الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

على العموم بقوله : « انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا وعرف أحكامنا فاجعلوه قاضيا فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه » (١) وفي بعض الأخبار (٢) : « فارضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ والرادّ علينا رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله عزوجل » (٣) انتهى كلامه ـ أعلى الله مقامه ـ.

أقول : المراد من الآية الشريفة ونظائرها سلوك طريق مهّده الله تعالى وأوجب سلوكها ، وهو الإقرار والاعتراف بما جاء به صاحب المعجزة ، ثمّ أخذ كلّ ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعيّة منه بواسطة أو بدونها.

وأقول : زعم جمع من متأخّري أصحابنا دلالة هذين الخبرين وأشباههما على وجوب اتباع ظنّ صاحب الملكة المخصوصة ، سواء استند ظنّه إلى استصحاب حكم سابق على طرق (٤) الحالة الجديدة ، أو إلى البراءة الأصليّة ، أو إلى عموم آية أو إطلاقها أو إلى ملازمة عقليّة قطعيّة بزعمهم ، أو إلى جمع بين حديثين متعارضين بتأويل بعيد ، أو إلى غير ذلك من أسباب الظنّ. والمنصف اللبيب يقطع بعدم دلالتها على ما زعموه وبدلالتها على الرجوع إلى رواة أحاديثهم عليهم‌السلام كما صرّح به إمام الزمان ناموس العصر والأوان ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه ـ وسيجي‌ء توضيحه في كتابنا هذا.

وذكر [ بحر العلوم المؤيّد من الحيّ القيّوم ] (٥) علّامة المشارق والمغارب العلّامة الحلّي رحمه‌الله في كتابه المسمّى بـ « مبادئ الوصول إلى علم الاصول » في باب الاجتهاد : الحقّ أنّ المصيب واحد وأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا ، وأنّ عليه دليلا ظاهرا لا قطعيّا ، والمخطئ بعد الاجتهاد غير مأثوم (٦) انتهى كلامه رحمه‌الله *.

______________________________________________________

* هذا كلام المحقّق رحمه‌الله صريح في أنّ الأدلّة ظنّية لا قطعيّة وحقيّة الاجتهاد ، وأنّ المخطئ

__________________

(١) الكافي : ٧ / ٤١٢ ، ح ٤.

(٢) الكافي : ٧ / ٤١٢ ، ح ٥.

(٣) الروضة البهيّة : ٣ / ٦٢ ـ ٦٦.

(٤) كذا ، والظاهر : طروّ.

(٥) لم يرد في ط.

(٦) مبادئ الوصول : ٢٤٤.

٤١

وذكر في كتاب تهذيب الاصول : الحادثة إن نزلت بالمجتهد في نفسه عمل على ما أدّاه اجتهاده إليه ، فإن تساوت الأمارات تخيّر أو عاد إلى الاجتهاد. وإن تعلّقت بغيره وكان ممّا يجري فيه الصلح كالمال اصطلحا أو ترافعا إلى حاكم يفصل بينهما ، ولا يجوز الرجوع بعد الحكم. وإن لم يجر فيه الصلح كالطلاق بصيغة يعتقدها أحدهما دون الآخر رجعا إلى حاكم غيرهما ، سواء كان صاحب الواقعة مجتهدا أو حاكما أو لا ، إذ ليس للحاكم أن يحكم لنفسه على غيره بل ينصب من قبله من يقضي بينهما.

وإن نزلت بالمقلّد رجع إلى المفتي ، فإن تعدّد رجع إلى ما اتّفقوا عليه ، فإن اختلفوا عمل بالأعلم الأزهد ، فإن تساويا تخيّر. وإن حكم بوقوع الخلع ثلاثا فسخا

______________________________________________________

فيه غير مأثوم والمصنّف يعتمد كلام المحقّق ، فكيف يدّعي أنّ كلّ مسألة يوجد عليها دليل قطعيّ من الحديث ويبطل الاجتهاد ، ويزعم أنّ صاحبه آثم ، ويخصّ العلّامة بالاعتراض عليه والتشنيع في ذلك. وكذلك أيضا المصنّف يعتمد كلام الأخ الشيخ حسن ـ قدّس الله روحه ـ لظنّه موافقة اعتقاده في بعض الموادّ ، وفي المعالم في فصل الأخبار بعد ذكره الأدلّة على العمل بخبر الواحد قال : الرابع أنّ باب العلم القطعي بالأحكام الشرعيّة الّتي لم تعلم بالضرورة من الدّين أو من مذهب أهل البيت عليهم‌السلام في نحو زماننا منسدّ قطعا ، إذ الموجود من أدلّتها لا تفيد إلّا الظنّ ، لفقد السنّة المتواترة وانقطاع طريق الاطّلاع على الإجماع من غير جهة النقل بخبر الواحد ووضوح كون البراءة الأصليّة لا تفيد غير الظنّ وكون الكتاب ظنّيّ الدلالة ، وإذا تحقّق انسداد باب العلم في حكم شرعيّ كان التكليف فيه بالظنّ قطعا ، والعقل قاض بأنّ الظنّ إذا كان له جهات متعدّدة تتفاوت بالقوّة والضعف فالعدول منها عن القويّ إلى الضعيف قبيح ، ولا ريب أنّ كثيرا من أخبار الآحاد يحصل بها من الظنّ ما لا يحصل بشي‌ء من سائر الأدلّة فيجب تقديم العمل بها (١) انتهى كلامه رفع الله مقامه.

إذا تبيّن هذا علم أنّ كلام المحقّقين على طرف النقيض لما يعتقده : من أنّ أحكام الشرع كلّها تستفاد بالقطع من الأحاديث ويحصل العلم بها ، مع اعتقاده فيهما التحقيق ، ومع ذلك يتجاهل عمّا لا يوافق وهمه الفاسد!

__________________

(١) معالم الدين : ١٩٢.

٤٢

فنكح ثمّ اعتقد مساواته للطلاق فالأقرب بقاء النكاح ، لأنّ حكم الحاكم لمّا اتّصل بالنكاح تأكّد فلا يفسد بتغيّر الاجتهاد ، أمّا لو اعتقد قبل النكاح فإنّه يحرم عليه إمساكها. ولو كان الزوج عامّيا فأمسك بقول المفتي ، ثمّ تغيّر اجتهاد المفتي فالأقرب أنّه يرجع عن النكاح ، لأنّ الحكم أقوى من الإفتاء ، فإنّ الحكم لا ينقض إلّا أن يخالف دليلا قطعيّا ، لا ظاهرا.

وذكر فيه : المجتهد إن ذكر دليل فتياه أوّلا لم يجب تكرير الاجتهاد ، وإلّا اجتهد ، فإن خالف أفتى بالثاني وعرّف المستفتي رجوعه ، ولو لم يجتهد فهل له البناء على الأوّل والإفتاء بذلك الاجتهاد؟ الأقرب ذلك.

وذكر فيه : العامّيّ يجب عليه التقليد في الفروع إذا لم يتمكّن من الاجتهاد ، وإن تمكّن من فعل الاجتهاد تخيّر بينه وبين الاستفتاء ، وكذا إن كان عالما لم يبلغ رتبة الاجتهاد. أمّا لو كان عالما بلغ رتبة الاجتهاد واجتهد لم يجز له العدول إلى قول المفتي (١).

وذكر في مبادئ الوصول إلى علم الاصول : الاجتهاد هو استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنّيّة الشرعيّة على وجه لا زيادة فيه ، ولا يصحّ في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ الاجتهاد قد يخطئ وقد يصيب فلا يجوز تعبّده صلى‌الله‌عليه‌وآله به.

وكذلك لا يجوز لأحد من الأئمّة عليهم‌السلام الاجتهاد عندنا ، لأنّهم معصومون ، وإنّما أخذوا الأحكام بتعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بإلهام من الله عزوجل.

وأمّا العلماء فيجوز لهم الاجتهاد باستنباط الأحكام من العمومات في القرآن والسنّة وترجيح الأدلّة المتعارضة ، أمّا بأخذ الحكم عن القياس والاستحسان فلا *.

______________________________________________________

* كلام المحقّق صريح في أنّ الاجتهاد لا يخرج عن قواعد القرآن والسنّة وأنّه راجع إليها (٢) بالاستنباط وأنّه لا يجوز فيه أخذ الحكم عن القياس والاستحسان ، وكذلك كلام العلّامة وعامّة فقهاء الإماميّة ، والمصنّف ينسبهم إلى اتّباع المخالفين وإلى ترك العمل بالأخبار الثابتة الصحيحة في الكتب الأربعة المفيدة للقطع في الأحكام. وعند الإنصاف هل يسمع هذا الكلام

__________________

(١) تهذيب الوصول : ٢٨٨ ـ ٢٩١ ( المطبوعة بتحقيق الكشميري ).

(٢) مرجع الضمير ـ بفرض صحّة النسخة ـ قواعد.

٤٣

ثمّ ذكر فيه : البحث الثاني في شرائط المجتهد : وينظّمها شي‌ء واحد ، وهو أن يكون المكلّف بحيث يمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعيّة على الأحكام ، وهذه المكنة إنّما تحصل بأن يكون عارفا بمقتضى اللفظ ومعناه ، وبحكمة الله تعالى وعصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليحصل له الوثوق بإرادة ما يقتضيه ظاهر اللفظ إن تجرّد ، وغير ظاهره مع القرينة وعالما بتجرّد اللفظ أو عدم تجرّده من التخصيص والنسخ ، وبشرائط المتواتر والآحاد ، وبجهات الترجيح عند تعارض الأدلّة ، وهذا إنّما يحصل بمعرفة الكتاب لا بجميعه ، بل بما يتعلّق بالأحكام منه وهو خمسمائة آية ، ومعرفة الأحاديث المتعلّقة بالأحكام لا بمعنى أن يكون حافظا لتلك ، بل يكون عالما بمواقع الآيات حتّى يطلب منها الآية المحتاج إليها ، وعنده أصل محقّق يشتمل على الأحاديث المتعلّقة بالأحكام ، وأن يكون عالما بالإجماع لئلّا يفتي بما يخالفه ، وأن يكون عارفا بالبراءة الأصليّة ، ولا بدّ أن يكون عالما بشرائط الحدّ والبرهان واللغة والنحو والتصريف ، ويعلم الناسخ والمنسوخ وأحوال الرجال.

إذا عرفت هذا ، فالحقّ أنّه يجوز أن يحصل الاجتهاد لشخص في علم دون آخر بل في مسألة دون اخرى ، وإنّما يقع الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة إذا خلت عن دليل قطعي (١).

وذكر في تهذيب الاصول : المجتهد فيه : حكم شرعيّ ليس عليه دليل قطعيّ ، فخرج بالشرعيّ الأحكام العقليّة ، وبنفي الدليل القاطع ما علم كونه من الشرع ضرورة كوجوب الصلاة والزكاة (٢).

وذكر الضابط فيه : بحيث تمكن المكلّف من إقامة الدليل على المسائل الفرعيّة ، وإنّما يتمّ ذلك له بامور :

أحدها : معرفة اللغة ومعاني الألفاظ الشرعيّة لا بالجميع ، بل بما يحتاج إليه في

______________________________________________________

الخارج عن العقل والشرع؟ أو أنّ صاحبه يعدّ من قسم العلماء العقلاء المتّقين! ما أظنّ ذلك إلّا من مغرور مثله غلبه الهوى وحبّ الرئاسة وأن يعرف بها ، واستحوذ عليه الشيطان. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا.

__________________

(١) مبادئ الوصول : ٢٤١ ـ ٢٤٤.

(٢) تهذيب الوصول : ٢٨٦.

٤٤

الاستدلال ، ولو راجع أصلا صحيحا عنده في معاني الألفاظ جاز ، وتدخل فيه معرفة النحو والتصريف ، لأنّ الشرع عربيّ لا يتمّ إلّا بمعرفتهما ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب.

وثانيها : أن يكون عارفا بمراد الله تعالى من اللفظ ، وإنّما يتمّ ذلك لو عرف أنّه لا يخاطب بما لا يفهم معناه ولا بما يريد به خلاف ظاهره من غير بيان ، وإنّما يتمّ ذلك لو عرف أنّه تعالى حكيم ، وهو يتوقّف على علمه تعالى بالقبيح وباستغنائه عنه والعلم بصدق الرسول عليه‌السلام واصول قواعد الكلام.

وثالثها : أن يكون عارفا بالأحاديث الدالّة على الأحكام إمّا بالحفظ أو بالرجوع إلى أصل صحيح ، وأحوال الرجال ليعرف صحيح الأخبار من معتلّها ، ويعرف أيضا من الكتاب ما تستفاد منه الأحكام وهو خمسمائة آية ، ولا يشترط حفظها بل معرفة دلالتها ومواضعها بحيث يجدها عند طلبها.

ورابعها : أن يكون عارفا بالإجماع ومواقعه بحيث لا يفتي بما يخالفه.

وخامسها : أن يعرف أدلّة العقل كالبراءة الأصليّة والاستصحاب وغيرهما.

وسادسها : أن يعرف شرائط البرهان.

وسابعها : أن يعرف الناسخ والمنسوخ والعامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد وغيرها من طرق الأحكام.

وثامنها : أن تكون له قوّة استنباط الأحكام الفرعية من المسائل الاصوليّة (١) وذكر : الأمارتان إن تعادلتا في حكم واحد وتنافى الفعلان جاز ، كتوجّه المصلّي إلى جهتين غلب على ظنّه أنّهما جهتا القبلة ، فالحكم وهو الوجوب واحد فيتخيّر المجتهد. وإن اتّحد الفعل وتنافى الحكم كالأمارة الدالّة على قبح الفعل والأمارة الدالّة على وجوبه أو جوازه ، فمنع قوم منه شرعا وإن جاز عقلا.

أمّا الجواز فلإمكان إخبار عدلين بحكمين متنافيين وأمّا عدم الوقوع فلأنّ العمل بهما يقتضي وجوب الفعل وتحريمه على مكلّف واحد ، وتركهما يقتضي

__________________

(١) تهذيب الوصول : ٢٨٤.

٤٥

العبث بوضعهما ، إذ وضع أمارة لا يمكن العمل بها عبث ، والعمل بإحداهما دون الاخرى ترجيح من غير مرجّح.

وجوّزه قوم وهو الأقرب ، والحكم هنا التخيير أيضا. ولا يلزم من التخيير بين أمارة الوجوب والإباحة الإباحة ، لأنّ المجتهد إن أخذ بأمارة الإباحة ثبت في حقّه [ وإن أخذ بأمارة الوجوب ثبت في حقّه ] (١) كالمسافر إذا حصل في مكان يتخيّر فيه بين الإتمام والقصر ، فإن صلّى بنيّة القصر سقط عنه وجوب الركعتين ، وإن صلّى تامّا كان واجبا. وكمن عليه درهمان إذا قال له المالك : إن دفعت إليّ الدرهمين فلي الأخذ ، وإن دفعت إليّ أحدهما أسقطت الآخر عنك (٢) انتهى كلامه.

أقول : تحرير محلّ النزاع أنّ تعادل الأمارتين إمّا في حال من أحوال متعلّقات حكم الله تعالى ، مثلا حكم الله تعالى وجوب التوجّه إلى الكعبة وتعادل الأمارتين في أنّ الكعبة في الجنوب أو في الشمال. وإمّا في نفس حكم الله تعالى ، مثلا : الوتر واجب أو غير واجب. فاتّفق الاصوليّون على جواز التعادل في الصورة الاولى ، واختلفوا في جوازه في الصورة الثانية ، فقال بعضهم : لا يجوز تبليغ الشريعة إلى العباد تبليغا ينتهي وصول أمارتين متعادلتين في حكم من أحكامه تعالى ، لأنّه يلزم أحد المحذورات المذكورة والحقّ هذا المذهب كما سيجي‌ء بيانه في كتابنا هذا.

وأمّا ما قد يتّفق من تعادل الحديثين في بعض أبواب الفقه فهو من باب ضرورة التقيّة ، ومحلّ النزاع أنّه إذا لم يكن ضرورة كيف يكون الأمر؟

ثمّ ذكر : إذا عرفت هذا ، فإن عرض التساوي للمجتهد تخيّر ، وإن كان للمفتي خيّر المستفتي ، وإن كان للحاكم عيّن ما شاء وله الحكم بإحداهما في وقت والاخرى في آخر لشخصين. وإن تعارض الدليلان فإمّا أن يكونا ظنيّين فالحقّ الترجيح بينهما فيعمل بالراجح ، وإلّا لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو باطل ، وإن أمكن العمل بكلّ واحد منهما من وجه دون وجه تعيّن. وإمّا أن يكونا يقينيّين فالتعارض بينهما محال ، إلّا أن يكون أحدهما قابلا للتأويل بالآخر بحيث يمكن

__________________

(١) أثبتناه من المصدر.

(٢) تهذيب الوصول : ٢٧٧.

٤٦

الجمع بينهما كالعامّ المقطوع نقله والخاصّ المظنون نقله (١).

وذكر في كتاب المبادئ : لا يتعارض دليلان قطعيّان ، وهل يتعارض الظنّيّان؟

جوّزه قوم لإمكان أن يخبرنا اثنان عدلان بحكمين متنافيين ولا يترجّح أحدهما على الآخر. ومنع منه آخرون ، لأنّه لو تعارض دليلان على كون هذا الفعل مباحا ومحظورا فإن لم يعمل بهما أو عمل بهما لزم المحال ، وإن عمل بأحدهما على التعيين لزم الترجيح من غير مرجّح ، أو لا على التعيين وهو باطل ، لأنّا إذا خيّرنا بين الفعل والترك فقد سوّغنا له الترك فيكون ذلك ترجيحا لدليل الإباحة ، وقد تقدّم بطلانه. والأوّل عندي أقوى.

والجواب عن الثاني : أنّ التخيير ليس إباحة ، لأنّه يجوز أن يقال له : إن أخذت بدليل الإباحة فقد أبحت لك ، وإن أخذت بدليل الحظر فقد حرّمت عليك ، كمن عليه درهمان فقال له صاحبهما : قد تصدّقت عليك بأحدهما إن قبلت ، وإن لم تقبل وأتيت بالدرهمين قبلتهما عن الدين ، فإنّ من عليه الدين مخيّر إن شاء أتى بدرهم ، وإن شاء دفع درهمين عن الواجب.

وكذا نقول في المسافر إذا حضر في أحد الأمكنة الأربعة الّتي يستحبّ فيها التمام ، فإنّه مكلّف بركعتين إن شاء الترخّص ، وبأربع وجوبا إن لم يرده.

إذا عرفت هذا ، فالتعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان حكمه التخيير ، وإن وقع للمفتي كان حكمه أن يخيّر (٢) المستفتي ، وإن وقع للحاكم كان حكمه العمل بأحدهما ووجب عليه التعيين (٣).

وذكر في ترجيح الأخبار : الخبر الّذي رواته أكثر أو أعلى سندا ، أو كان رواته أعلم أو أزكى أو أزهد أو أذكر (٤) أو أشهر راجح ، والفقيه أرجح من غيره ، والأفقه أرجح ، والعالم بالعربيّة أرجح ، والأعلم بها أرجح من العالم ، وصاحب الواقعة أرجح ، والمجالس للعلماء أرجح ، والمعلوم عدالته بالاختبار أرجح من المزكّى ، والمزكّى

__________________

(١) تهذيب الوصول : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

(٢) خ : أن يخبر.

(٣) مبادئ الوصول : ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٤) ط : أذكى ، وكلاهما لم يردا في المصدر.

٤٧

بالأعلم أولى ، والأشدّ ضبطا أرجح ، والجازم أرجح من الظانّ ، والمشهور بالرئاسة أرجح من غيره ، والمتحمّل وقت البلوغ أرجح ، وذاكر السبب أولى ، وراوي اللفظ أرجح من راوي المعنى ، والمعتضد بحديث غيره أرجح ، والمدني أرجح من المكّي ، لقلّة المكّي بعد المدني ، والوارد بعد ظهور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أرجح ، وذو السبب أولى ، والفصيح أولى من الركيك ، ولا يرجّح الأفصح على الفصيح ، والخاصّ متقدّم ، والدالّ بالوضع الشرعي أو العرفي أولى من اللغوي ، والحقيقة أولى من المجاز ، والدالّ بوجهين أولى من الدالّ بوجه واحد والمعلّل أولى ، والمؤكّد أولى ، وما فيه تهديد أولى ، والناقل عن حكم الأصل راجح على المقرّر ـ وقيل : بالعكس ـ والمشتمل على الحظر راجح عند الكرخي على المشتمل على الإباحة ومستويان عند أبي هاشم ، والمثبت للطلاق والعتاق مقدّم على النافي عند الكرخي ، لموافقته الأصل ، ومستويان عند آخرين ، والنافي للحدّ راجح على المثبت ، والّذي عمل به بعض العلماء أرجح من الّذي تركه إذا كان بحيث لا يخفى عليه (١).

وذكر في تهذيب الاصول : الفقه عرفا العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة المستدلّ على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة ، فخرج العلم بالذوات وبالأحكام العقليّة ، وكون الإجماع وخبر الواحد ونظائرهما حجّة ، وعلم المقلّد ، والاصول الضروريّة كالصلاة والزكاة. وظنّية الطريق لا تنافي علميّة الحكم ، وليس المراد العلم بالجميع فعلا ، بل قوّة قريبة منه (٢) انتهى كلامه.

وأقول : قد جرت عادة الحكماء والمتكلّمين بجعل كلّ فنّ عبارة عن مسائل نظريّة مخصوصة ، وعن معرّفات أطرافها وحجج إثباتها. ثمّ الفقهاء أرادوا سلوك تلك الطريقة فأخرجوا ضروريّات الدين عن الفقه ، ويلزمهم خروج ضروريّات المذهب أيضا وإن لم يلتزموه ، ويلزمهم خروج كثير من الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن الفقه. ومن المعلوم أنّه غير مستحسن.

والباعث للحكماء على ما فعلوا أنّ في باب التعليم والتعلّم تدوين المسائل

__________________

(١) مبادئ الوصول : ٢٣٤ ـ ٢٣٨.

(٢) تهذيب الوصول : ٤٧.

٤٨

البديهيّة ليس بمستحسن ، فالفقهاء ظنّوا أنّ ذلك الباعث جار هنا ، وليس كذلك ، لأنّه ليس شي‌ء من الأحكام الشرعيّة بديهيّا بمعنى أنّه لا يحتاج إلى دليل ، والسبب في ذلك أنّ كلّها محتاج إلى السماع من صاحب الشريعة. وبالجملة : وضوح الدليل لا يستلزم بداهة المدّعى.

وذكر السيّد السند العلّامة الأوحد السيّد جمال الدين محمّد الأسترآبادي قدس‌سره في شرحه (١) : هذا جواب سؤال مشهور وهو : أنّ العلم هو التصديق اليقيني والتصوّر ، والفقه من باب الظنون فكيف يصحّ أخذ العلم في تعريفه؟

وملخّص الجواب : أنّ الفقه من أقسام العلم وإن وقع في مقدّماته الظنّ ، وتحرير المقام : أنّ المجتهد بعد ما تعلّق ظنّه بحكم يرتّب دليلا هكذا : هذا ما تعلّق به ظنّ المجتهد ، وكلّ ما تعلّق به ظنّ المجتهد واجب العمل ، ويأخذ نتيجته وهو قولنا : هذا واجب العمل ، والمقدّمتان قطعيّتان. أمّا الاولى : فلأنّها وجدانية كإدراكنا الجوع والعطش. وأمّا الثانية : فهي إجماعيّة ، هكذا قالوا.

وفيه بحث ، لأنّ المقدّمة الثانية قد اورد عليها أنّ الإجماع لا يفيد إلّا الظنّ في هذه الصورة.

واجيب عنه بأنّ هذه المقدّمة متواترة بالمعنى فهي يقينيّة ؛ هكذا قال صاحب التلويح (٢) انتهى كلامه.

أقول : توضيح المقام : أنّه كان الشائع بين علماء العامّة التمسّك بآيات وروايات ظنّيّة من جهة الدلالة أو من جهة المتن في جواز العمل بظنّ المجتهد المتعلّق بنفس أحكامه تعالى ، ولمّا وصلت النوبة إلى ابن الحاجب وتفطّن بأنّ هذا التمسّك يشتمل على دور بيّن واضح أحدث دليلا آخر قطعيّا بزعمه ، وهو أنّا نعلم بالتواتر أنّ الصحابة الكبار عدلوا عن الظواهر القرآنيّة المانعة عن العمل بظنّ المجتهد المتعلّق بنفس أحكامه تعالى ، ولنا مقدّمة عاديّة قطعيّة هي أنّ مثل هذا العدول لم يقع عن

__________________

(١) أي في شرحه على تهذيب الوصول للعلّامة الحلّي قدس‌سره.

(٢) التلويح لسعد الدين التفتازاني المتوفّى سنة ٧٩٢ ، لا يوجد عندنا هذا الكتاب.

٤٩

مثل هؤلاء الأجلّاء إلّا بسبب نصّ صريح قطعيّ الدلالة سمعوه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وأقول : فيه بحث ، لأنّ العادة قاضية بأنّه لو صدر مثل هذا النصّ لظهر واشتهر وصار من ضروريّات الدين ، لتوفّر الدواعي على أخذه وضبطه ونشره ، وعدم وقوع فتنة توجب إخفاءه ، وقد اعترفوا بانتفاء التالي وسيجي‌ء زيادة تحقيق لهذا المقام في كلامنا إن شاء الله تعالى.

وأقول : تحقيق المقام أنّ حاصل المقدّمة الثانية عند المصوّبة من الاصوليّين أنّ كلّ ما تعلّق به ظنّ المجتهد فهو حكم الله الواقعي في حقّه وحقّ مقلّديه ، وحاصلها عند المخطّئة منهم : أنّ كلّ ما تعلّق به ظنّ المجتهد فهو حكم الله الظاهري في حقّه وحقّ مقلّديه ، وقد يكون حكم الله الواقعي وقد لا يكون.

وذكر العلّامة الحلّي في كتاب تهذيب الاصول : الاجتهاد اصطلاحا : استفراغ الوسع من الفقيه لتحصيل ظنّ بحكم شرعي ، والأقرب قبوله للتجزئة ، لأنّ المقتضي لوجوب العمل مع الاجتهاد في كلّ الأحكام موجود مع الاجتهاد في بعضها ، وتجويز تعلّق المعلوم بالمجهول يدفعه الفرض (٢) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وذكر الفاضل المدقّق الشيخ حسن ابن العالم الربّاني الشهيد الثاني ـ رحمهما‌الله تعالى ـ في كتاب المعالم في مبحث اجتهاد التجزّي (٣) : والتحقيق عندي في هذا المقام : أنّ فرض الاقتدار على استنباط بعض المسائل دون بعض على وجه يساوي استنباط المجتهد المطلق لها غير ممتنع ولكن التمسّك في جواز الاعتماد على هذا الاستنباط بالمساواة فيه للمجتهد المطلق قياس لا نقول به.

نعم لو علم أنّ العلّة في العمل بظنّ المجتهد المطلق هو قدرته على استنباط المسألة أمكن الإلحاق من باب منصوص العلّة ولكنّ الشأن في العلم بالعلّة ، لفقد النصّ عليها * ، ومن الجائز أن تكون هي قدرته على استنباط المسائل كلّها ، بل هذا

______________________________________________________

* عمل المتجزّي بظنّه ليس من باب القياس على عمل المجتهد المطلق ، بل لكون

__________________

(١) مختصر الاصول : لا يوجد عندنا.

(٢) تهذيب الوصول : ٢٨٣.

(٣) كذا ، والظاهر : اجتهاد المتجزّي.

٥٠

أقرب إلى الاعتبار من حيث إنّ عموم القدرة إنّما هو لكمال القوّة ، ولا شكّ أنّ القوّة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة ، فكيف يستويان؟

سلّمنا ، ولكن التعويل في اعتماد ظنّ المجتهد المطلق إنّما هو على دليل قطعي وهو إجماع الامّة عليه وقضاء الضرورة به. وأقصى ما يتصوّر في موضع النزاع أن يحصل دليل ظنّي يدلّ على مساواة التجزّي للاجتهاد المطلق ، واعتماد المتجزّي عليه يفضي إلى الدور لأنّه متجزّ (١) في مسألة التجزّي وتعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ. ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق وإن كان ممكنا لكنه خلاف المراد ، إذ الفرض إلحاقه ابتداء بالمجتهد المطلق وهذا إلحاق له بالمقلّد بحسب الذات ، وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد ، ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد ، لاقتضائه ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد. وإن شئت قلت : تركّب التقليد والاجتهاد (٢). انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وأقول : يرد عليه أنّ إجماع الامّة غير مسلّم ، بل معلوم البطلان لما سيجي‌ء نقله عن الأئمّة عليهم‌السلام وعن قدمائنا وعن جمع من العامّة ، وقضاء الضرورة به باطل قطعا إن كان المقصود منه دعوى البداهة ، وغير مسلّم إن كان المقصود إلجاء الضرورة إليه ، كما سيجي‌ء بيان الكلّ إن شاء الله *.

______________________________________________________

ظنّه في المسألة عنده أرجح من الظنّ الّذي يحصل له من قول المجتهد ، والدليل القاطع إنّما دلّ على لزوم الرجوع إلى قول المجتهد المطلق للمقلّد الصرف دون المتجزّي ، ولا شكّ أنّه بعد مراجعة الدليل وإنعام التأمّل في الحكم لمن تأهّل ذلك يحصل عنده ظنّ راجح على الظنّ الّذي يحصل له من قول المجتهد ، فيجب العمل بأقوى الظنّين.

* قال الأخ الشيخ حسن ـ قدّس الله روحه ـ في المعالم في الاحتجاج على ثبوت الإجماع وصحّة العمل به : لمّا ثبت عندنا بالأدلّة العقليّة والنقليّة كما حقّق مستقصى في كتب أصحابنا الكلاميّة أنّ زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم حافظ للشرع يجب الرجوع إلى قوله فيه ، فمتى أجمعت الامّة على قول كان داخلا في جملتها ، لأنّه سيّدها والخطاء مأمون على

__________________

(١) في المصدر : لأنّه تجزّ.

(٢) معالم الدين : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

٥١

ثمّ أقول : سيجي‌ء في نقل كلامنا نقلا عن شرح جمع الجوامع من كتب الشافعيّة أنّ للمجتهد ثلاث مراتب : أعلى مراتبه المجتهد المطلق ، ودونه في المرتبة مجتهد المذهب ، ودونه في المرتبة مجتهد الفتيا (١). والصورة الّتي فرضها الفاضل المدقّق في مسألة التجزّي ترجع إلى القسم الثاني من أقسام المجتهد ، والأقسام الثلاثة مقبولة عند العامّة بالإجماع.

وأقول : من المعلوم أنّ العمل ببعض هذه الإجماعات دون بعض غير معقول ، والله أعلم.

______________________________________________________

قوله ، فيكون ذلك الإجماع حجّة ، فحجّيّة الإجماع في الحقيقة إنّما هي باعتبار كشفه عن الحجّة الّتي هي قول المعصوم. وإلى هذا المعنى أشار المحقّق رحمه‌الله حيث قال بعد بيان وجه الحجّيّة على طريقتنا : وعلى هذا فالإجماع كاشف عن قول الإمام ، لا أنّ الإجماع حجّة في نفسه من حيث هو إجماع (٢). انتهى.

وأقول : إنّ العامّة قد اعتمدوا في الاستدلال على ثبوت الإجماع بالآيات والروايات.

أمّا الآيات : منها قوله تعالى : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) وأمّا الروايات فأصرحها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تجتمع أمّتي على الخطاء (٣) وقد استشعر السيّد المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ سؤالا واردا على الشيعة من غيرهم وأجاب عنه ، أمّا السؤال : فهو أنّه إذا كان الإجماع عندكم قليل الجدوى لبعد تحقّقه وعدم خروجه عن معنى الخبر ، لأنّ العمدة فيه على قول المعصوم ، فلم جعلتموه دليلا مستقلّا مغايرا للخبر ونظمتموه في سلك الأدلّة الشرعيّة؟ وأما الجواب : فهو أنّا لو كنّا المبتدءين لذلك ورد علينا ما ذكر ، لكن مخالفونا لما اعتمدوا هذا الأصل وسألونا أنّه هل يتمشّى عندكم

أجبناهم نعم إذا تحقّق قول المعصوم في جملة أقوال المجمعين عملنا بهذا الدليل فإن كان الإجماع الّذي تدّعونه أصلا هو هذا وافقناكم عليه ، وإلّا فهو ليس بحجّة عندنا (٤) انتهى كلامه ـ أعلى الله مقامه ـ.

والّذي يظهر في وجه المغايرة بين الإجماع والخبر مطلقا : أنّ أصل مأخذ الإجماع دليل العقل ، والنقل لا مدخل له فيه إلّا بعد تحقّقه إذا نقل ، بخلاف الخبر فإنّ مأخذه النقل ، وذلك

__________________

(١) شرح جمع الجوامع : ٢ / ٣٨٥.

(٢) معالم الدين : ١٧٣.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٠٣ ، وفيه لا تجتمع أمّتي على الضلالة.

(٤) انظر الذريعة ٣ : ٦٢٣.

٥٢

وذكر الإمام المحقّق قدوة المقدّسين المحقّق الحلّي قدس‌سره في مختصره في الاصول : أمّا ما يفتقر إلى اجتهاد ونظر ، فإنّه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه فإن أخطأ لم يكن مأثوما.

وذكر : يجب على من ليست له أهليّة الاجتهاد أن يستفتي المجتهد فيما ينزل به من المسائل النظريّة (١).

وذكر في أوائل كتاب المعتبر ـ شرح المختصر ـ الفصل الثالث في مستند الأحكام ، وهي عندنا خمسة الكتاب والسنّة والإجماع ودليل العقل والاستصحاب.

أمّا الكتاب : فأدلّته قسمان : النصّ والظاهر.

والنصّ : ما دلّ على المراد منه من غير احتمال ، وفي مقابلته المجمل. وقد يتّفق اللفظ الواحد أن يكون نصّا مجملا باعتبارين ، كقوله تعالى : ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (٢) نصّ باعتبار الاعتداد ، مجمل باعتبار ما تعتدّ به.

وأمّا الظاهر : فهو اللفظ الدالّ على أحد محتملاته دلالة راجحة لا ينتفي معها الاحتمال ، وفي مقابلته المؤوّل. والظاهر أنواع :

أحدها : ما كان راجحا بحسب العرف كدلالة الغائط على الفضلة.

وثانيها (٣) ما كان راجحا بحسب الشرع كدلالة لفظ الصوم على الإمساك عن

______________________________________________________

لما ثبت في باب وجوب اللطف من وجود الإمام في كلّ عصر ليؤمن الاجتماع على الخطاء ، فمتى فرض حصول الإجماع من علماء العصر على قول علم أنّه حقّ بدليل العقل ، للقطع بدخول الإمام في جملتهم ولا يحتاج ذلك إلى نقل عن الإمام تفصيلا ولا إجمالا ، وبهذا حصلت المغايرة بينه وبين الخبر ، إذ لا بدّ من اعتبار النقل فيه تفصيلا أو إجمالا.

إذا عرفت هذا تجد كلام المصنّف ليس له محصّل في منع ذلك رأسا وعدم إمكانه. نعم ، إن كان حصوله عزيزا فمسلّم (٤) ولكن كلامه غير ذلك. وتهوّره في الإقدام على هذه الدعاوي عجيب! وما ذاك إلّا لشدّة اعتقاده الكمال وتفرّده بالمعرفة في نفسه ، وهو أقبح الخصال.

__________________

(١) معارج الاصول : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

(٣) ط والمصدر : الثاني ... الثالث ... الرابع.

(٤) في الأصل : « فم » ويحتمل أن يكون رمز « فممنوع ».

٥٣

المفطرات. وهذان وإن كانا نصّين باعتبار الشرع والعرف إلّا أنّ احتمال إرادة الوضع لم ينتف انتفاء يقينيّا.

وثالثها : المطلق ، وهو اللفظ الدالّ على الماهيّة ، فهو في دلالته على تعلّق الحكم بها لا بقيد منضمّ دلالة ظاهرة.

ورابعها : العامّ ، وهو الدالّ على اثنين فصاعدا من غير حصر ، فإنّه في دلالته على استيعاب الأشخاص ظاهر لا قاطع.

أمّا المؤوّل : فهو اللفظ الّذي يراد به المعنى المرجوح من محتملاته ، كقوله تعالى : ( وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ) (١).

وأمّا السنّة : فثلاثة : قول ، وفعل ، وإقرار.

أمّا القول ففيه الأقسام المتقدّمة.

وأمّا الأفعال : فإن وقع بيانا تبع المبيّن في وجوبه وندبه وإباحته ، وإن فعله ابتداء فلا حجّة فيه إلّا أن يعلم الوجه الّذي وقع عليه فتجب المتابعة.

وما أقرّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه يدلّ على الجواز ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقرّر منكرا ، سواء فعل بحضرته أو لا بحضرته ممّا يعلم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علمه ولم ينكره. وأمّا ما يندر فلا حجّة فيه ، كما روي أنّ بعض الصحابة قال : « كنّا نجامع ونكسل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا نغتسل » (٢) لجواز أن يخفى فعل ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يكون سكوته عنه دليلا على جوازه.

لا يقال : قول الصحابي : « كنّا نفعل » دليل على عمل الصحابة أو أكثرهم فلا يخفى على الرسول ، لأنّا نمنع ، إذ قد يخبر بذلك عن نفسه أو عن جماعة يمكن أن يخفى حالهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ السنّة : إمّا متواترة وهي ما حصل معها العلم القطعي باستحالة التواطؤ ، أو خبر واحد وهو ما لم يبلغ ذلك ، مسندا كان وهو ما اتّصل المخبرون به إلى المخبر ، أو مرسلا وهو ما لم يتّصل سنده. فالمتواتر حجّة لإفادته اليقين ، وكذا ما اجمع على

__________________

(١) الرحمن : ٢٧.

(٢) لم نظفر بمأخذه.

٥٤

العمل به. وأمّا ما أجمع الأصحاب على اطراحه فلا حجّة فيه.

مسألة : أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر ، وما فطنوا ما تحته من التناقض ، فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ستكثر بعدي القالة عليّ » (١) وقول الصادق عليه‌السلام : « إنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه » (٢).

واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال : كلّ سليم السند يعمل به ، وما علم أنّ الكاذب قد يصدق والفاسق قد يصدق ، ولم يتنبّه أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ لا مصنّف إلّا وهو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل (٣) *. وأفرط آخرون في طرف ردّ الخبر حتّى أحال استعماله عقلا ونقلا. واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا لكن الشرع لم يأذن في العمل به.

وكلّ هذه الأقوال منحرفة عن السنن ، والتوسّط أصوب ، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب اطراحه ، لوجوه :

أحدها : أنّه مع خلوّه عن المزيّة يكون جواز صدقه مساويا لجواز كذبه ، ولا يثبت الشرع بما يحتمل الكذب.

______________________________________________________

* قال المصنّف في حاشيته على هذا الكلام ، أقول : مذهب السيّد الأجلّ المرتضى ورئيس الطائفة والمحقّق الحلّي في باب العمل بخبر الواحد واحد ، وهو أنّه إن كان مقرونا بقرينة ـ كعمل قدمائنا به وككون الراوي ثقة معروفا بصحّة النقل ـ يعمل ولا يتوقّف عنده.

أقول : هذه الدعاوي ظاهرة البطلان ، لأنّ اشتهار مخالفة السيّد المرتضى لمن تأخّر عنه ـ إلّا ابن إدريس ـ في عدم العمل بخبر الواحد لا مجال لإنكاره ولا الشكّ فيه ، والشيخ استدلّ على جواز العمل به مع كونه لا يفيد إلّا الظنّ وصرّح بذلك في العدّة بعمل القدماء به في فتواهم (٤) مع العلم بعدم تواتر تلك الأخبار وعدم القرينة على صحّتها مصرّحا بذلك كلّه. وكذلك المحقّق صرّح بأنّ المراد من خبر الواحد ما لا يفيد القطع (٥) وسيأتي في صريح ما نقله عنه ذلك وأنّ المحفوف بالقرائن لا نزاع فيه.

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٢٥.

(٢) انظر بحار الأنوار ٢٥ : ٢٦٣.

(٣) في المصدر : الواحد المعدّل.

(٤) راجع عدّة الاصول ١ : ١٠٠ ، و ١٢٦.

(٥) معارج الاصول : ١٤٠.

٥٥

الثاني : إمّا أن يفيد الظنّ أو لا يفيد ، وعلى التقديرين لا يعمل به أمّا بتقدير عدم الإفادة فمتّفق عليه ، وأمّا بتقدير إفادة الظنّ فمن وجوه ثلاثة : أحدها : قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١) الثاني : قوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٢) الثالث : قوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (٣).

الثالث : أنّه إن خصّ دليلا عامّا كان عدولا عن متيقّن إلى مظنون ، وإن نقل عن حكم الأصل كان عسرا وضررا وهو منفيّ بالدليل. ولو قيل : هو مفيد للظنّ فيعمل به تفصّيا من الضرر المظنون ، منعنا افادته الظنّ ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ستكثر بعدي القالة عليّ فإذا جاءكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله العزيز فإن وافقه فاعملوا به وإلّا فردّوه » (٤) وخبره صدق (٥) فلا خبر من هذا القبيل إلّا يحتمل أن يكون من القبيل المكذوب.

ولا يقال : هذا خبر واحد ، لأنّا نقول : إن كان الخبر حجّة فهذا أحد الأخبار ، وإن لم يكن حجّة فقد بطل الجميع.

ولا يقال : الإماميّة عاملة بالأخبار وعملها حجّة ، لأنّا نمنع ذلك ، فإنّ أكثرهم يردّ الخبر بأنّه خبر واحد ، وبأنّه شاذّ ، فلو لا استنادهم مع الأخبار إلى وجه يقتضي العمل بها لكان عملهم اقتراحا ، وهذا لا يظنّ بالفرقة الناجية. وأمّا أنّه مع عدم الظفر بالطاعن والمخالف لمضمونه يعمل به ، فلأنّ مع عدم الوقوف على الطاعن والمخالف له يتيقّن أنّه حقّ ، لاستحالة تمالي الأصحاب على القول بالباطل وخفاء الحقّ بينهم. وأمّا مع القرائن فلأنّها حجّة بانفرادها فتكون دالّة على صدق مضمون الحديث ويراد بالاحتجاج به التأكيد.

لا يقال : لو لم يكن خبر الواحد حجّة لما نقل ، لأنّا ننقض ذلك بنقل خبر من عرف فسقه وكفره ومن قذف بوضع الأخبار ورمي بالغلوّ ، وبالأخبار الّتي استدلّوا بها في البحوث العلميّة كالتوحيد والعدل ، والجواب في الكلّ واحد.

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

(٢) يونس : ٣٦.

(٣) البقرة : ١٦٩.

(٤) لم نعثر عليه بهذه العبارة ، انظر بحار الأنوار ٢ : ٢٢٥.

(٥) في المصدر : مصداق.

٥٦

وأمّا الإجماع : فعندنا هو حجّة بانضمام المعصوم ، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله [ عليه‌السلام ] لما كان حجّة ، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجّة ، لا باعتبار اتّفاقهما بل باعتبار قوله ، فلا تغترّ إذا بمن يتحكّم فيدّعي الإجماع باتّفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالته بالباقين إلّا مع العلم القطعي بدخول الإمام في الجملة ولنفرض صورا ثلاثا :

الاولى : أن تفتي جماعة ثمّ لا نعلم من الباقين مخالفا ، فالوجه أنّه ليس حجّة ، لأنّه كما لا نعلم مخالفا لا نعلم أن لا مخالف ، ومع الجواز لا يتحقّق دخول المعصوم في المفتين. الثانية : أن يختلف الأصحاب على قولين ففي جواز إحداث قول ثالث تردّد ، أصحّه أنّه لا يجوز بشرط أن يعلم أن لا قائل منهم إلّا بأحدهما.

الثالثة : أن يفترقوا فرقتين ويعلم أنّ الإمام ليس في إحداهما وتجهل الاخرى فتعيّن الحقّ مع المجهولة ، وهذه الفروض تعقل لكن قلّ أن يتّفق.

وأمّا دليل العقل فقسمان :

أحدهما : ما يتوقّف فيه على الخطاب وهو ثلاثة :

الأوّل : لحن الخطاب كقوله تعالى : ( أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ ) (١) أراد فضرب.

الثاني : فحوى الخطاب وهو ما دلّ عليه بالتنبيه كقوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ) (٢).

الثالث : دليل الخطاب وهو تعليق الحكم على أحد وصفي الحقيقة كقوله : « في سائمة الغنم الزكاة » (٣) والشيخ يقول : هو حجّة ، وعلم الهدى ينكره. وهو الحقّ.

أمّا تعليق الحكم على الشرط كقوله : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٤) وكقوله : ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (٥) فهو حجّة تحقيقا لمعنى الشرط ، ولا كذا لو علّقه على الاسم كقوله : « اضرب زيدا » خلافا للدقاق.

القسم الثاني : ما ينفرد العقل بالدلالة عليه ، وهو إمّا وجوب كردّ الوديعة ، أو قبح

__________________

(١) الأعراف : ١٦٠.

(٢) الاسراء : ٢٣.

(٣) لم نظفر به باللفظ المذكور في الأحاديث ، ولعلّه لم يرد به كلام المعصوم.

(٤) التهذيب ١ : ٣٩ ، ح ٤٦ و ٤٧.

(٥) الطلاق : ٦.

٥٧

كالكذب والظلم ، أو حسن كالإنصاف والصدق. ثمّ كلّ واحد من هذه كما يكون ضروريّا قد يكون كسبيّا كردّ الوديعة مع الضرر وقبح الكذب مع النفع.

وأمّا الاستصحاب فأقسامه ثلاثة :

استصحاب حال العقل وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة كما تقول ليس الوتر واجبا ، لأنّ الأصل براءة العهدة. ومنه أن يختلف الفقهاء في حكم بالأقلّ والأكثر فيقتصر على الأقلّ ، كما يقول بعض الأصحاب : في عين الدابّة نصف قيمتها ، ويقول الآخر : ربع قيمتها ، فيقول المستدلّ : ثبت الربع إجماعا فينتفي الزائد نظرا إلى البراءة الأصليّة.

الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه ، وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هناك دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك فإنّه يجب التوقّف ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة. ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر.

الثالث : استصحاب حال الشرع كالمتيمم يجد الماء في أثناء الصلاة ، فيقول المستدلّ على الاستمرار : صلاة مشروعة قبل وجود الماء فيكون كذلك بعده. وليس هذا حجّة لأنّ شرعيّتها بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه. ثمّ مثل هذا لا يسلم عن المعارضة بمثله ، لأنّك تقول : الذمّة مشغولة قبل الإتمام فتكون مشغولة بعده.

وأمّا القياس : فلا يعتمد عليه عندنا ، لعدم اليقين بثمرته فيكون العمل به عملا بالظنّ المنهيّ عنه. ودعوى الإجماع من الصحابة على العمل به لم يثبت بل أنكره جماعة منهم ، فما يمرّ بك من تمثيل شي‌ء بشي‌ء فليس بقياس ، لأنّ أحدهما مقيس على الآخر ، بل لاشتراكهما في الدلالة الشرعيّة لا القياسيّة (١) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وذكر سائر المتأخّرين قريبا ممّا نقلناه عن جماعة منهم ، واكتفينا بما رويناه روما للاختصار.

وذكر أوّل مشايخي في علمي الحديث والرجال ـ وتشرّفت بالاستفادة وأخذ

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٨ ـ ٣٣.

٥٨

الإجازة منه في عنفوان شبابي في المشهد المقدّس الغرويّ في أوائل سنة سبع بعد الألف ـ وهو السيّد السند والعلّامة الأوحد صاحب كتاب المدارك ( شرح الشرائع ) في أوائل ذلك الكتاب : الإجماع إنّما يكون حجّة مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم عليه‌السلام في جملة أقوال المجمعين ، ولو اريد بالإجماع المعنى المشهور لم يكن حجّة ، لانحصار الأدلّة الشرعيّة في الكتاب والسنّة والبراءة الأصليّة (١) انتهى كلامه رحمه‌الله *.

أقول : كلام شيخنا وسيّدنا ـ رحمه‌الله ـ صريح في عدم حجّية الإجماع واستصحاب الأحكام الشرعيّة ، وفي أنّ الدليل عنده منحصر في ثلاثة ، ومن المعلوم ـ كما سيجي‌ء تحقيقه ـ أنّ البراءة الأصليّة إنّما يثبت بها نفي الحكم الشرعي لا نفسه ، فيلزم من ذلك انحصار الدليل على الحكم الشرعي في اثنين ، ومن المعلوم أنّ حال الكتاب والحديث النبويّ لا يعلم إلّا من جهتهم عليهم‌السلام ، فتعيّن الانحصار في أحاديثهم عليهم‌السلام كما سيجي‌ء تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وأمّا آخر مشايخي في فنّ الفقه والحديث والرجال وهو مولانا العلّامة المحقّق والفيلسوف المدقّق أفضل المحدّثين وأعلم المتأخّرين بأحوال الرجال وأورعهم الميرزا محمّد الأسترآبادي المجاور بحرم الله المدفون عند خديجة الكبرى ، وقد استفدت منه في مكّة المعظّمة من أوائل سنة خمس عشرة بعد الألف إلى عشر سنين ، وأجاز لي أن أروي عنه جميع ما يجوز له روايته قدس‌سره فقد عرضت عليه ما

______________________________________________________

* إنّ ما نقله عن السيّد في عدم حجّته الإجماع مطلقا غير صحيح ، لأنّ الّذي نقله عنه ثبوت حجّيّته إذا علم دخول قول المعصوم في جملة أقوال المجمعين وذلك لا ينفي حجّيته مطلقا. وما ذكره في البراءة الأصليّة غير مستقيم ، لأنّ قولهم عليهم‌السلام : ما حجب الله علمه عن العباد موضوع عنهم (٢) صريح في أنّ حكم الشرع براءتهم منه ، فهو من جملة الأدلّة الشرعيّة الدالّة على توقّف ثبوت الحكم بالتكليف الشرعيّ على ورود الشرع به وعدم التكليف إذا لم يرد ، فكونها دليلا شرعيّا ثبوته ظاهر ، والمصنّف خطأه واضح هنا في كلّ من الدعويين.

__________________

(١) المدارك ١ : ٤٣.

(٢) البحار ٢ : ٢٨٠ ، ح ٤٨.

٥٩

سنذكره من اختيار طريقة القدماء وردّ طريقة المتأخّرين ، فاستحسنه وأثنى عليّ *.

______________________________________________________

* الّذي فهم من بعض من صاحب الميرزا رحمه‌الله وخالطه خلاف ما ادّعاه عنه ، وأنّه أزرى عليه وتكلّم ، لمّا فهم منه أنّه يدّعي لنفسه أهليّة التصرّف في الأحكام الشرعيّة. ولو كان الميرزا محمّد رحمه‌الله رأى كلامه حقّا وصوابا كان يجب عليه أن يتوب إلى الله ممّا اجتهد نفسه فيه وتفرّد بتحقيقه في أحوال الرجال ونقل القدح فيهم الّذي لا يجوز إلّا للضرورة والاحتياج ، وقد عرّفه المصنّف الغنى عن ذلك بثبوت أحاديث الكتب الأربعة وبالقطع بصحّة جميع ما فيها ، فأيّ حاجة بقي لنا في التعب في بيان صحيح رجال سندها من ضعيفه ، لأنّ على دعوى المصنّف أنّ الكتب الأربعة أخذها مؤلّفوها من الاصول الثابتة النقل عن الأئمّة عليهم‌السلام عند المؤلّفين ، والكتب الأربعة عندنا ثابتة بالتواتر أيضا ، فما أجهدوا فيه أنفسهم أصحاب كتب الرجال من ـ الميرزا أو غيره ـ من زمن السفرة رحمه‌الله فضول بل غفلة وذهول ، لأنّ من المعلوم : أنّه ليس لهم قصد في ذلك إلّا لأجل تميز صحيح الحديث من ضعيفه وكانوا أيضا ـ أصحاب الحديث ـ في غنية عن ذكر السند بتمامه ، ويكفيهم فيه بيان الأصل المأخوذ الحديث منه من تلك الاصول المحقّقة. واحتمال إرادة التبرّك باتّصال السند أمر بعيد لا يقتضي هذه المحافظة الّتي حافظوها في ذلك : مع أنّه لا يعادل توهّم الضعف في غالب الأحاديث عند من لم يطّلع على مرادهم ولا نبّهوا في كتبهم عليه. هذا مع ما أشرنا إليه سابقا من بطلان هذه الدعوى بأوضح دليل.

والمصنّف يلزمه أن يعتقد في « الميرزا محمّد » ما يعتقده في غيره ممّن تبع العلّامة على زعمه ، لأنّ الميرزا أيضا سلك على منوالهم في الأخبار وغيرها ولم يظهر منه مخالفة لهم ، وتعبه في معرفة الرجال صريح في خلاف ما يتوهّمه المصنّف ، فكان يجب عليه حيث إنّه شيخه وقرينه أن ينقذه من هذه الضلالة الكبرى والطخية العمياء ليرجع إلى الحقّ ، ويريه جميع الآيات الّتي منحه الله إيّاها واختصّت الأئمّة عليهم‌السلام بها من دون العالم المتقدّم يقظة ومناما. والميرزا رحمه‌الله كان من أهل الحقّ والتقوى والديانة ، فكان بأدنى إشارة إذا عرف الحقّ يجب عليه إظهاره وإنقاذ المضلّين ممّن كان يعتقد في العلماء المتقدّمين أنّهم على الصواب (١) وأن يحذّر من اتّباعهم على الخطاء ، لأنّ الهداية واجبة لمن أمكنته ، والإنقاذ من الضلال كذلك. وكان يجب على الميرزا ان ينبّه على خطائه في اعتماد ما في كتابه لئلّا يتوهّم متوهّم إذا رأى مسندا في الكتب الأربعة ورأى في كتابه

__________________

(١) كذا ، وفي العبارة اغتشاش ، وهكذا فيما يأتي.

٦٠