الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

والسلام ـ فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصادق عليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكري عليه‌السلام.

ومنها : أخذه من أحد الكتب الّتي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الفرقة الناجية الإماميّة ككتاب الصلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ككتاب حفص بن غياث القاضي وكتب الحسين بن عبيد الله السعدي وكتاب القبلة لعليّ بن الحسن الطاطري.

وقد جرى رئيس المحدّثين ثقة الإسلام محمّد بن بابويه قدس‌سره على متعارف المتقدّمين من إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ويعتمد عليه ، فحكم بصحّة جميع ما أورده من الأحاديث في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وذكر أنّه استخرجها من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، وكثير من تلك الأحاديث بمعزل عن الاندراج في الصحيح على مصطلح المتأخّرين ومنخرط في سلك الحسان والموثّقات ، بل الضعاف. وقد سلك على ذلك المنوال جماعة من أعلام علماء الرجال ، فحكموا بصحّة حديث بعض الرواة غير الإماميّة ، كعليّ بن محمّد بن رباح وغيره ، لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الّذين انعقد الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم.

تبيين (١) : والّذي بعث المتأخّرين ـ نوّر الله مراقدهم ـ على العدول عن متعارف القدماء ووضع ذلك الاصطلاح الجديد هو : أنّه لما طالت الأزمنة بينهم وبين الصدر والسالف وآل الحال إلى اندراس بعض كتب الاصول المعتمدة لغلظ حكّام الجور والضلال والخوف من إظهارها وانتساخها ، وانضمّ إلى ذلك اجتماع ما وصل إليهم من كتب الاصول في الاصول المشهورة في هذا الزمان ، والتبست الأحاديث المأخوذة من الاصول المعتمدة بالمأخوذة من غير المعتمدة واشتبهت المتكرّرة في كتب الاصول بغير المتكرّرة. وخفي عليهم ـ قدّس الله أرواحهم ـ كثير من تلك الامور الّتي كانت سبب وثوق القدماء بكثير من الأحاديث ولم يمكنهم الجري على

__________________

(١) استطراد كلام الشيخ بهاء الدين.

١٢١

إثرهم في تمييز ما يعتمد عليه ممّا لا يركن إليه ، فاحتاجوا إلى قانون يتميّز به الأحاديث المعتبرة عن غيرها والموثوق بها عمّا سواها ، فقرّروا لنا ـ شكر الله سعيهم ـ ذلك الاصطلاح الجديد وقرّبوا إلينا البعيد ووصفوا الأحاديث الموردة في كتبهم الاستدلالية بما اقتضاه ذلك الاصطلاح من الحسن والصحّة والتوثيق. وأوّل من سلك هذا الطريق من علمائنا المتأخّرين شيخنا العلّامة جمال الحقّ والدين الحسن بن المطهّر الحلّي ـ قدّس الله روحه ـ.

ثمّ إنّهم ـ أعلى الله مقامهم ـ ربّما يسلكون طريقة القدماء في بعض الأحيان ، فيصفون مراسيل بعض المشاهير ـ كابن أبي عمير وصفوان بن يحيى ـ بالصحّة ، لما شاع من أنّهم لا يرسلون إلّا عن عدل يثقون بصدقه ، بل يصفون بعض الأحاديث الّتي في سندها من يعتقدون أنّه فطحي أو ناووسي بالصحّة ، نظرا إلى اندراجهم في من أجمعوا على تصحيح ما يصحّ عنهم. وعلى هذا جرى العلّامة ـ قدّس الله سرّه ـ في المختلف ، حيث قال في مسألة ظهور فسق إمام الجماعة : إنّ حديث عبد الله بن بكير صحيح ، وفي الخلاصة حيث قال : إنّ طريق الصدوق إلى أبي مريم الأنصاري صحيح وإن كان في طريقه أبان بن عثمان ، مستندا في الكتابين إلى إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهما.

وقد جرى شيخنا الشهيد [ الثاني ] ـ طاب ثراه ـ على هذا المنوال أيضا كما وصف في بحث الردّة من شرح الشرائع حديث الحسن بن محبوب عن غير واحد بالصحّة (١) وأمثال ذلك في كلامهم كثير فلا تغفل (٢) انتهى كلامه.

وأنا أقول : إن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام ، وبالله التوفيق وبيده أزمّة التحقيق.

فنقول أوّلا : إنّما ينفع تقسيم (٣) الخبر الواحد الخالي عن القرائن ، وهذه

__________________

(١) المسالك ١٥ : ٢٥.

(٢) مشرق الشمسين ( المطبوع مع الحبل المتين ) : ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

(٣) في هامش ط : هذا التقسيم وهذه الاصطلاحات إن ظهرت دلالة على جواز التمسّك ببعض أفراد الخبر الواحد الخالي عن القرائن. ( خ ل ).

١٢٢

الاصطلاحات إن ظهرت دلالة على جواز التمسّك ببعض أفراد خبر الواحد الخالي عن القرائن ولم تظهر ، بل وجدت دلالات على أنّ الحقّ في هذه المسألة ما اختاره علم الهدى ورئيس الطائفة والمحقّق الحلّي وابن إدريس ـ قدّس الله أرواحهم ـ كما سيجي‌ء بيانها إن شاء الله تعالى.

وثانيا : أنّ هذا التقسيم وما يتعلّق به من الأحكام كان مشهورا في كتب العامّة قديمهم وحديثهم ، والسبب فيه : أنّ معظم أحاديثهم من باب خبر الواحد الخالي عن القرائن الموجبة للقطع بورود الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فاضطروا إلى التقسيم المذكور وما يتعلّق به من الأحكام.

وأمّا قدماء علمائنا ـ قدّس الله أرواحهم ـ فلمّا تمكّنوا من أخذ الأحكام بطريق القطع عن الأئمّة عليهم‌السلام بواسطة أو بلا واسطة تفيد القطع ، لثقة في الرواية أو لغيره من القرائن ولما ثبت عندهم بطريق المشافهة عن الصادقين عليهم‌السلام أو بواسطة تفيد اليقين والقطع أنّه لا يجوز العمل والفتيا بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى لم يكن جائزا لهم سلوك طريق غير القطع واليقين ، فلذلك لم يلتفتوا إلى تقسيم خبر الواحد الخالي عن القرائن الموجبة للقطع وإلى ما يتعلّق به من الأحكام.

ثمّ لمّا نشأ ابن الجنيد وابن أبي عقيل في أوائل الغيبة الكبرى طالعا كتب الكلام واصول الفقه للمعتزلة ونسجا في الأكثر على منوالهم ، ثمّ أظهر الشيخ المفيد حسن الظنّ بهما عند تلامذته ـ كالسيّد الأجلّ المرتضى ورئيس الطائفة ـ فشاعت القواعد الكلامية والقواعد الاصولية المبنية على الأفكار العقلية بين متأخّري أصحابنا. حتّى وصلت النوبة إلى العلّامة ومن وافقه من متأخّري أصحابنا الاصوليّين ، فطالعوا كتب العامّة لإرادتهم التبحّر في العلوم أو غيره من الأغراض الصحيحة وأعجبتهم كثير من قواعدهم الكلامية والاصولية الفقهية والتقسيمات والاصطلاحات المتعلّقة بالامور الشرعية ، فأوردوها في كتبهم لا لضرورة دعت إليه ـ كما سيجي‌ء بيانه إن شاء الله تعالى ـ بل لغفلتهم عن أنّ تلك القواعد والتقسيمات والاصطلاحات لا تتّجه على مذهبنا ، ولغفلتهم عن استغناء علمائنا عن سلوك تلك الطرق بالأعلام المنصوبة

١٢٣

من الله تعالى والآثار المنتشرة عن أئمّة الهدى ـ صلوات الله عليهم ـ. وكيف لا! وقد قال الله تعالى : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (١) *.

______________________________________________________

* العجب كلّ العجب! من الدعاوي الّتي يدّعيها المصنّف على القدماء من علمهم وعملهم بجميع الأحاديث الصحيحة المقطوع بصحّتها وأنّها كانت عندهم معلومة مميّزة ، والحال أنّه قد سأل الصادق عليه‌السلام بعض أصحابه عمّا يجد من كثرة اختلاف الحديث عنهم وبأيّها يأخذ؟ (٢) وقد أرشدوا عليهم‌السلام شيعتهم إلى عرضها على كتاب الله عند ذلك أو الأخذ بما يخالف العامّة (٣). فعلم ان الاختلاف والاشتباه حاصل من ذلك الوقت. والّذي يعتمد الرواية عن الضعفاء نبّهوا عليه ، ونبّهوا على ثقة الرواة وضعيفها ، كلّ ذلك فيمن تقدّم من القدماء الّذين كانوا بعد زمن الأئمّة عليهم‌السلام

والّذي في زمن الأئمّة عليهم‌السلام كان يستغني في صحّة الخبر بالسؤال ولو بالواسطة المعتمدة عنهم عليهم‌السلام. ومن بعدهم بقريب كان يعرف الصحيح من الضعيف ممّا نبّه عليه أصحابهم وكان الاشتباه قليلا ، فلم يحتاجوا إلى التقسيم وتدوينه. ولكن حال الأحاديث عندهم ما كانت تخرج عن الأقسام الأربعة ، ولو كانت الأحاديث في ذلك الوقت وبعده إلى زمن الكليني ـ الّذي كان في زمن بعض السفراء ـ كلّها صحيحة ثابتة عن الأئمّة عليهم‌السلام ومعمولا بها بطريق القطع ما حصل فيها في ذلك الوقت هذا الاختلاف والتضادّ الفاحش الموجب لسوء العقيدة حتّى لزم على الكليني وغيره رحمهم‌الله بسبب ذلك جمع الّذي حسن الظنّ به عندهم وإن كان غير مقطوع بصحّته خوفا من ضياع الحديث وتفرّقه ، وقد ساء الظنّ به لشدّة اختلافه ، والحال أنّه متأصّل عن أئمّة لا تقبل حكمهم الاختلاف والتضادّ.

وأمّا ابن الجنيد وأمثاله فلم يكونوا من الجهل إلى غاية يمكنهم العلم بالدليل ويتركونه ويعدلون إلى اتّباع المخالفين في اصولهم وقواعدهم والعدول عن العلم إلى الظنّ ، ويتبعهم في هذا الجهل والغفلة مثل المفيد والمرتضى ومن تأخّر عنهم اتّباعا لا يجوز في الأحكام واصول الدين عقلا ولا شرعا ، وأيّ عاقل يقول أو يتخيّل : أنّ حسن الظنّ محلّ لذلك ومجوّز له حتّى ينسب غير الجائز والجهل إلى مثل هؤلاء الأجلّاء الّذين لا نسبة له إلى أقلّ تلامذتهم ، وهل يقدم أحد عاقل على مثل هذا الإقدام والجرأة على أنّ حال رواة الحديث بعد زمن الأئمّة بل وقبل ذلك أيضا حصول الاضطراب والاختلاف فيه ، لم يقع عند العامّة مثله؟ ولهذا عابوا على الشيعة ذلك.

__________________

(١) الصفّ : ٨.

(٢) راجع الكافي ١ : ٦٢ باب اختلاف الحديث.

(٣) الكافي ١ : ٦٧.

١٢٤

وثالثا : أنّه من الواضحات البيّنات في صدور الّذين تتبّعوا بعين الاعتبار والاختبار باب الأخذ بالكتب من كتاب الكافي لمحمّد بن يعقوب الكليني ، ومبحث الخبر الواحد من نهاية العلّامة ومن اصول المحقّق ومن كتاب العدّة لرئيس الطائفة ، وأوّل كتاب الاستبصار له ، وآخر ـ شرح المواقف للسيّد الشريف الجرجاني ، وآخر كتاب السرائر لمحمّد بن إدريس الحلّي ، وأوائل كتاب المعتبر للمحقّق الحلّي ، وأوائل كتاب من لا يحضره الفقيه ، وما سننقله من كلام علم الهدى وغير ذلك من كتب الرجال وكتب الأخبار كفهرست رئيس الطائفة وفهرست النجاشي وكتاب الكشّي ـ لا سيّما المواضع المشتملة على بيان الإجماعات الواقعة في حقّ جمع كثير من مصنّفي الاصول ـ أنّه كان بين قدماء علمائنا الّذين أدركوا صحبة الأئمّة عليهم‌السلام أو زمنهم كتب متداولة معروفة مشهورة بالصحّة ، وكانت تلك الكتب

______________________________________________________

وقد نبّه الشيخ رحمه‌الله بما حاصله : أنّ الاختلاف الّذي وقع ربّما يزيد على الاختلاف الواقع عند العامّة بين أبي حنيفة والشافعي (١).

وأمّا العامّة فكتبهم دالّة على أنّهم في أوّل زمن التابعين انتخبوا أحاديثهم واعتمدوا عليها وأسقطوا منها كلّ شي‌ء اشتبه عليهم صحّته ، حتّى أنّ مالك أسقط من الحديث ما لا يحصى وأثبت ما لا يخفى ، والصحاح الستّ مشهورة ، فكيف يقول المصنّف : إنّهم اعتمدوا في أخبارهم كلّها على خبر الواحد؟ ومن أين عرف ذلك حتّى ينسب إليهم شيئا لا يعرفه؟ وإن كانوا في ذلك فعلوا على حسب اعتقادهم خطاء أو صوابا. وقد بيّنّا فيما تقدّم وجه الضرورة الّتي دعت لتقسيم الحديث.

وأمّا المصنّفات والمؤلّفات الّتي عاب المصنّف أصحابنا بها فليس فيها مخالفة للاصول والقواعد الّتي ثبتت عن الأئمّة عليهم‌السلام والأمر محتاج إليها ، ومشاركة المخالفين لهم في الاحتياج لا يضرّ بحالهم إذا كان مذهبهم الحقّ فيها كما هي عندنا ، ولا يلتزمون أصحابنا بالموافقة لهم فيها على الباطل ، فأيّ إنكار يتّجه عليهم بذلك؟ وأيّ مناسبة للآية الّتي أوردها في هذا المقام؟ فإنّ ظاهر نسبة من أشار إليهم فيها بإرادة إطفاء نور الله أن يكون المراد بهم المشركين! ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا.

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ١٣٨.

١٢٥

مرجعهم فيما يحتاجون إليه من عقائدهم وأعمالهم ، وأنّهم كانوا متمكّنين من استعلام أحوال أحاديث تلك الكتب وإخراج ما يحتمل أن يكون من باب الافتراء أو من باب السهو عنها بالعرض على الأئمّة عليهم‌السلام بل وقع الاستعلام والعرض في كتب كثيرة فأجابوا عليهم‌السلام بأنّها حقّ.

ومن المعلوم عادة أنّ مثلهم لا يغفل عن تلك الدقيقة ولا يقصّر فيها ، فعلم أنّهم كانوا قاطعين جازمين بصحّة أحاديث تلك الكتب. وكيف يحتمل عند عاقل أن يكون ما في الكتب مرجعا لجمّ غفير من العلماء الصالحين من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام في عقائدهم وأعمالهم في مرّ الدهور والأعوام من زمن أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى آخر الغيبة الصغرى من غير قطعهم بصحّة ما في تلك الكتب مع تمكّن كلّهم أو جلّهم من استعلام حال تلك الكتب ومن أخذ الأحكام بطريق اليقين بمشافهة أو بغيرها؟ ذلك ظنّ الّذين لا يوقنون!

ورابعا : أنّ مقتضى الحكمة الربّانية ومقتضى الأحاديث الواردة في باب الأخذ بالكتب والأحاديث الدالّة على حرص الصادقين عليهما‌السلام في إملاء الشريعة المقدّسة على جمع كثير من علماء الشيعة وأمرهم بكتابة ما يسمعونه منهما وبتأليف كتب مشتملة على ما يسمعونه منهما وبحفظ تلك الكتب وبثّها في إخوانهم لتعمل بما فيها الشيعة في زمن الغيبة الكبرى ومقتضى إخبار الصادق عليه‌السلام بانحصار عمل الشيعة بما في تلك الكتب في زمن الغيبة الكبرى بقاء تلك الأحاديث في زمن الغيبة الكبرى وجواز عملنا بها ؛ ومن المعلوم أنّه لا مصداق لتلك الامور إلّا العمل بتلك الكتب المعروفة في زماننا.

وخامسا : أنّه ما سمعت أحدا يقول بأنّه ضاعت تلك الاصول في زمن الأئمّة الثلاثة ـ قدّس الله أرواحهم ـ أو اختلطت بغيرها من غير نصب علامة تميّز بينهما إلّا الفاضلين المذكورين (١) فإنّهما ذكرا ذلك في مقام توجيه ما أحدثه العلّامة أو غيره من المتأخّرين ، بل كلام ابن بابويه وكلام محمّد بن يعقوب الكليني وكلام

__________________

(١) المراد بهما صاحب المعالم والشيخ البهائي قدس‌سرهما وقد تقدّمت مقالتهما.

١٢٦

رئيس الطائفة والسيّد المرتضى والمحقّق الحلّي وابن إدريس وغيرهم صريح في خلاف ما ذكراه ، بل هما اعترفا بعدم الضياع وعدم الاختلاط في زمن الأئمّة الثلاثة المؤلّفين للكتب الأربعة وغيرها. ومن المعلوم أنّ هذا القدر يكفينا.

وأيضا العادة قاضية بأنّه لو وقع لاشتهر. وأيضا الحكمة الربّانية وشفقة العترة الطاهرة عليهم‌السلام بالشيعة وأخبارهم بأنّ عملهم في زمن الغيبة الكبرى يكون بأحاديثنا المسطورة في كتبهم تكذّب كلام الفاضلين *.

وقد صرّح الفاضل الشيخ حسن في كتاب المنتقى بأنّ أكثر أنواع الحديث

______________________________________________________

* كلام المصنّف يقتضي : أنّ في زمن من ذكره كانت الاصول موجودة غير مختلطة والصحيح منها متميّزا عن غيره ، فيلزم على ذلك أنّ كلّ الأحاديث الّتي خالفها المرتضى وابن إدريس والشيخ وغيرهم في فتاويهم كانوا قاطعين بضعفها لتميّزها عن الصحيح المقطوع به ، وإلّا لما جاز لهم تركها والإعراض عنها ، وذلك يخالف دعواه من القطع بصحّتها وعدم اختلاط اصولها الموجب للاعتماد عليها كلّها.

وما ذكره أخيرا من الحكمة الربّانيّة فهلّا كان ذلك موجبا لعدم وجود الخلاف والتضادّ بين الأحاديث المستندة إلى الأئمّة عليهم‌السلام حتّى حصل به العيب على الشيعة والاستدلال به على فساد مذهبهم ورجوع من رجع عن المذهب بهذا الخلل الّذي وقع ، ولم يشعر المصنّف أنّ الابتلاء في دار الدنيا أقرب ما يكون إلى أولياء أهل البيت عليهم‌السلام وكلام أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ ناطق بذلك في الدرر والغرر (١) وغيره من الأئمّة كذلك في مواضع عديدة. على أنّ وجود الضعف في بعض ما ينسب إليهم لا يخلّ بشرائع مذهبهم ولا العمل بأحاديثهم ، فإنّ الموجود في صحيحه ما فيه كفاية ، وبعد ثبوت الاجتهاد المتّفق عليه بين الخاصّ والعامّ ، بل نقل أيضا عن الامم السالفة مع رجوعه إلى أقوالهم وأفعالهم ، ودلّت الأدلّة العقليّة والنقليّة على صحّته وأنّ القدرة المشترطة فيه لا يكون إلّا بعناية إلهيّة ، فكيف يجوز بعد هذا تكذيب الفاضلين ونسبتهم إلى تعمّد الكذب؟ هل قبيح أشنع منه! وكان له أن يرد كلامهما إذا لم يرتضه بما هو أخفّ من ذلك ممّا لا مؤاخذة عليه فيه. ولا موجب لذلك إلّا زيادة الغرور وعدم التقيّد بتدبّر العواقب.

__________________

(١) الغرر والدرر ٢ : ٧٠٨ ، ح ١٣٨٥ و ١٣٨٦.

١٢٧

المذكورة في فنّ دراية الحديث من مستخرجات العامّة بعد وقوع معانيها في حديثهم فذكروها بصورة ما وقع ، واقتفى جماعة من أصحابنا في ذلك إثرهم واستخرجوا من أخبارنا في بعض الأنواع ما يناسب مصطلحهم وبقي منها كثير على حكم محض الفرض. ولا يخفى أنّ البحث عمّا ليس بواقع واتّباعهم في إثبات الاصطلاح له قليل الجدوى وبعيد عن الاعتبار ومظنّة للايهام (١) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وأقول : الحقّ أنّ تقسيم الخبر الواحد الخالي عن القرائن إلى الأقسام الأربعة من هذا القبيل ومن باب الغفلة عن أنّ معاني تلك الاصطلاحات مفقودة في أحاديث كتبنا عند النظر الدقيق.

وسادسا : من المعلوم أنّ عاقلا فاضلا صالحا إذا أراد تأليف كتاب لإرشاد الخلق وهدايتهم ولأخذ من يجي‌ء بعده معالم دينه منه لا يرضى بأن يلفّق بين أحاديث تلك الاصول المجمع على صحّتها المقطوع بورودها عنهم عليهم‌السلام وبين ما ليس كذلك من غير نصب علامة تميّز بينهما. بل من المعلوم أنّه لا يجوز ذلك.

بل أقول : أرباب التواريخ إذا أرادوا تأليف تاريخ مع تمكّنهم من أخذ الأخبار من كتاب مقطوع بصحّته لا يرضون بأخذ الأخبار من موضع ليس كذلك ، ولو اتّفق ذلك لصرّحوا بحاله وميّزوه عن غيره ، فكيف يظنّ برؤساء العلماء والصلحاء مثل الإمام ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني ومثل رئيس الطائفة! ما ظنّوه فإنّ فيه تخريب الدين لا إرشاد المسترشدين ، لا سيّما إذا وقع التصريح منهم بما يدلّ على أنّهم أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الاصول المعروفة المشهورة الّتي كانت مرجعا لقدماء أصحابنا في عقائدهم وأعمالهم.

ومن المعلوم : أنّ هؤلاء الأجلّاء لم يذكروا في كتبهم قاعدة بها تميّز بين الحديث المأخوذ من الاصول المجمع على صحّتها وبين غيره ، فعلم أنّ كلّها مأخوذة من تلك الاصول.

وسابعا : أنّ رئيس الطائفة كثيرا ما في كتابي الأخبار يتمسّك بأحاديث ضعيفة

__________________

(١) منتقى الجمان ١ : ١٠.

١٢٨

بزعم المتأخّرين ، بل بروايات الكذّابين المشهورين مع تمكّنه من أحاديث اخرى صحيحة مذكورة في كتابه ، بل كثيرا ما يعمل بالأحاديث الضعيفة عند المتأخّرين ويترك ما يضادّها من الأحاديث الصحيحة عندهم ، فعلم من ذلك أنّ تلك الأحاديث مأخوذة من الاصول المجمع على صحّتها ، كما صرّح به في كتاب العدّة وكتاب الاستبصار والفهرست (١) وغيرها.

وثامنا : أنّه ذكر الشهيد الثاني رحمه‌الله في شرح رسالته في فنّ دراية الحديث كان قد استقرّ أمر المتقدمين على أربعمائة مصنّف لأربعمائة مصنّف سمّوها « الاصول » وكان عليها اعتمادهم ، ثمّ تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الاصول ، ولخّصها جماعة في كتب خاصّة تقريبا على المتناول ، وأحسن ما جمع منها كتاب الكافي لمحمّد بن يعقوب الكليني ، والتهذيب للشيخ أبي جعفر الطوسي ، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر ، لأنّ الأوّل أجمع لفنون الأحاديث والثاني أجمع للأحاديث المختصّة بالأحكام الشرعية. وأمّا الاستبصار : فإنّه أخصّ من التهذيب غالبا فيمكن الغنى عنه به. وكتاب من لا يحضره الفقيه حسن أيضا ، إلّا أنّه لا يخرج عن الكتابين غالبا (٢) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وذكر الفاضل المتبحّر المعاصر بهاء الدين محمّد العاملي في رسالته الموسومة بالوجيزة المصنّفة في فنّ رواية الحديث : جميع أحاديثنا إلّا ما ندر ينتهي إلى أئمّتنا الاثني عشر ـ سلام الله عليهم ـ وهم ينتهون فيها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ علومهم مقتبسة من تلك المشكاة. وما تضمّنه كتب الخاصّة ـ رضوان الله عليهم ـ من الأحاديث المروية عنهم عليهم‌السلام تزيد على ما في الصحاح الستّة للعامّة بكثير ، كما يظهر لمن تتبّع أحاديث الفريقين ، وقد روى راو واحد وهو أبان بن تغلب عن إمام واحد ـ أعني : الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ـ ثلاثين ألف حديث كما ذكره علماء الرجال وقد كان جمع قدماء محدّثينا ـ رضي‌الله‌عنهم ـ ما وصل إليهم من أحاديث

__________________

(١) راجع عدّة الاصول ١ : ١٢٦ ، ولم نظفر به في الاستبصار والفهرست ، انظر مقدّمتهما.

(٢) شرح البداية : ٧٣ ـ ٧٤.

١٢٩

أئمّتنا ـ سلام الله عليهم ـ في أربعمائة كتاب تسمّى « الاصول » ثمّ تصدّى جماعة من المتأخّرين ـ شكر الله سعيهم ـ لجمع تلك الكتب وترتيبها ، تقليلا للانتشار وتسهيلا على طالبي تلك الأخبار ، فألّفوا كتبا مضبوطة مهذّبة مشتملة على الأسانيد المتّصلة بأصحاب العصمة عليهم‌السلام كالكافي ، وكتاب من لا يحضره الفقيه ، والتهذيب والاستبصار ، ومدينة العلم والخصال والأمالي وعيون الأخبار وغيرها.

أمّا الكافي : فهو تأليف ثقة الإسلام أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني الرازي ـ عطّر الله مرقده ـ ألّفه في مدّة عشرين سنة وتوفّي ببغداد سنة ثمان أو تسع وعشرين وثلاثمائة ، ولجلالة شأنه عدّه جماعة من علماء العامّة ـ كابن الأثير في كتاب جامع الاصول ـ من المجدّدين لمذهب الإماميّة على رأس المائة الثالثة ، بعد ما ذكر أنّ سيّدنا وإمامنا أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا ـ عليه وعلى آبائه الطاهرين أفضل الصلاة والسلام ـ هو المجدّد لذلك المذهب على رأس المائة الثانية.

وأمّا كتاب من لا يحضره الفقيه : فهو تأليف رئيس المحدّثين حجّة الإسلام أبي جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ـ قدّس الله روحه ـ وله ـ طاب ثراه ـ مؤلّفات اخرى سواه تقارب ثلاثمائة كتاب ، توفّي بالريّ سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.

وأمّا التهذيب والاستبصار : فهما من تأليفات شيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ـ نوّر الله ضريحه ـ وله تأليفات اخرى سواهما في التفسير والاصول والفروع وغيرها ، توفّي ـ طيّب الله مضجعه ـ سنة ستّين وأربعمائة بالمشهد المقدّس الغروي ـ على ساكنه أفضل الصلاة والسلام ـ.

فهؤلاء المحدّثون الثلاثة ـ قدّس الله أرواحهم ـ هم أئمّة أصحاب الحديث من متأخّري علماء الفرقة الناجية الإماميّة رضوان الله عليهم (١) انتهى كلامه.

وأنا أقول : ذكر المحقّق الحلّي في أوائل المعتبر : أنّه كتب من أجوبة مسائل الصادق عليه‌السلام أربعمائة مصنّف لأربعمائة مصنّف سمّوها اصولا (٢).

وبالجملة ، تلك الأربعمائة اخذت من إمام واحد منهم عليهم‌السلام وكانت لقدمائنا

__________________

(١) الوجيزة : ١٥ ـ ١٨.

(٢) المعتبر ١ : ٢٦.

١٣٠

اصول اخرى غير الأربعمائة ، يشهد بذلك من تتبّع فهرست الشيخ الطوسي وفهرست النجاشي وفهرست محمّد بن شهرآشوب المازندراني.

ثمّ أقول : بعد أن علمنا وفور أحاديث قدمائنا الصحيحة وكثرة الاصول المجمع على صحّتها ، وعلمنا تمكّن قدمائنا الأفاضل الأعلام المصنّفين من أخذ الأحكام بطريق القطع منهم عليهم‌السلام بمشافهة أو بغيرها في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة وتمكّنهم من استعلام حال أحاديث تلك الاصول ، وعلمنا عملهم بها في أزمنتهم عليهم‌السلام وعلمنا تقرير الأئمّة عليهم‌السلام إيّاهم على ذلك ، وعلمنا أنّ الأئمّة الثلاثة أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الاصول ، وعلمنا عدم جواز التلفيق بين المأخوذ من الاصول المجمع عليها وبين ما لا يعتمد عليه من غير نصب علامة مميزة بينهما يلزم أحد الأمرين : إمّا نسبة تخريب المذهب إلى الأئمّة الثلاثة أو القطع بأنّ أحاديث كتبهم كلّها مأخوذة من تلك الاصول المجمع على صحّتها. هكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع والتكلان على التوفيق *.

______________________________________________________

* قد ادّعى المصنّف هنا العلم في مواضع عديدة بغير بيّنة ولا برهان وألزم لوازم كذلك. وممّا يدلّ على خلاف ما ادّعاه وما ألزمه : أنّ الاصول المذكورة لو كانت موجودة في زمن الأئمة الثلاثة وإن كان كلّها صحيحة ، كيف جاز الاختلاف بينها والتضادّ حتّى قال الشيخ رحمه‌الله في أوّل التهذيب : إنّه لا يكاد يتّفق خبر إلّا بإزائه ما يضادّه ، ولا يسلم حديث إلّا وفي مقابلته ما ينافيه ، حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا. وقال بعد ذلك : حتى دخل على جماعة ممّن ليس لهم قوّة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة ، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحقّ. وذكر عن شيخه : أنّ أبا الحسن الهاروني العلوي كان يعتقد الحق ويدين بالإمامة ، فرجع عنها لمّا التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب (١) فبعد هذا الكلام ـ والكليني ذكر قريبا من ذلك ـ كيف يلتبس على عاقل أن يكون أحاديث كتابيه مأخوذة من الاصول الصحيحة الثابتة عنهم عليهم‌السلام وكيف تكون تلك الاصول الصحيحة موجودة ولا يجوز الاختلاف فيها على الوجه الّذي ذكره الشيخ ، لأنّ كلام الأئمّة الصحيح عنهم منزّه عن مثل ذلك ، فأيّ اصول حصل فيها هذا الاختلاف غير تلك الاصول الّتي أوجب هذا الفساد العظيم من ارتداد

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢.

١٣١

فائدة

ذكر الشيخ الفاضل الشيخ حسن بن العالم الربّاني الشهيد الثاني رحمه‌الله في كتاب المعالم : قال العلّامة في النهاية : أمّا الإماميّة فالأخباريّون منهم لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام والاصوليون منهم ـ كأبي جعفر الطوسي وغيره ـ وافقوا على قبول خبر الواحد ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم (١) انتهى.

ثمّ ذكر في المعالم وقد حكى المحقّق رحمه‌الله عن الشيخ أنّ قديم الأصحاب وحديثهم إذا طولبوا بصحّة ما أفتى به المفتي منهم عوّل على المنقول في اصولهم المعتمدة وكتبهم المدوّنة فيسلّم له خصمه منهم الدعوى في ذلك ، وهذه سجيّتهم من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زمن الأئمّة عليهم‌السلام فلو لا انّ العمل بهذه الأخبار جائز لأنكروه وتبرّءوا من العامل به (٢) *.

______________________________________________________

الهاروني وغيره عن المذهب ، وهلّا اطّلع الهاروني وغيره على الاصول الصحيحة وعرف أنّها هي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وأنّ غيرها ممّا فيه الاختلاف معلوم أنّها مكذوبة عن أهل البيت عليهم‌السلام وما رأينا الشيخ رحمه‌الله إلّا سلّم هذا الاختلاف أو عرف به ، فلا أقلّ من

أنّه كان بنيّة (٣) أنّ هذا الاختلاف لا عبرة به ولا توجب الشبهة ، لأنّ عندنا اصولا عديدة كثيرة ثابتة النقل عن أهل البيت لا يحتمل الاختلاف ولا التضادّ ، وتعويلنا في المذاهب عليها لا على غيرها ، فما ظهر من كلامه إلّا الاعتراف بوجود ذلك في الأحاديث الّتي كانت موجودة ذلك الزمان. واختلاف الأحاديث المنقولة في الكتب الأربعة ، حتّى قال الشيخ : إنّها في الاستبصار بما يزيد على خمسة آلاف (٤) مؤكّد لما أشرنا إليه وناف لوجود الاصول الّتي اعتقدها المصنّف المقطوع بصحّتها كلّها في وهمه بكلّ وجه ، ولا يلزم الشيخ وغيره ما ألزمهم به بعد أن دوّنوا طريقا يعلم منه الصحيح من غيره ، وأجهدوا أنفسهم في تحقيق ذلك. والله المستعان.

* هذا الكلام استدلّ به الشيخ رحمه‌الله في العدّة من جملة الأدلّة على العمل بخبر الواحد غير

__________________

(١) معالم الدين : ١٩١.

(٢) معالم الدين : ١٩٣.

(٣) كذا في ظاهر الأصل ، ويحتمل أن تقرأ : بيّنة.

(٤) عدّة الاصول ١ : ١٣٨.

١٣٢

وذكر في موضع آخر من كتاب المعالم : ذكر السيّد المرتضى رضى الله عنه في جواب المسائل التبّانيات : أنّ أصحابنا لا يعملون بخبر الواحد وأنّ ادّعاء خلاف ذلك عليهم دفع للضرورة ، قال : لأنّا نعلم علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب ولا شكّ أنّ علماء الشيعة الإماميّة يذهبون إلى أنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ولا التعويل عليها وأنّها ليست بحجّة ولا دلالة ، وقد ملئوا الطوامير وسطروا الأساطير في الاحتجاج على ذلك والنقض على مخالفيهم فيه ، ومنهم من يزيد على هذه الجملة ويذهب إلى أنّه مستحيل من طريق العقول أن يتعبّد الله تعالى بالعمل بأخبار الآحاد ، ويجري ظهور مذهبهم في أخبار الآحاد مجرى ظهوره في إبطال القياس في الشريعة وحظره *. وقال في المسألة الّتي أفردها في البحث عن العمل

______________________________________________________

المحفوف بالقرائن الّذي يفيد العلم ، وقال : إنّ المحفوف بالقرائن لا نزاع فيه (١) وذلك صريح بأنّ المراد العمل بالأخبار الّتي لم يعمل بها السيّد المرتضى ، وهي الأخبار الّتي لا تفيد إلّا الظنّ ، وهي محلّ الاشتباه والاستدلال. وأمّا ما يفيد العلم فلا خلاف ولا نزاع في وجوب العمل به ولا يحتاج إلى استدلال عليه. ومجرّد ثبوت عمل المتقدّمين به لا يفيد الجزم بالقطع بصحّته وثبوته عن الأئمّة عليهم‌السلام ولو أفاد ذلك لما جاز للمرتضى خلافه ، فعلم أنّهم كانوا يكتفون في ذلك بالظنّ وهو حكم خبر الواحد ، فلذلك استدلّ الشيخ به على العمل بخبر الواحد مع كونه لا يفيد إلّا الظنّ ، فأين هذا ممّا فهمه المصنّف من كلام الشيخ رحمه‌الله أنّه أراد به صحّة الأحاديث بالقطع بأنّها ثابتة عن المعصوم وأنّها تفيد العلم بمنزلة المتواتر.

* كان يحقّ للمصنّف أن يتكلّم على السيّد المرتضى قدس‌سره في هذا المقام ، لأنّه يقتضي أن كلّ خبر في الكتب الأربعة خالفه في فتواه لا يكون من الأخبار المفيدة للعلم وأنّه لم يعمل بها أحد من العلماء المتقدّمين ، لأنّ عملهم لم يكن إلّا بما يفيد العلم ، وهذه الأخبار الّتي أعرض عنها السيّد لم يكن كذلك ، فلا يجوز العمل بها ، وإنّ ذلك معلوم بالظاهر من مذهب الشيعة الإماميّة ، ويلزم من هذا أنّه لا شي‌ء في الكتب الأربعة من الّتي خالفها السيّد وأمثاله ممّا يفيد العلم وأنّه صحّ نقله عن الأئمّة عليهم‌السلام. وهذا ضدّ ما يدّعيه المصنّف ويريد إثباته بقول السيّد في تخيّلاته.

__________________

(١) انظر عدّة الاصول ١ : ١٢٦.

١٣٣

بخبر الواحد : إنّه بيّن في جواب المسائل التبّانيات أنّ العلم الضروري حاصل لكلّ مخالف للإماميّة أو موافق بأنّهم لا يعملون في الشريعة بخبر لا يوجب العلم ، وأنّ ذلك قد صار شعارا لهم يعرفون به ، كما أنّ نفي القياس في الشريعة من شعارهم الّذي يعلمه منهم كلّ مخالط لهم. وتكلّم في الذريعة على التعلّق بعمل الصحابة والتابعين بأنّ الإماميّة تدفع ذلك وتقول : إنّما عمل بأخبار الآحاد من الصحابة المتأمّرون الّذين يحتشم التصريح بخلافهم والخروج عن جملتهم ، فإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرضا بما فعلوه ، لأنّ الشرط في دلالة الإمساك على الرضا أن لا يكون له وجه سوى الرضا من تقيّة وخوف وما أشبه ذلك.

وقد أورد السيّد على نفسه في بعض كلامه سؤالا هذا لفظه : فإن قيل : إذا سددتم طريق العمل بالأخبار فعلى أي شي‌ء تعوّلون في الفقه كلّه؟ وأجاب بما حاصله : انّ معظم الفقه يعلم بالضرورة مذاهب أئمّتنا عليهم‌السلام فيه بالأخبار المتواترة ، وما لم يتحقّق ذلك فيه ـ ولعلّه الأقلّ ـ يعوّل فيه على إجماع الإماميّة ، وذكر كلاما طويلا في بيان حكم ما يقع فيه الاختلاف بينهم. ومحصوله : أنّه إذا أمكن تحصيل القطع بأحد الأقوال من طرق ذكرها تعيّن العمل عليه وإلّا كنا مخيّرين بين الأقوال المختلفة لفقد دليل التعيين (١).

______________________________________________________

وكلام السيّد في هذا المقام يحتمل أنّ عمل القدماء بالعلم في أحكامهم إنّما كان لتيسّر اطّلاعهم على الأخبار الصحيحة المفيدة للعلم إمّا بالتواتر أو القرائن ، وأمّا بعد زمانه فلم يتيسّر ذلك والمتأخّرون لما استبعدوا هذا الاحتمال أو جوّزوه وتعذّر عليهم عدلوا إلى العمل بأخبار الآحاد المفيدة للظنّ في كلّ موضع لا يتيسّر لهم العلم بأيّ وجه كان ، وحملوا كلام السيّد في المبالغة في نفي ذلك على ما عرفه من علماء الشيعة المتقدّمين عليه. ومقتضى كلام الشيخ في العدّة وغيره : أنّهم لم يسلّموا له هذه الدعوى حيث استدلّوا على العمل بخبر الواحد بما يقتضي عمل المتقدّمين به ، مع كونه لا يفيد إلّا الظنّ ، وحملوا كلامه على المبالغة في هذا المعنى أو لم يلتفتوا إلى كلامه ، كما خالفوه في كثير من مسائل الاصول والفروع ، لأنه ليس بمعصوم.

__________________

(١) معالم الدين : ١٩٦.

١٣٤

وذكر في موضع آخر من كتاب المعالم : السيّد قد اعترف في جواب المسائل التبّانيات بأنّ أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع على صحّتها ، إمّا بالتواتر أو بعلامة وأمارة دلّت على صحّتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص من طريق الآحاد.

وبقي (١) الكلام في التدافع الواقع بين ما عزاه إلى الأصحاب وبين ما حكيناه عن العلّامة في النهاية ، فإنّه عجيب! ويمكن أن يقال : إنّ اعتماد المرتضى فيما ذكره على ما عهده من كلام أوائل المتكلّمين منهم والعمل بخبر الواحد بعيد عن طريقهم ، وقد مرّت حكاية المحقّق عن ابن قبة ـ وهو من أجلّتهم (٢) ـ القول بمنع التعبّد به عقلا ، وتعويل العلّامة على ما ظهر له من حال الشيخ وأمثاله من علمائنا المعتنين بالفقه والحديث ، حيث أوردوا الأخبار في كتبهم واستراحوا إليها في المسائل الفقهية ، ولم يظهر منهم ما يدلّ على موافقة المرتضى. والإنصاف أنّه لم يتّضح من حالهم المخالفة له أيضا ، إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصومين واستفادة الأحكام منهم ، وكانت القرائن العاضدة لها متيسّرة ، كما أشار إليه السيّد ، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد لتظهر مخالفتهم لرأيه فيه. وقد تفطّن المحقّق من كلام الشيخ بما قلناه بعد أن ذكر عنه في حكاية الخلاف هنا أنّه عمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من الطائفة المحقّة ، وأورد احتجاج القوم من الجانبين ، فقال : وذهب شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبيّن أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا ، بل بهذه الأخبار الّتي رويت عن الأئمّة عليهم‌السلام ودوّنها الأصحاب ، لا أنّ كلّ خبر يرويه إماميّ يجب العمل به. هذا الّذي تبيّن لي في كلامه ، ويدّعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار حتّى لو رواها غير الإمامي وكان الخبر سليما عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب عمل به. وما فهمه المحقّق من كلام الشيخ هو الّذي ينبغي

__________________

(١) استطراد كلام المعالم.

(٢) في المعالم : من جملتهم.

١٣٥

أن يعتمد عليه لا ما نسبه العلّامة إليه. وأمّا اهتمام القدماء بالبحث عن أحوال الرجال فمن الجائز أن يكون طلبا لتكثير القرائن وتسهيلا لسبيل العلم بصدق الخبر وكذا اعتناؤهم بالرواية فإنّه محتمل لأن يكون رجاء للتواتر وحرصا عليه. وعلى هذا تحمل روايتهم لأخبار اصول الدين ، فإنّ التعويل على الآحاد فيها غير معقول (١) انتهى ما أردنا نقله من كتاب المعالم.

وأقول : قدماء أصحابنا الأخباريّين بريئون عمّا نسبه الفاضل العلّامة إليهم من أنّهم كانوا يعتمدون في اصول دينهم وفروعه على مجرّد خبر الواحد المظنون العدالة (٢) وكأنّه وقع في هذا التوهّم من عبارة الشيخ الّتي حكاها المحقّق (٣) وكيف يظنّ بهؤلاء الأجلّاء الّذين أدركوا صحبة الأئمّة عليهم‌السلام وتمكّنوا من أخذ الأحكام منهم بطريق القطع واليقين ومن استعلام أحوال تلك الأحاديث الّتي عملوا بها واعتمدوا عليها في عقائدهم وأعمالهم مثل هذه المساهلة الشنيعة في دينهم؟ وكثيرا ما يقع عن هذا الفاضل وأتباعه ما لا ينبغي من الدعاوى من باب الغفلة والعجلة وقلّة التأمّل في أسرار المسألة ، وليس قصدي من هذا الكلام القدح في فضله رحمه‌الله أو في تقواه ، لكن قصدي تنبيه من لا تحقيق له من الأفاضل فإنّهم يحسبون أنّ كلّ من زاد تبحّره زاد تحقيقه ، فيقلّدون العلّامة في الاصول والفروع. ولو لم يكن إظهار هذا المعنى واجبا عليّ لما أظهرته لكن قطعت بوجوبه ، والله مطّلع على سرائر عباده ومن تتبّع أحاديث أصحابنا المتعلّقة باصول الدين واصول الفقه وتتبّع ما في كتب الرجال من سيرة قدماء أصحابنا بنظر الاختبار والاعتبار لقد قطع بأنّ الأخباريّين من أصحابنا لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلّا على الأخبار المروية عن الأئمّة عليهم‌السلام البالغة حدّ التواتر المعنوي أو المحفوفة بقرائن توجب العلم بورودها عن المعصوم ، وخبر الواحد الخالي عن القرائن يوجب الاحتياط عندهم ولا يوجب

__________________

(١) معالم الدين ١٩٧ ـ ١٩٩.

(٢) تقدّمت حكاية النسبة عن نهاية العلّامة في أوّل الفائدة ، راجع نهاية الوصول ( مخطوط ) : ١٤٧.

(٣) راجع معارج الاصول : ١٤٧.

١٣٦

الإفتاء والقضاء ، لأنّه من باب الشبهات *.

وسنذكر وجوه القرائن الموجودة في زماننا لتعلم أنّ زمانهم أولى بذلك ، من جملتها خبر رجل يقطع بقرينة المعاشرة أو بدونها أنّه ثقة في الرواية وإن كان فاسد المذهب ، ولنتبارك (١) بنقل طرف من الأحاديث الناطقة بجواز التمسّك بالكتب

______________________________________________________

* أقول : من كان من القدماء يمكنه الاطّلاع على صحّة الحديث وأخذ الأحكام عنهم عليهم‌السلام بطريق القطع واليقين لا ينسب أحد إليه الاعتماد في معرفة الأحكام على الظنّ ، لأنّ عدم جواز ذلك متّفق عليه ، وإنّما كلام العلّامة وغيره فيمن عدا ذلك. ومقتضى كلام المصنّف صحّة كلّ حديث ينسب إليهم عليهم‌السلام من ذلك الزمان إلى هذا الزمان ، وسيأتي فيما ننقله عن الشيخ رحمه‌الله من العدّة أنّ المصنّف يلزمه تخطئة الشيخ فيما أفاده من الاستدلال على صحّة العمل بخبر الواحد المفيد للظنّ ، ويلزمه أيضا أن يلزم الشيخ بأنّ ما أورده في كتابيه بتمامه يعلم صحّته وثبوته عن الأئمّة عليهم‌السلام بالقطع واليقين ، والشيخ رحمه‌الله يصرّح بخلاف ذلك وأنّها أخبار آحاد لا توجب إلّا الظنّ إذا تجرّدت عن القرائن وأنّ هذا هو سبب اختلاف العلماء ، ولو كان غير ذلك لما جاز الاختلاف. وهذا من المصنّف جار على ما اعتاده من الإقدام على الدعاوي الظاهرة الفساد.

وذكر الشهيد الثاني رحمه‌الله في بحث ترجيح السماع من الشيخ على الإجازة في شرح الدراية ما معناه من الفرق بين عصر السلف قبل جمع الكتب المعتبرة الّتي يعوّل عليها ويرجع إليها وبين عصر المتأخّرين ، ورجّح السماع في عصر السلف الأوّل بأنّهم كانوا يجمعون الحديث من صحف الناس وصدور الرجال ، فدعت الحاجة إلى السماع خوفا من التدليس ، بخلاف ما بعد تدوينها ، لأنّ فائدة الرواية حينئذ إنّما هي اتّصال سلسلة الإسناد بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تيمّنا وتبرّكا فالحجّة تقوم بما في الكتب. ثمّ قال : ويعرف القويّ منها والضعيف من كتب الجرح والتعديل ، وهذا قويّ متين (٢) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وهذا الكلام صريح بأنّ الكتب الأربعة صارت معلومة الثبوت عندنا من مؤلّفيها وأنّ الإجازة إليها والرواية بذلك منها إنّما هو لمجرّد اتّصال السند كما ذكره ، وأنّ كلّ ما تضمّنته ليس معلوم الصحّة ومقطوع الثبوت عن الأئمّة عليهم‌السلام بل منه القويّ والضعيف ، وتمييز ذلك راجع إلى كتب الجرح والتعديل.

__________________

(١) كذا ، والموافق للّغة : ولنتبرّك.

(٢) الرعاية لحال البداية : ١٣٨ ( تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة ).

١٣٧

والناطقة بما تقدّم في كلامنا : من أنّه كانت عند قدمائنا كتب وكانت تلك الكتب بإملاء الأئمّة عليهم‌السلام وخطّ أصحابهم وكانوا مأمورين بذلك لتأخذ منها الشيعة عقائدهم وأعمالهم ، لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى.

ففي كتاب الكافي في باب رواية الكتب وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب : محمّد ابن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ومحمّد بن الحسين ، عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يجيئني القوم فيسمعون منّي حديثكم فأضجر ولا أقوى ، قال : فاقرأ عليهم من أوله حديثا ومن وسطه حديثا ومن آخره حديثا (١).

عنه بإسناده عن أحمد بن عمر الحلّال ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول أروه عنّي يجوز لي أن أرويه عنه؟ قال ، فقال : إذا علمت أنّ الكتاب له فاروه عنه (٢).

عليّ بن محمّد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبي أيّوب المدني ، عن ابن أبي عمير ، عن حسين الأحمسي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : القلب يتّكل على الكتابة (٣).

الحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشاء ، عن عاصم ابن حميد ، عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : اكتبوا فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا (٤).

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن ابن بكير ، عن عبيد بن زرارة قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها (٥).

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، عن بعض أصحابه عن أبي سعيد الخيبري ، عن المفضّل بن عمر قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : اكتب وبثّ علمك في اخوانك فإن متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم (٦).

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٥١ ، ح ٥.

(٢) الكافي : ١ : ٥٢ ، ح ٦.

(٣) الكافي : ١ : ٥٢ ، ح ٨.

(٤) الكافي : ١ : ٥٢ ، ح ٩.

(٥) الكافي : ١ : ٥٢ ، ح ١٠.

(٦) الكافي : ١ : ٥٢ ، ح ١١.

١٣٨

عن جميل بن درّاج قال قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أعربوا حديثنا فانّا قوم فصحاء (١).

عليّ بن محمّد ، عن سهل بن زياد ، عن أحمد بن محمّد ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيره قالوا : سمعنا أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدّي وحديث جدّي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قول الله عزوجل (٢).

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن الحسن بن أبي خالد شينولة (٣) قال : قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام : جعلت فداك! إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام وكانت التقيّة شديدة فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم ، فلمّا ماتوا صارت الكتب إلينا فقال : حدّثوا بها فإنّها حقّ (٤) *.

وبنقل كلام جمع من علمائنا زائدا على ما نقلناه سابقا ليزيدك اطمئنانا بما نحن بصدد بيانه من بقاء أحاديث تلك الاصول الّتي كانت مرجعا للفضلاء المتقدّمين من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام في عقائدهم وأعمالهم ، وانعقد إجماعهم على صحّة ما فيها إلى زمن الإمام ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني وزمن شيخنا الصدوق وزمن رئيس الطائفة بل زمن محمّد بن إدريس الحلّي وزمن المحقّق الحلّي ، ومن أنّهم

______________________________________________________

* في مضمون الحديث الأوّل ما يدلّ على عدم صحّة الاختلاف في الحديث عنهم عليهم‌السلام إذا كان في غير التقيّة ، فيكون الاختلاف في غيرها دليلا على عدم الصحّة ، ومواضع التقيّة في الأخبار المدوّنة في اصول الشيعة نادرة الوقوع ، لعدم الضرورة الملجئة إلى تدوينها ، وقد أشرنا سابقا إلى ما يقتضي ذلك ، وهو خلاف ما يريده المصنّف من الاستدلال به على مطلوبه. وأمّا الثاني : فعلى تقدير تسليم صحّته لا نزاع في العمل بما في تلك الكتب المعيّنة إذا عرفناها بعينها إنّها هي الّتي أشار إليها أبو جعفر الجواد عليه‌السلام وأنّى لنا معرفة ذلك وثبوت صحّتها من السهو وغلط الناسخ وتحريفه وغير ذلك حتّى يقطع بأنّ سندها ومتنها من كلام الأئمّة عليهم‌السلام؟ ومع ذلك لا يلزم مساواة غيرها من الاصول لها في ذلك.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٢ ، ح ١٣.

(٢) الكافي ١ : ٥٣ ، ح ١٤.

(٣) في خ : شنبوله.

(٤) الكافي ١ : ٥٣ ، ح ١٥.

١٣٩

أخذوا أحاديث كتبهم من تلك الاصول من غير اختلاط بينها وبين ما ليس بصحيح * فنقول :

ذكر رئيس الطائفة قدس‌سره في أوائل كتاب الاستبصار مشيرا إلى الأخبار المسطورة في الاصول المعروفة بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام الّتي كانت مرجعا لهم في عقائدهم وأعمالهم ، وانعقد إجماعهم على صحّة كلّها ، بقرينة دلالة آخر كلامه على ذلك وتصريحه في كتاب العدّة (١) وتصريح المحقّق الحلّي في اصوله (٢) بذلك :

اعلم أنّ الأخبار على ضربين : متواتر ، وغير متواتر فالمتواتر منه ما أوجب العلم ، فما هذا سبيله يجب العمل به من غير توقّع شي‌ء ينضاف إليه ولا أمر يقوى به ولا يرجّح به على غيره. وما يجري هذا المجرى لا يقع فيه التعارض ولا التضادّ

______________________________________________________

* بعد أن ينقل كلام رئيس الطائفة رحمه‌الله يتبيّن صحّة ما يدّعيه أو فساده ، فإنّه قال رحمه‌الله في العدّة :

فصل ، في أنّ الأخبار المرويّة فيها ما هو كذب ، والطريق الّذي يعلم به ذلك : إنّ من المعلوم الّذي لا يتخالج فيه شكّ أنّ في الأخبار المرويّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كذبا ، كما أنّ فيها صدقا ، فمن قال إنّ جميعها صدق فقد أبعد القول ـ فيه إلى أن قال ـ روي عن شعبة أنّه قال : نصف الحديث كذب ، ولأجل ما قلناه حمل أصحاب الحديث نفوسهم على نقد الحديث وتمييز الصحيح منها من الفاسد. ثمّ قال : وليس لأحد أن يقول : تجويزك الكذب على هذه الأخبار أو في بعضها فيه طعن على الصحابة ، لأنّ ذلك يوجب تعمّدهم الكذب ، وذلك أنّه لا يمتنع أن يكون وقع الغلط من بعض الصحابة ، لأنّه ليس كلّ واحد منهم معصوما لا يجوز عليه الغلط ، وإنّما يمنع من اجتماعهم على الخطاء. وذكر وجوها عديدة موجبة لذلك من السهو والغلط وتغيّر المعنى ، ثمّ قال : وهذه الوجوه الّتي ذكرناها أو أكثرها تنفي الطعن عن ناقلي الخبر وإن كان كذبا. فأمّا من تأخّر عن زمن الصحابة والتابعين فلا يمنع أن يكون فيهم من يدخل في الأحاديث الكذب عمدا ويكون غرضه الإفساد في الدين ، كما روى عن عبد الكريم بن أبي العوجاء أنّه لما صلب وقتل قال : أمّا إنّكم إن قتلتموني لقد أدخلت في حديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة. وهذا واحد من الزنادقة ، فكيف الصورة في الباقين؟

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ١٢٦.

(٢) معارج الاصول : ١٤٧.

١٤٠