا على أنّ فاعله مع الغفلة على اتّصافه بتلك الصفة معذور عند الحكيم ، واختلفوا في فاعله مع التردّد في اتّصافه بتلك الصفة هل هو معذور أم لا؟ فمنهم من قال بأنّه معذور. ومنهم من قال بأنّه غير معذور فيستحقّ الذمّ والعقاب. ثمّ القائلون بالثاني افترقوا فرقتين في حكم المتردد فرقة قالت بالوقف وفرقة قالت بالحظر.

وأنا أقول : القول بالحظر في حقّ المتردّد باطل قطعا ، لأنّه لا يجوز للمتردّد نهي الغير عن فعله ، لأنّ شرط النهي عن المنكر العلم بأنّه منكر ، ولأنّه يحتمل أن يطّلع فاعله في بعض الصور على ما لم يطلع عليه المتردّد ، فلا يجوز نهيه عنه ، ولو كان محظورا لجاز ، لأنّ الكلام في المحظور القطعي لا المحظور الاجتهادي.

ثمّ أقول : من المعلوم أنّ من قال بالملازمة بين استحقاق الذمّ وبين استحقاق العقاب مع العلم باتّصافه بتلك الصفة يلزمه أن يقول بالملازمة بينهما مع التردّد في اتّصافه بتلك الصفة. والحقّ الّذي لا ريب فيه عدم الملازمة بينهما ، كما نقلناه عن الزركشي واخترناه (٢) وأنّ حكم المتردّد الوقف ، لأنّه من البديهيات الفطرية أنّ المحاظر مذموم ولو سلّم ، لا الحظر ، لما حقّقناه آنفا من عدم جواز أن ينهى عنه.

ثمّ أقول : وضع هذا الباب ممّا لا طائل تحته عندي ، لوجوه :

أحدها : أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بأنّ الحجّة على الخلق أوّل الخلق وآخر الخلق (٣) أي لا يخلو الأرض عن معصوم حجّة على الخلق أبدا ، ثمّ

__________________

(١) فارسي في اصول الدين ، للخواجة نصير الدين الطوسي ، لا يوجد عندنا.

(٢) راجع ص ٤٥٣.

(٣) راجع الكافي ١ : ١٧٧ ـ ١٨٠.

٤٦٦

في زمن الغيبة الكبرى يوفّق الله تعالى بعض الرعيّة بفهم الأحاديث المسطورة في الاصول الممهّدة في زمن حضور الأئمّة عليهم‌السلام ليعمل الشيعة بها إلى قيام القائم عليه‌السلام ويمهّد له أسباب تحصيل العلم بجميع ما يحتاج إليه الشيعة في أعمالهم ولو بحديث وارد من باب التقيّة أو دالّ على رعاية الاحتياط على كيفية مخصوصة *. والّذي ظهر

______________________________________________________

* الّذي يلزم من كلامه هذا انّ التوفيق المذكور انقطع مدّة طويلة إلى زمانه ، لأنّ من تقدّم إلى عصر المرتضى والمفيد وبعض من تقدّمهما أيضا وإن كانوا أصابوا في بعض الموادّ فقد أخطئوا في غيرها ، لأنّهم لم يفهموا حقيقة تلك الأحاديث المسطورة في الاصول الممهّدة ، ولم يعلموا بجميع ما فيها ، ولم يتحقّق حصول هذا التوفيق تامّا إلّا في زمانه بوجوده واتّساع فهمه وعلومه. ومع هذا فالشخص الّذي يوفّق الله به لهذه الغاية لا يتيسّر له فهم الأحاديث والعلم بصحّتها ومضمونها إلّا أن كان فوق مرتبة الاجتهاد ، والمصنّف يمنع من الحاجة إلى الاجتهاد. ولم يظهر لنا وجه الجمع عنده بين هذين الأمرين المتنافيين.

وكلامه هنا وفيما يأتي : أنّه يجب كفاية على أهل القدرة من كلّ قطر إذا احتاجوا إلى كلّ مسألة أن ينفروا بعض الرعيّة الّذي وفّقه الله لفهم الأحاديث لأخذها أو يعرضوها عليه ليجيئهم بجوابها من عنده. إن كان مراده أنّ الّذي يأتي إليه يقلّده في كلّ ما يخبره به سواء أفاد العلم للمستخبر أو الظنّ ويجتزي به ، فهذا عين التقليد الّذي منعه ورجع إلى التعويل على الظنّ. وإن كان مراده أنّ كلّ مستفهم يحصل له العلم والجزم والقطع بمضمون الحديث وصحّته بمجرّد إخبار ذلك الشخص الّذي تأهّل للسؤال والرجوع إليه ويخرج بذلك عن صفة التقليد ، فربما مع تحقّق العصمة للمسئول يحصل الشكّ في حصول العلم للسائل ، لاحتمال خطائه في الفهم ، فكيف مع احتمال الخطأ والنسيان والعوارض المحتملة في خطأ المخبر فضلا عن المستخبر؟ وإذا اقتصر المخبر على ما يعلمه ويتيقّنه من مدلول الحديث وفي كلّ مسألة لم يجد فيها نصّا صريحا يفيد العلم بها يتوقّف ويبقى حكمها على الجهالة ولا يتصرّف فيها بالاستنباط تصرّف المجتهد إذا كان له سبيل إلى تحصيل الظنّ الراجح الموافق لاصول الشريعة ، يلزم من ذلك حيرة الناس وتعطيل الشرائع ونقصها عن حاجة الشيعة ، والمصنّف يقول ويقطع بأنّها وافية بعلم جميع الأحكام بالجزم والقطع. وعلى كلّ حال لوازم الخلل والفساد في هذا الاعتقاد لا يخفى على النقّاد بل على أدنى من يكون من ذوي العقل والرشاد.

٤٦٧

لي من الروايات : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم في كلّ وقت بقدر ما يحتاج إليه في ذلك الوقت ، ولا يجب كفاية طلب العلم بكلّ ما يحتاج إليه الامّة كما قالته العامّة ، لأنّه غير منضبط بالنسبة إلى الرعيّة ، والتكليف بغير المنضبط محال كما تقرّر في الاصول في مبحث علّة القياس ، بل يفهم من الروايات أنّ علم الرعيّة بجميع ذلك من المحالات.

نعم ، مقتضى حكمته تعالى أن يوفّق لكلّ وقت من أوقات الغيبة الكبرى رعيّته (١) لتحصيل الأحاديث المسطورة في الاصول الممهّدة ، لتدلّ الشيعة على الحقّ الصريح أو على الاحتياط على كيفيّة مخصوصة. ويجب كفاية على أهل هذه القدرة من كلّ قطر إذا احتاجوا إلى مسألة أن ينفروا إليه لأخذها أو يعرضوها عليه ليجيئهم جوابها من عنده ، ثمّ لو لم يقدر أحد على الوصول إليه أو لم يبلغه خبره لكان حكمه مثل حكم من كان في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام الظاهر ـ صلوات الله عليه ـ.

وثانيها : أنّ الروايات صريحة في أنّ « كلّ شي‌ء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (٢) وفي أنّ « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٣) فالشريعة دلّتنا على أنّه كانت الأشياء قبلها على الإباحة الأصلية.

وثالثها : أنّ الأحاديث الصريحة في وجوب التوقّف بعد ورود الشريعة في كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا والصريحة في حصر الامور بعد ورود الشريعة في ثلاثة وفي وجوب التوقّف بعد ورود الشريعة في الشقّ الثالث ـ وهو ما لم يكن حكمه بيّنا ـ قد ذهبت بفائدة وضع هذا الباب. هكذا ينبغي أن تحقّق هذه المباحث ، والله الموفّق *.

______________________________________________________

* هذا من جملة الوجوه الّتي استدلّ بها على أنّه لا طائل للنزاع في إثبات الحظر أو الإباحة في أصل الأشياء ، والحال أنّ إثبات الإباحة فيها بدليل العقل إذا انضمّ إليه دليل الشرع أفاد القطع والجزم بثبوتها في كلّ ما لم يرد فيه حكم بالخصوص ، لأنّ دليل الشرع وحده ربما لا يفيد ذلك ، فالفائدة ظاهرة والمصنّف ينفي الفائدة ويجعل ذلك التحقيق ويتحمّس به. وقبل الوجه الثالث في الوجه الثاني قال : الروايات صريحة في أنّ « كلّ شي‌ء مطلق حتّى يرد فيه نهي » وفي

__________________

(١) ط : رعيّة.

(٢) الفقيه ١ : ٣١٧ ، ح ٩٣٧.

(٣) التوحيد : ٤٠١ ، ح ٩.

٤٦٨

فائدة

إنّما ورد في الأحاديث : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم » (١) ولم يرد « على كلّ بالغ عاقل » لأنّ حكمته تعالى اقتضت أن يكون تعلّق التكاليف بالناس على التدريج ، بأن يكلّفوا أوّلا بالإقرار بالشهادتين ، ثمّ بعد صدور الإقرار عنهم يكلّفون بسائر ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

من الأحاديث الدالّة على ذلك صحيحة زرارة المذكورة في الكافي ـ في باب معرفة الإمام والرّد إليه ـ عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال : إنّ الله عزوجل بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس أجمعين رسولا وحجّة لله على جميع خلقه في أرضه ، فمن آمن بالله وبمحمّد رسول الله واتّبعه وصدّقه فإنّ معرفة الإمام منّا واجبة عليه ، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتّبعه ولم يصدّقه ولم يعرف حقّهما فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقّهما؟ قال : قلت : فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله ويصدّق رسوله في جميع ما أنزل الله أيجب على اولئك حقّ معرفتكم؟ قال : نعم ، أليس هؤلاء يعرفون فلانا وفلانا؟ قلت : بلى ، قال : أترى أنّ الله تعالى هو الّذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء؟ والله ما أوقع ذلك في قلوبهم إلّا الشيطان ، لا والله! ما ألهم المؤمنين حقّنا إلّا الله عزوجل (٢) *.

______________________________________________________

أنّ « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » ثمّ قال : فالشريعة دلّتنا على أنّه كانت الأشياء قبلها على الإباحة الأصليّة. وهذا الكلام غير مستقيم ، لأنّ المفهوم من الأحاديث : أنّ الشريعة دالّة على أنّ كلّ شي‌ء لم يصل علمه إلى المكلّف بفعل أو ترك فهو مباح له وموضوع عنه تكليفه إلّا بعلمه بأنّه مباح ، ولا يلزم من ذلك أنّ الأمر الّذي ثبتت إباحته بهذا الوجه أن يكون أصله في الشرائع كلّها مباحا ، لأنّ كثيرا منها عرض لها التغيّر والتبدّل في الشرائع ، وربما صار الحرام مباحا وضدّه بحسب تغيّر الشرائع والملل ، لأنّ الأحكام منوطة بحكم الشارع.

* كلّ ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التكاليف فهي عامّة لكلّ بالغ عاقل موجود وقت

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٠ ، ح ١.

(٢) الكافي ١ : ١٨٠ ، ح ٣.

٤٦٩

........................................

______________________________________________________

الخطاب بها وغير موجود على الأصحّ ، لكن لما كان من شرط التكليف علم المكلّف ما كلّف به كان متوقّفا على حضور وقته إذا كان موقّتا وعلى علمه به. وكون الفعل المكلّف به له شروط أو وقت لا يمنع ذلك التكليف به قبل حضور شروطه أو وقته ، غاية الأمر يكون تكليفا موسّعا لاستكمال ما يتوقّف عليه ذلك الفعل ، فإنّ الإنسان قبل دخول وقت الصلاة لا شكّ أنّه يصدق عليه أنّه مكلّف ، فإذا كان طلب العلم وغيره من الواجبات على كلّ مكلّف فلا يشترط في صحّة الخطاب به والتكليف أن لا يكون إلّا بعد الإسلام ؛ وكذلك بقيّة الواجبات من الصلاة والزكاة والصوم ، وإلّا لما وجبت على الكافر ولا خوطب بها ولا عوقب على تركها ، وهو خلاف مذهب الشيعة ، وإنّما هو مذهب بعض العامّة غير المحقّقين منهم. ولا خصوصيّة لطلب العلم في تخصيصه بالمسلم ، بل كلّ عبادة يتوقّف على تقدّم الإسلام يتأتّى فيها ما ذكره.

وأمّا معرفة الإمام فالمكلّف مخاطب بها ، ولكن وقتها بعد معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي ثابتة بدليل العقل كثبوت معرفة النبيّ ، لأنّها من جملة المعارف الخمس. وأمّا كلام الإمام عليه‌السلام فمبنيّ على أنّ الّذي لم يتوجّه لما أمره الله به من تحصيل معرفة الله والنبيّ وهو غافل عن ذلك بتقصيره فيما أمر به كيف يعلم وجوب معرفة الإمام عليه؟ وهي مترتّبة ومتعقّبة لمعرفة النبيّ عليه‌السلام كالساهي والغافل عن بعض الواجبات عليه ، فإنّه في حال الغفلة عنها يصدق أنّها غير واجبة عليه في تلك الحالة وإن كان مخاطبا بها من قبل ومتحقّقة الوجوب عليه.

فلا بدّ من حمل كلامه عليه‌السلام على هذا المعنى ، وإلّا لأشكل وجوب كلّ واجب موقوف على مقدّمة أو شرط قبل حصوله ، فما لحظه المصنّف وتفرّد بتصوّره لا وجه له.

* * *

٤٧٠

الفصل الثاني عشر

في ذكر طرف من أغلاط الفلاسفة وحكماء الإسلام في علومهم

والسبب فيه ما حقّقناه سابقا : من أنّه لا يعصم عن الخطأ في مادّة الموادّ في العلوم الّتي مبادئها بعيدة عن الإحساس إلّا أصحاب العصمة عليهم‌السلام ومن أنّ القواعد المنطقية غير نافعة في هذا الباب ، وإنّما نفعها في صورة الأفكار كإيجاب الصغرى وكلّية الكبرى.

فمن تلك الجملة :

أنّ جمعا كثيرا من فحول الحكماء الأعلام ذهبوا إلى أنّه لا بدّ من تخلّل السكون بين كلّ حركتين مختلفتين ، واستدلّوا على مذاهبهم بأنّ آن وصول المتحرّك إلى منتهى الحركة الاولى مغاير لأن مفارقته ذلك المنتهى ، ومن المعلوم : أنّ بين كلّ آنين زمانا ، وإلّا لزم الجزء الّذي لا يتجزّأ ، ففي الزمان المتخلّل بين الآنين يلزم أن يكون المتحرك ساكنا.

واستدلالهم شبهة.

وجوابه :

أنّ الوصول آنيّ ، لأنّه يحصل بانقطاع الحركة الاولى وانقطاع الحركة آنيّ. وأمّا المفارقة فهي زمانيّة ، لأنّها إنّما تحصل بالحركة والحركة زمانية.

ثمّ من المعلوم : أنّه يلزم هؤلاء الفحول الّذين صرفوا أعمارهم في الفكر والنظر أن يكون نتيجة أفكارهم شيئا تضحك منه الثكلى! وهي أنّه يلزمهم أن تسكن الحبّة الصاعدة الجبل النازل بعد آن وصولها إليه في الجوّ ، فإيّاك أيّها الأخ اللبيب والحكيم

٤٧١

الأريب وأن تعتمد على أفكارك وأنظارك ، وعليك التمسّك بأصحاب العصمة وهم أرباب الوحي في كلّ مسألة يمكن عادة أن يقع فيها زلّة *.

ومن تلك الجملة (١) :

أنّهم زعموا أنّ كلّ ما يستلزم محالا ذاتيا فهو أيضا محال ذاتية ، ومن الامور

______________________________________________________

* إنّ أصحاب الشرع لم ينقل عنهم ما ينافي هذا الأمر ، بل الّذي يظهر من كلام الفقهاء في الطمأنينة بعد الرفع من الركوع أنّ الواجب منه ما يزيد على السكون الضروري ، كما صرّح به الشيخ بهاء الدين رحمه‌الله في رسالته الصلاتيّة وغيره ، وفسّروا الضروريّ باللازم حصوله بين الفعلين المختلفين ما يوافق ذلك. ويناسب هذا المعنى ما ورد في الأثر : أنّ الشمس عند وصولها إلى نقطة الاعتدال بين المشرق والمغرب الواقعة على خطّ نصف النهار لا بدّ من وقوفها في قبّة الفلك آنا ما ، وسمّوه وقت المؤامرة ، لأنّها تستأمر الحقّ عزوجل في حركتها لنحو المغرب (٢) وذلك السكون مختصّ بكونه بين الحركتين ، ففيه إشعار بحصول أصل السكون بينهما حيث لم يفرض إلّا بعد انتهاء حركة المشرق قبل الانتقال إلى حركة المغرب. وما ذكره من المثال لا يتّضح فيه للحسّ عدم السكون ، بل ربما يتخيّل عند ذلك وقوف ما بعد انتهاء العلوّ وإرادة الهبوط. وما منعه من نفي الآنين بين الحركتين أيضا غير ظاهر ، لأنّ نهاية الوقوف ومبدأ الحركة يصدق الآن عليهما وهما متغايران. وبعد هذا فأيّ محذور يترتّب على اعتقاد أحد الأمرين في هذه المسألة يوجب هذا التمدّح العظيم الّذي ادّعاه لنفسه وبالغ في التحذير منها؟ ولم يكتف بالكلام على العلماء وتخطئتهم حتّى انتقل إلى فحول الحكماء ، وخطاؤه ثابت في الكلام على الجميع. مع أنّ هذا الإيراد ولزوم الغلط تقتضي نسبته أيضا إلى الأئمّة عليهم‌السلام لأنّ كلام الفقهاء راجع إليهم وإلى آثارهم لا خروج لهم عنهم في شي‌ء من الأحكام وإن لم يطّلع المتأخّر على أصل الدليل الصريح.

وأمّا ما ألزم به بعضهم من سكون الحبّة ... إلى آخر كلامه ، فهو غير لازم ، لأنّ هبوط الجسم الثقيل من شاهق لا بدّ أن يتقدّمه ويسبقه انضغاط الهواء له كما هو مشاهد ، فاللازم سكون الحبّة عند وصول الهواء إليها ومنعها من الصعود وردّها بالقسر إلى الهبوط قبل أن يلاصقها جسم الجبل ، وهو أمر ظاهر بالوجدان عند الاختبار والتأمّل.

__________________

(١) هذه الفقرة إلى قوله : ومن تلك الجملة ... في ص ٤٧٥ لم يرد في خ.

(٢) لم نقف على مأخذه.

٤٧٢

المعلومة بطلان هذه الكلّيّة ، ألا ترى أنّ وقوع الكذب من الله تعالى مثلا يستلزم محالا ذاتيا هو نقصه تعالى. وكذلك عدم المعلول الأوّل عند الفلاسفة يستلزم عدمه تعالى ، بل عدم كلّ موجود ممكن يستلزم عدم أحد الامور الطبيعية الدخيلة في وجوبه السابق ، لأنّ من جملة علامة اللزوم العلّية والمعلولية ، كما بيّن في مبحث الشرطية اللزومية من كتب المنطق.

وبعض الأفاضل فرّق بين استلزام الشي‌ء لذاته محالا ذاتيا ، وبين استلزامه لا لذاته.

وأقول : هذا كلام غير منقّح ، والحقّ الصريح أن يقال : إن كانت علامة اللزوم غير العلّية والمعلولية فالكلّية صحيحة كاستلزام اجتماع النقيضين ارتفاعهما ، وكاستلزام الدور توقّف الشي‌ء على نفسه ، وكاستلزام التسلسل من جانب العلّة زوال احتياج الممكن من غير استثناء إلى غنيّ في ذاته.

ومن تلك الجملة :

شبهة احتمال وجود الممكن بأولوية ذاتية ، فإنّهم تحيّروا في دفعها ، والّذي في خاطري الآن أدلّة على دفعها :

الأوّل : أنّه إذا خلّي وهذه الأولوية هل يوجد وقتا دون وقت أو يوجد دائما؟ فعلى الأوّل لم يكن هنا أولوية ، بل يكون من باب التساوي ، وهو خلاف الفرض. وأيضا فيه ترجيح أحد المتساويين بحسب الاقتضاء على الآخر تارة وتارة عكسه. وعلى الثاني فهل يجوز دفع ذلك الوجود بقاسر أم لا؟ فإن لم يجز فيكون من باب الوجوب لا الأولوية ، وإن جاز فيكون وجوده فرع عدم ذلك القاسر فلم يكن الأولوية الذاتية كافية.

الدليل الثاني : أنّه إن جاز مع هذه الأولوية وقوع الطرف المرجوح يلزم جواز أن يترجّح بحسب الوقوع الّذي هو مرجوح بحسب الاقتضاء. وفساده أظهر من ترجيح أحد المتساويين على الآخر. وإن لم يجز فيلزم الخلف مع المطلوب.

الثالث : هل ذاته آب عن وقوع الطرف المرجوح بحسب الاقتضاء أم لا؟ فعلى الثاني لا أولوية وعلى الأوّل يلزم الوجوب.

٤٧٣

لا يقال : عسى أن يكون الإباء بطريق الأولويّة.

لأنّا نقول : هذا نظير أن يقال التنافي بين الأمرين بطريق الأولوية.

الرابع : بديهة امتناع استناد إيجاد شي‌ء إلى نفسه. واحتمال استناد الوجود إلى الماهية واضح الفساد ، لا سيّما إذا لاحظنا الدليل الدالّ على أنّ الماهيات مجعولة بجعل البسيط ، وهو أنّ أثر الفاعل يجب أن يكون موجودا لا انتزاعيا.

فنقول : وجود الممكن بهذه الأولوية هل بطريق التأثير والاقتضاء أم لا كما في وجود الواجب تعالى؟ والأوّل باطل كما مرّ. والثاني باطل ، لأنّه يلزم وجود ممكن من غير تأثير. ولا يصحّ ذلك ـ أي وجود شي‌ء من غير تأثير ـ إلّا في شي‌ء يكون ذاته آبيا عن عروض العدم ، كما أنّ الوجود آب عن الاجتماع مع العدم. وإلى هذا يؤول كلام جمع من الحكماء حيث قالوا : « وجوده تعالى عين ذاته » أي سائر الأشياء ينافي العدم إذا اخذت بشرط الوجود ، وذاته تعالى ينافي العدم من حيث هو هو. وهذا معنى قولهم : « الصفات الحقيقية في حقّه تعالى عين ذاته » أي يترتّب على ذاته من حيث هو هو آثار تلك الصفات على أكمل وجه. ولذلك قيل : للوجود اسوة حسنة لسائر صفاته ، بل لسائر صفاته اسوة حسنة به ، يعني معنى عينية الوجود وعينية الصفات واحد ، وهو أنّ ذاته تعالى ينافي العدم من حيث هو هو ، وذاته تعالى من حيث هو هو مبدأ آثار الصفات ، وإلّا فالحقّ المستفاد من كلام أصحاب العصمة عليهم‌السلام أنّ الوجود مفهوم انتزاعي في حقّه تعالى أيضا وأنّ الصفات الحقيقية في حقّه تعالى معدومة. ولا تغفل من أنّ الدلالة الّتي ذكرناها لإبطال الأولويّة الذاتية تقتضي صحّة مذهب من قال بالوجوب السابق ، أي إذا وجدت [ العلّة ] التامّة لا يجوز عدم المعلول.

ومن جملة تحيّراتهم :

أنّ الأشاعرة جوّزوا أن يرجّح الفاعل الإرادي أحد طرفي المعلول بحسب الوقوع على الطرف الآخر لا لأجل علّة غائية. والحكماء والمعتزلة ذهبوا إلى أنّ ذلك يستلزم ترجّح أحد طرفي الممكن من غير مرجّح ، أي فاعل ، لأنّ ترجيح

٤٧٤

الفاعل الإرادي أحد الطرفين حصل من غير مرجّح.

وللأشاعرة أن يقولوا : الفاعل الإرادي هو مرجّح الترجيح أو يقولوا : الترجيح لا يحتاج إلى ترجيح آخر كالتأثير لا يحتاج إلى تأثير آخر ، وإلّا يلزم التسلسل.

والحقّ أنّ الأدلّة الّتي ذكرناها تقتضي بطلان ما ذهب إليه الأشاعرة وأنّ ترجيح أحد الطرفين بحسب الوقوع مع تساوي نسبة المقتضي إليهما محال بديهة في الفاعل الإرادي أيضا.

ومن جملة أغلاطهم :

أنّ جمعا منهم زعموا أنّه على مذهب الأشاعرة يتّجه القول بالوجوب السابق ، لأنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يحقّقه.

وأقول : زعمهم هذا باطل ، لأنّ بالاختيار عندهم يحصل الوجوب السابق لوجود المعلول ، وليس شي‌ء به يحصل الوجوب السابق للاختيار ، لأنّ نسبته تعالى إلى هذا الاختيار وإلى اختيار الطرف الآخر على السوية ، والاختيار من الممكنات. فهذه القاعدة ليست كلّية عندهم ، وهي كلّية عند الحكماء (١).

ومن تلك الجملة (٢) :

أنّ علماء الإسلام قسّموا الكافر إلى أقسام :

منها : الرجل الّذي بلغته الدعوة والمعجزة وقلبه متردّد في صدقه صلى‌الله‌عليه‌وآله. ويفهم من كلام أصحاب العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ انتفاء هذا القسم.

ففي كتاب الكافي : الحارث بن المغيرة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أرأيت لو أنّ رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال والله ما أدري أنبيّ أنت أم لا كان يقبل منه؟ قال : لا ، ولكن كان يقتله ، إنّه لو قبل ذلك ما أسلم منافق أبدا (٣).

وفي كتاب المحاسن لأحمد بن أبي عبد الله البرقي رحمه‌الله يعقوب بن يزيد ، عن رجل ، عن الحكم بن مسكين ، عن أيّوب بن الحرّ بيّاع الهروي قال : قال أبو

__________________

(١) من قوله : ومن تلك الجملة ... في ص ٤٧٢ إلى هنا لم يرد في خ.

(٢) في ط بدل « ومن تلك الجملة » : وعند التحقيق.

(٣) الكافي ٧ : ٢٥٨ ، ح ١٤.

٤٧٥

عبد الله عليه‌السلام : يا أيّوب ما من أحد إلّا وقد يرد عليه الحقّ حتّى يصدع قلبه قبله أم تركه ، وذلك أنّ الله تعالى يقول في كتابه : ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ ) (١).

عنه ، عن أبيه ، عن يونس بن عبد الرحمن رفعه قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ليس من باطل يقوم بإزاء الحقّ إلّا غلب الحقّ الباطل ، وذلك قوله تعالى : ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) (٢).

عنه ، عن الحسن بن يزيد النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كلّ قوم يعملون على ريبة من أمرهم ومشكلة من رأيهم وإزراء منهم على من سواهم ، وقد تبيّن الحقّ من ذلك بمقايسة العدل عند ذوي الألباب (٣).

ومن تلك الجملة :

أنّ الفلاسفة وعلماء الإسلام قسّموا الاعتقاد الجازم إلى مطابق للواقع وغير مطابق له. ويفهم من كلام أصحاب العصمة ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ امتناع القسم الثاني.

ففي كتاب المحاسن : عنه ، عن عليّ بن الحكم ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) (٤) فقال : يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ (٥).

عنه ، عن ابن محبوب ، عن سيف بن عميرة وعبد العزيز العبدي وعبد الله بن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أبى الله أن يعرف باطلا حقّا ، فقال : أبى الله أن يجعل الحقّ في قلب المؤمن باطلا لا شكّ فيه ، وأبى الله أن يجعل الباطل في قلب الكافر المخالف حقّا لا شكّ فيه ولو لم يجعل هذا هكذا ما عرف حقّ من باطل (٦). [ يعني لو حصل في القلب جزم باطل متعلّق بقضيّة من الشيطان مثلا لما تمكّنت أصحاب العصمة من الزامه بخلافها ، ولم يكن لله تعالى ميزان في الخلق به يميّز بين الحقّ

__________________

(١) المحاسن ١ : ٤٣١.

(٢) المحاسن ١ : ٣٥٤ ، ح ١٥٣.

(٣) المحاسن ١ : ٤٣٢ ، ح ٤٠٢.

(٤) الانفال : ٢٤.

(٥) المحاسن ١ : ٣٧٠ ، ح ٢٠٧.

(٦) المحاسن ١ : ٤٣٢ ، ح ٤٠٠.

٤٧٦

والباطل لأنّ ضدّ (١) كلّ صاحب جزم يجزم بأنّ جزمه مطابق للواقع ، بخلاف صاحب الظنّ فإنّه يحتمل عنده خلاف مظنونه لا سيّما إذا عارضه يقين ] (٢).

وفي كتاب التوحيد لشيخنا الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه قدس‌سره ـ في باب السعادة والشقاوة ـ حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضى الله عنه قال : حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار وسعد بن عبد الله جميعا ، قالا : حدّثنا أيّوب بن نوح ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل :

( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) (٣) قال : يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى ينقل العبد من الشقاء إلى السعادة ولا ينقله من السعادة إلى الشقاء (٤).

[ أقول : قوله : « ولا ينقله من السعادة إلى الشقاء » ردّ على الأشاعرة ، حيث زعموا أنّ معنى قوله : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (٥) خلق الاعتقاد الكفري ابتداء فيمن يشاء من عباده ، وإشارة إلى أنّ معنى « يضلّ الله » أحد الامور الثلاثة : إمّا عدم الهداية كما في أهل الفترة. وإمّا إخراج الملك من قلبه ليضلّه الشيطان ، وذلك فيمن استحبّ العمى على الهدى بعد أن خلق الله في قلبه المعرفة وعرف ما هو الحقّ. وإمّا إرسال الرسل وإنزال الكتب ، فإنّه لو لا الشرائع لما تميّز الضالّ عن ضدّه كما قال الله تعالى : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) (٦) ] (٧).

لا يقال : نشاهد في كثير من الناس آثار جزمهم بما هو خلاف الواقع.

لأنّا نقول : كثيرا ما يظنّ كثير من الناس الظنّ المتاخم للجزم جزما فيزعمون أنّهم جزموا وليس كذلك ، كما نقلناه عن منطق شرح العضدي للمختصر الحاجبي وعن مبحث الإجماع [ المركّب ] (٨) من ذلك الشرح.

ثمّ أقول : لي دليل عقلي أيضا على ذلك ، وهو أنّه قد تقرّر في موضعه ـ

__________________

(١) كذا ، والظاهر زيادة : ضدّ.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.

(٣) الأنفال : ٢٤.

(٤) التوحيد : ٣٤٨ ـ ٣٤٩ ، ح ٦.

(٥) النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨.

(٦) البقرة : ٢٦.

(٧) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.

(٨) لم يرد في خ.

٤٧٧

كحواشي السيّد الشريف على الشرح العضدي للمختصر الحاجبي ـ أنّ اليقين له موجب مخصوص لا يحصل إلّا به كالإحساس وغيره. ومن المعلوم : أنّ القضية الكاذبة ليس لها موجب يوجب الجزم بها كما في اليقين. وأمّا الأمارات المؤدّية إلى حصول الظنّ بالقضايا الكاذبة فهي كثيرة مشاهدة.

واعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأنّ الشيطان قد يلهم بعض القلوب الأكاذيب ، فإنّ له تسلّطا على بعض الناس مثل تسلّط شياطين الإنس على بعضهم. ومن المعلوم : أنّ مقتضى الروايات المتقدّمة أنّه لا يوجب جزما وإنّما اقتضى ما يحصل به الظنّ.

ومن تلك الجملة (١) :

أنّ الشيخ الفاضل المتبحّر المعاصر بهاء الدين محمّد العاملي ذكر في كتاب مشرق الشمسين ذهب أكثر علمائنا ـ قدّس الله أرواحهم ـ إلى أنّ العدل الواحد الإمامي كاف في تزكية الراوي ، وأنّه لا يحتاج فيها إلى عدلين كما يحتاج في الشهادة. وذهب القليل منهم إلى خلافه ، فاشترطوا في التزكية شهادة عدلين.

واستدلّ على ما ذهب إليه الأكثر بوجهين :

الأوّل : ما ذكره العلّامة ـ طاب ثراه ـ في كتبه الاصولية ، وحاصله : أنّ الرواية تثبت بخبر الواحد وشرطها تزكية الراوي وشرط الشي‌ء لا يزيد على أصله ، وبعبارة اخرى : اشتراط العدالة في مزكّي الراوي فرع اشتراطها في الراوي ، إذ لو لم يشترط فيه لم يشترط في تزكّيه فكيف يحتاج في الفرع بأزيد ممّا يحتاج في الأصل؟

فإن قلت : مرجع هذا الاستدلال إلى القياس فلا ينهض علينا حجّة. قلت : هو القياس بطريق الأولوية وهو معتبر عندنا.

فإن قلت للخصم أن يقول : كيف يلزمني ما ذكرتم من زيادة الفرع على الأصل والحال أنّي أشترط في الرواية ما لا يشترطونه من شهادة عدلين بعدالة راويها ولا أكتفي بشهادة العدل الواحد. قلت : عدم قبوله تزكية عدل واحد زكّاه عدلان

__________________

(١) لا يخفى عدم مناسبة هذا المبحث لعنوان الفصل ، وهو : ذكر طرف من أغلاط الفلاسفة وحكماء الإسلام في علومهم.

٤٧٨

واشتراطه فيها التعدّد مع قبول رواية عدل واحد زكّاه عدلان واكتفاؤه فيها بالواحد يوجب عليه ما ذكرناه (١) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وأنا أقول أوّلا : في قوله : « ذهب أكثر علمائنا إلى أنّ العدل الواحد الإمامي كاف في تزكية الراوي » تساهل وغفلة ، وذلك لأنّ الأخباريّين من أصحابنا ـ هم أكثر علمائنا وعمدتهم ـ وقد علمت أنّهم لا يعتمدون إلّا على حديث قطعوا بوروده عن المعصوم عليهم‌السلام بسبب من أسبابه.

وأقول ثانيا : إنّ سيّدنا الأجلّ المرتضى ورئيس الطائفة والفاضل المدقّق محمّد بن إدريس الحلّي والمحقّق الحلّي (٢) لا يعتمدون على خبر الواحد العدل الخالي عن القرينة الموجبة للقطع العادي بصدق مضمونه وعن القرينة الموجبة للقطع العادي بوروده عن المعصوم ، وطريقتهم وطريقة الأخباريّين من أصحابنا واحدة في هذا الباب.

وبالجملة ، ما نسبه إلى أكثر علمائنا إنّما ذهب إليه العلّامة الحلّي (٣) وجمع من مقلّديه وهم جماعة (٤) قليلة كالشهيدين (٥) والفاضل الشيخ عليّ (٦) ولم تكن لهم بضاعة في العلوم الدقيقة ولم يكونوا عارفين متفطّنين بمعاني الأحاديث الواردة في الأصوليين من أصحاب العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ وغلبت على أنفسهم الالفة بما قرءوه في كتب العامّة ، فلمّا رأوا كلام العلّامة على وفق كلام العامّة ولم يكن لهم نظر دقيق في العلوم استحسنوا المألوف وغفلوا عن احتمال أن يكون خطأ وأن يكون من تدليسات العامّة وتلبيساتهم ومشوا عليه. نسأل الله العفو والعافية ومن ورائنا وورائهم شفاعة العترة الطاهرة عليهم‌السلام إن شاء الله تعالى *.

______________________________________________________

* قد قدّمنا ما ينفي صدق هذه الدعاوي كلّها ، وأنّ الاختلاف في الحديث والمذاهب بسبب عدم تيسّر القطع بصحّتها كلّها ، وأنّ احتمال الضعف واقع من زمن الأئمّة عليهم‌السلام إلى زماننا.

هذا ، والقائل بالعمل بخبر الواحد غير منحصر في المتأخّر عن زمن المرتضى وما نسبه

__________________

(١) مشرق الشمسين ( المطبوع منضما إلى الحبل المتين ) : ٢٧١.

(٢) انظر الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٥١٧ و ٥٣٠ ، عدّة الاصول ١ : ١٢٦ ، السرائر ١ : ٥١ ، المعتبر ١ : ٢٩ ، معارج الاصول : ١٤٠ ، ١٤٨.

(٣) راجع مبادئ الوصول : ٢٠٣.

(٤) خ : العلّامة الحلّي وجماعة قليلة.

(٥) راجع الذكرى ١ : ٤٩ ، تمهيد القواعد : ٢٤٧ ـ ٢٤٩.

(٦) لم نقف على موضع تعرّضه للمسألة.

٤٧٩

وأقول ثالثا : تحقيق المقام أنّ الرواية كالشهادة إخبار عن محسوس صرف ، والعدالة المعتبرة في الراوي عندكم ملكة تبعث على ملازمة التقوى والمروّة ، وهي ليست من الامور المحسوسة ، فتكون التزكية إخبارا عن أمر معقول صرف. ومن المعلوم : أنّ الاعتماد على الإخبار عن معقول صرف يحتاج إلى زيادة معونة لا يحتاج إليها الاعتماد على الإخبار عن محسوس ، ولذلك ذكروا في تعريف التواتر : الإخبار عن محسوس. وإن اخذت بمعنى المواظبة على الصلوات بشرط عدم ظهور فسق ـ وهي المعتبرة في باب الشهادات وإمام الجماعات كما استفدناه من الروايات ـ فهي من الامور الّتي تدرك بالحسّ ، لكنّها تحتاج إلى ضمّ خرص واستصحاب ، فلا يعدّ في الاحتياج إلى زيادة معونة في إثباتها ، كما سيجي‌ء في كلامنا *.

______________________________________________________

إلى الأخباريّين ليس معروفا عنهم ، بل مقتضى كلام الشيخ والمحقّق أنّهم كانوا يعتمدون الخبر الواحد ويعملون به ، وأنّ ذلك هو سبب الاختلاف بينهم. واستدلّ الشيخ على جواز العمل به بإجماعهم على ذلك من عدم تناكرهم للفتوى المستندة لاختلاف الأخبار الغير المتواترة أو المحفوفة بالقرائن المفيد للعلم ؛ وكذلك المحقّق مصرّح في العمل به. ولم يكن للمصنّف زاجر من نفسه يرتدع به عن تكرار نسبة هؤلاء الفضلاء الأجلّاء إلى الجهل وعدم المعرفة بمعاني الأحاديث وقلّة البضاعة وتقليد العامّة وغير ذلك من النقائص وتميّز نفسه عنهم باختصاصه بعلم ما جهلوه والتنبيه لما أغفلوه والتنزّه عن الخطأ الّذي سلكوه. وهذا من المصائب الّتي يحقّ الاسترجاع عندها أن يحدث في آخر الزمان عن حرم الذوق والعقل والمعرفة! وآثاره في ذلك واضحة جليّة وآثار غيره في سائر العلوم والكمالات كالشمس في رابعة النهار ، ويجترئ عليهم هذه الجرأة الّتي توجب له اعتقاد خروجهم عن الحقّ والدين ويطلب من غيره اتّباعه في الخطأ وموافقته عليه ، والحال أنّه في حياته قد عرف الإنكار عليه من أدنى من يكون من أرباب المعرفة والدين ، فضلا عن أصحاب العلوم والفضائل الجليلة ؛ ولم ينتفع أحد بآثاره في حياته وكانت وبالا عليه بعد وفاته إلّا ما ترجّاها من الرواية من الشفاعة ، إن سامحته الخصوم فيما رماهم به. والله المستعان.

* المرجع في قبول الرواية هو إلى أنّها إخبار العدل ، فينبغي أن يكون الحكم في التزكية كذلك ، لأنّ الحكم في القبول والاكتفاء به في الرواية ليس له علّة إلّا كونه عدلا ، وهذه العلّة بعينها

٤٨٠