الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

وأقول رابعا : أنّ في التزكية وسائر الشهادات لا بدّ من ضمّ الاستصحاب بخلاف الرواية.

وبالجملة ، النسبة بين الرواية وبين التزكية والشهادة عموم من وجه ، فإنّ الاهتمام بشأن الرواية أكثر ، لأنّ حكمها يعمّ الوقائع الكثيرة. والخبط في التزكية والشهادة أكثر ، لاحتياجها إلى ضمّ خرص واستصحاب. ولا تغفل من أنّ قصدي من ذكر هذه المقدّمات تقوية المنع بإبداء سند على وجه التجويز والاحتمال ، لا على وجه البتّ والقطع والاستدلال.

وأقول خامسا : أنّ في كثير من المباحث اعتبر في شرط الشي‌ء ما لا يعتبر في نفسه ، مثلا : الاعتماد على رواية الراوي مشروط بعصمة المروي عنه ، لا بعصمة الراوي.

وأقول سادسا : إذا ابتني شي‌ء على أمر ضعيف ثمّ ابتنى الضعيف على ضعيف

______________________________________________________

تأتي في المزكّي إذا كان عدلا. وكثرة الاحتياج إلى الرواية تقتضي التساهل في أحكامها للضرورة إلى العمل العامّ بها. بخلاف الشهادة فإنّ الاحتياج إليها نادر بالنسبة إلى الرواية ، ولهذا اشترط في شاهدها ما لم يشترط في الراوي زيادة عن العدالة.

وأمّا قبول قول العدل فلم يفرق فيه بين أن يكون مدركه أمرا مخصوصا حسّيا أو غير حسّي ، والمرجع إلى أنّه عالم بما شهد به بأيّ وجه كان.

وما ذكره من الاحتياج إلى الخرص والاستصحاب ـ على المعنى الثاني من تفسير الملكة ـ لا وجه له ، لأنّ الشاهد بالتزكية وغيرها لا يعوّل في شهادته إلّا على العلم الحاصل له حين الشهادة لا على ما كان حاصلا له من قبل ، لأنّ ما كان يجوز تغيّره فلا معنى لاستصحاب علمه والشهادة به مع احتمال التغيّر ، والمرجع في هذا الاحتمال وعدمه إلى ما تقتضي به العادة فيما يقبل ذلك.

وأمّا قوله : « إنّ الملكة ليست أمرا محسوسا فتكون التزكية إخبارا عن معقول صرف » غير مستقيم ، لأنّ الشهادة بالعدالة الّتي ترجع إلى حصول الملكة إنّما هي شهادة بلوازم تلك الملكة من الامور المحسوسة ، كما هو ظاهر في العلم بالصنائع لكلّ صانع إذا اطلع الإنسان على قوّته وعمله في صنعته مرّة بعد اخرى تتحقّق له تلك الملكة ، فالشهادة بها إنّما هي بواسطة الأمر المحسوس. والمصنّف يدّعي اختصاصه عن العلماء بالفهم والحذق في العلوم كلّها ، ولا يدرك مثل هذه الأشياء الظاهرة الواضحة.

٤٨١

آخر لكان ذلك الشي‌ء في حدّ كمال الضعف ، بخلاف ما إذا كان الابتناء على الضعيف في مرتبة واحدة.

وبالجملة ، لا يلزم من كفاية الضعيف في المقدّمات القريبة كفايته في المقدّمات البعيدة أيضا.

ثمّ قال أدام الله أيّامه (١) :

الثاني : أنّ آية التثبّت أعني قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (٢) كما دلّت على التعويل على رواية العدل الواحد دلّت على التعويل على تزكيته أيضا ، فيكتفى به في جميع الموادّ إلّا فيما خرج بدليل خاصّ وهو غير حاصل هنا (٣) [ وما يتراءى من الشبه ضعيف لا يعول عليه ] (٤) انتهى كلامه.

وأنا أقول : إن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام :

فأقول أوّلا : أقصى ما يستفاد من هذه الآية الشريفة أنّ خبر الفاسق سبب لوجوب التوقّف والتثبّت إلى أن يتبيّن صدقه من كذبه ، ولا دلالة فيها على انحصار سبب وجوب التوقّف في فسق المخبر فربّما يكون له أسباب اخر ، كاحتمال فسقه أو سهوه أو ابتناء خبره على نوع خرص وتخمين ، أو نقله بالمعنى مع احتمال عدم تفطّنه بالمراد ، أو كونه منسوخا أو مجملا ، أو كونه خبرا عن واقعة لو وقعت لشاع خبرها أو كونه خبرا عن أمر مهتمّ به كأحكام الله تعالى.

وأقول ثانيا : لا يجوز لأحد استنباط الأحكام النظرية من الآيات المحتملة وجوها كثيرة إلّا من خوطب بها ، كما تواترت به الأخبار المتقدّمة عن الأئمّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ *.

______________________________________________________

* إنّ الآية خصّت وجوب التثبّت عند خبر الفاسق ، فلا يثبت وجوب التثبّت فيما سواه إلّا

__________________

(١) يعني الشيخ البهائي قدس‌سره.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) مشرق الشمسين ( المطبوع منضمّا إلى الحبل المتين ) : ٢٧١.

(٤) ما بين المعقوفتين لم يرد في المصدر.

٤٨٢

وأقول ثالثا : للعامّة سبيل إلى الظنّ بما هو مراد الله تعالى من أمثال تلك الآيات الشريفة ، بناء على قولهم بأنّ مجتهدي الرعيّة مخاطبون باستنباط الأحكام النظرية من الظواهر القرآنية ، وبأنّ القرآن لم يرد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعيّة وإلّا لزم إغراؤهم بالجهل ، وبأنّ كلّ ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من نسخ وتفسير وتقييد وتخصيص وتأويل وغيرها أظهره عند أصحابه وما خصّ أحدا بتعليم أحكام الله تعالى ورجوع الناس إليه ، ولم يقع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله فتنة اقتضت إخفاء بعضها وتوفّرت الدواعي على أخذ كلّها ونشرها واستمرّ هذا المعنى من زمن الصحابة إلى زماننا هذا طبقة بعد طبقة وأنّى يكون لأصحابنا سبيل إلى ذلك؟! *

______________________________________________________

بدليل وإن احتمل ، لأنّ مجرد احتمال عدم الانحصار لا يقتضي وجوب التثبّت فيما سواه. ولو نظرنا إلى ما ذكره المصنّف من الاحتمالات البعيدة لحصلت عند إخبار العدل أيضا فيجب التوقّف ، مع أنّه قد منع من الاحتياج إلى الاجتهاد في العمل بالحديث ، فمن أين يعلم غير من وصل إلى رتبة الاجتهاد انتفاء هذه الاحتمالات حتّى يعمل بالرواية؟ بل لا يكاد يتحقّق خبر خال من أحد هذه الاحتمالات. والاحتمال البعيد لا يؤثّر في قبول خبر العدل ولا يوجب التوقّف عنده.

وأمّا استنباطات الأحكام إذا لم يكن مخالفة ظاهرا لشي‌ء من آثار الأئمّة عليهم‌السلام ولا خارجة عن اصولهم ولا راجعة إلى مجرّد الرأي والقياس فما المانع منها عند الحاجة إليها؟ بل هي المأمور بها للمجتهدين عند تعذّر النصّ والعلم بقوله تعالى : ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) وبقوله : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) وغير ذلك من الأدلّة. وتخصيص المصنّف الاستنباط في الأحكام بمن خوطب بها يقتضي أن لا يكون خطاب التكليف عامّا لجميع المكلّفين. وهو ظاهر الفساد ، لأنّ خطابه عامّ ؛ غاية الأمر ما حصل فيه الاشتباه على المكلّف يرجع في علمه إلى أهل الذكر ممّن عنده علمه وتفسيره كائنا من كان إذا عرفه على الحقيقة ولو بالواسطة عن أهل العصمة عليهم‌السلام.

* إنّ جميع الأحكام الّتي يحتاج إليها المكلّفون يجب على الرسول إعلامها وإظهارها لكافّة الناس. وما نقله عن المخالفين أغلبه صحيح ما أخفى منه الرسول شيئا ، إلّا أنّ أهل الضلال غيّروا وبدّلوا ولم يرجعوا عند الجهل والاشتباه إلى الأئمّة عليهم‌السلام بل اعتمدوا على آرائهم وقياساتهم ، فحصل الخطأ والاشتباه من ضلالهم وتقصيرهم ، لا من أنّ الرسول أخفى شيئا عن المكلّفين من أحكام الشرع ولم يظهره لهم. وأمّا بعض الحكم والأسرار الّتي لا يتوقّف عليها

٤٨٣

ورابعا : أنّا قد أثبتنا أنّه لا يجوز الفتوى إلّا بعد أحد القطعين. ومن المعلوم : أنّ خبر الواحد المزكّى بعدل أو عدلين بمجرّده لا يفيده.

ثمّ قال أدام الله أيّامه :

واستدلّ على اشتراط التعدّد في التزكية بأمرين :

الأوّل : أنّ الإخبار بعدالة الراوي شهادة فلا بدّ فيها من العدلين.

وجوابه : أمّا أوّلا : فبمنع الصغرى ، فإنّها غير بيّنة ولا مبيّنة ، وهلّا كانت التزكية كأغلب الأخبار في أنّها ليست شهادة ، كالرواية ، وكنقل الإجماع ، وتفسير مترجم القاضي ، وإخبار المقلّد مثله بفتوى المجتهد ، وقول الطبيب بإضرار الصوم بالمرض ، وإخبار أجير الحجّ بإيقاعه ، وإعلام المأموم الإمام بوقوع ما شكّ فيه ، وإخبار العدل العارف بالقبلة الجاهل بالعلامات ، إلى غير ذلك من الأخبار الّتي اكتفوا فيها بخبر الواحد.

وأمّا ثانيا : فبمنع كلّية الكبرى والسند قبول شهادة الواحد في بعض المواد عند بعض علمائنا ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ بل شهادة المرأة الواحدة في بعض الأوقات عند أكثرهم (١) انتهى كلامه.

وأنا أقول : كلام العلّامة ومن تبعه في العمل بخبر الواحد العاري عن القرينة الموجبة لأحد القطعين المتقدّمين جرى بأن لا يلتفت إلى أحكامه. ولكن لمّا وجب عليّ إظهار الحقّ بقدر ما وفّقني ربّي ودلّني عليه أئمّتي ـ صلوات الله عليهم ـ ولم يمكن تحصيل ذلك الغرض إلّا بذلك اشتغلنا به.

______________________________________________________

أصل التكليف فلا يمنع العقل من اختصاص الأئمّة عليهم‌السلام بعلمها من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يطلع عليها أحد غيرهم ، كما هو الواقع. وأمّا ما عدا ذلك فالناس فيه سواء في فهمه من القرآن والحديث إذا كان معناه واضحا جليّا لا خفاء فيه يخرج إلى سؤال ، وما كان مشتبها فلا شكّ عندنا في وجوب الرجوع فيه إلى آثارهم عليهم‌السلام فإن تعذّر تعيّن الرجوع إلى اصولهم وقواعدهم في الاستنباط لئلّا تتعطّل الأحكام الشرعيّة مع الحاجة إليها ، والعقل والحكمة يقضيان بالرجوع إلى الظنّ عند تعذّر العلم ، وقد ثبت ذلك من الشرع في أماكن عديدة.

__________________

(١) مشرق الشمسين ( المطبوع منضمّا إلى الحبل المتين ) : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٤٨٤

فنقول أوّلا : كان قصد المستدلّ أنّه يجب على المتمسّك بخبر الواحد أن يستدلّ على جميع مقدّماته. ومن المعلوم : أنّ كون التزكية من قبيل الشهادة احتمال واضح ، فلا بدّ من العدلين ليتمّ التمسّك على هذا الاحتمال ، فالبحث عليه بطريق المنع منع على منع.

ونقول ثانيا : العجب كلّ العجب! من العلّامة ومن تبعه حيث جعلوا باب رواية أحكام الله تعالى أهون وأسهل من باب الإخبار عمّا عداها من الوقائع الجزئيّة ، فاعتبروا في الشهادة وفي تزكية الشاهد عدلين ، واكتفوا في الرواية وفي تزكية الراوي بعدل واحد ، مع أنّ مقتضى العقل والنقل أيضا عكس ذلك.

أمّا العقل : فلأنّه لو لا اعتبار الظنّ في كثير من الوقائع الجزئيّة للزم الحرج البيّن الواضح ، بل التكليف بما لا طاقة لنا به ، بخلاف أحكامه تعالى فإنّه لا حرج لو اعتبر فيها أحد القطعين أو التوقّف إلى أن يظهر الحقّ كما حقّقناه سابقا.

وأمّا النقل : فواضح عندك من الأحاديث الّتي تقدّمت في كتابنا هذا.

وتحقيق المقام : أنّ في كلّ موضع لم يكن حرج في اعتبار اليقين أو التوقّف فيه ـ كأحكامه تعالى وكبلوغ المسافة الحدّ المعتبر شرعا وكدخول وقت الصلاة ـ اعتبر الشارع فيه أحدهما. وفي كلّ موضع كان اعتبار أحدهما فيه حرجا اكتفى الشارع فيه بالظنّ أو بظاهر الحال ، كالشهادة وكجهة القبلة وكإخبار الأجير بأنّه فعل ما كان واجبا عليه وكإخبار القصّار بأنّه فعل ما امر به وكالأنساب.

ومن المعلوم : أنّ في بعض الصور الّتي ذكرها الفاضل المعاصر لا حرج في اعتبار اليقين أو التوقّف ، وفي بعضها حرج. ففي الصورة الّتي اعتبر فيها اليقين لا بدّ فيها من انضمام القرينة المفيدة للقطع وفي غيرها يكفي خبر الواحد ولو لم يكن عدلا *.

______________________________________________________

* هذا الأمر الّذي ادّعى له التوفيق من الله ودلّته عليه الأئمّة عليهم‌السلام كان ينبغي أن يكون في غاية الظهور وبيان الحقّ.

فأوّل ما ينفى ذلك : ادّعاؤه ، وصرّح كون التزكية من قبيل الشهادة ، مع أنّ الواضح خلافه ، لامتياز الشهادة ولوازمها عن سائر الأخبار غيرها.

٤٨٥

توضيح ذلك : أنّ الإجماع ليس حجّة عندنا كما حقّقناه سابقا ، ولو فرضنا أنّه حجّة فلا بدّ من نقله بطريق قطعي كما في نقل الحديث.

ومن المعلوم توفّر القرائن الحالية المفيدة لقطع القاضي بأنّ تفسير المترجم موافق للواقع ، فلا بدّ فيه من قطع القاضي ، وقد حقّقنا أنّ الاجتهاد والتقليد حرامان. وضرر الصوم بالمريض من الصور الّتي يتعذّر فيها تحصيل القطع فاكتفى فيه بالظنّ ،

______________________________________________________

والثاني : أنّ الشارع اعتبر في الشهادة ما لم يعتبروه في الرواية ، فدلّ على أنّ الحال فيها أضيق من الرواية لعدم اتّساع الحاجة إليها ، فلا ضرورة في ضيق حالها بحسب الحكمة. بخلاف الرواية ، لكثرة الاحتياج إلى معرفة أحكام التكليف ، فلو اعتبر فيها العلم واليقين في كلّ حكم لزم غاية الحرج والضرر وتعطيل الأحكام ، فكانت السعة فيها أوفق بالحكمة ، لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « جئتكم بالشريعة السهلة السمحة » (١) ولثبوت الاكتفاء بالظنّ في الشرع في جميع ما عدّده المحقّق الشيخ بهاء الدين محمّد رحمه‌الله.

والثالث : مقتضى كلامه الفرق بين أحكام الله وبين الأحكام الّتي اكتفي فيها بالظنّ ، والحال إنّا قدّمنا أنّ الجميع أحكام الله تعالى ، لأنّ الظنّ المعوّل عليه فيها ليس خارجا عمّا أمر الله به.

والرابع : أنّه لا نزاع أنّ كلّ مسألة يمكن تحصيل العلم فيها لا يجوز التعويل على الظنّ. والعجب! أنّ المصنّف ذكر في توجيه التعويل على الظنّ في باب ما جعله من غير أحكام الله بأنّه لو لا اعتبار الظنّ للزم الحرج البيّن الواضح ، بل التكليف بما لا يطاق ، فكيف غفل عن مثله فيما يدّعيه أنّه مخصوص بأحكام الله؟ فإنّ دعوى ظهور جميع أحكام الله لعلم المكلّف مكابرة صرفة والوجدان واضح فيها. والتزام الوقف فيما لم يعلم تعطيل لغالب الأحكام وسدّ لباب العمل بالشريعة ، ومخالفة ذلك للعقل والحكمة لا يخفى على أحد ؛ وهو مع ذلك مخالف لما صرّح به مرارا : من أنّ الشريعة جاءت وافية بالقطع والجزم في كلّ ما يحتاج إليه المكلّف من الأحكام ، ولا يحتاج فيها إلى زيادة ظنّ المجتهد ولا هي ناقصة حتّى يتمّمها.

واللازم على المصنّف فيما يدّعيه وينسبه إلى الأئمّة عليهم‌السلام أن ينسب خطأه إليهم وهم منزّهون عنه. وما كفاه نسبة الخطأ إلى جلّة العلماء حتّى اجترأ به على الأئمّة عليهم‌السلام وينسب كلّ ما تصوّره وهمه الفاسد إلى أنّه بإلهامهم وإمدادهم! ومع ذلك يتمدّح به بأنّه من توفيق الله.

__________________

(١) البحار ٢٢ : ٢٩٤ ، وفيه : بعثني بالحنيفيّة السهلة السمحة.

٤٨٦

وإنّما يعتمد على إخبار الأجير وإعلام المأموم ، لأنّ المسلمين ومن في حكمهم مأمونون في الأعمال المتعلّقة بهم ، إذ لو اعتبر فيها القطع لزم الحرج البيّن ، وإنّما يعتمد على إخبار المسلم العارف بالقبلة الجاهل بالعلامات لأنّه من الصور الّتي يلزم الحرج البيّن لو اعتبر فيها القطع ، ولا حاجة فيه إلى عدالة المخبر ، بل يكفي الظنّ الحاصل من قول المسلم أو فعله كما في ذبيحته. ومستند ما ذكرناه من أحكام تلك الصور الأخبار المتواترة معنى الناطقة به.

ثمّ قال أدام الله أيّامه : الثاني (١) : إنّ اشتراطهم لعدالة الراوي يقتضي توقّف قبول روايته على حصول العلم بها وإخبار العدل الواحد لا يفيد العلم بها.

وجوابه : إنّك إن أردت العلم القطعي فمعلوم أنّ البحث ليس فيه ، وإن أردت العلم الشرعي فحكمك بحصوله من رواية العدل الواحد وعدم حصوله من تزكيته تحكّم ، وكيف يدّعى أنّ الظنّ الحاصل من إخباره بأنّ هذا قول المعصوم أو فعله أقوى من الظنّ الحاصل من إخباره بأنّ الراوي الفلاني إماميّ المذهب أو واقفي أو عدل أو فاسق ونحو ذلك؟ ولعلّك تقول بتساوي الظنّين في القوّة والضعف ، ولكنّك تزعم أنّ الظنّ الأوّل اعتبره الشارع فعوّلت عليه ، وأمّا الآخر فلم يظهر لك أنّ الشارع اعتبره ، فيقال لك : كيف ظهر عليك اعتبار الشارع الظنّ الأوّل إن استندت في ذلك إلى ظنّ إجماع؟ فالخلاف الشائع في العمل بأخبار الآحاد يكذب ظنّك. كيف! وجمهور قدمائنا على المنع منه ، بل ذهب بعضهم إلى استحالة التعبّد به كما نقله عنهم المرتضى رحمه‌الله (٢) وإن استندت فيه إلى ما يستدلّ به في الاصول على حجّية خبر الواحد فأقرب تلك الدلائل إلى السلامة آية التثبّت ، وقد علمت أنّها كما تدلّ على اعتبار الشارع الظنّ الأوّل تدلّ على اعتباره الظنّ الثاني من غير فرق.

ولقد بالغ بعض الأفاضل المعاصرين في الإصرار على اشتراط العدلين في المزكّي ، نظرا إلى أنّ التزكية شهادة ، ولم يوافق القوم على تعديل من انفرد الكشّي أو

__________________

(١) هذا « الثاني » أوّله غير ما نقله سابقا عن الشيخ البهائى قدس‌سره : « الثاني أنّ آية التثبت ... الخ » فلا يتوهّم أنّ الصواب : الثالث.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : ٣٠٩.

٤٨٧

الشيخ الطوسي أو النجاشي أو العلّامة مثلا بتعديله ، وجعل الحديث الصحيح عند التحقيق منحصرا فيما توافق اثنان فصاعدا على تعديل رواته. ويلزمه عدم الحكم بجرح من تفرّد واحد هؤلاء بجرحه ، وهو يلتزم ذلك. ولم يأت على هذا الاشتراط بدليل عقلي يعوّل عليه أو نقلي تركن النفس إليه ، ولعلّك قد أحطت خبرا بما يتّضح به حقيقة الحال ، ومع ذلك فأنت خبير بأنّ علماء الرجال الّذين وصلت إلينا كتبهم في هذا الزمان كلّهم ناقلون تعديل الرواة عن غيرهم ، وتوافق الاثنين منهم على التعديل لا ينفعه في الحكم بصحّة الحديث إلّا إذا ثبت أنّ مذهب كلّ من ذينك الاثنين عدم الاكتفاء في تزكية الراوي بالعدل الواحد ، ودون ثبوته خرط القتاد! بل الّذي يظهر خلافه ، كيف لا والعلّامة ـ طاب ثراه ـ مصرّح في كتبه الاصولية بالاكتفاء بالواحد.

والّذي يستفاد من كلام الكشّي والنجاشي والشيخ وابن طاوس وغيرهم اعتمادهم في التعديل والجرح على النقل من الواحد ، كما يظهر لمن تصفّح كتبهم.

فكيف يتمّ لمن يجعل التزكية شهادة أن يحكم بعدالة الراوي بمجرّد اطّلاعه على تعديل اثنين من هؤلاء له في كتبهم وحالهم ما عرفت ، مع أنّ شهادة الشاهد لا يتحقق بما يوجد في كتابه.

نعم ، لو كان هؤلاء الّذين كتبهم في الجرح والتعديل بأيدينا في هذا الزمان ممّن شهد عند كلّ واحد منهم عدلان بحال الراوي ، أو كانوا من الّذين خالطوا رواة الحديث واطلعوا على عدالتهم ثمّ شهدوا بها لتمّ الدست (١). والله أعلم بحقائق الامور (٢). انتهى كلامه.

وأنا أقول : إن شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام ، فإنّ كلام هؤلاء الأفاضل بعيد عن الحقّ ، أبعد ما بين السماء والأرض!

ومن المعلوم أنّه إذا تصدّى لتحقيق غوامض المباحث الدينيّة من لم تكن له

__________________

(١) فارسيّة ، يقال : « الدست لي » أي غلبت ، و « الدست عليّ » أي غلبت.

(٢) مشرق الشمسين ( المطبوع منضمّا إلى الحبل المتين ) : ٢٧٢.

٤٨٨

بضاعة عظيمة في العلوم الدقيقة ولم يكن متفطّنا بما ورد في الأصوليين من أصحاب العصمة يوقع نفسه في الهلكة وكلّ ميسّر لما خلق له ، وبالله التوفيق وبيده أزمّة التحقيق.

فأقول أوّلا : كان قصد المستدلّ أنّ التمسّك بخبر الواحد لا بدّ له من الاستدلال على جميع مقدّماته ، ومن المعلوم : أنّ الّذي ثبت جواز التمسّك به هو ما يفيد العلم أو ما يقوم مقامه في الشريعة ، فقصده من مفيد العلم مفيد القطع حقيقة أو حكما ، ومن المعلوم : أنّ شهادة العدلين في الشريعة جعلت مكان القطع في بعض الصور بخلاف شهادة الواحد ، وحينئذ يندفع البحث الأوّل دون الثاني *.

______________________________________________________

* أوّلا : إنّ ما ذكره في معرض المدح لنفسه ومعرّضا به للاستخفاف بغيره عين الجهل وقلّة الإنصاف! وأين رتبته في العلوم من رتبة من عرّض به واستخفّ ، بل بعده عنهم في الهوان كما قال عن بعد كلامهم عن الحقّ (١) وهل عاقل يمدح نفسه بهذه المبالغة ولو كانت حقّا؟ والله سبحانه يقول : ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) وما رأينا هذه البضاعة العظيمة الّتي ادّعاها أثّرت على صاحبها إلّا الجهل والحماقة وتعريض نفسه للكلام عليه ، هذا مع خطر الآخرة.

وأمّا ثانيا : فإنّه بعد ما تقرّر أنّ المراد بالعلم بالعدالة في قبول الرواية ليس العلم القطعيّ بل الشرعيّ ، وعلى كلّ حال الوجه الّذي يعتمد عليه الخصم في قبول رواية العدل وحده يلزمه أن يعتمد عليه في قبول قول المزكّي وحده ، فالتفرقة بينهما غير معقولة. وليس البحث في هذه المسألة مع المصنّف ، لأنّه لا يجوّز العمل بخبر الواحد المفيد للظنّ حتّى يلزمه ما ألزم الخصم به الشيخ بهاء الدين محمّد رحمه‌الله في احتجاجه ، ولكنّ المصنّف أدخل نفسه في ذلك فضولا وخبط في البحث خبط عشواء ، وإلّا فأين الجواب عن كلام الشيخ بهاء الدين وما عدّده من النظائر للتزكية من أنّها خبر وليست شهادة ، وأنّها لو كانت شهادة فما المانع من قبولها والتعويل عليها بانفرادها؟ كما ذكر لها من النظير حتّى شهادة المرأة وحدها. والمصنّف لا يرى له وجها عند ضيقه بالحجّة إلّا دعوى القرائن وتواتر الأخبار وأمثال ذلك من الهذيانات الباردة! وأسهل شي‌ء عليه دعوى تواتر الأخبار فيما يريده ويدّعيه. وقد أطال الكلام في هذا المقام بغير طائل في أنّ رواة حديثنا لم يفتروا ولم يكذبوا ولم يسهوا ، ويعلم ذلك بالقرائن المفيدة للقطع بنفي جميع الاحتمالات الموجبة للخلل في نقل الحديث. ونحن نعلم بالوجدان في هذا الزمان وكذلك جميع الأزمان

__________________

(١) كذا ، لم نفهم المقصود من العبارة ، ولعلّها مصحّفة.

٤٨٩

وأقول ثانيا : قد علمت أنّا معاشر الأخباريّين المتمسّكين بالتثبّت أو اليقين في أحكامه تعالى لا نعتمد إلّا على موجباته.

ومن المعلوم عند اولي الألباب : أنّ القرائن المفيدة للقطع وافرة وأنّها كما تكون عند المعاشرة تكون بدونها ، فإنّا إذا راجعنا إلى وجداننا وجدنا القطع بأنّ كثيرا من رواة أحاديثنا لم يفتروا ولم يكونوا كثيري السهو فيما نقلوه ، بل نقطع بأنّ أواسط الشيعة لا يرضون بالافتراء في باب الحديث ، فكيف نجوّز أن يقع ممّن هو أعلى منهم؟

ثمّ إذا فتّشنا علمنا أنّه ما حصل لنا ذلك القطع إلّا بالقرائن الحالية أو المقالية ، وإذا كان حالنا بالنسبة إلى الرواة كذلك فالمتقدّمون من أصحابنا ـ كالكشّي والنجاشي ورئيس الطائفة وابن طاوس وغيرهم ـ أولى بذلك منّا لقرب عهدهم.

وأقول ثالثا : سياق كلام النجاشي وغيره في شأن جمع من الرواة « ثقة ، ثقة » بالتكرار أو بدونه يفيد أنّه قطع بذلك بالقرائن كما قطعنا نحن ، لا أنّه اعتمد فيه على مجرّد تزكية واحد.

وأقول رابعا : قوله : « والّذي يستفاد من كلام الكشّي والنجاشي والشيخ وابن طاوس وغيرهم اعتمادهم في التعديل والجرح على النقل من الواحد » افتراء

______________________________________________________

أنّ بالعزيز أن يصحّ خبر إذا تعدّدت نقلته أو يسلم من الزيادة والنقصان ، هذا في بلد واحد فكيف ما كان في زمان متطاول وطبقات متعدّدة ووجود المتصدّي للكذب والتحريف من المنافقين وأرباب المذاهب الفاسدة في زمن الرسول والأئمّة عليهم‌السلام فأيّ عاقل بعد ذلك يجزم ويقطع بمثل ما يدعيه المصنّف؟

غاية الأمر إنّا رأينا الفضلاء والعلماء ممّن قبلنا من زمن السفراء ومن قبلهم اكتفوا في العمل بالأخبار بمثل ما اكتفى به المتأخّرون ، فعلمنا أنّه الحقّ والواجب الاتّباع ، ولم يتحقّق الخروج عن ذلك ممّن تقدّم في بعض الأحاديث الغير المتواترة إلّا من السيّد المرتضى وابن إدريس أو من كان يمكنه تحصيل العلم بصحّة كلّ الأحاديث ، ومع ذلك لم يذهب منهم أحد إلى ما ذهب إليه المصنّف من الجزم بصحّة كلّ الأخبار والقطع بوجوب العمل بها وعدم صحّة تأويل ما يخالف المذهب منها ، فإنّ قوله خارج عن جميع أقوال من يعرف من أهل العلم ـ الخاصّة والعامّة ـ ويكفي في ذلك فساده من غير احتياج إلى زيادة عليه.

٤٩٠

بلا امتراء ، بل اعتمادهم على القطع لما حقّقناه.

وأقول خامسا : قوله : « مع أنّ شهادة الشاهد لا يتحقّق بما يوجد في كتابه » دليل على بطلان ما زعمه الفاضلان : من أنّ اعتمادنا على الجرح والتعديل المسطورين في كتب قدمائنا من باب الاعتماد على الشهادة ، ودليل على أنّ الاعتماد في هذا الباب على القرائن. ومن المعلوم : أنّ الكتابة من القرائن ، وقد تقدّم نقلا عن أصحاب العصمة عليهم‌السلام أنّ القلب يتّكل على الكتابة (١) أقوى ممّا يعتمد على حفظه.

وبالجملة ، انتفاعنا ممّا في كتب الرجال من جهة أنّه من جملة القرائن المفيدة للقطع بحال الراوي ، لا من جهة أنّه من باب تزكية العدل الواحد أو العدلين كما توهّمه العلّامة (٢) وتبعه فيه جماعة.

وأقول سادسا : أنّ العجب كلّ العجب! من العلّامة الحلّي ومن تبعه حيث فسّروا العدالة بملكة نفسانية تبعث على ملازمة التقوى والمروة كما فسّرته العامّة ، ثمّ زعموا أنّ بتزكية العدلين أو العدل الواحد يثبت هذا المعنى ، وهم في غفلة وأيّ غفلة! عن أنّ الشهادة وما في معناها إنّما تجريان فيما يدرك بالحسّ. ومن المعلوم : أنّ الملكة المذكورة من الامور العقلية الصرفة الّتي يستدلّ عليها بالآثار الظاهرة. ومن المعلوم : أنّ الشاهد إذا حصل شيئا بالكسب والنظر لا تسمع شهادته فيه ، وإنّما تسمع فيما أدركه بالحسّ ، وكون الآثار ملزوما لتلك الملكة لا تدرك بالحسّ ولا تجري الشهادة فيه أيضا.

نعم ، يستفاد من كلام أصحاب العصمة عليهم‌السلام أنّ العدالة المعتبرة في باب الشهادة وفي باب إمام الجماعة مركّبة من أمر وجودي محسوس ومن عدم أمر محسوس ومن المعلوم : أنّ عدم أمر لو كان موجودا لكان محسوسا يدرك بمعونة الحسّ ، والعدالة بهذا المعنى تثبت بالشهادة وما في معناها.

ثمّ اعلم أنّه يستفاد من كلامهم عليهم‌السلام : أنّ المعتبر في باب رواية أحكام الله تعالى أن يكون الراوي ثقة في روايته ، وقد تقدّم طرف من أحاديثهم عليهم‌السلام فيه الكفاية. ومن

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٢ ، ح ٨.

(٢) راجع مبادئ الوصول : ٢١١.

٤٩١

المعلوم : أنّ هذا المعنى لا يدرك بالحسّ ، فلا يجري فيه التزكية من حيث هي هي ، وإنّما نفع التزكية فيه من جهة أنّها من جملة القرائن ، وقد حقّقناه سابقا : أنّ النسبة بين الثقة في الرواية وبين العدالة المعتبرة في باب الشهادة وباب إمام الجماعة العموم والخصوص من وجه ، وقد حقّقنا سابقا : أنّا نقطع بمعونة القرائن الحاصلة بالمعاشرة أو بدونها في حقّ كثير من الرواة أنّهم لم يفتروا في رواياتهم ولم يكونوا كثيري السهو فيها ، وهذا معنى الثقة في الرواية.

وبالجملة ، الباب الثاني أوسع من الباب الأوّل وأنفع ، والله المستعان. هكذا ينبغي أن تحقّق هذه المباحث ، وللحروب رجال وللثريد رجال! وكلّ ميسّر لما خلق له *.

وأقول سابعا : لنا لتصحيح الأحاديث مقام آخر ، وهو أنّا نعلم عادة أنّ الإمام ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني وسيّدنا الأجلّ المرتضى وشيخنا الصدوق

______________________________________________________

* المصنّف ليس له في ردّ الاحتجاج الحقّ الواضح إلّا مثل هذه التمدّحات القشريّة والهذيانات السخريّة ، وإلّا فأين هو من تحقيق كلام الفاضل المدقّق علّامة زمانه وظهور ما حرّره وقرّره بوجه ما عليه غبار؟ وما وجدنا من المصنّف إبطال شقّ منه إلّا مجرّد الدعوى لا ببيّنة ولا برهان ، ولكن من أين له أن يكون من فرسان هذا الميدان؟ ورجوعه إلى تفسير العلّامة العدالة بالملكة عدول عمّا هو بصدده لمّا أعجزته الحجّة كروغان الثعلب! وقد تقرّر أنّ الشهادة بالملكة ترجع إلى العلم بما يوجبها من الامور المحسوسة بل هي أقطع عند استمرار حصول ما يوجبها ، فإنّه لا يشكّ أحد في ملكة الشجاعة لأمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ ولا في ملكة الكرم لحاتم بالشهرة ، فضلا عن مشاهدة ما يوجب تلك الملكة.

وقوله : « انّ الشاهد إذا حصّل شيئا بالكسب والنظر لا تسمع شهادته فيه وإنّما تسمع فيما أدركه بالحسّ » يدلّ على أنّه بعيد عن المسائل الفقهيّة وأنّهم في باب الشهادة جوّزوها إذا حصل العلم للشاهد بشي‌ء بالشياع ؛ وكذلك إذا حصل له العلم بملك إنسان بمجرّد وضع يده وتصرّفه من غير أن يعلم وجه انتقاله إليه ، وجعلوا مناط قبولها وجوازها حصول العلم للشاهد بأيّ وجه كان من أمر محسوس أو غير محسوس ، ومن ذلك حصول العلم بالقرائن الحاليّة. ولو قلنا : إنّ الشهادة لا تسمع إلّا في الأمر الّذي يدركه الشاهد بالحسّ ، والعدالة والإيمان والإسلام لا إدراك لها بالحسّ ، لأنّها امور خفيّة ، فلا تسمع الشهادة حينئذ بها ـ على دعوى المصنّف ـ كان فساده ظاهرا.

٤٩٢

ورئيس الطائفة ـ قدّس الله أرواحهم ـ لم يفتروا في أخبارهم بأنّ أحاديث كتبنا صحيحة أو بأنّها مأخوذة من الاصول المجمع عليها. ومن المعلوم : أنّ هذا القدر من القطع العادي كاف في جواز العمل بتلك الأحاديث.

وأقول ثامنا : قوله : « يلزمه عدم الحكم بجرح من تفرّد واحد من هؤلاء بجرحه وهو يلتزم ذلك » عجيب جدّا! إذ من المعلوم : أنّ حكم مجهول الحال حكم المجروح ، فإذا انضمّ إلى الجهل جرح جارح واحد ولو كان فاسقا أو مخالفا يقوى كونه في حكم مجروح.

ثمّ قال أدام الله أيّامه :

تبصرة : المكتفون من علمائنا في التزكية بالعدل الواحد الإماميّ يكتفون به في الجرح أيضا ، ومن لم يكتف به في التزكية لم يعوّل عليه في الجرح. وما يظهر من كلامهم في بعض الأوقات من الاكتفاء في الجرح بقول غير الإمامي ، محمول إمّا على الغفلة عمّا قرّره أو عن كون الجارح مجروحا ، كما وقع في الخلاصة من جرح أبان بن عثمان بكونه فاسد المذهب ، تعويلا على ما رواه الكشّي عن عليّ بن الحسن بن فضّال أنّه كان من الناووسية ، مع أنّ ابن فضّال فطحي لا يقبل جرحه لمثل أبان بن عثمان. ولعلّ العلّامة ـ طاب ثراه ـ استفاد فساد مذهبه من غير هذه الرواية وإن كان كلامه ظاهرا فيما ذكرناه (١) انتهى كلامه.

أقول أوّلا : قوله : « من لم يكتف به في التزكية لم يعوّل عليه في الجرح » أيضا من العجائب! وذلك لما حقّقناه : من أنّ مجهول الحال ومجهول المذهب في حكم المجروح ، فإذا تقوّى الجهل بحاله بانضمام جرح جارح ولو كان فاسد المذهب صار أولى بأن يكون في حكم من ثبت ضعفه *.

______________________________________________________

* إنّ المسألة ليست مفروضة في مجهول الحال حتّى يلزم قبول الجرح فيه حيث كان ، لأنّ المجهول قوله مردود بمجرد الجهالة ، فضلا عن انضمام الجرح. وإنّما الكلام في تعارض الجرح والتعديل كيف يقدّم قول الجارح إذا كان فاسد المذهب كما وقع في المسألة المفروضة؟

__________________

(١) مشرق الشمسين ( المطبوع منضمّا إلى الحبل المتين ) : ٢٧٢.

٤٩٣

وثانيا : ربّما يكون ابن فضّال ثقة عند العلّامة مقطوعا على أنّه لم يفتر في مثل ذلك وعلى أنّه لم يتكلّم عادة إلّا بأمر بيّن واضح عنده ، ونحن أيضا نعلم أنّ مثل ابن فضّال لم يرض أن يتكلّم بمثل هذا الكلام في شأن مثل ابن عثمان بمجرّد الظنّ أو بالافتراء ، وذلك لأنّ اعتماد قدمائنا على تعديل ابن فضّال وجرحه قرينة على أنّه كان ثقة في هذا الباب ، يشهد بما قلناه من تتبّع كتاب الكشّي.

ثمّ قال أدام الله أيّامه :

قد اشتهر أنّه إذا تعارض الجرح والتعديل قدّم الجرح. وهذا كلام مجمل غير محمول على إطلاقه كما قد يظنّ ، بل لهم فيه تفصيل مشهور وهو أنّ التعارض بينهما على نوعين :

الأوّل : ما يمكن الجمع فيه بين كلامي المعدّل والجارح كقول المفيد رحمه‌الله في محمّد بن سنان : إنّه ثقة ، وقول الشيخ ـ طاب ثراه ـ : إنّه ضعيف ، فالجرح مقدّم ، لجواز اطّلاعه على ما لم يطّلع عليه المفيد.

الثاني : ما لا يمكن الجمع بينهما كقول الجارح إنّه : « قتل فلانا في أوّل الشهر » وقول المعدّل : « إنّي رأيته في آخره حيّا » وقد وقع مثله في كتب الجرح والتعديل كثيرا ، كقول ابن الغضائري في داود الرقّي : إنّه كان فاسد المذهب لا يلتفت إليه ، وقول غيره : إنّه كان ثقة ، قال فيه الصادق عليه‌السلام : « أنزلوه منّي منزلة المقداد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١) فهاهنا لا يصحّ إطلاق القول بتقديم الجرح على التعديل ، بل يجب الترجيح بكثرة العدد وشدّة الورع والضبط وزيادة التفتيش عن أحوال الرواة ، إلى غير ذلك من المرجّحات. هذا ما ذكره علماء الاصول منّا ومن المخالفين.

______________________________________________________

لأنّ أبان بن عثمان قال الكشّي : « اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه » (٢) وهو صريح بتوثيقه ، فقول ابن فضّال لا التفات إليه ، لكونه فاسد المذهب محقّقا. والمصنّف لم يفهم وضع المسألة حتّى حكم بأولويّة ضعفه وجعله من جملة تحقيقاته ، وقد صدق في ذلك ، لأنّ كلّ تحقيقاته أوهام من هذا القبيل.

__________________

(١) رجال الكشّي : ٤٠٢.

(٢) رجال الكشّي : ٣٧٥ ، الرقم ٧٠٥.

٤٩٤

وظنّي أنّ إطلاق القول بتقديم الجرح في النوع الأوّل غير جيّد ، ولو قيل فيه أيضا بالترجيح ببعض تلك الامور لكان أولى ، وقد فعله العلّامة ـ طاب ثراه ـ في الخلاصة في مواضع كما في ترجمة إبراهيم بن سليمان ، حيث رجّح تعديل الشيخ النجاشي له على جرح ابن الغضائري ، وكذلك في ترجمة إسماعيل بن مهران وغيره. لكن ما قرّره ـ طاب ثراه ـ في نهاية الاصول يخالف فعله هذا حيث لم يعتبر الترجيح بزيادة العدد في النوع الأوّل من التعارض ، معلّلا بأنّ سبب تقديم الجارح فيه جواز اطّلاعه على ما لم يطّلع عليه المعدّل وهو لا ينتفي بكثرة العدد. ولا يخفى أنّ تعليله هذا يعطي عدم اعتباره في هذا النوع الترجيح بشي‌ء من الامور المذكورة ، وللبحث فيه مجال ، كما لا يخفى (١) انتهى كلامه أدام الله أيّامه.

وأنا أقول أوّلا : تحقيق المقام أنّ الجارح قسمان جارح يقوّي حكم الجهل بالحال ، وجارح يثبت في الشريعة جرحه ضعف المجروح ، وابن الغضائري لم يثبت بجرحه ضعف المجروح في الشريعة ، بل يصلح أن يكون مقوّيا لحكم مجهول الحال.

وتوضيح المقام : أنّه إذا وقع التعارض بين جرح يثبت به في الشريعة ضعف المجروح وبين تعديل كذلك كان الجرح مقدّما ولا مجال للترجيح فيه ، فما فعله العلّامة في كتاب الخلاصة غير مناف لما قرّره في كتاب النهاية. ومن المعلوم :

أنّه إذا لم يكن تناقض بين الشهادتين لا مجال للترجيح وطرح أحدهما ، بل يجب الجمع بينهما ، فهذا الكلام من الفاضل المعاصر غفلة وأيّ غفلة! وتساهل في الامور وأيّ تساهل! *

______________________________________________________

* مقتضى كلام المصنّف في دفع المنافاة بين فعله في الخلاصة وكلامه في النهاية : أنّه لم يرجّح تعديل إبراهيم بن سليمان على جرح ابن الغضائري بسبب تعدّد تعديله من الشيخ والنجاشي ، حتّى يرد عليه أنّ الجارح ربما يطّلع على ما لم يطلع عليه المعدّل ، وإنّما رجّحه لأنّ جرح ابن الغضائري لا يثبت بجرحه ضعف في الشريعة ، ولو كان الجارح لسليمان غيره ممّا يثبت بجرحه ضعف في الشريعة لما رجّح تعديل سليمان وإن تعدّد معدّله ، لما ذكره من العلّة. وهذا

__________________

(١) مشرق الشمسين ( المطبوع منضمّا إلى الحبل المتين ) : ٢٧٣.

٤٩٥

وأقول ثانيا : كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام صريح فيما قرّره العلّامة في النهاية.

وبالجملة ، العقل والنقل تعاضدا (١) في ذلك الباب ، فكيف يظنّ الفاضل المعاصر خلاف ما أجمع عليه وخلاف مقتضى العقل وخلاف مقتضى النقل؟ والسبب فيه غفلته عن تحقيق ما هو المراد من البحث واستعجاله في الامور وعدم تعمّقه في المباحث.

وأمّا قول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ فقد ذكره الفاضل المدقّق محمّد ابن إدريس الحلّي في آخر كتاب السرائر فيما انتزعه من تهذيب الأحكام لرئيس الطائفة قدس‌سره حيث قال : مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان مرضيّان عدلان وشهد له ألف بالبراءة جازت شهادة الرجلين وأبطل شهادة الألف ، لأنّه دين مكتوم (٢).

عمر بن خالد ، عن زيد بن عليّ ، عن آبائه قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الساحر ، فقال : إذا جاء رجلان عدلان فيشهدان عليه فقد حلّ دمه (٣) *.

______________________________________________________

التسديد من المصنّف أوّلا غير معلوم أن يكون هو الوجه في دفع المخالفة وأنّه مقصود للعلّامة.

وثانيا إنّ كلام الفاضل يقتضي أنّ فعل العلّامة في الخلاصة من ترجيح المعدّل غير مختصّ بهذه الصورة المخصوصة ، فلا يلزم من التسديد بما ذكر فيها أن يتمّ أيضا في غيرها.

ولم يظهر من سياق كلام العلّامة وجه للترجيح فيها إلّا تعدّد المعدّل دون الجارح. وما ذكره المصنّف من الفرق بين الجارح لم يثبت في حقّ ابن الغضائري.

وحكمه بوجوب الجمع مع عدم التناقض ـ كما في القسم الأوّل ـ وأنّه لا مجال للترجيح فيه ـ خلافا لما رجّحه الفاضل فيه من الترجيح إذا حصل ـ لم يذكر دليلا قاطعا عليه ، وإنّما هو تصوّر رجع فهمه القاصر إليه. فنسبة الغفلة والتساهل إلى من خالفه فيه كان هو أحقّ بها وأهلها.

* إنّ كلام المصنّف لا ربط لبعضه ببعض ، لأنّ إيراد الفاضل على العلّامة قد عرف وجهه ، وحينئذ يرجع الأمر في القسمين ـ على مقتضى كلام الفاضل ـ إلى اعتبار الترجيح إذا أمكن.

وفعل أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ ما كان إلّا بسبب شهادة العدلين ـ ولا خصوصيّة لكونها

__________________

(١) السرائر ٣ : ٦٢٩ ، التهذيب ٦ : ٢٧٨.

(٢) السرائر ٣ : ٦٢٩ ، التهذيب ٦ : ٢٨٣.

(٣) معارج الاصول : ١٥٠.

٤٩٦

فائدة

يفهم من هذين الحديثين الشريفين ومن نظائرهما أنّه لا بدّ في ثبوت الجرح في الشريعة من عدلين ، ومن المعلوم المتّفق عليه : أنّ ثبوت العدالة ليس أهون من ثبوت الجرح فلا بدّ فيه من العدلين كما اختاره المحقّق الحلّي والفاضل ابن الشهيد الثاني (١) ، قدّس الله أرواحهم *.

فائدة

انظر أيّها اللبيب! كيف تبع العلّامة يستعجلون في الأحكام الشرعيّة ويجزمون بكفاية المزكّي الواحد في باب الرواية ، ولم يلتفتوا إلى كلام العترة الطاهرة عليهم‌السلام أصلا ، وهل هذا إلّا تخريب الدين؟! نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا ، والشفاعة من ورائنا إن شاء الله.

______________________________________________________

جرحا ليستدلّ بها على تقديم الجرح ، لأنّها قائمة مقام العلم ، فلا مناسبة للاستشهاد بها في هذا الخصوص ، لأنّ مع العلم أو ما هو بحكمه لا مجال فيه للتعارض ليحتمل الترجيح ، كما في التعارض الّذي وقع بين كلام المفيد والشيخ ، فإذا لم يفد أحدهما العلم فما المانع من الترجيح إذا حصل حتّى يلزم القول بتقديم الجارح على كلّ حال؟ وإذا لم يثبت المنع من ذلك ترجّح كلام الفاضل. وقضيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام وغيرها لا تردّ نقضا عليه ، لأنّ وجه الحكم فيها بذلك ظاهر ، كما بيّنّاه.

والمصنّف كأنّه لم يفهم كلام الفاضل ولا فهم خصوصيّة فعل أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وينسب إلى غيره من النقص والغفلة ما هو بري‌ء منه وأنّه أحقّ به.

* هذه الشهادة من قبيل الشهادة على ما يوجب القتل والرجم وعلى الزنا وأمثال ذلك ، وأين هذا من الأخبار بعدالة الراوي حتّى يعتبر هنا من الاحتياط والتشديد ما يعتبر هناك خوفا من إتلاف النفس المحترمة بغير حقّ؟ والأحكام ليست على حدّ واحد ، وقد اكتفى في بعضها بما لم يكتف به في البعض الآخر ، والقياس باطل. والمصنّف أكثر فوائده من هذا القبيل لا فائدة فيها ولا صحّة.

__________________

(١) معالم الدين : ٢٠٤.

٤٩٧

فائدة

اعتبروا يا اولي الألباب! كيف أفتى هذا الفاضل المعاصر المتبحّر المشهور في مشارق الأرض ومغاربها بالفضل بخلاف مقتضى العقل والنقل واتّفاق الكلّ؟! وأيقنوا أنّ هذا الفاضل بل أدنى منه لو كان ملتزما لأن يتمسّك في المسائل النظرية بكلام أصحاب العصمة لما أوقع نفسه في هذه المهلكة.

واعلم أنّ الطريقة الّتي مهّدها أصحاب العصمة لعمل الشيعة بها كانت سهلة سمحة بيّنة واضحة في زمن الأخباريّين من علمائنا ، ثمّ لمّا لفّق العلّامة ومن وافقه بين طريقة العامّة وطريقة أصحاب العصمة عليهم‌السلام التبست طريقة الحقّ بالباطل واشتبهت واستصعبت بعد أن كانت منفصلة عنه ممتازة في زمن الأخباريّين من أصحابنا ، ثمّ بعد ذلك وفّق الله تعالى رجلا فخلص نيّته ووفّقه لأخذ العلوم اللفظية والعقلية والنقلية كلّها من معظم أصحابها ، ثمّ ألهمه ببطلان طريقة المتأخّرين وبالسعي في التفحّص عمّا كانت عليه الأوّلون من أصحابنا ، وأوقع في قلبه غوامض المباحث المتروكة المندرسة حتّى ظهرت منه هذه الآثار المشاهدة. والحمد لله والطول والمنّة ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والعاقبة للمتّقين المتمسّكين بنصوص الأئمّة المعصومين في عقائدهم وأعمالهم *.

______________________________________________________

* لا عجب من كلام هذا الهاذر بعد أن بنى ما بناه من أصله على القواعد الواهية وتزيّن له أنّه قد أحاط بكلّ شي‌ء علما إلهاما من الله ورتبة. ولكنّه كان معذورا إذا صدر عنه مثل هذه الخيالات والتحمّسات والخرافات الّتي لا يتصوّر صدورها عمّن هو مالك لعقله ودينه باعتبار ما كان قد اعتاد إليه من استعمال الأشربة الردية الخارجة عن الحدّ المشهور بها الّتي من عادتها أن تفيد صاحبها الأخلاق الردية وتخرج طبعه عن السجايا الحميدة المرضيّة وتصوّر له الخيالات والهذيانات في الصور الحسنة الحسّيّة ، فيعتقدها أعظم مزيّة ، وهي عليه أكبر بليّة وسبب قوي لتمكّن الشيطان من الوسوسة إليه بتحسين القبيح وتهجين الرجيح.

وبعد ذلك فلينظر المنصف غير المماثل المتعسّف أيّ خطأ أخطأه عند الفاضل الأوحد الجليل (١)

__________________

(١) المراد به : الشيخ البهائي قدس‌سره.

٤٩٨

ومن تلك الجملة (١) :

أنّ المشّائين ادّعوا بداهة أنّ تفريق الماء إعدام لشخصه وإيجاد لشخصين آخرين ، وعليه بنوا إثبات الهيولى. والإشراقيّين ادّعوا بداهة نقيضها. ومن المعلوم : أنّ أحد القولين باطل.

______________________________________________________

ـ قدّس الله روحه ـ المخالف للعقل والنقل والاتّفاق يوجب الكلام عليه بخروجه عن التمسّك بكلام أهل العصمة ونسبته إلى إيقاع نفسه في الهلكة ، والحال أنّه قد تبيّن أنّ الصواب والحقّ معه في جميع ما رجّحه وارتضاه ، وهو الموافق بالشهرة والاتّفاق ، وما عداه من اشتراط التعدد في التزكية قول نادر لا معوّل عليه ولا دليل يعتمد عليه.

ولست أدري من يعني المصنّف بالأخباريّين الّذين ينسب إليهم في كلّ وقت الموافقة منهم على خرافاته وهذياناته؟ كما يدّعي في كلّ شي‌ء يريد تواتر الأخبار ، والحال أنّه لو أراد الماهر المطّلع على الأحاديث في هذا الزمان أن يحصل عنده تواتر الأحاديث على حكم واحد من الفروع غير الضروريّة لعزّ عليه وما تيسّر.

والطريقة الّتي مهّدها أصحاب العصمة لعمل الشيعة وغيّرها العلّامة ـ طاب ثراه ـ ومن وافقه ما عرفناها ، ولا علمنا من العلّامة وغيره مخالفة حكم في الأحكام ولا في مسألة من المسائل من اصول وفروع لأحاديث أهل العصمة بوجه من الوجوه ، بل العلّامة وسّع في العمل بالأحاديث ما لم يوسّعه غيره حرصا على استيعاب العمل بها ، فكيف ينسبه افتراء عليه إلى تعطيلها واتّباع مذاهب العامّة ولبس الحقّ بالباطل وتغيير الشريعة؟ وهل عاقل يخاف الله واليوم الآخر يجترئ على مثل العلّامة والفضلاء الأجلّاء ـ الّذي لا يليق بحاله أن يكون أهل تلامذتهم ـ بهذه الجرأة والقباحة وفيهم من هو مع العلم يصل في التقوى والصلاح إلى مقام الكشف والولاية؟ وهل يجوز في حكمة الله أن يخفي الحقّ طول هذا الزمان في دين الشيعة ويستمرّ المذهب الباطل والعمل به حتّى رحم الله العباد من الشيعة بتسخير هذا الإمام الجليل الّذي اختصّ من دون سائر الناس بهذه الفضائل الّتي تمدّح بها ، فجدّد لهم دينهم وأظهر لهم الحقّ وأنقذهم من تلك الجهالة والضلالة! فمن الّذي أنقذه؟ وما الّذي أفاد ما ادّعى إلهامه وسعى فيه؟ وتفحّص هل أحد أتبعه أو عاقل وافقه أو جاهل حذا حذوه؟ إلّا أن كان نادرا مثله.

__________________

(١) يعني من جملة أغلاط الفلاسفة وحكماء الإسلام في علومهم.

٤٩٩

ومنها :

أنّ المعتزلة وأصحابنا قالوا : الضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا. والأشاعرة استدلّوا على بطلانها ، والتزموا أنّ العباد ملجئون في أفعالهم وأنّ الله عزوجل يخلق الحركات فيهم.

ومن تلك الجملة :

أنّ السيّد الفاضل الشيرازي نقل عن الفارابي البرهان الأسدّ الأخضر الدالّ على امتناع التسلسل في جانب المبدأ مطلقا ( وملخّصه : أنّه لو كانت سلسلة مترتّبة غير متناهية من جانب المبدأ من أين يحصل واحد منها حتّى يحصل منه الآخر ) وادّعى البداهة في أنّ العقل إذا لاحظ تلك السلسلة إجمالا يحكم بتلك المقدّمة. والفاضل الدواني المشهور بين المتأخّرين بالتحقيق منع هذه المقدّمة.

ومن الواضحات البيّنات أنّ الحقّ ما نقله السيّد الفاضل ، وانّ ما ذكره الفاضل الدواني من المنع خلاف البديهة.

ومن تلك الجملة :

أنّ أفاضل المتأخّرين زعموا أنّ النزاع بين المحقّقين من المتكلّمين وبين

______________________________________________________

ولو كان ما اعتقده والهم به حقّا كان يجب على الله ـ سبحانه وتعالى ـ نشره بين عباده وإلهام الناس إلى تصديقه واتّباعه حيث أهّله الله لإنقاذ المؤمنين من الضلالة وهدايتهم بعد الغواية ، وإلّا فما الفائدة في إلهامه وتسخيره لهذا المطلب العظيم دون غيره من العلماء بعد هذه المدّة الطويلة والجهالة العميمة؟ فما رأينا أثر ما تمدّح به تعدّى غيره ولا انتفع به منتفع ولا قبله سمع عاقل ، بل كان سببا لنسبته للجهل وضعف العقل والدين. وقد حار الفكر وحصل السأم من تمدّحات هذا المؤلّف! ولا يدرك وجه القبح فيها ومن تكرار نسبة العلماء والفضلاء إلى الجهل وغير الحقّ وإفساد الشريعة. ولو لا رجحان ردّ الخطأ أو وجوب دفع ما ربما يوجب الشبه عند ضعفاء العقول ما استجزت إثبات كلامه في صحيفة بعد أن حصل منه هذا الخروج الزائد في حقّ العلماء والمبالغة في الأمر القبيح المذموم أبلغ الذمّ : من تزكية نفسه بما هو أحقّ بالوصف بضدّها.

وقد أطلنا الكلام في هذا المقام ، ولكن عذرنا فيه ما حصل عندنا من زيادة الآلام عند وصوله في التعدّي ومدح نفسه وتزكيتها إلى ما أوجب عدم الاحتشام.

٥٠٠