الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

الفصل الثالث

في إثبات تعذّر المجتهد المطلق

أقول : بعد ما أحطت خبرا بالآيات والروايات المتقدّمة لم يبق مجال للمجتهد المطلق ، ونزيدك بيانا.

فنقول : في كثير من المواقع لا يجري (١) التمسّك بالبراءة الأصلية ولا بالاستصحاب ، ولا تفي بها عمومات الكتاب ولا عمومات السنّة ، ولا إجماع هناك. ومن أمثلة ذلك : دية عين الدابّة ، كما مرّ من أنّ بعد العلم باشتغال الذمّة والحيرة في القدر المبرئ للذمّة لا تجري البراءة الأصلية وغيرها.

فإن قلت : كيف يزعم عاقل عدم تحقّق المجتهد المطلق مع كون الكتب الفقهية للخاصّة والعامّة مشحونة بقول الفقهاء : « فيه تردّد » وما أشبهه من العبارات؟

قلت : زعمهم ذلك مبنيّ على مقدّمات تقدّمت ، وهي : أنّ الله تعالى نصب دلالات ظنّية على المسائل الاجتهادية لا القطعية ، وأنّه ليس شي‌ء من الدلالات المنصوبة من قبله تعالى مخفيّا عند أحد بحيث يتعذّر تحصيلها بالتتبّع ، وأنّ سبب تردّد الفقيه في بعض المسائل تعارض الدلالات المنصوبة من قبله تعالى في نظره ، وأنّ حكم الله في حقّه وحقّ مقلّديه ما دام كذلك التخيير (٢). والعجب كلّ العجب من

__________________

(١) خ : في كثير من الوقائع لا يجزي.

(٢) خ : التخيّر.

٢٦١

جمع من متأخّري أصحابنا حيث قالوا بهذه المقدّمات ، مع أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ببطلانها ، فإنّها صريحة في أنّ له تعالى في كلّ واقعة خطابا صريحا قطعيّا خاليا عن المعارض ، وفي أنّ كثيرا منها مخفيّ عندهم عليهم‌السلام وفي أنّه يجب التوقّف في كلّ واقعة لم نعلم حكمها.

وممّن تفطّن بتعذّر المجتهد المطلق الآمدي من الشافعية ، وصدر الشريعة من الحنفية مع كثرة طرق الاستنباطات الظنّية عندهم فالعجب كلّ العجب! من إماميّ يزعم عدم تعذّره مع قلّة طرق الاستنباطات الظنّية عنده.

* * *

٢٦٢

الفصل الرابع

في إبطال القسمة المذكورة (١)

وقد تقدّمت الوجوه الدالّة عليه ، ونزيدك بيانا ، فنقول :

يجوز لفاقد الملكة المعتبرة في المجتهد أن يتمسّك في مسألة مختلف فيها بنصّ صحيح صريح خال عن المعارض لم يبلغ صاحب الملكة أو بلغ ولم يطّلع على صحّته ، ولا يجوز له أن يتركه ويعمل بظنّ صاحب الملكة المبنيّ على البراءة الأصلية أو استصحاب أو عموم أو إطلاق *.

* * *

______________________________________________________

* إنّ التمسّك بنصّ صريح ـ إلى آخر كلامه ـ لا يخلو صحّة تمسّكه به من أن تكون له أهليّة الاطّلاع على صحّة النصّ وعلى فهم معناه بالصراحة وأنّه ليس له معارض. وهذه الوجوه إذا عرفها إن لم تثبت له الملكة بها يكون من قسم المتجزّي ولا يخرج بذلك عن قسم المقلّد في الجملة ، فلا ينافي التقسيم ، لأنّه في باقي المسائل الّتي لا يتيسّر له فيها ذلك يرجع إلى التقليد ، فكيف تبطل القسمة المذكورة كما يقوله المصنّف؟ ونهاية ما يستفاد من ذلك : أنّ الظنّ الحاصل للمتجزّي بالشروط المعتبرة إذا كان عنده أرجح من الظنّ الحاصل له عن قول المجتهد يتعيّن عليه العمل بظنّ نفسه لا بالظنّ الحاصل من قول المجتهد. وهذه مسألة خلافيّة قد نبّهنا عليها في شرح رسالة المحقّق الشيخ بهاء الدين محمّد العاملي ـ قدّس الله روحه ـ الصلاتية ، وأنّ الأصحّ ثبوت التجزّي ، وجوّزنا ذلك بما لا مزيد عليه.

__________________

(١) كأنّه أشار بذلك إلى انقسام المكلّف إلى المجتهد والمقلّد.

٢٦٣

الفصل الخامس

في بيان أنّ في كثير من المواضع يحصل الظنّ على مذهب العامّة دون الخاصّة

أقول : الوجه في ذلك أنّهم يدّعون أنّ كلّ ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهره عند أصحابه وما خصّ أحدا بتعليمه وتوفّرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله فتنة انتهت إلى إخفاء بعضه ، فعدم اطّلاع صاحب الملكة المعتبرة في الاجتهاد وبعد التتبّع على دليل مخرج عن البراءة الأصلية وعلى نسخ وتقييد وتخصيص وتأويل لآية أو سنّة يوجب ظنّه بعدم وجودها في الواقع ، ولذلك انعقد اجماعهم على أنّ عدم ظهور المدرك لحكم شرعي مدرك شرعي لعدمه ، وهذه المقدّمات باطلة على مذهبنا (١).

* * *

__________________

(١) لا يخفى عدم مناسبة عنوان « الفصل » ـ هنا وفي الصفحة السابقة ـ لهاتين النكتتين القصيرتين. والأولى ذكرهما في ذيل بعض الفصول المناسب لهما.

٢٦٤

الفصل السادس

في سدّ الأبواب الّتي فتحتها العامّة للاستنباطات الظنّية الاستحسانيّة بوجوه تفصيلية

فإنّ الوجوه الإجماليّة قد تقدّمت في الروايات المتقدّمة وغيرها.

فأقول وبالله التوفيق وبيده أزمّة التحقيق :

أمّا التمسّك بالإجماع

بالمعنى الّذي اعتبرته العامّة وهو « اتّفاق مجتهدي عصر على رأي في مسألة » وهو باطل من وجوه :

الأوّل : أنّه لا إذن لنا في الشريعة بجواز التمسّك به ولا دلالة عقلية قطعية على ذلك ، والأدلّة المذكورة في كتب العامّة مدخولة ، وذلك أنّه اعترف علماء العامّة بأنّ عمدة الأدلّة على حجّية الإجماع أنّه وقع اتّفاق الصحابة والتابعين اتّفاقا قطعيا على ذلك وعلى تقدّمه على القاطع ، وبأنّ سائر الأدلّة المذكورة في إثبات حجّية الإجماع مبنيّ على الظواهر وجواز العمل بالظواهر مبنيّ على الإجماع ، ففيه دور.

والجواب عن عمدة أدلّتهم واضح ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي ( وهو أحسن كتبهم الاصولية وقد قرأته في أوائل سنّي في دار العلم شيراز ـ صانها الله عن الإعواز ـ على أعظم العلماء المحقّقين وحيد عصره وفريد دهره السيّد السند والعلّامة الأوحد سند العلماء المحقّقين وقدوة الأتقياء المقدّسين الشاه تقي الدين محمّد النسّابة ـ قدّس الله سرّه ـ في مدّة أربع سنين قراءة بحث وتحقيق ونظر

٢٦٥

وتدقيق ) : أنّهم أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع فدلّ على أنّه حجّة ، فانّ العادة تحكم بأنّ هذا العدد الكثير من العلماء المحقّقين لا يجمعون على القطع في شرعي بمجرّد تواطؤ أو ظنّ بل لا يكون قطعهم إلّا عن قاطع فوجب الحكم بوجود نصّ قاطع بلغهم في ذلك ، فيكون مقتضاه وهو خطأ المخالف له حقّا ، وهو يقتضي حقّيّة ما عليه الإجماع.

وأورد عليه نقضا : إجماع الفلاسفة على قدم العالم ، وإجماع اليهود على أن لا نبيّ بعد موسى ، وإجماع النصارى على أنّ عيسى عليه‌السلام قد قتل.

والجواب : أنّ إجماع الفلاسفة عن نظر عقل وتعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ، وأمّا في الشرعيات فالفرق بين القاطع والظنّي بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز ، وإجماع اليهود والنصارى عن الاتّباع لآحاد الأوائل لعدم تحقيقهم ، والعادة لا تحيله بخلاف ما ذكرناه.

وبالجملة ، إنّما يرد نقضا إذا وجد فيه ما ذكرناه من القيود وانتفاؤه ظاهر.

لا يقال : على أصل الدليل انّكم إذا قلتم : أجمعوا على تخطئة المخالف فيكون حجّة ، فقد أثبتّم الإجماع بالإجماع ، وإن قلتم : الإجماع دلّ على نصّ قاطع في تخطئة المخالف فقد أثبتّم الإجماع بنصّ يتوقّف على الإجماع ، ولا يخفى ما فيه من المصادرة على المطلوب.

لأنّا نقول : المدّعى كون الإجماع حجّة والّذي ثبت به ذلك هو وجود نصّ قاطع دلّ عليه ، ووجود صورة من الإجماع يمتنع عادة وجودها بدون ذلك سواء قلنا الإجماع حجّة أم لا ، وثبوت هذه الصورة من الإجماع ودلالتها العادية على وجود النصّ لا يتوقّف على كون الإجماع حجّة ، فما جعلنا وجوده دليلا على حجّية الإجماع لا يتوقّف على حجّيته ، لا وجوده ولا دلالته ، فاندفع الدور.

وأنّهم أجمعوا (١) على أنّه يقدّم على القاطع ، وأجمعوا على أنّ غير القاطع لا يقدّم على القاطع بل القاطع ، هو المقدّم على غيره فلو كان غير قاطع لزم تعارض

__________________

(١) عطف على ما مضى من قوله : إنّهم أجمعوا على القطع بتخطئة ....

٢٦٦

الإجماعين ، وإنّه محال عادة (١) انتهى كلامه.

ثمّ بعد هذه المقالة تكلّم على سائر الأدلّة بقوله : التمسّك بالظواهر إنّما يثبت بالإجماع ، ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتّباع الظنّ (٢) انتهى كلامه.

أقول : بعد أن نطق كثير من الآيات الشريفة بالمنع عن العمل بالظنّ في نفس الأحكام الإلهية لو ظهر نصّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مخصّص لتلك الآيات بالاصول المتواتر إلينا ـ بل إلى انقراض أهل الدنيا ـ لتوفّر الدواعي على أخذ مثل ذلك وعلى ضبطه ونشره ، ولم يظهر باتّفاق المتخاصمين ، فعلم انتفاؤه في الواقع.

أنّه تواترت الأخبار عن الأئمة الاطهار عليهم‌السلام بعدم جواز التمسّك به وبأنّه من معظم تدابير العامّة ، وقد تقدّم طرف من تلك الروايات.

الوجه الثالث : أنّه أمر مخفيّ غير منضبط ، ومثله لا يصلح أن يكون مناط أحكامه تعالى ، كما اعترفت به العامّة في علّة القياس.

وأمّا الإجماع بمعنى « اتّفاق اثنين فصاعدا على حكم بشرط أن يعلم دخول المعصوم في جملتهم علما إجماليا » فهو من اصطلاح (٣) جمع من متأخّري أصحابنا ، وقد اعترف المحقّق الحلّي وغيره من المحقّقين بأنّه من الفروض الغير الثابتة (٤).

وأنا أقول : على تقدير تسليم ثبوته يرجع إلى خبر ينسب إلى المعصوم إجمالا ، فترجيحه على الأخبار المنسوبة إليه تفصيلا ـ كما جرت به عادة المتأخّرين من أصحابنا ـ غير معقول ، وكأنّهم زعموا أنّ انتساب الخبر إليه في ضمن الإجماع قطعي ولا في ضمنه ظنّي فلذلك رجّحوه ، وزعمهم هذا غير مسلّم *.

______________________________________________________

* المعروف من تعريف الإجماع الّذي هو أحد الأدلّة الشرعيّة عند الشيعة هو اتّفاق أهل العقد والحلّ على حكم من الأحكام الشرعيّة في جميع الأقطار والأمصار بحيث لا يخرج عن ذلك الحكم عالم مجهول النسب ، فيحكم العقل عند ذلك بدخول المعصوم في جملتهم ، لأنّه سيّدهم ومقتداهم ، ولا يخلو الزمان عنه عليه‌السلام فهذا هو المسمّى بالإجماع الحقيقي الّذي يقول في الاستدلال عليه. وأمّا ما هو متداول بين الأصحاب فالأكثر فيه التجوّز به عن الشهرة وكثرة

__________________

(١) شرح القاضي : ١٢٦.

(٢) شرح القاضي : ١٢٧.

(٣) خ : اصطلاحات.

(٤) المعتبر ١ : ٣١.

٢٦٧

واعلم أنّ جمعا من أصحابنا أطلقوا لفظ « الإجماع » على معنيين آخرين :

الأوّل : اتّفاق جمع من قدمائنا الأخباريّين على الإفتاء برواية وترك الإفتاء برواية واردة بخلافها. والإجماع بهذا المعنى معتبر عندي ، لأنّه قرينة على ورود ما عملوا به من باب بيان الحقّ لا من باب التقية. وقد وقع التصريح بهذا المعنى وبكونه معتبرا في مقبولة عمر بن حنظلة الآتية المشتملة على فوائد كثيرة ، لكنّ الاعتماد حينئذ على الخبر المحفوف بقبولهم لا على اتّفاق ظنونهم كما في اصطلاح العامّة.

الثاني : افتاء جمع من الأخباريّين ـ كالصدوقين ومحمّد بن يعقوب الكليني ، بل الشيخ الطوسي أيضا فإنّه منهم عند التحقيق وإن زعم العلّامة أنّه ليس منهم ـ بحكم لم يظهر فيه نصّ عندنا ولا خلاف يعادله. وهذا أيضا معتبر عندي ، لأنّ فيه دلالة قطعية عادية على وصول نصّ إليهم يقطع بذلك اللبيب المطّلع على أحوالهم *.

______________________________________________________

القائل. وعلى كلّ تقدير إذا علم قول المعصوم بأيّ وجه حصل كيف يساوي القول المنسوب إليه ولم يتحقّق ذلك فيه؟

نهاية الأمر يحصل الظنّ لو صحّ الخبر بالاصطلاح المعهود ، فكيف لا يترجّح هنا العلم على الظنّ حتّى يجعل المصنّف الترجيح به غير معقول؟ والأصحاب لم يرجّحوا الإجماع بهذا المعنى ـ وهو إذا تحقّق قول المعصوم ـ على الخبر إلّا فيما يفيد الظنّ. وأمّا الخبر المتواتر وما يفيد العلم فلم يجوّزوا حصول المعارضة فيه ولا وقوعه.

فأوّل خطأ المصنّف في تعريف الإجماع بما ذكره ، فإنّه غير ما ذكرناه في تعريفه المشهور حتّى أرجعه إلى الخبر المجمل. والثاني جعله ترجيح المعلوم على المظنون غير معقول. والثالث عدم تسليمه الفرق بين نسبة الخبر إليه عليه‌السلام في ضمن الإجماع الّذي يفيد القطع بصحّة النسبة وبين ما لا يفيد ذلك من الخبر المظنون صحّته.

وربما يعتذر معتذر عن المصنّف بأنّ الخبر الّذي يرجّح الأصحاب الإجماع عليه هو الخبر المفيد للعلم. والجواب أنّ الكلام في ترجيح الإجماع على مطلق الخبر ؛ على أنّ الّذي يفيد العلم منه كالمتواتر قد صرّحوا في كتب الاصول بالامتناع وقوع التناقض فيه ، وما ذاك إلّا لامتناع حصول العلم بكلّ من المتنافيين ، فانحصر الأمر في الخبر الّذي لا يفيد العلم إذا عارض الإجماع القطعيّ.

* إنّ من عدّده من المشايخ لا يفيد قولهم إذا اتّفقوا فيه الشهرة وحدهم حتّى يطلق

٢٦٨

وأمّا القياس

فقد قال به ابن الجنيد من أصحابنا ، ثمّ رجع عنه على ما قيل (١).

وأنا أقول : لا يجوز التمسّك به ، لأدلّة :

الأوّل : عدم ظهور دلالة قطعية على جواز التمسّك به في أحكامه تعالى.

الدليل الثاني : عدم انضباطه.

الدليل الثالث : أنّه قلّ ما يخلو عن أنواع كثيرة من الاعتراضات المذكورة في بحث القياس.

الدليل الرابع : الوجوه المذكورة سابقا لإبطال التمسّك بالاستنباطات الظنّية في نفس أحكامه تعالى ونفيها.

الدليل الخامس : انّ بطلانه صار من ضروريات مذهبنا ، لتواتر الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بذلك.

وأمّا استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كتاب الله

من غير سؤال أهل الذكر عليهم‌السلام عن حالها : من كونها منسوخة أم لا ، مقيدة أم لا ، مؤوّلة أم لا.

فقد جوّزه جمع من متأخّري أصحابنا وعملوا به في كتبهم الفقهية ، مثل

______________________________________________________

على ذلك إجماع ويعتدّ به ، على أنّ منهم من يحكم في مسألة بالشهرة ويخالفها أو يدعيها في حكم آخر مخالف لما ادّعاه فيه أوّلا. وتسليمه وفرضه صحّة الحكم في مسألة لم يظهر فيها نصّ على الوجه المذكور مناف لما يدّعيه من استحالة وجود مسألة لا يوجد فيها نصّ قاطع يمكن الوصول إليه. وأمّا حكمه القطع بوصول نصّ قاطع إليهم فلا ندري من أين علم ذلك؟ لأنّ الفتوى ربما كان مستندها العلم أو الظنّ ولم يعلم منهم أنّهم لا يفتون إلّا عن علم ، خصوصا الشيخ رحمه‌الله ولو كان عندهم نصّ صريح قاطع لما تركوا إثباته في كتبهم وهم بصدد جمع الحديث الصحيح والضعيف. وما أظنّ لبيبا يتوهّم ذلك فضلا عن القطع به.

__________________

(١) لم نظفر بقائله.

٢٦٩

التمسّك بعموم قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) في إثبات صحّة العقود المختلف فيها. وهو أيضا غير جائز ، وذلك لوجوه :

من جملتها : عدم ظهور دلالة قطعية على ذلك.

ومن جملتها : ترتّب المفاسد على فتح هذا الباب ، ألا ترى أنّ علماء العامّة قالوا في قوله تعالى : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) أنّ المراد السلاطين (٣) *.

ومن جملتها : أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بعدم جوازه معلّلا بأنّه إنّما يعرف القرآن من خوطب به وبأنّ القرآن نزل على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعيّة وبأنّه إنّما نزل على قدر عقول أهل الذكر عليهم‌السلام وبأنّ العلم بناسخه ومنسوخه والباقي على ظاهره وغير الباقي على ظاهره ليس إلّا عندنا أهل البيت عليهم‌السلام وقد تقدّم طرف من تلك الأخبار (٤) فيه الكفاية إن شاء الله تعالى **.

______________________________________________________

* إنّ العمل بالعامّ مسألة اصوليّة ولم يجوّزوا العمل به إلّا بعد العلم بانتفاء المخصّص ، ولم يجوّزوا خفاء المخصّص بكلّ وجه ، فعدم ظهوره دليل على عدمه ، فصار كالصريح في مدلوله والأئمّة عليهم‌السلام لم يثبت عنهم لأصحابهم تفسير جميع القرآن. ويكفينا في تفسير ما لم يصل إلينا منهم تفسيره ظهور حكم منه لا يخالف شيئا من ضروريّات مذهبنا ولا حكمة عقليّة ولا أمرا ثبت خلافه عن أئمّتنا عليهم‌السلام على أنّ أكثر التفاسير المنقولة عنهم عليهم‌السلام لا يخلو طريقها من ضعف أو دلالتها على أمر مستبعد ، ومعرفة الناسخ من المنسوخ بعد حصره وضبطه قد صار معلوما ومشهورا عند الفريقين فيبعد بعد ذلك الاشتباه فيه. وأمّا الاختلاف في التفسير في بعض الآيات المشتبهة ـ كما ذكره في المعنى المراد من « اولي الأمر » فلا ينافي في العمل بغيرها ممّا ليس فيها اشتباه. ولا نزاع في أنّه عند الاشتباه وعدم ظهور المراد لا يجوز الحكم فيه بغير علم. والعامل بالدليل الواضح لا يتكفّل بخطإ غيره فيه أو فيما يشابهه حتّى يلزمه تركه لأجل هذا المحذور ؛ على أنّ تركه لا يستلزم ترك غيره له ، فأيّ فائدة في الترك لأجل هذا الخصوص؟

** إنّه لا شكّ أنّ في القرآن أسرارا خفيّة وحكما مخفيّة لا يطّلع عليها بعد الرسول إلّا

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) انظر الكشّاف للزمخشري ، والتفسير الكبير للفخر الرازي ، ذيل الآية ٥٩ من سورة النساء.

(٤) راجع ص ٢٢٠ ـ ٢٢٥.

٢٧٠

ومن جملتها أنّ ظنّ بقائها على ظاهرها إنّما يحصل للعامّة دون الخاصّة ، وقد مرّ بيان ذلك في الفصل الخامس (١).

وبالجملة ، عند المحقّقين من الاصوليّين التفحّص عن الناسخ والمنسوخ والتخصيص والتأويل واجب ، وطريق التفحّص عندنا منحصر في سؤالهم عليهم‌السلام عن حالها.

وأمّا استنباط الأحكام النظرية من السنّة النبويّة

من غير تفحّص عن حالها هل هي منسوخة أم لا ، مقيّدة أم لا ، مؤوّلة أم لا؟ بسؤال أهل الذكر عليهم‌السلام عن ذلك.

فقد جوّزه جمع من متأخّري أصحابنا وعملوا به ، مثلا تمسّكوا بعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (٢) وبإطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » (٣) وهو أيضا غير جائز بعين الوجوه المذكورة آنفا في التمسّك بظواهر القرآن من غير سؤالهم عليهم‌السلام عن حالها. مع زيادة هنا ، وهي : أنّه كثر الافتراء عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث امتنع التمييز بين ما هو من باب الافتراء وبين ما ليس كذلك ، واختلطت السنّة المنسوخة بالناسخة بحيث يتعذّر التمييز بينهما إلّا من جهة أهل الذكر عليهم‌السلام *.

______________________________________________________

الأئمّة ـ عليه وعليهم‌السلام ـ وأمّا امور التكاليف والخطابات بها فلا يحسن القول بخفائها وعدم ظهورها بأيّ وجه كان ، لأنّ ذلك مناف للحكمة المقصودة من القرآن ، ويؤكّد ذلك قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ) فإنّ المستفاد منه أنّه لأجل التفاهم وعدم الفائدة عند عدم الفهم ، وذلك لا ينافي ما نقل ـ إن صحّ ـ من كلام الأئمّة عليهم‌السلام ولا بدّ من تنزيله عليه.

* إنّ الأصحاب إن ثبت عنهم الاستنباطات الّذي ادّعاه فإنّما يكون من سنّة قد علموا صحّتها ، وليست كلّ أخبار الرسول غير معلومة الصحّة عندنا ، خصوصا المشهورة الّتي نعلم شهرتها في زمانهم عليهم‌السلام ولم يظهر منهم إنكارها مع موافقتها لدليل العقل ، مثل ما ذكره من الحديثين وغيرهما من الأحاديث القدسيّة. وقد أوجب الشيخ رحمه‌الله في العدّة وجوب العمل بالخبر من طريق المخالفين إذا لم يكن للشيعة في حكمه خبر يخالفه ولا يعرف لهم فيه قول ، لما روى

__________________

(١) راجع ص ٢٦٤.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٠ ، ح ٩٣.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٤ ، ح ١٠٦.

٢٧١

وأمّا شرع من قبلنا

فأقول : لم يحط علمنا بالآيات والسنن الواردة في شرعنا ، فكيف يحيط بالآيات والسنن المتعلّقة بشرع من قبلنا.

وأمّا التمسّك بالملازمات المختلف فيها

مثل « أنّ الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن أضداده الخاصّة الوجوديّة » فقد جوّزه جمع من متأخّري أصحابنا. والأحاديث الناطقة بأنّ كلّ طريق يؤدّي إلى اختلاف الفتاوى لا يجوز سلوكه جارية فيه.

وأمّا التمسّك بالترجيحات الاستحسانيّة الظنّيّة

المسطورة في كتب العامّة وكتب جمع من متأخّري الخاصّة عند تعارض الأدلّة الظنّية.

فقد قال به جمع من متأخّري أصحابنا وهو أيضا باطل ، لأدلّة :

______________________________________________________

عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا إلى ما روي عن عليّ عليه‌السلام فاعملوا به » وعملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلّوب ونوح بن درّاج والسكوني وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه (١). والافتراء والكذب الّذي تمسّك به في نفي الاعتماد على ذلك وارد على أحاديث أئمّتنا عليهم‌السلام أكثر منه ، فكيف أخلّ ذلك بعدم الاعتماد (٢) هناك ولم يخلّ هنا؟ مع أنّ دواعي أهل الخلاف متوفّرة على نقل الحديث وتصحيحه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل تكليفهم والعمل به ، وليس لهم سبيل بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذلك. بخلاف الشيعة ، فإنّ سبيلهم واضح بتعدّد الأئمّة عليهم‌السلام فينبغي أن يكون عندهم جانب الصحّة فيما ليس تابعا للهوى والتعصّب أقرب من غيرهم.

ثمّ إنّ قول الصادق عليه‌السلام : « إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا » صريح في إبطال دعوى المصنّف ومبالغته في وجود أدلّة جميع الأحكام بالقطع عنهم عليهم‌السلام في الزمن المتقدّم وزماننا هذا. وبطلان دعواه هذه معلوم بالضرورة ، فضلا عن أن يدلّ عليها دليل.

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ١٤٩.

(٢) كذا ، والظاهر : بالاعتماد.

٢٧٢

الدليل الأوّل : أنّه لا إذن بذلك من جهة الشارع ولم تظهر دلالة قطعية عقلية عليه.

الدليل الثاني : أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بأنّه يجب سؤالهم عن كلّ ما لم يعلم ، ووجه الخلاص من الحيرة عند تعارض الأدلّة من جملة ما لم نعلم.

الدليل الثالث : أنّهم عليهم‌السلام عيّنوا لنا طريقة الخلاص من تلك الحيرة في ضمن قاعدة شريفة آتية ، فلا يجوز العدول عنها إلى الوجوه الاستحسانية والامور الظنّية *.

الدليل الرابع : أنّه قد تقرّر في فنّ الآداب أنّ كلّ متكلّم أعلم بمراده ويجب الرجوع إليه في تعيين قصده ، فإذا كان التعارض في كلام الشارع يجب بمقتضى الآداب أيضا الرجوع إلى صاحب الشريعة.

ومن العجائب! ما وقع من بعض المتأخّرين من أصحابنا (١) حيث زعم أنّ القاعدة الاصوليّة المذكورة في كتب العامّة القائلة بـ « أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن ولو بتأويل بعيد أولى من طرح أحدهما » جارية في أحاديث أئمّتنا عليهم‌السلام وغفل عن أنّ تلك القاعدة إنّما تجري على مذهب العامّة ، لعدم حديث وارد من باب التقية عندهم ، وعن أنّها لا تتّجه عندنا ، لورود كثير من أحاديث أئمّتنا عليهم‌السلام من باب التقيّة ، وكم من غفلة وقعت عن متأخّري أصحابنا الاصوليّين! والسبب فيها ألفة أذهانهم من صغر سنّهم بكتب العامّة ، وسبب الالفة أنّه كان المتعارف في المدارس والمساجد وغيرهما تعليم كتبهم ، لأنّ الملوك وأرباب الدول كانوا منهم والناس مع

______________________________________________________

* بعد أن ثبت العمل بخبر الواحد بدليل العقل والنقل وثبت من الشارع التعويل على الظنّ فيما لا يمكن تحصيل العلم فيه وهو دون الظنّ الحاصل بخبر الواحد ـ كما نبّهنا عليه سابقا ـ لا يتّجه ما ذكره.

والعجب من ادّعائه تواتر الأخبار على كلّ ما يريده من الدعاوي الواهية! ووجوب سؤالهم عليهم‌السلام من ينازع فيه (٢) إذا أمكن ، والكلام كلّه فيما إذا تعذّر ذلك. وذكره لرجوع الظنّ إلى مجرّد الاستحسان كما تعتمده العامّة أعرف شي‌ء في الجرأة على الأصحاب بمثل ذلك وإسناد باطل إليهم. والطريقة الّتي وعد بها نتكلّم عليها عند الوصول إليها بما تقتضيه الحال إن شاء الله.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٦.

(٢) الأولى في العبارة : عمّا ينازع فيه.

٢٧٣

الملوك وأرباب الدول. ولا نظنّ برئيس الطائفة ـ قدّس الله روحه ـ أنّ التوجيهات الّتي ذكرها بقصد الجمع بين الأحاديث في كتابي الأخبار مبنيّة على غاية تلك القاعدة ، بل قصده قدس‌سره رفع التناقض عن كلام الأئمّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ بطريق العامّة مهما أمكن. والسبب في ذلك ما نقله قدس‌سره في أوّل كتاب تهذيب الأحكام : من أنّه رجع بعض الناس عن الحقّ إلى مذهب العامّة لما وجد الاختلاف بين أحاديث العترة الطاهرة عليهم‌السلام (١). وبهذا التحقيق اندفع اعتراضات المتأخّرين عليه بأنّ كثيرا من توجيهاته بعيدة ، والحمل على التقية أقرب منها *.

______________________________________________________

* لو كان الجمع بين أحاديث الأئمّة عليهم‌السلام أمرا غير راجح وغير مندوب إليه في نفسه لأجل دفع التضادّ والتنافي في كلامهم الغير الجائز عليهم عليهم‌السلام لكان الاقتداء بالغير والاتّباع له فيه له وجه ، وأمّا إذا كان الأمر على خلاف ذلك وكان الرجحان والاهتمام بذلك أمرا معلوما بنفسه ، فما الحاجة فيه إلى اتّباع الغير ونسبة فاعله إلى الغفلة عن الفرق؟ وأيضا فإنّ المفهوم من مطلق التأويل حمل الشي‌ء على غير الظاهر منه لعذر يقتضي ذلك ، وهو شامل للحمل على التقيّة وغيرها ، فليس الحمل على التقيّة أمرا خارجا عن التأويل حتّى يكون القائل بتمشّيه عندنا أيضا غافلا عن ذلك وعن عدم اتّجاه تلك القاعدة عندنا.

وليس الجمع بين الأحاديث المختلفة منحصرا عندنا في الحمل على التقيّة حتّى لا يتحقّق التأويل المذكور عندنا ـ كما توهّمه المصنّف ـ بل الظاهر أنّه كلّما أمكن الجمع والتأويل بوجه صحيح لا يخرج عن مدلول اللفظ عن حكم صاحبه واعتقاده صحّته ظاهرا وباطنا يكون ذلك أولى من الخروج عن إرادة مدلوله بحمله على التقيّة.

وما ذكره من سبب كثرة الغفلة الّتي نسبها إليهم أنّه ألفة أذهانهم من صغر سنّهم بكتب العامّة ثمّ ذكر سبب ذلك ـ إلى آخر كلامه في هذا المعنى ـ فهو أمر ما عهد من أحد ممّن نسبه إليه. وهذه حال المصنّف يدّعي على قدر ما يخطر في فكره غافلا أو متيقّظا ، فهو أحقّ بنسبة الغفلة إليه رحمه‌الله.

وما دفع به اعتراض المتأخّرين على الشيخ رحمه‌الله أوّله يناقض آخره ، لأنّ كلامه أوّلا يقتضي أنّ جمع الشيخ بين الأحاديث بما أوّلها به كان مبنيّا على تلك القاعدة من كلام العامّة لدفع

__________________

(١) قال : إنّ أبا الحسين الهروي العلوي كان يعتقد الحقّ ويدين بالإمامة ، فرجع عنها لمّا التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث ، التهذيب ١ : ٢.

٢٧٤

وأمّا تخيير المجتهد عند تعادل الأدلّة في نظره

فقد قال به جمع من متأخّري أصحابنا ، وهو باطل ، لعدم ظهور دلالة قطعية نقلية أو عقلية عليه ، ولصراحة الأخبار المتواترة المأخوذة عن العيون الصافية غير النافذة (١) في وجوب الرجوع إليهم عليهم‌السلام في كلّ موضع لم نعلم حكمه ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، وبعد أن رجعنا إلى أحاديثهم عليهم‌السلام وجدنا فيها قاعدة شريفة متواترة معنى متعلّقة بباب الخبرين المتعارضين مشتملة على بيان وجوه مترتّبة من الترجيحات. ومع فقدها تارة رخّصوا لنا بقولهم عليهم‌السلام : « بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم » (٢)

______________________________________________________

التناقض المتوهّم عندهم في كلام الأئمّة عليهم‌السلام فما كان يناسب عند هذا القصد حمل شي‌ء من الأحاديث في كتابيه على التقيّة غالبا ، لأنّ مراده بالتأويل اشتهاره عند العامّة ليطّلعوا على دفع التناقض الّذي اعتقدوه أو توهّموه في كلام الأئمّة عليهم‌السلام. فاندفع بذلك ما أوردوه عليه : من أنّ الحمل على التقيّة كان أولى من التوجيهات البعيدة.

وأمّا مناقضة ذلك لكلامه ثانيا ، فإنّ مقتضاه أنّ السبب الباعث له على جمع الأحاديث ما كان إلّا بسبب ما وقع فيها من الاختلاف والتضادّ الّذي أوجب رجوع بعض الناس عن الحقّ بسبب عدم تجويز هذا الاختلاف والتضادّ في كلام المعصومين عليهم‌السلام فأراد رحمه‌الله إزالة الوهم الحاصل بسبب الاختلاف بأن يجمع بينهما بما يزيل الاختلاف ، وحينئذ ليس له وجه لذلك أظهر من حمل ما يخالف الحقّ على التقيّة حتّى يدفع هذا المحذور الّذي صرّح بالاهتمام بدفعه. وليس في هذا التوجيه ما يشعر بقصد دفع التضادّ عند العامّة ، فالجمع بين القصدين ـ كما هو المفهوم من كلام المصنّف ـ ظاهر التنافي والتناقض.

وأمّا اعتراض المتأخّرين على الشيخ ـ الّذي دفعه المصنّف عنه بدفع فاسد ـ لا يليق نسبته إلى مراد الشيخ رحمه‌الله فالظاهر أنّ منشأه مخصوص بما إذا كان المقام لا يناسب الحمل على التقيّة. وما يذكره من التأويل في نهاية البعد عن اللفظ والمعنى. واحتمال عدم الصحّة أمر ممكن قريب ، وقد اعترف في كثير منها بعدم الصحّة وتمام الضعف وردّ مقتضاها بذلك ، فالإيراد عليه رحمه‌الله مخصوص بذلك أو بمحلّ يقبل التقيّة ، ويرجع إلى غيرها من التأويل البعيد.

__________________

(١) كذا في خ وط ، والظاهر : غير النافدة.

(٢) الكافي ١ : ٦٦ ذيل ح ٧.

٢٧٥

وتارة لم يرخّصوا بل أوجبوا التوقّف. وسيجي‌ء في كلامنا إن شاء الله تعالى تحقيق المقام على أكمل وجه وأتمّ تفصيل وتحقيق موضع الرخصة وموضع التوقّف *.

وأمّا التمسّك بالبراءة الأصلية في نفي حكم شرعي

لأنّ الأصل في الممكنات العدم سواء ظهرت شبهة مخرجة عنها أو لم تظهر.

فقد قال به كلّ علماء العامّة وكلّ المتأخّرين من أصحابنا ، حتّى قال المحقّق الحلّي في اصوله : أطبق العلماء على أنّ مع عدم الدلالة الشرعية يجب إبقاء الحكم على ما تقتضيه البراءة الأصلية (١).

وقد قال أيضا : إذا اختلف الناس على أقوال وكان يدخل بعضها في بعض ـ كما اختلف في حدّ الخمر ، فقال قوم : ثمانون ، وآخرون : أربعون أو في دية اليهودي فقيل : كدية المسلم ، وقيل : ثمانون ، وقيل : على النصف ، وقيل : على الثلث ـ هل يكون الأخذ بالأوّل حجّة؟ حكم بذلك قوم وأنكره آخرون. أمّا القائلون بذلك فقالوا : قد حصل الإجماع على وجوب الأقلّ والإجماع حجّة ، واختلف في الزائد والبراءة الأصلية نافية له فيثبت الأقلّ وينتفي الزائد بالأصل ، لأنّ التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية ، وقد بيّنّا أنّ مع عدمها يكون العمل بالبراءة الأصلية لازما.

لا يقال : الذمّة مشغولة بشي‌ء ، وقد اختلف فيما تبرأ به الذمّة ، وفي الأقلّ خلاف وبالأكثر تبرأ الذمّة يقينا ، فيجب الأخذ به احتياطا لبراءة الذمّة.

لأنّا نقول : لا نسلّم اشتغال الذمّة مطلقا ، لأنّ الأصل دالّ على خلوّها فلا تشتغل إلّا مع قيام الدليل وقد ثبت اشتغالها بالأقلّ فلا يثبت اشتغالها بالأكثر ،

______________________________________________________

* قول الإمام عليه‌السلام : « بأيّهما أخذتم من باب التسليم » صريح في تخيير المجتهد وغيره عند تعارض الخبرين ، وقد منع المصنّف من تخيير المجتهد بقول مطلق وأبطله عند تعارض الأدلّة سواء كان التعارض بين الخبرين أو غيرهما. والمفهوم من كلامهم عليهم‌السلام في التخيير عند تعارض جهات القبلة للمصلّي عموم التخيير في مطلق تعارض الأدلّة ، وهو مبطل لما أبطله ، كما لا يخفى.

__________________

(١) معارج الاصول : ٢٠٨.

٢٧٦

والاشتغال بالأكثر مغاير للاشتغال المجرّد ومغاير للاشتغال بالأقلّ ، فيكون الاشتغال بالأكثر والاشتغال المطلق منفيّا بالأصل.

لا يقال : فإن لم يثبت دلالة على الأكثر فإنّه من الممكن أن يكون هناك دليل ولا يلزم من عدم الظفر به عدمه ، فكان العمل بالأكثر أحوط.

لأنّا نقول : ذلك الدليل المحتمل لا يعارض الأصل لأنّا قد بيّنّا أنّ مع تقدير عدم الدلالة الشرعية يجب العمل بالبراءة الأصلية وذلك يرفع ما أومأ إليه من الاحتمال (١) انتهى كلامه أعلى الله مقامه في كتاب الاصول. وقد رجع المحقّق عن جواز التمسّك بالبراءة الأصلية في غير ما يعمّ به البلوى في أوائل كتاب المعتبر (٢).

وأنا أقول : التمسّك بالبراءة الأصلية من حيث هي هي إنّما يجوز قبل إكمال الدين ، وأمّا بعد أن كمل الدين وتواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بأنّ كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة وكلّ واقعة تقع فيها الخصمة بين اثنين ورد فيها خطاب قطعي من قبل الله تعالى حتّى أرش الكفّ (٣) فلا يجوز قطعا ، وكيف يجوز؟ فقد تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بوجوب التوقّف في كلّ واقعة لم نعلم حكمها معلّلين بأنّه بعد أن كمل الدين لا تخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من الله تعالى (٤) وبأنّ من حكم بغير ما أنزل الله تعالى فاولئك هم الكافرون (٥) *.

______________________________________________________

* إنّا قد بيّنّا فيما سبق : أنّ البراءة الأصليّة من جملة الأدلّة الشرعيّة ، لقول الصادق عليه‌السلام : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » والمراد بحجبه عدم وصوله إليهم ، ومعنى وضعه عنهم أن التكليف به ساقط ، فأيّ دليل أظهر من ذلك.

وأمّا قوله « تواترت الأخبار بأنّ كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة ورد فيها خطاب قطعيّ » إن كان مراده أنّ لله تعالى فيها حكما فمسلّم ، ولكن أين وصوله إلينا؟ فإنّ كتب الأخبار الموجودة أكثر الأحكام ليس فيها ما يدلّ عليه لا صريحا ولا فحوى ، ولو كان الأمر كما يدّعيه لما حصل عند أحد من المتقدمين والمتأخّرين اشتباه ولا اختلاف. وما أخفّ على المصنّف من ادّعاه تواتر الأخبار في كلّ ما يدّعيه! وهذا التواتر لم يطّلع عليه غيره من المتقدّمين والمتأخّرين حتّى

__________________

(١) معارج الاصول : ٢١٣.

(٢) المعتبر ١ : ٣٢.

(٣) الكافي ١ : ٥٩ ، ح ٣ وفيه : أرش الخدش.

(٤) الوسائل ١٨ : ٣٧ ، ح ٣٨ نقلا من تفسير النعماني.

(٥) الكافي ٧ : ٤٠٨ ح ٢.

٢٧٧

ثمّ أقول : هذا المقام ممّا زلّت فيه أقدام أقوام من فحول الأعلام ، فحريّ بنا أن نحقّق المقام ، فنوضحه بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام.

فنقول : التمسّك بالبراءة الأصلية إنّما يتمّ عند الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، وكذلك إنّما يتمّ عند من يقول بهما ولا يقول بالوجوب والحرمة الذاتيّين ، وهو المستفاد من كلامهم عليهم‌السلام وهو الحقّ عندي. ثمّ على هذين المذهبين إنّما يتمّ قبل إكمال الدين لا بعده ، إلّا على مذهب من جوّز من العامّة خلوّ واقعة عن حكم وارد من الله تعالى *.

______________________________________________________

لم يعملوا بمقتضاه ولم يعتقدوه. والسيّد المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ لا شكّ أنّه أعرف من المصنّف بالخبر المتواتر من غيره ، وقد ترك العمل بكثير من الأخبار الّتي يدّعي المصنّف ثبوتها والقطع بصحّتها ويدّعي تواتر الأخبار بثبوت ذلك.

وكمال الدين لا يتوقّف على ما يدّعيه ، فإنّه قد كمل ولله الحمد من غير اعتقاد أحد ما اعتقده. وقد قدّمنا أنّ في ما نقله الشيخ عن الصادق عليه‌السلام سابقا دلالة على إمكان عدم وجدان نصّ من قبلهم عليهم‌السلام في بعض الأحكام. والتوقّف في المسائل الّتي لا يجد المجتهد عليها دليلا علميّا ولا ظنّيا كثير في أبواب الاصول والفروع ، فلم يحصل خلاف للأئمّة عليهم‌السلام من المجتهدين عند أمرهم بالتوقّف. ولو كان إكمال الدين موقوفا على العلم لجميع المكلّفين بذلك الحكم الّذي كلّفوه والقطع به لوجب ظهوره ظهورا لا يحصل معه اختلاف ولا اشتباه ، ولم يتّفق ذلك في سائر الامم ، وما زال الاختلاف والاشتباه واقعا في كلّ أمّة.

* لا شكّ أنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة عند من يقول بالحسن والقبح أقرب ممّن ينفي ذلك ، لأنّ احتمال تكليف الله ـ سبحانه وتعالى ـ لمكلّف بحكم ولا يجعل له طريقا إلى علمه ممّا يقضي العقل بقبحه وامتناعه إذا أراد منه فعله ، وكمال الدين ليس موقوفا على إبطال البراءة الأصليّة ، لأنّ حكم الله بثبوتها ظاهر وقد بيّنّاه ، بل هو من أصله غير محتاج إلى بيان بدليل العقل فضلا عن النقل لمن له بصيرة.

وليس المقام بمحرز لهذا التحمّس العظيم الّذي ثبتت فيه أقدامه مع زلل أقدام فحول العلماء ، وما أشكّ أنّ مثل هذه الأحوال تصدر عن كامل العقل (١).

__________________

(١) كذا ، والعبارة مشوّشة.

٢٧٨

لا يقال : بقي أصل آخر ، وهو أن يكون الخطاب الّذي ورد من الله تعالى موافقا للبراءة الأصلية.

لأنّا نقول : هذا الكلام ممّا لا يرضى به لبيب ، وذلك لأنّ خطابه تعالى تابع للحكم والمصالح ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة ، قد يكون إيجابا ، وقد يكون تحريما ، وقد يكون تخييرا ، وقد يكون غيرها لا يعلمها إلّا هو جلّ جلاله. ونقول : هذا الكلام في قبحه نظير أن يقال : الأصل في الأجسام تساوي نسبة طبائعها إلى جهة السفل والعلو ، ومن المعلوم بطلان هذا المقال.

ثمّ أقول : الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في ثلاثة : « أمر بيّن رشده وأمر بيّن غيّه وشبهات بين ذلك » (١) وحديث « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (٢) ونظائرهما أخرج كلّ واقعة لم يكن حكمها بيّنا عن البراءة الأصلية وأوجب التوقّف فيها. ورأيت في آخر جمع الجوامع وشرحه من كتب اصول الشافعية حكاية حسنة في هذا المقام فاستمع لها ، ففي جمع الجوامع : إذا خطر لك أمر فزنه بالشرع ، فإن كان مأمورا فبادر فإنّه من الرحمن ، وإن كان منهيّا فإيّاك فإنّه من الشيطان ، وإن شككت أمأمور أو منهيّ فأمسك (٣).

وفي شرح الفاضل بدر الدين الزركشي (٤) له : القسم الثالث أن نشكّ في كونه مأمورا أو منهيّا ، فالواجب الامساك عنه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » وإنّما اقتصر المصنّف على هذه الأحوال الثلاثة ، لأنّها قطب العلم وعليها تدور رحى العمل. وقد بلغني عن بعض الأئمّة : أنّه رأى في ابتداء أمره في المنام أنّه حضر الجامع فوجد فيه متصدّرا فجلس ليقرأ عليه ، فقال : كيف تقرأ عليّ وقد علّمك الله المسائل الثلاث؟ فانتبه وأتى معبّرا ، فقال : اذهب فستصير أعلم أهل زمانك ، فإنّ المسائل الثلاث الّتي أشار إليها أمّهات العلم في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما امور مشتبهات ... الحديث. انتهى كلامه.

__________________

(١) معاني الأخبار : ١٩٦.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٤ ، ح ٤٠.

(٣) كذا ، والعبارة مشوّشة.

(٤) تشنيف المسامع في شرح جمع الجوامع في اصول الفقه ، لأبي عبد الله محمّد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري المنهاجي ، المتوفّى سنة ٧٩٤ ، ولا يوجد عندنا هذا الشرح.

٢٧٩

وأنا أقول : أيّها الناظر اللبيب انظر كيف أنطقهم الله بالحقّ من حيث لا يدرون؟!

ثمّ أقول : الاشتباه قد يكون في وجوب فعل وجودي وعدم وجوبه مثلا ، وقد يكون في حرمة فعل وجودي وعدم حرمته مثلا ، وقد جرت عادة العامّة وعادة المتأخّرين من علماء الخاصّة بالتمسّك بالبراءة الأصلية في المقامين. ولمّا أبطلنا جواز التمسّك بها لعلمنا بأنّه تعالى أكمل لنا ديننا ، ولعلمنا بأنّ كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة أو تخاصم فيها اثنان ورد فيها خطاب قطعي من الله عزوجل خال عن معارض معادل ، ولعلمنا بأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله مخزون عند الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام ولعلمنا بأنّهم عليهم‌السلام لم يرخّصونا في التمسّك بالبراءة الأصلية فيما نعلم الحكم الّذي ورد فيه بعينه ، بل أوجبوا التوقّف في كلّ ما لم نعلم حكمه بعينه ، وأوجبوا الاحتياط أيضا في بعض صوره ، فعلينا (١) أن نبيّن ما يجب أن يعمل به في المقامين ، وسنحقّقه بما لا مزيد عليه إن شاء الله تعالى في الفصل الثامن بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا.

وقد رأيت في المنام واليقظة أبوابا مفتوحة للوصول إلى الحقّ في هذه المقامات في الحرمين الشريفين ، وشاهدت بعين البصر (٢) والبصيرة مصداق قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (٣) والحمد لله تعالى *.

______________________________________________________

* إنّ الاعتماد في مثل هذه المقامات على المنامات دليل ضعف العقل ، ولا يليق تصوّره بوجه ، لأنّ الإنسان من طبعه إذا كثر عنده الهجس بشي‌ء رآه في منامه خطأ كان أو صوابا ، وكثيرا ما يكون ذلك من الشيطان عند الفتنة للعلماء بسبب اعتقاد الكمال والمزيّة على الغير والعجب بالنفس ، ولا يمنع عروض الشيطان مانع من تقوى أو صلاح ، فإنّ فاطمة عليها‌السلام مع شرفها وطهارتها عرض لها الشيطان الأبيض في المنام وأراها ما يكره بصورة اليقظة (٤) وهذه الحالة هي المحذّر منها للعلماء الّتي ربما توجب الكفر في بعض الموارد! وادّعاء المصنّف أنّه شاهد ذلك يقظة وتخيّل له هذا الأمر حتّى اعتقده محسوسا مقرّب لما أشرنا إليه.

__________________

(١) جواب لقوله : ولمّا أبطلنا.

(٢) خ : النظر.

(٣) العنكبوت : ٦٩.

(٤) بحار الأنوار ٤٣ : ٩٠ ، ح ١٤.

٢٨٠