الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

الصادرة عنّا وتعيين جهة القبلة ـ غير معقول مع ظهور الفارق ، فإنّه لو لا اعتبار الظنّ في أمثال ما ذكرنا للزم الحرج البيّن ، ولو اعتبر الظنّ في أحكامه تعالى لأدّى إلى الحرب والفتن كما هو المشاهد *.

وتوضيح المقام أن يقال : كلّ من قال بجواز التمسّك بالاستنباطات الظنّية في نفس أحكامه تعالى من محقّقي العامّة وجمع من متأخّري الخاصّة اعترف بانحصار دليل جوازه في الإجماع ، واعترف بأنّه لو لا ذلك الإجماع لما جاز ، للآيات والروايات المانعة عن ذلك.

ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي في مبحث الإجماع : المتمسّك بالظنّ إنّما يثبت بالإجماع ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتّباع الظنّ (١) انتهى كلامه. ومثل هذه العبارة مذكورة في التلويح للعلّامة التفتازاني (٢) وقد نقلنا عن صاحب المعالم من أصحابنا : أنّ التعويل في الاعتماد على ظنّ المجتهد المطلق إنّما هو على دليل قطعي ، وهو إجماع الامّة عليه (٣).

وأنا أقول : من المعلوم أنّ ثبوت الإجماع في هذا الموضع مفيد للقطع محلّ المنع ، وسند المنع ما ورد في كلام الصادقين عليهم‌السلام : من أنّ حجّية الإجماع من مخترعات العامّة (٤). وسنده الآخر أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بانحصار الطريق في أخذ هذا العلم في السماع عنهم عليهم‌السلام بواسطة أو بدونها (٥). وسنده الآخر أنّه تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأنّه لا يجوز تحصيل الحكم الشرعي

______________________________________________________

* العجب من إخراج ما عدّده من الأحكام الشرعيّة مع تسليمه التكليف بها! والحرج الّذي فرّق به لازم لكلّ تكليف يتعذّر العلم في حكمه ولا سبيل إليه إلّا بالرجوع إلى الظنّ والعمل به للاشتراك في التكليف وأمّا تأدّي ذلك إلى الحروب والفتن فما رأينا ولا سمعنا بسبب هذا في الواقع شيئا من ذلك محقّقا مع كثرة العلماء القائلين بالاجتهاد المستنبطين للأحكام ، بل المشهور على الألسن أنّ اختلاف المذهب رحمة.

__________________

(١) شرح القاضي : ١٢٧.

(٢) لا يوجد لدينا.

(٣) المعالم : ٢٣٩.

(٤) الروضة من الكافي ٨ : ٦.

(٥) الوسائل ١٨ : ٤١ الباب ٧ من أبواب صفات القاضي.

١٨١

النظري (١) بالكسب والنظر لأنّه يؤدّي إلى اختلاف الآراء في الاصول وفي الفروع الفقهية كالمناكح والمواريث والديات والقصاص والمعاملات ـ كما هو المشاهد ـ فتنتفي فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب ، إذ فائدتهما كما هو المشهور بين علماء الإسلام دفع الاختلاف ليتمّ نظام المعاش *. وأيضا كلّ ما يؤدّي إلى الاختلاف

______________________________________________________

* ما ادّعاه من انحصار الدليل في الإجماع وحده غير مسلّم ، فإنّ دليل العقل قد دلّ معه أيضا على أن كلّ تكليف لم يمكن فيه تحصيل دليل يفيد العلم يرجع فيه إلى الاصول والقواعد الراجعة إلى آثار الأئمّة عليهم‌السلام المفيدة للظنّ المأذون في التعويل عليه منهم عليهم‌السلام في مسائل عديدة ، وإلّا لزم تعطيل أحكام الله ، والدين متكفّل بتمام أحكامه ؛ على أن اتّفاق الامّة المفيد للقطع كاف في ذلك على ما نقله عن المعالم وكلام العضدي. إن أراد بالإجماع اتّفاق الامّة على عدم المنع من الاجتهاد فهو حقّ ، لأنّه لم يظهر خلاف في ذلك إلّا من المصنّف. وإن أراد إجماعهم المختصّ بالعامّة فهو عندنا ليس بدليل شرعيّ ، لكن على هذا الأصل حيث يثبت الاتّفاق عليه من جميع أمّة الإسلام فهو دليل شرعيّ ، وأمّا ما عداه ممّا يدّعي عليه العامّة الإجماع ولم يكن كذلك فليس عندنا بدليل شرعي. وكلام الأئمّة عليهم‌السلام إن صحّ « أنّ الإجماع من مخترعات العامّة » محمول على ما يدّعونه وينفردون به في مسائلهم ، لا على ما اتّفقت عليه كلّ الامّة كالاتّفاق على الصلاة والزكاة والصوم وأمثال ذلك ممّا صار من الضروريّات الاتّفاق عليه.

وما ادّعاه أيضا من تواتر الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بانحصار طريق أخذ هذا العلم في السماع عنهم عليهم‌السلام بواسطة أو بدونها ، إن كان المراد به ما حصل الاختلاف فيه بين الإماميّة وغيرهم ولم يكن مدركه العقل ويستقلّ بعلمه فمسلّم ، وإلّا فمنعه ظاهر ، لأنّ السؤال إنّما يحتاج إليه فيما لا يستقلّ بعلمه الإنسان إلّا من جهة السمع.

وكذلك نقله عنهم عليهم‌السلام أنّه لا يجوز تحصيل الحكم الشرعي بالكسب والنظر بقول مطلق أيضا غير مسلّم ، لأنّ المعارف الخمس المعروف من مذهب الشيعة وجوب تحصيلها على كلّ مكلّف بالنظر والكسب من جهة العقل ، ولو كان العقل غير كاف فيها لم يثبت الشرع ، فكلّ ما أفاده العقل واستقلّ به لا يحتاج فيه الرجوع إلى الشرع ، وإذا ورد الشرع به كان معاضدا له كاشفا عنه ، لأنّه إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي لا بدّ من متابعة الدليل العقلي وتأويل النقلي إن أمكن ،

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢٠ الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

١٨٢

يؤدّي إلى الخطأ لامتناع اجتماع النقيضين ، والحكيم المطلق ـ عزّ شأنه ـ أبى من أن يبني شريعته على ما يؤدّي إلى الخطأ. وقد تمسّك الإمام ثقة الإسلام في أوّل كتاب الكافي بالسند الثالث في إبطال بناء العقائد والأعمال على المقدّمات الجهلية الاستحسانية (١).

لا يقال : هم يزعمونها يقينية. لأنّا نقول : لو كانت يقينية لما أدّت إلى اختلاف أقوالهم في فنّ الكلام وفي اصول الفقه وفي المسائل الفقهية.

______________________________________________________

وإلّا يطرح النقلي ، أمّا الامور الّتي لا يستقلّ بها العقل فلا بدّ من الرجوع فيها إلى الشرع.

وما تمسّك به المصنّف في منع كون المعارف الخمس كسبيّة من ظاهر الأحاديث يجب تأويله ، كما اوّلت آيات القرآن المخالفة لما هو الحقّ ظاهرا ، لأنّه يؤدّي إلى عدم استحقاق الثواب على ذلك إذا لم يكن من فعل العبد ، ويلزم منه أن لا لوم على الكافر إذا لم يحصّل هذه المعارف ، لأنّها ليست في قدرته واختياره ولم يتفضّل عليه بها الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهذا عين أقوال المجبّرة الباطلة عندنا بالاتّفاق.

إذا تقرّر ذلك علم أنّه كلّما أمكن استعلام الحكم الشرعي من الحديث الصحيح فلا معدل عنه ولا يجوز العدول عنه إلى غيره بأيّ وجه حصل ، لأنّ الظنّ لا يعادل العلم ، وذلك ظاهر.

وأمّا إذا لم يوجد طريق للعلم والتكليف ثابت يلزم الرجوع إلى ما يفيده الظنّ الحاصل من القواعد الاجتهادية.

على أنّ السيّد المرتضى قدس‌سره قال : إنّ القاعدة في التعويل على الظنّ عند عدم تيسّر العلم غير مطّردة ، فإنّ في بعض الأحكام الشرعيّة ما لا سبيل إليه إلّا بالظنّ ، وفي بعضها قد لا يحصل الظنّ الراجح فيها ، ومع هذا حكم الشارع بها ، فجعلوها من قبيل الأسباب والعلل حيث لم يجدوا للظنّ مناسبة بها كالشهادة ودخول الوقت (٢).

والشيخ الطوسي رحمه‌الله في العدّة في مبحث القياس قال : وأمّا من أحاله ـ أي العمل بالقياس ـ من حيث تعلّق الظنّ الّذي يخطئ ويصيب ، فينتقض قوله بكثير من الأحكام في العقل والشرع تتعلّق بالظنّ. ثمّ قال : ألّا ترى من جهة العقل أنّا نعلم في العقل حسن التجارة عند ظنّ الربح

__________________

(١) الكافي ١ : ٧.

(٢) راجع الذريعة ٢ : ٦٧٨.

١٨٣

ولقد أفاد وأجاد المحقّق الحلّي قدس‌سره في أوائل كتاب المعتبر حيث قال : إنّك مخبر في حال فتواك عن ربّك وناطق بلسان شرعه فما أسعدك إن أخذت بالجزم وما أخيبك إن بنيت على الوهم ، فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (١) وانظر إلى قوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (٢) وتفطّن كيف قسّم مستند الحكم إلى القسمين فما لم يتحقق الاذن فأنت مفتر (٣).

ولقد أحسن وأجاد رئيس الطائفة محيي آثار العترة الطاهرة عليهم‌السلام حيث قال في موضع من كتاب العدّة موافقا لما نقلناه سابقا من كتاب تهذيب الأحكام له ومن

______________________________________________________

ونعلم قبحها عند ظنّ الخسران. ثمّ قال : وأمّا تعلّق الأحكام الشرعيّة بالظنّ فأكثر من ان تحصى ، نحو وجوب التوجّه إلى القبلة عند الظنّ بأنّها في جهة بخصوصها وتقدير النفقات وأرش الجنايات وقيم المتلفات. ثمّ قال كلاما مفاده : أنّه يجب أن يعلم أنّ الظنّ يكون طريقا إلى العلم في أمثال ذلك ، لأنّه لا فصل بين أن يظنّ جهة القبلة أو يعلمها في وجوب التوجّه إليها. وقال بعد أن ذكر أمثلة عديدة في هذا المعنى : وهذه الجملة إذا تؤمّلت بطل بها قول من أنكر تعلّق الأحكام بالظنون ، ومن توهّم على من سلك هذه الطريقة أنّه قد أثبت الأحكام بالظنون فقد أبعد نهاية البعد ، لأنّ الأحكام لا تكون إلّا معلومة ، إلّا أنّ الطريق إليها تارة العلم واخرى الظنّ (٤) وأطال الكلام في توضيح ذلك ، انتهى كلامه ـ أعلى الله مقامه ـ.

ومن تأمّل كلام السيّد الّذي قدّمناه وكلام الشيخ رحمه‌الله عرف صراحتهما في الرجوع إلى الظنّ عند عدم العلم في الأحكام الشرعيّة وعرف خطاء المصنّف الّذي نبّهنا عليه سابقا في جعله تلك الأحكام المعوّل فيها على الظنّ أنّها ليست من أحكام الشرع ، وكلام الشيخ صريح في أنّها أحكام شرعيّة. والمصنّف يعتقد مزيّة السيّد والشيخ على غيرهم ولا يعوّل على كلامهما فيما يخالف وهمه ، وكأنّ سبب ذلك اعتقاده في نفسه المزيّة عليهما والإحاطة بما لم يبلغه علمهما وفهمهما ، وهو عين الجهل وأكبر الخطاء!

__________________

(١) البقرة : ١٦٩ ، الأعراف : ٣٣.

(٢) يونس : ٥٩.

(٣) المعتبر ١ : ٢٢.

(٤) عدّة الاصول ٢ : ٦٥٥.

١٨٤

كتاب العدّة : وأمّا الظنّ فعندنا وإن لم يكن أصلا في الشريعة تستند الأحكام إليه ، فإنّه تقف أحكام كثيرة عليه ، نحو تنفيذ الحكم عند الشاهدين ونحو جهات القبلة وما يجري مجراه (١). وقال في موضع آخر من كتاب العدّة : وأمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين ، بل محظور استعمالهما ، ونحن نبيّن ذلك فيما بعد (٢) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وأنا أقول : في بعض ما نقلنا عن رئيس الطائفة بحث ، والحقّ عندي ما نقله صاحب المعالم عن علم الهدى رضى الله عنه حيث قال : وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث انّها توجب حصول الظنّ ، بل من حيث إنّ الشارع قال جعله سببا لوجوب الحكم على القاضي ، كما جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة (٣).

وإنّما قلت : الحقّ فيه ما أفاده علم الهدى ، لا ما ذكره رئيس الطائفة رحمه‌الله لأنّ كثيرا ما لا يحصل الظنّ بشهادتهما لمعارضة قرينة حالية ، مع وجوب الحكم على القاضي حينئذ ، ومن المعلوم عند اولي الألباب : أنّ متعلّق هذا الظنّ ليس من أحكامه تعالى كما أفاده رئيس الطائفة.

ـ الوجه الثاني ـ

قوله تعالى : ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) (٤) مع قوله عزوجل : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (٥) وقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٦) وقوله تعالى : ( إِنْ هُمْ إِلّا يَظُنُّونَ ) (٧) و ( إِنْ هُمْ إِلّا يَخْرُصُونَ ) (٨) وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (٩) وغيرها من الآيات الشريفة. وتخصيص تلك الآيات باصول الدين ـ كما وقع من الاصوليّين بناء على أنّ الضرورة ألجأت إلى التمسّك في الفروع بالظنّ إمّا مطلقا [ بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمن بعد عنه في زمانه ] (١٠) كما هو زعم العامّة ، أو في زمن الغيبة الكبرى كما هو

__________________

(١) عدّة الاصول ٢ : ٦٥٤.

(٢) عدّة الاصول ٢ : ٦٥٢.

(٣) معالم الدين : ١٩٣.

(٤) الأعراف : ١٦٩.

(٥) النجم : ٢٨.

(٦) الاسراء : ٣٦.

(٧) الجاثية : ٢٤.

(٨) الأنعام : ١١٦.

(٩) المائدة : ٤٤.

(١٠) ما بين المعقوفتين شطب عليه في ط.

١٨٥

زعم جمع من متأخّري أصحابنا (١) ولمن بعد عن الإمام عليه‌السلام في زمن حضوره كما هو زعم الفاضل المدقّق الشيخ عليّ (٢) ومن وافقه من تبعته ـ خيال ضعيف سيجي‌ء جوابه في كلامنا إن شاء الله تعالى.

ـ الوجه الثالث ـ

إنّ خلاصة ما استدلّت به الإماميّة على وجوب عصمة الإمام عليه‌السلام وهو « أنّه لو لا ذلك لزم أمره تعالى عباده باتّباع الخطأ وذلك قبيح عقلا » جارية في وجوب اتّباع ظنّ المجتهد ، فعلم أنّ ظنّه ليس بواجب الاتّباع ، وإذا لم يكن واجبا لم يكن جائزا ، إذ لا قائل بالفصل.

وبعبارة اخرى : إذ الجواز هنا يستلزم الوجوب بإجماعهم ، بل في كتاب المحاسن رسالة منقولة عن الصادق عليه‌السلام فيها استدلّ الصادق عليه‌السلام بهذا الدليل على امتناع العمل بظنّ المجتهدين وبخبر الواحد الخالي عن القرائن المفيدة للقطع وأشباههما (٣). وهذا نقض أورده الفخر الرازي على الإماميّة (٤). وجوابه : أنّ هذا النقض لا يرد على الأخباريّين ، لأنّهم لا يجوّزون الاعتماد في أحكامه تعالى على الظنّ ، ويرد على المتأخّرين ، وليس لهم بحمد الله عن ذلك مفرّ! *

______________________________________________________

* هذا المحذور الّذي استدلّ به يتأتّى في كلّ مخبر وراو ، لاحتمال الخطاء الّذي هو المحذور المفروض فيه ، فلا يحصل الوثوق بخبره أو روايته إلّا إذا كان معصوما ، ولا يندفع عن الأخباريّين ذلك إلّا بثبوت عصمة المخبر ، لأنّه لا يحصل العلم بخبره والقطع بدون ذلك ، لجواز الخطاء والغفلة والنسيان من كلّ مخبر ، فانسدّ باب العلم بالخبر بكلّ وجه. والقرائن لا تفيد في ذلك إلّا أن كانت من قبيل المعجز حتّى يعلم بها صدق المخبر وعدم احتمال المحذور ، ولو اكتفينا بها مطلقا في دفعه لزم الاكتفاء بها في خبر الإمام ولا يحتاج إلى العصمة. والاتّفاق من العقلاء واقع على أنّه لا يشترط العصمة إلّا في الّذي يخبر عن الله تعالى بغير واسطة ، وأمّا من

__________________

(١) معارج الاصول : ١٤٠ ، مبادئ الوصول : ٢٠٣.

(٢) رسالة الجمعة ( رسائل المحقّق الكركي ) ١ : ١٤٣.

(٣) راجع المحاسن للبرقي ١ : ٣٣١.

(٤) انظر التفسير الكبير : ٢٠ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

١٨٦

ـ الوجه الرابع ـ

إنّ المسلك الّذي مداركه غير منضبطة ـ وكثيرا ما يقع فيها التعارضات واضطراب

______________________________________________________

سواه يكفي فيه العدالة الموثوق معها بعدم تعمّد الكذب ، ولو لا ذلك لما تيسّر تبليغ الأحكام الشرعيّة عن نبيّ أو إمام في الجهات والأقطار.

والمحذور الموجب للعصمة في النبيّ أو الإمام ليس هو مجرّد جواز أن يخبر عن ظنّ أو خطاء حتّى يكون مثله في المجتهد ، بل إنّما هو للدليل العقلي ، وهو أنّ من يكون واسطة بين الله وبين عباده ليبلغهم الدين والشريعة لا يجوّز العقل اتّصافه بصفات النقص وأنّ الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ حيث اختاره من عباده بهذا المطلوب الجليل وجب من باب اللطف أن ينزّهه عن الخطاء والغلط والنسيان وكلّ ما يخالف الغرض المختار له ليوافق الحكمة ، ولا نعلم حصول ذلك له إلّا بالمعجز الخارق للعادة ، وهذا في حقّ النبيّ ظاهر. وأمّا في الأئمّة فعلمنا ذلك بنصّ النبيّ وتخصيصهم من الله سبحانه وتعالى بالطهارة والشرف والعلم وظهور الكرامات على وجه لا يجوز العقل مجامعته للأدناس البشريّة ، وهذا عمدة الدليل على عصمتهم.

وأمّا خوف الكذب والغلط فلا يصلح وحده سببا للعصمة ، لأنّ العدالة والورع والضبط ينفي ذلك ، والاتّفاق واقع على قبول خبر العدل وإن لم ينتف عنه احتمال المحذور الّذي أوجب العصمة ، بل نقل في المعالم الاتّفاق على صحّة قبول الزوجة خبر زوجها إذا كانت حائضا وروى لها حكما عن المفتي (١) ولم يشترطوا عدالته. ونهاية ما يعتبر في قبول الخبر العدالة ، ولا يشترط مع ذلك العلم بصدقه والاحتمال الغفليّ أو العاديّ بجواز الخطاء الّذي جعل محذورا لا يؤثّر في المخبر إذا كان عدلا ، ويؤثّر في النبيّ والإمام ، لما ذكرناه من الفرق ، فلا ملازمة بينهما.

وإخبار المجتهد بالحكم لا يشترط فيه أن يكون في نفس الأمر كذلك على قول بعضهم ، وعلى قول آخر أنّه حكم الله في نفس الأمر وأنّ لله أحكاما مختلفة باختلاف المجتهدين فيها ، وعلى كلا الأمرين فالأمر ظاهر في أنّه لا محذور فيه إلّا احتمال تعمّد الكذب في اجتهاده في ذلك الحكم أو إخباره بخلاف ما أدّاه اجتهاده إليه ، والعدالة تؤمن من ذلك.

فعلم أنّ خصوصيّة الظنّ لا مدخل لها في الاستدلال ، وإنّما هو احتمال الكذب في الإخبار لا غير. وإن قلنا : إنّ المجتهد لا يخبر إلّا عن علم ، لما اشتهر عند الاصوليّين : أنّ ظنّية الطريق

__________________

(١) معالم الدين : ٢٤٧.

١٨٧

الأنفس ورجوع كثير من فحول العلماء عمّا به أفتى ـ لا يصلح لأن يجعله تعالى مناط أحكامه.

______________________________________________________

لا تنافي علميّة الحكم ، ولما فهم سابقا من كلام الشيخ : أنّ الأحكام لا تكون إلّا معلومة إلّا أنّ الطريق إليها تكون تارة العلم وتارة الظنّ ارتفع دليله من أصله على هذا التقدير ؛ على أنّه يلزم منه ورود احتمال الكذب والسهو من أصله على هذا التقدير ؛ على أنّه يلزم منه ورود احتمال الكذب والسهو والغلط في تدوين ما دوّنه أصحاب كتب الحديث ، لأنّ كلّ واحد منهم يجوّز العقل عليه هذا الاحتمال إذا لم يكن معصوما.

وأين القرائن المنضمّة إلى كلّ خبر أنّه ما أثبته في كتابه إلّا وهو صحيح مأمون من جميع ما ذكرناه من المحذورات ، لأنّ المستدلّ على عدم جواز التعويل على ظنّ المجتهد لجواز أن يكون ظنّه خطأ ، فكذلك تقول في كلّ خبر يحتمل أن يكون خبره خطأ بوجه من وجوه الاحتمالات المقتضية لذلك ، لأنّه لا مجال لإنكار تجويز الاحتمال في مثله إلّا من المعصوم وننقل الكلام أيضا إلى الاصول المتقدّمة ، ويأتي فيها مثل ذلك. وهذا الإلزام أحقّ بأن يقال : إنّه ليس للمصنّف منه مفرّ.

على أنّ هذا النقض يرد أيضا على الفخر الرازي ، لأنّه يجب أيضا عليه التخلّص عن المحذور في المخبر عن النبيّ بما تخلّص عنه في النبيّ ، وإلّا لم يحصل العلم والوثوق بخبره. ويلزم مع عدم التحرّز عن ذلك أمره ـ سبحانه وتعالى ـ عباده باتّباع الخطاء ، وهو لا يلتزم ذلك ، فما كان جوابه فهو جوابنا بالنسبة إلى قبول الخبر لا في إثبات عصمة الأئمّة عليهم‌السلام. فإن أجاب بأنّا لا نشترط انتفاء هذا الاحتمال من المحذور إلّا في المبلّغ عن الله سبحانه بغير واسطة ، وأمّا المخبر عنه فلا نشترط فيه ذلك ونكتفي بعدالته. قلنا : فنحن أيضا لا نشترط انتفاء هذا المحذور إلّا في النبيّ والإمام ، لأنّه ثبت عندنا بالأدلّة أنّه بمنزلته في هذا الخصوص. وأمّا من عداهما فنكتفي فيه بما اكتفيتم بالاتّفاق عندنا على ذلك ، فلا يلزم علينا ردّ قول المجتهد أو غيره من المخبرين إذا كانوا عدولا لأجل هذا المحذور.

وهذا القدر كاف في دفع نقض الفخر الرازي.

وأمّا إثبات عصمة الأئمّة عليهم‌السلام فهو أمر آخر لا يتوقّف لدفع هذا النقض على إثباته ، فما دفعه

١٨٨

ومن المعلوم : أنّ اعتبار ظنّ المجتهد المتعلّق بنفس أحكامه تعالى مستلزم لتلك المحذورات * ، ألا ترى أنّ في كثير من المسائل تخطر ببال جمع من أهل الاستنباط أنواع من الترجيحات دون جمع وفي وقت دون وقت.

والعامّة اعترفوا بذلك في كتب الاصول ، ففي شرح العضدي للمختصر الحاجبي في مبحث القياس : من شروط العلّة أن تكون وصفا ظاهرا منضبطا في نفسه حتّى تكون ضابطا للحكمة لا حكمة مجرّدة ، وذلك لخفائها كالرضا في التجارة فنيط

______________________________________________________

به المصنّف لا يخفى عدم مناسبته لذلك.

وأمّا ما ذكره من الرسالة المنقولة عن الصادق عليه‌السلام إن صحّ ذلك فهو محمول على تيسّر العلم بالعلم أو حصول ظنّ أرجح من ظنّ المجتهد كما فرضناه في المتجزّي ، بل الظاهر أنّ ذلك المقصود به ما تجوّزه العامّة من الرجوع إلى ظنّ المجتهد كيف كان عن أصل أو رأي أو قياس أو خبر ضعيف ، خصوصا في زمن الصادق عليه‌السلام وكثرة المفتية والقضاة وانتشار أقوالهم الباطلة المخالفة لمذاهب الأئمّة ، ولم يكن في زمن الصادق عليه‌السلام مجتهدون مشهورون من الإماميّة حتّى يعنيهم بهذا الكلام ويقصدهم.

* لو كان كلّ ما يحتاج إليه المكلّف في الاصول والفروع يوجد في الأحاديث الصحيحة الّتي يفيد العلم ما يفيد حكمها صريحا أو فحوى لم يحتج إلى الاجتهاد ، وكان كلّ من عرف الخطّ وقرأه يستفيد منه حكم ما يسأل عنه ، كما هو ظاهر دعوى المصنّف ثبوت ذلك. لكن الكلام أوّلا في وجود ذلك وفي معرفة تمييز صحّة الحديث من الضعيف ، وثانيا في فهم معناه ، وثالثا في كون دلالة الحديث ظاهرة في المقصود وهذا لا يتيسّر لغالب المكلّفين فاحتيج إلى مجتهد يقتدر على ذلك على استخراج ما تدعو ضرورة التكليف إليه ـ إذا لم يتيسّر ما ذكرناه من وجود دلالة الحديث دلالة ظاهرة أو عدم وجود حديث بخصوص تلك المسألة ـ بقدرة ربّانيّة وإلهام توفيقي لا يخرج ذلك عن اتّباع حديثهم الصحيح عليهم‌السلام في ذلك الحكم. وحصول الاختلاف في الظنّ على هذا الوجه بين العلماء لا محذور فيه بعد بذل الوسع والطاقة ودعاء الضرورة إليه. ولو رجعنا إلى الاستفادة من صريح الأحاديث لتعطّلت أكثر الأحكام بالجهالة ، والدين أوسع من ذلك ، وقد اشتهر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : جئتكم بالشريعة السمحة السهلة (١).

__________________

(١) البحار ٢٢ : ٢٦٤ ، وفيه : بعثني بالحنيفيّة السهلة السمحة.

١٨٩

بصيغ العقود لكونها ظاهرة منضبطة ، أو لعدم انضباطها كالمشقّة ، فإنّ لها مراتب لا تحصى وتختلف بالأحوال والأشخاص اختلافا عظيما.

ثمّ ليس كلّ مرتبة مناطا ولا يمكن تعيين مرتبة منها ، إذ لا طريق إلى تمييزها بذاتها وضبطها في نفسها ، فنيطت بالسفر (١).

ـ الوجه الخامس ـ

إنّ المسلك الّذي يختلف باختلاف الأذهان والأحوال والأشخاص لا يصلح لأن يجعله تعالى مناط أحكام مشتركة بين الامّة إلى يوم القيامة.

ـ الوجه السادس ـ

إنّ الشريعة السهلة السمحة كيف تكون مبنيّة على استنباطات صعبة مضطربة؟

ـ الوجه السابع ـ

إنّ مفاسد ابتناء أحكامه تعالى على الاستنباطات الظنّية أكثر من أن تعدّ وتحصى ، من جملتها : أنّه يفضي إلى جواز الفتن والحروب بين المسلمين ، وسدّ هذا الباب يؤدّي إلى دفعها والتوقّف والتثبّت في الامور الشرعية إلى ظهور الحقّ واليقين.

ألا ترى أنّ علماء العامّة وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ذكروا في مقام الاعتذار عن الحروب والفتن الواقعة بين الصحابة العدول الأخيار انّ السبب فيها اختلاف اجتهاداتهم في أحكام الله تعالى؟ (٢) *. ومن جملتها : أنّه إذا وقعت خصمة

______________________________________________________

* أقول : العجب ممّن يعتقد أنّ الحروب الّتي وقعت بين الصحابة كان سبب الإقدام عليها وتجويزها الاجتهاد! ومن المعلوم الواضح الّذي لا شكّ فيه أنّه ما كان منشؤها إلّا حبّ الرئاسة والملك والتغلّب على الناس بالسلطنة ، لا من جهة الطرف الّذي يعتقدون خطاه في اجتهاده ، وإنّما اعتذر من اعتذر عنهم بذلك للخوف من الوقوع في فساد مذهبهم بحجّة لا يتّجه لهم دفعها وإلّا

__________________

(١) شرح القاضي : ٣٦١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢٠ : ٣٤.

١٩٠

دنيوية مبنية على اختلاف اجتهاد المتخاصمين في مال أو فرج أو دم لزم أن لا يجوز لأحدهما أن يأخذ قهرا على الآخر ما يستحقّه في حكم الله تعالى. وما قاله علماء العامّة : من أنّه إذا كانت خصومة المتخاصمين في قضية شخصية مبنية على اختلاف اجتهادهما يجب عليهما الرجوع إلى قاض منصوب من جهة السلطان فإذا قال القاضي : « حكمت بكذا » يجب اتّباعه عليهما ، ممّا لا يرضى به الذهن المستقيم والطبع السليم ، فكيف يرضى به الحكيم العليم؟

ومن جملتها أنّه يفضي إلى تجهيل المفتي نفسه أو إبطال القاضي حكمه إذا ظهر له ظنّ أو قطع مخالف لظنّه السابق.

ـ الوجه الثامن ـ

إنّ الظنّ المعتبر عندهم ظنّ صاحب الملكة المخصوصة الّتي اعتبروها في معنى الفقيه والمجتهد ، وأيضا المعتبر عندهم من بذل الوسع في تحصيل الظنّ المعتبر عندهم قدر مخصوص منه ، ولا يخفى على اللبيب أنّ الملكة المذكورة والقدر المشار إليه من بذل الوسع أمران مخفيّان غير منضبطين ، وقد مرّ أنّهم اعترفوا

______________________________________________________

فكلّ أحد يعرف أنّ الاجتهاد لا يتّجه إلّا في الامور الّتي لا يكون صحّتها أو حرمتها ضروريّا من الدين ولم يكن رؤساء المحاربين عندهم جهالة لتحريمه وبدعته ، ومحاورتهم فيما بينهم وما نقل عنهم من صريح الكلام قاطع على أنّهم ما كان عندهم شكّ في حرمته وبدعته ، وإنّما قادهم إليه الهوى وطلب الملك والرئاسة ، وكيف يتصوّر جواز الاجتهاد في فعل ينادي إمام الوقت الواجب على كلّ أحد من العامّ والخاصّ امتثال أمره واتّباع قوله وفعله ، وهو ينادي بضلالهم واتّباعهم المنكر وعدولهم عن الحقّ. ولا عجب من العامّة إذا تكلّموا بذلك ، أمّا استدلال المصنّف به أعجب وأغرب! كأنّه كان يجوز في عقله أن لو لم يكن الاجتهاد جائزا في زمان معاوية وابنه يزيد ما كانوا أقدموا على حرب عليّ وولده الحسين ـ صلوات الله عليهما ـ وكانوا لأجل الخوف من الله تركوا الملك والسلطنة رغبة في الثواب أو خوفا من العقاب ، ولم تزل حجج المصنّف وتعلّقاته على مثل هذه الخرافات الواهية!

١٩١

بأنّ مثل ذلك لا يصلح أن يكون مناط أحكامه تعالى *.

ـ الوجه التاسع ـ

إنّ الظنّ من باب الشبهات ، ووجوب التوقّف عند الشبهات المتعلّقة بنفس أحكامه تعالى ثبت بالروايات :

أمّا الاولى : فلما في نهج البلاغة : ومن خطبه عليه‌السلام « وإنّما سمّيت الشبهة شبهة ، لأنّها تشبه الحقّ ، فأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى ، وأمّا أعداء الله فدعاؤهم الضلال ودليلهم العمى ، فما ينجوا من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبّه » (١) ولغيره من الروايات الآتية.

وأمّا الثانية : فلما سيأتي من الروايات الصريحة في وجوب التوقّف عند الشبهات المتعلّقة بنفس أحكامه تعالى.

ـ الوجه العاشر ـ

الخطب والوصايا المنقولة عن أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين عليهم‌السلام الصريحة في أنّ كلّ طريق يؤدّي إلى اختلاف الفتاوى من غير ضرورة التقية مردود غير مقبول عند الله من حيث إنّه يؤدّي إلى الاختلاف. ومن المعلوم : أنّ هذا المعنى

______________________________________________________

* حصول الملكة المعتبرة في الاجتهاد الّتي يتمكّن بها المجتهد في استفراغ الوسع تعرف بآثار التصرّف وتكرار مواردها (٢) وصحّة لوازمها الموجب لشهادة أهل العلم بها ، وهي قريبة من ملكة العدالة ، واكتفوا في ثبوتها والاطّلاع عليها بالمعاشرة وملازمة ما يدلّ على التقوى والخوف من الله ، وليس لها حدّ منضبط إلّا ما تقتضي العادة به ويستبعد خلافه ، فإذا حصل مسمّاها كفى. ولا يرد على ذلك أنّ الشهادة إنّما تكون على أمر محسوس والملكة ليست كذلك ، لأنّ الشهادة بها إنّما كانت باعتبار الاطّلاع على لوازمها الحسّية الّتي أوجبت العلم بها. وسيأتي من المصنّف بعد ذلك هذا الإيراد ، وما قدّمنا ذكره إلّا بالمناسبة في هذا المقام.

__________________

(١) نهج البلاغة : ٨١ ، الخطبة ٣٨.

(٢) في الأصل : موادّها. ومعنى العبارة غير واضحة.

١٩٢

كما يشمل القياس والاستحسان والاستصحاب وأشباهها يشمل الاستنباطات الظنّية من كلام الله وكلام رسوله ، مع أنّ الظنّ غير حاصل على مذهب الخاصّة في كثير من تلك المواضع كما سنحقّقه ، وإنّما يحصل على مذهب العامّة. والصريحة (١) في أنّه يجب التوقّف عند الشبهات المتعلّقة بنفس أحكامه تعالى. والصريحة في أنّ ما عدا القطع شبهة. والصريحة في أنّه لا يجوز الإفتاء والقضاء إلّا لرجل يعضّ في العلم بضرس قاطع. والروايات الصريحة في أنّ في كلّ واقعة حكم الله واحد وانّ من أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية وأثم. وفي أنّ المفتي المخطئ ضامن ولحقه وزر من عمل بفتياه *.

______________________________________________________

* قد ادّعى المصنّف في هذا المقام دعاوي كثيرة وأسند التصريح بها إلى الأئمّة عليهم‌السلام ويبعد التصريح منهم بصورة ما نقله عنهم عليهم‌السلام وإن كان في خلال كلامهم ما يشير بظاهره إلى شي‌ء من ذلك. وما ذكره عنهم عليهم‌السلام أخيرا ممّا يفيد جواز الإفتاء والقضاء لمن يعضّ على العلم بضرس قاطع صريح في جواز الاجتهاد ، وهو مخالف لدعواه ، والأصحاب يشترطون في الاجتهاد الواجب الاتّباع ذلك وزيادة ، ولا يجوّزون خلافه ، والمصنّف لم يتنبّه لذلك حين أورده على عادته من عدم الالتفات إلى ما ينقض آخر كلامه أوّله.

وقوله : « انّ ما عدا القطع شبهة » إن كان من كلامه فلا عبرة به ، وإن صحّ أنّه من كلام الإمام عليه‌السلام فكلّ شي‌ء يحتمل خلاف ظاهره ولا مرجّح فالأغلب عند المجتهدين التوقّف في حكمه وأمرهم بما يمكن الاحتياط به ، فلا خروج لهم بذلك عن قول الإمام. وأمّا ما يترجّح فيه الحكم ويقوى فيه الظنّ فهو خارج عن « الشبه » المأمور بالتوقّف عندها ولو حملنا الشبهة المذكورة على وجه العموم المخالف للقطع لوجب التوقّف في مسائل الاصول والفروع إلّا ما ثبت بالضرورة من الدين ، لأنّ أيّ مسألة أو رواية ينتفي الاحتمال المنافي العقلي أو العادي عنها ولو كان ضعيفا؟

ثمّ إنّه لا يخفى أن كلّ من تأمّل كلام الأئمّة عليهم‌السلام في هذا الباب عرف أنّ هذا الذمّ والتقبيح صريح في أنّ المراد به مفتية زمانهم وقضاته من المخالفين ، لكثرتهم واشتهار الاختلاف في فتواهم واعتمادهم على الرأي والقياس والاستحسان الناشئ عن الميل من غير اعتماد في ذلك

__________________

(١) عطف على قوله : الصريحة في أنّ كلّ طريق ....

١٩٣

ففي نهج البلاغة : ومن كلام له عليه‌السلام في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا : ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها على خلاف قوله ، ثمّ تجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد ، أفأمرهم الله سبحانه وتعالى بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله تعالى دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه وتعالى دينا تامّا فقصّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تبليغه

______________________________________________________

كلّه على أصل ثابت.

ومن جملة هفوات المصنّف الناشئة عن سوء الفهم : أن يشبّه ظنّ المجتهد المحقّ بهذه التخيّلات الفاسدة حتّى يدخله في جملتها ، ليحقّ له ردّه والنهي عنه ، والحال أنّ ظنّ المجتهد الإمامي الّذي يكون قد استفرغ وسعه في إرادة الهداية إلى الصواب وبذل جهده بالقوّة الإلهية الّتي قد ثبت اتّصافه بها ، وقد ثبت له الإذن في ذلك بوجوه عديدة وأدلّة قطعيّة ، كيف يتساوى ظنّه على هذه الحالة بظنّ المعتمد على الرأي والقياس والاصول الفاسدة؟ ويلزم من فسادها فساده. وما يؤكّد ما أشرنا إليه من حمل كلام الأئمّة إذا حصل شي‌ء منه عليه : أنّه لم يكن في زمن الأئمّة عليهم‌السلام من مجتهدي الإماميّة من يتصوّر الإشارة بذلك إليه ، وكلامهم عليهم‌السلام مشير إلى الأمر الواقع من الاختلاف وارتكاب غير طريق الحقّ وتقبيح خصوص هذا الاجتهاد ، والمصنّف كأنه يحمله على ما يأتي من الغيب في توفيق الله بإيجاد شخص مؤيّد من عنده بالمعرفة والإلهام يحكم بتحريم الاجتهاد وخطأ صاحبه واثمه وردّ الناس عن هذه الضلالة العامّة لامّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد انغماسهم فيها في هذا الزمن الطويل ، فتكون هذه الأدلّة مخبيّة له ومخفيّة عن غيره بالحكمة الإلهية ، ولم يظهر لهذا السرّ الخفيّ وإبرازه والإعلان به و [ لا ] يكون له أهلا غير ذاته الشريفة المؤيّدة بالتأييد الإلهي ، كما يصرّح به من أنّ ما اعتقده أمر من الله عند سبحانه ومن عند الأئمّة عليهم‌السلام به في هذا الخصوص. وهذا الجهل والوهم الّذي أوجب لنا التشاغل بالكلام على هذه التخيّلات الواهية ، خوفا من سريان هذا الاعتقاد إلى غبيّ جاهل يسي‌ء اعتقاده في الماضين ويغيّره عن اتّباع حقّ المتأخّرين ، وإلّا كان التشاغل بغيرها أولى. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

١٩٤

وأدائه؟ والله سبحانه يقول : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‌ءٍ ) (١) وفيه تبيان لكلّ شي‌ء وذكر أنّ الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه : ( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (٢) وأنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلّا به (٣) *.

وأقول : المقدّمتان القائلتان بأنّ كلّ ما تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة نزل في القرآن ، وبأنّه لا اختلاف فيما نزل فيه ، يستلزمان أن يكون كلّ من أفتى بحكمين مختلفين من غير ابتناء أحدهما على التقية مصداقا لقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (٤) **.

ثمّ أقول : الكافر جاء بخمسة معان في كتاب الله تعالى ، وتلك المعاني وما هو

______________________________________________________

* إنّ الذمّ الواقع منه عليه‌السلام لأهل زمانه والاختلاف الواقع بينهم الناشئ عن الاعتماد على غير دليل الحقّ أمره وسببه واضح جليّ لا يشابهه إلّا ما هو مثله في الفساد والاعتماد. وأمّا غيره ممّا قصده المصنّف بهذا النقل فمنزّه أن يدخل في ضمن هذا الكلام ، لأنّه لا اختلاف فيه عن رأي فاسد ، كالّذين يفتون بذلك مع إمكان أن يعلموا الحقّ ، ولا يفتون به إذا رجعوا إلى من عنده علم ذلك في زمانهم ، ولا يمنعهم عن ذلك إلّا اتّباع الهوى والتعصّب والانحراف عن الانقياد والاتّباع لمن عنده الحقّ المستقيم ، وبسبب ذلك استحقّوا الذمّ والتعنيف ، لعدم العذر لهم في الجهالة والإفتاء بغير الصواب وتفسيرهم القرآن بما يوافق رأيهم من غير علم مع تمكّنهم في الرجوع في تفسيره إلى من يعلم تأويله على الحقّ وتركهم ذلك عنادا وانحرافا ، وأين هذا ممّا يتوهّمه المصنّف من المشابهة ويتخيّل الاستدلال بمثل ذلك عليه؟

** إنّ المقدّمتين تنتجان : أنّ من علم حكم الله المنزل وحكم بغيره متعمّدا أو ظنّه وكان له سبيل إلى العلم به وعوّل على ظنّه فحكم به كان مخالفا لما أنزل الله ، وهذا لا يتأتّى في اختلاف مجتهدي الحقّ ، لأنّهم لا يفتون إلّا بما أنزل الله ، واختلافهم لا يلزم منه وقوع الاختلاف في نفس القرآن. وقد وقع الاختلاف في تفسير القرآن في مواضع عديدة ولا يلزم من ذلك اختلافه في نفسه ، ولا محذور في الاختلاف مع عدم التمكّن من علم الحقّ.

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) النساء : ٨٢.

(٣) نهج البلاغة : ٦١ ، الكلام ٩٨.

(٤) المائدة : ٤٤.

١٩٥

المراد منها يستفادان من أحاديث كثيرة :

منها : ما ذكره الإمام ثقة الإسلام في باب وجوه الكفر عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت له : أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله ، قال : الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه :

فمنها : كفر الجحود وهو على وجهين : الكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة وكفر النعم ، فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول : لا ربّ ولا جنّة ولا نار ، وهو قول صنف من الزنادقة يقال لهم : الدهرية ، وهم الّذين يقولون : وما يهلكنا إلّا الدهر ، وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان [ منهم ] (١) على غير تثبّت منهم ولا تحقيق لشي‌ء ممّا يقولون ، قال الله تعالى : ( إِنْ هُمْ إِلّا يَظُنُّونَ ) (٢) إن ذلك كما يقولون ، وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (٣) يعني بتوحيد الله فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر من الجحود على معرفة ، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال الله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ) (٤) وقال الله عزوجل : ( وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ ) (٥) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم ، وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان ( هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (٦) وقال سبحانه : ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) (٧) وقال : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) (٨).

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزوجل به وهو قول الله عزوجل : ( وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ

__________________

(١) لم يرد في المصدر. (٢) الجاثية : ٢٤.

(٣) البقرة : ٦.

(٤) النمل : ١٤.

(٥) البقرة : ٨٩.

(٦) النمل : ٤٠.

(٧) إبراهيم : ٧.

(٨) البقرة : ١٥٢.

١٩٦

تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ ) (١) فكفرهم بترك ما أمر الله به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده ، فقال : ( فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ ) (٢).

والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة ، وذلك قول الله عزوجل يحكي قول إبراهيم عليه‌السلام : ( كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ) (٣) يعني تبرّأنا منكم ، وقال يذكر إبليس وتبرّيه من أوليائه من الإنس يوم القيامة ( إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) (٤) وقال : ( إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (٥) يعني تبرأ بعضكم من بعض (٦).

ومن كلامه عليه‌السلام في بعض خطبه : عباد الله! إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه ، فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف ، فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعدّ القرى ليومه النازل به ، فقرّب على نفسه البعيد وهوّن الشديد ، نظر فأبصر وذكر فاستكثر ، وارتوى من عذب فرات سهّلت له موارده فشرب نهلا وسلك سبيلا جددا قد خلع سرابيل الشهوات ، وتخلّى من الهموم إلّا همّا واحدا انفرد به ، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ومن الحبال بأمتنها ، وهو من اليقين على مثل ضوء الشمس قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الامور من إصدار كلّ وارد عليه وتصيير كلّ فرع إلى أصله ، مصباح ظلمات كشّاف عشوات مفتاح مبهمات دفاع معضلات دليل فلوات ، يقول فيفهم ويسكت فيسلم ، قد أخلص لله فاستخلصه به ، فهو من معادن دينه وأوتاد

__________________

(١) البقرة : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) البقرة : ٨٥.

(٣) الممتحنة : ٤.

(٤) ابراهيم : ٢٢.

(٥) العنكبوت : ٢٥.

(٦) الكافي ٢ : ٣٨٩ ، ح ١.

١٩٧

أرضه ، قد ألزم نفسه العدل فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه ، يصف الحقّ ويعمل به ، لا يدع للخير غاية إلّا أمّها ولا مظنّة إلّا قصدها ، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه ، يحلّ حيث حلّ ثقله وينزل حيث كان منزله. وآخر قد تسمّى عالما فليس به ، فاقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضلّال ونصب للناس أشراكا من حبائل غرور وقول زور ، قد حمل الكتاب على آرائه وعطف الحقّ على أهوائه ، يؤمن من العظائم ويهوّن كبير الجرائم ، يقول : أقف عند الشبهات وفيها وقع ، ويقول : أعتزل البدع وبينها اضطجع ، فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان ، لا يعرف باب الهدى فيتبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه ، فذلك ميّت الأحياء فأين تذهبون! وأنّى تؤفكون! والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم! بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم؟ وهم أزمّة الحقّ وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش. أيّها الناس! خذوها عن خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه يموت من مات منّا وليس بميّت ويبلى من بلي منّا وليس ببال ، فلا تقولوا بما لا تعرفون فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون ، واعذروا من لا حجّة لكم عليه وأنا هو ، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر وركزت فيكم راية الإيمان ووقّفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلي وفرشت لكم المعروف من قولي وفعلي وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي؟ فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا يتغلغل إليه الفكر (١).

ومن كلام له عليه‌السلام في صفة من يتصدّى للحكم بين الامّة وليس لذلك بأهل : إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان : رجل وكّله الله تعالى إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ضالّ عن هدى من كان قبله مضلّ لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته ، حمّال خطايا غيره رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلا موضع في جهّال الامّة عاد في أغباش الفتنة عم بما في عقد الهدنة ، قد سمّاه أشباه الناس عالما وليس به ، بكّر فاستكثر ، من جمع ما قلّ منه

__________________

(١) نهج البلاغة : ١١٨ ، الخطبة ٨٧.

١٩٨

خير ممّا كثر ، حتّى إذا ارتوى من ماء آجن واكتثر من غير طائل ، جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ، فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه ثمّ قطع به (١) فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب ، جاهل خبّاط جهالات ، عاش ركّاب عشوات لم يعضّ على العلم بضرس قاطع يذري الروايات إذراء الريح الهشيم ، لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه ، لا يحسب العلم في شي‌ء ممّا أنكره ، ولا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره ، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم به من جهل نفسه ، تصرخ من جور قضائه الدماء ، وتعجّ منه المواريث. إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهّالا ويموتون ضلّالا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه ، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر (٢) *.

______________________________________________________

* كلّ ما أشار به عليه‌السلام ممّا تقدّم نقله وتأخّر قد نبّهنا أنّه حكاية حال زمانه ، وربما ومن بعده في زمان باقي الأئمّة عليهم‌السلام في وصف امور العامّة ورجوعهم إلى اعتماد موافقة مراد الخلفاء والامراء لأجل الدنيا ، فينتحلون الحجج والتوجيهات على ما يوافق مرادهم ، وأكثرهم يعلمون الحقّ وفساد ما انتحلوه ، ويموّهون على الناس صحّتها حتّى يتمّ لهم مطلوبهم من الدنيا وهذا كان المعهود في زمن أمير المؤمنين ومن بعده عليهم‌السلام من مفتية العامّة وقضاتها.

وأمّا ما ذكره في الحاشية فان موافقة بعض الأصحاب للعامّة في دفع الإيراد الوارد على تعريف الفقه لا وجه ولا مناسبة للإشارة إليه في كلام الإمام ، لأنّه في ذلك الوقت لم يكن هذا الدليل موجودا حتّى يشير إليه ، وإن حملناه على ما يأتي ـ وهو عليه‌السلام لا يبعد عليه علم ذلك ـ فكان الّذي ينبغي منه عليه‌السلام في دفع هذا المحذور الشنيع باعتقاد المصنّف أن يصرّح به وينبّه عليه

__________________

(١) أقول : قوله عليه‌السلام : « ثمّ قطع به » إشارة إلى ما تقرّر عند العامّة ومن وافقهم من متأخّري الخاصّة إنّ الطريق الظنّي يفضي إلى حكم قطعيّ في ذهن المجتهد ، لأنّه بعد ما حصل له ظنّ بمسألة فقهيّة يرتّب دليلا هكذا : هذا مظنوني ، وكلّ ما هو كذلك يجوز لي ولمن يقلّد في العمل به قطعا للإجماع ، فيجوز العمل بهذا. وقوله عليه‌السلام : « يذري الروايات ... الخ » إشارة إلى فعل علماء العامّة من تركهم وطرحهم الروايات المنقولة بطريق أهل البيت عليهم‌السلام ( منه رحمه‌الله ).

(٢) نهج البلاغة : ٥٩ ، الخطبة ١٧.

١٩٩

ومن خطبته عليه‌السلام : وما كلّ ذي قلب بلبيب ، وما كلّ ذي سمع بسميع ، ولا كلّ ذي ناظر ببصير ، فيا عجبا! وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ، لا يقتصّون أثر نبيّ ولا يقتدون بعمل وصيّ ، ولا يؤمنون بغيب ولا يعفون عن عيب ، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم وتعويلهم في

______________________________________________________

بخصوصه ، لأنّ اهتمامه عليه‌السلام بشيعته وأوليائه أظهر من أن يبيّن ، فإذا ذمّ غيرهم هذا الذمّ العنيف على الّذي وقع منهم واحتمل وقوع مثله من شيعته كانوا أولى بالتصريح والتحذير ؛ على أنّه لا استبعاد في صحّة هذا الدليل ، فلا يتوجّه عليه ما يتوجّه على المحكوم بفساده ويظهر صاحبه للناس أنّه جازم به وقاطع بحكمه وهو في نفسه عالم بفساده ، وهذا هو المعنيّ بكلام الإمام عليه‌السلام فأين هذا ممّا أشار به إليه؟ مع حصول اتّفاق الامّة من العامّة والخاصّة أنّ ظنّ المجتهد بعد استفراغ الوسع وحصول الشرائط المعتبرة يكون في حقّه وحقّ مقلّده هو الّذي كلّفه الله تعالى باتّباعه والعمل به بطريق القطع بذلك ، وهذا لا ينافي أصل الظنّ بالحكم ، وقد نقلنا عن رئيس الطائفة رحمه‌الله أنّه قال : يجب أن يعلم أن الظنّ يكون طريقا إلى العلم في مواد (١) كثيرة ، وقال في مثل ذلك : إنّه لا فصل ـ أي للمصلّي ـ بين أن يظنّ جهة القبلة أو يعلمها في وجوب التوجّه إليها. وذكر أيضا لذلك أمثلة عديدة ، ثمّ قال بعد ذلك : وهذه الجملة إذا تؤمّلت بطل بها قول من أنكر تعلّق الأحكام بالظنون (٢) إلى آخر كلامه ممّا نقلناه عنه فيما تقدّم.

والمصنّف رحمه‌الله يجترئ على الإقدام على القطع بهذه الخيالات الفاسدة ويتمسّك بها ، ولا تزيده إلّا غلطا وجرأة على العلماء ونسبة القبيح وغير الجائز إليهم ، وما كان أغناه عن هذا وهو يعتقد الأخذ بظاهر القرآن والحديث بعد قوله تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) وكم من فساد واضح ومنكر جليّ اشتهر وظهر ولم يمكّن أمير المؤمنين ولا أحد من الأئمّة بعده تغييره ولا تبديله حتّى يقوم القائم ، فهلّا كان المصنّف يتأسّى بهم في الإعراض عن ذلك وتركه وإن كان بحسب اعتقاده أنّه منكر! وهذا الّذي يسي‌ء الظنّ به : من أنّ الداعي إليه وجوه اخر ، نعوذ بالله من تصوّرها! فضلا عن الاعتماد في الفعل عليها.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : موارد.

(٢) عدّة الاصول ٢ : ٦٥٤ ـ ٦٥٥.

٢٠٠