محمّد أمين الإسترابادي
المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢
إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (١).
منها : عن أبي عبد الله عليهالسلام الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمّة من بعده عليهمالسلام (٢).
وعن أحدهما عليهماالسلام قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أفضل الراسخين في العلم قد علّمه الله عزوجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزّل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه ، والقرآن خاصّ وعامّ ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ ، فالراسخون في العلم يعلمونه (٣).
وروايات مذكورة (٤) في باب تفسير قوله تعالى : ( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (٥).
وفي الكافي عن أبي الصباح قال : والله لقد قال لي جعفر بن محمّد عليهالسلام : إنّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل ، فعلّمه رسول الله صلىاللهعليهوآله عليّا عليهالسلام قال : وعلّمنا والله ، ثمّ قال : ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة (٦).
وفي كتاب المحاسن ـ في أوائل كتاب العلل ـ عن جابر بن يزيد الجعفي قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن شيء من التفسير ، فأجابني عليهالسلام ، ثمّ سألته عنه ثانية فأجابني بجواب آخر ، فقلت له : جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال : يا جابر ، إنّ للقرآن بطنا وللبطن بطنا وله ظهر وللظهر ظهر ، يا جابر ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، إنّ الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء ، وهو كلام متصل متصرف على وجوه (٧).
وفي كتاب بصائر الدرجات ـ في باب أنّ الأئمّة عليهمالسلام اعطوا تفسير القرآن والتأويل ـ الفضل عن موسى بن القاسم ، عن ابن أبي عمير أو غيره ، عن جميل بن درّاج ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : تفسير القرآن على سبعة أوجه : منه ما كان ، ومنه ما لم يكن بعد ذلك تعرفه الأئمّة عليهمالسلام (٨).
__________________
(١) آل عمران : ٧.
(٢) الكافي ١ : ٢١٣ ، ح ٣.
(٣) الكافي ١ : ٢١٣ ، ح ٢.
(٤) الكافي ١ : ٢١٣ ، باب أنّ الأئمة قد اوتوا العلم ، ح ١.
(٥) العنكبوت : ٤٩.
(٦) الكافي ٧ : ٤٤٢ ، ح ١٥.
(٧) المحاسن ٢ : ٧ ، ح ٥.
(٨) بصائر الدرجات : ١٩٦ ، ح ٨.
وفي كتاب بصائر الدرجات ـ في باب انّ الأئمّة عليهمالسلام اوتوا العلم واثبت في صدورهم ـ أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن محمّد الجوهري ، عن محمّد بن يحيى ، عن عبد الرحمن ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : إنّ هذا العلم انتهى إليّ في القرآن ثمّ جمع أصابعه ، ثمّ قال : بل هو آيات بيّنات في صدور الّذين اوتوا العلم (١).
وفي الكافي ـ في باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهمالسلام وانّهم يعلمون علمه كلّه ـ قلت لأبي جعفر عليهالسلام : ( قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) قال : إيّانا عنى وعليّ أوّلنا وأفضلنا (٢).
وفي الكافي ـ في باب أنّ الأئمّة عليهمالسلام ورثوا علم النبيّ وجميع علم الأنبياء والأوصياء الّذين من قبلهم ـ نحن المخصوصون في كتاب الله ، ونحن الّذين اصطفانا الله عزوجل وأورثنا هذا الّذي فيه تبيان كلّ شيء (٣).
وفي كتاب بصائر الدرجات ـ في باب أنّ الأئمّة عليهمالسلام أعطوا تفسير القرآن ـ محمّد بن الحسين عن محمّد بن مسلم ، عن ابن اذينة ، عن أبان ، عن سليم بن قيس ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : كنت إذا سألت رسول الله صلىاللهعليهوآله أجابني وإن ذهبت (٤) مسائلي ابتدأني ، فما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض ولا دنيا ولا آخرة إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ وكتبتها بيدي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها وكيف نزلت وأين نزلت وفيمن انزلت إلى يوم القيامة ، ودعا الله أن يعطيني فهما وحفظا فما نسيت آية من كتاب الله ولا على من انزلت (٥).
أحمد بن الحسين عن أبيه عن بكر بن صالح ، عن عبد الله بن إبراهيم بن عبد العزيز ابن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر الحميري قال حدّثنا يعقوب بن جعفر قال : كنت مع أبي الحسن عليهالسلام بمكّة ، فقال له رجل : إنّك لتفسّر من كتاب الله ما لم تسمع ، فقال : علينا نزل قبل الناس ولنا فسّر قبل أن يفسّر في الناس ، فنحن نعرف حلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه وفي أيّة ليلة نزلت كم من آية وفيمن نزلت وفيما نزلت ،
__________________
(١) بصائر الدرجات : ٢٠٦ ، ح ١٤.
(٢) الكافي ١ : ٢٢٩ ، ح ٦.
(٣) الكافي ١ : ٢٢٣ و ٢٢٦ ، ح ١ و ٧.
(٤) في المصدر : فنيت.
(٥) بصائر الدرجات : ١٩٨ ح ٣ ، وفي ذيله : إلّا أملاه عليّ.
فنحن حكماء الله في أرضه وشهداؤه على خلقه ، وهو قول الله تبارك وتعالى : ( سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ ) فالشهادة لنا والمسألة للمشهود عليه ، فهذا علم قد أنهيته (١).
وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي ـ في احتجاج أمير المؤمنين عليهالسلام على المهاجرين والأنصار حكاية عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ أيّها الناس! عليّ بن أبي طالب فيكم بمنزلتي (٢) ، فقلّدوه دينكم وأطيعوه في جميع اموركم ، فإنّ عنده جميع ما علّمني الله عزوجل من علمه وحكمه ، فاسألوه وتعلّموا منه ومن أوصيائه بعده (٣).
وفي احتجاج الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهماالسلام على الجماعة المنكرين فضله وفضل أبيه بحضرة معاوية ، قال عليهالسلام : أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال في حجّة الوداع أيّها الناس! إنّي تركت فيكم ما لم تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ثمّ قال : والمعوّل علينا في تفسيره (٤).
وفي الكافي ـ في باب بعد باب الإسلام قبل الإيمان ـ عن محمّد بن سالم ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : إنّ اناسا تكلّموا في هذا القرآن بغير علم ، وذلك إنّ الله تبارك تعالى يقول : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... ) الآية فالمنسوخات من المتشابهات والمحكمات من الناسخات (٥).
وفي أوّل كتاب الروضة من الكافي : محمّد بن يعقوب الكليني قال : حدّثني عليّ بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن فضّال ، عن حفص المؤذّن ، عن أبي عبد الله عليهالسلام وعن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمّد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله عليهالسلام أنّه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه وأمره بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها ، وكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم ، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها.
قال : وحدّثني الحسن بن محمّد عن جعفر بن محمّد بن مالك الكوفي ، عن
__________________
(١) بصائر الدرجات : ١٩٨ ، ح ٤.
(٢) في الاحتجاج : وهو فيكم بمنزلتي فيكم.
(٣) الاحتجاج ١ : ١٤٨.
(٤) الاحتجاج ١ : ٢٧٣ ، والعبارة الأخيرة وجدناها في ص ٢٩٩ للحسين عليهالسلام.
(٥) الكافي ٢ : ٢٨ ، ح ١.
القاسم بن الربيع الصحّاف ، عن إسماعيل بن مخلّد السرّاج ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : خرجت هذه الرسالة عن أبي عبد الله عليهالسلام إلى أصحابه. وهذه الرسالة الشريفة طويلة بأجمعها مذكورة في الروضة نحن ننقل منها موضع الحاجة.
قال عليهالسلام : أيّتها العصابة المرحومة المفلحة! إنّ الله عزوجل أتمّ لكم ما أتاكم من الخير ، واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء ، وجعل للقرآن وتعلّم القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن الّذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصّهم به ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها ، وهم أهل الذكر الّذين أمر الله هذه الامّة بسؤالهم ، وهم الّذين من سألهم ـ وقد سبق في علم الله أن يصدّقهم ويتّبع أثرهم ـ أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله بإذنه وإلى جميع سبل الحقّ ، وهم الّذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الّذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلّا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلّة ، فاولئك الّذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والّذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم ، واولئك الّذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقاييسهم حتّى دخلهم الشيطان ، لأنّهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند الله كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين ، وحتّى جعلوا ما أحلّ الله في كثير من الأمر حراما وجعلوا ما حرم الله في كثير من الأمر حلالا ، فذلك أصل ثمرة أهوائهم ، وقد عهد إليهم رسول الله صلىاللهعليهوآله قبل موته ، فقالوا : نحن بعد ما قبض الله عزوجل رسوله صلىاللهعليهوآله يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد ما قبض الله عزوجل رسوله صلىاللهعليهوآله وبعد عهده الّذي عهده إلينا وأمرنا به مخالفا لله ورسوله صلىاللهعليهوآله فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممّن أخذ بذلك وزعم أنّ ذلك يسعه! والله إنّ لله على خلقه أن يطيعوه ويتّبعوا أمره في حياة محمّد صلىاللهعليهوآله وبعد موته ، هل يستطيع أولئك أعداء الله أن يزعموا أنّ أحدا ممّن أسلم مع محمّد صلىاللهعليهوآله أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه؟
فان قال : نعم فقد كذب على الله وضلّ ضلالا بعيدا ، وان قال : لا لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه فقد أقرّ بالحجّة على نفسه وهو ممّن يزعم أنّ الله يطاع ويتّبع أمره بعد قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله. وقد قال الله عزوجل وقوله الحقّ : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرِينَ ) (١) وذلك لتعلموا أنّ الله يطاع ويتّبع أمره في حياة محمّد صلىاللهعليهوآله وبعد قبض الله محمّدا صلىاللهعليهوآله وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمّد صلىاللهعليهوآله أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه خلافا لأمر محمّد صلىاللهعليهوآله فكذلك لم يكن لأحد من بعد محمّد صلىاللهعليهوآله أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه (٢) انتهى ما أردنا نقله من الرسالة الشريفة.
وأقول : يستفاد من هذه الرسالة الشريفة أربعة مطالب :
أحدها : أنّ علم القرآن وانتزاع الأحكام النظرية منه من خواصّهم عليهمالسلام.
وثانيها : أنّ حجّية الإجماع من تدابير العامّة واختراعاتهم.
وثالثها : أنّ بناء الفتاوى على الرأي ـ أي الاجتهاد الظنّي ـ غير جائز.
ورابعها : أنّ من خالف في فتواه ما أنزل الله فقد ضلّ ضلالا بعيدا *. فاعتبروا يا اولي الألباب.
______________________________________________________
* إنّ ما نقله المصنّف وأطال فيه من الآثار سابقا ولاحقا ليس فيه مناسبة لإثبات دعواه ، وإنّما يناسب الردّ على من يعتقد عدم الاحتياج لسؤال الأئمّة عليهمالسلام عمّا اشكل في علم القرآن والحديث ، والمجتهدون من الشيعة منزّهون عن ذلك ، وإنّما اجتهادهم في المسائل الّتي لم يمكنهم علمهم عنهم عليهمالسلام بوجه من الوجوه ولم تصل إليها قدرتهم بعد الجهد والاستقصاء لآثارهم ، فيرجعون حينئذ خوفا من تعطيل الأحكام المنافي للحكمة إلى المأذون لهم فيه من قواعدهم واصولهم عليهمالسلام بوجوه مناسبة تفيد الظنّ عند عدم إمكان العلم المأمور باتّباعه على هذا الوجه في مسائل عديدة ، وليس صدوره عن مجرّد الرأي أو القياس المنهيّ عنه ، ولا مشابها له بوجه من الوجوه ، ولا خارجا عن مذهب الأئمّة عليهمالسلام.
__________________
(١) آل عمران : ١٤٤.
(٢) روضة الكافي : ٢ ـ ٦ ، ح ١.
ومنها (١) ما في أواخر كتاب الروضة من الكافي أحمد بن محمّد ، عن سعيد بن المنذر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن محمّد بن الحسين ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن أبيه قال : خطب أمير المؤمنين عليهالسلام ـ ورواها غيره بغير هذا الإسناد ، وذكر أنّه خطب بذي قار ـ والخطبة الشريفة بطولها مذكورة في الروضة ونحن ننقل منها موضع الحاجة :
ثمّ إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شيء أخفى من الحقّ ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله صلىاللهعليهوآله وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه ، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس وليسوا فيهم ومعهم وليسوا معهم ، لم يبق عندهم من الحقّ إلّا اسمه ولم يعرفوا من الكتاب إلّا خطّه. واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد حتّى تعرفوا الّذي تركه ، ولن تأخذوا
______________________________________________________
وأمّا ما ادّعى إفادة الرسالة له من الوجوه الأربعة فقوله : « انّ الاجماع من اختراع العامّة » فممنوع ، ولا يلزمنا من اعتباره على معتقدنا فيه محذور ، لأنّا نشترط في حصوله دخول المعصوم فيه ونسمّي ذلك إجماعا ، ولا مشاحّة في الاصطلاح ، وقد أشرنا إلى أنّ السيّد المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ نبّه على ذلك.
وأمّا تفسيره الرأي الواقع في كلام الإمام عليهالسلام بمطلق الاجتهاد سواء كان حقّا أو باطلا ، فهو من جملة غرائبه ودعاويه الواهية ، فإنّ كلام الإمام عليهالسلام صريح في أنّه رأي العامّة المساوي للقياس والاستحسان الناشئ عن مجرّد الهوى من غير التفات إلى كتاب أو سنّة ، كاجتهاد معاوية وأمثاله في محاربة أهل الحقّ والدين الّذي اعتذر رواته عنهم (٢) في ذلك بدعواهم الواهية ، فكيف يساوي به من قد أسهر ليله وأجهد نفسه في طلب الحقّ والهداية من الله ـ سبحانه وتعالى ـ حتّى بعد ذلك الجهد والتعب حصل عنده أمر راجح نشأ عن الملكة الّتي منحه الله بها وحصل الإذن فيه منهم عليهمالسلام بالدليل المقرّر في محلّه؟ مع أنّها لا تخرج عن مذهبهم ولا تخالف شيئا ممّا ثبت عنهم ، وما هذه الخيالات الفاسدة إلّا منشؤها عن اعوجاج الفهم وقلّة التدبّر والاعتقاد في النفس غاية الكمال الصائن عن الخطأ ، وهذا غاية الجهل والحماقة!
__________________
(١) لم نتحقّق المعطوف عليه ، والظاهر معناه : ومن الأخبار الواردة في المقام.
(٢) كذا ، والعبارة مختلّة.
بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الّذي نقضه ، ولن تمسّكوا به حتّى تعرفوا الّذي نبذه ، ولن تتلوا الكتاب حقّ تلاوته حتّى تعرفوا الّذي حرّفه ، ولن تعرفوا الضلالة حتّى تعرفوا الهدى ، ولن تعرفوا التقوى حتّى تعرفوا الّذي تعدى ، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلّف ورأيتم الفرية على الله ورسوله والتحريف لكتابه ورأيتم كيف هدى الله من هدى فلا يجهلنّكم الّذين لا يعلمون. إنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلّا من ذاق طعمه فعلم بالعلم جهله وبصر به عماه وسمع به صممه وأدرك به علم ما فات وحيّ به بعد إذ مات وأثبت عند الله عن ذكره الحسنات ومحى به السيّئات وأدرك به رضوانا من الله تبارك وتعالى ، فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصّة ، فإنّهم خاصّة نور يستضاء بهم وأئمّة يقتدى بهم ، وهم عيش العلم وموت الجهل ، هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون للدين ولا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق ، فهم من شأنهم شهداء بالحقّ ومخبر صادق لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، قد خلت لهم من الله سابقة ومضى فيهم من الله عزوجل حكم صادق ، وفي ذلك ذكرى للذاكرين ، فاعقلوا الحقّ إذا سمعتموه عقل رعاية ولا تعقلوه عقل رواية ، فإنّ رواة الكتاب كثير ورعاته قليل ، والله المستعان (١).
وفي كتاب المحاسن ـ في باب أنزل الله في القرآن تبيانا لكلّ شيء ـ عنه ، عن أبيه ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في رسالة : وأمّا ما سألت من القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة ، لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت وكلّ ما سمعت فمعناه غير ما ذهبت إليه ، وإنّما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ولقوم يتلونه حقّ تلاوته وهم الّذين يؤمنون به ويعرفونه ، فأمّا غيرهم فما أشدّ استشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم! ولذلك قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « إنّه ليس شيء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن » وفي ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلّا من شاء الله ، وإنّما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه ، وأن يعبدوه وينتهوا في
__________________
(١) روضة الكافي : ٣٨٦ ـ ٣٩٠ ، ح ٥٨٦.
قوله إلى طاعة القوّام بكتابه والناطقين عن أمره ، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم ، ثمّ قال : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (١) * فأمّا عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا ولا يوجد ، وقد علمت أنّه لا يستقيم أن يكون الخلق كلّهم ولاة الأمر ، إذا لا يجدون من يأتمرون عليه ولا من يبلّغونه أمر الله ونهيه ، فجعل الله الولاة خواصّ ليقتدى بهم من لم يخصصهم بذلك ، فافهم ذلك إن شاء الله تعالى. وإيّاك وتلاوة القرآن برأيك! فإنّ الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الامور ولا قادرين عليه ولا على تأويله إلّا من حدّه وبابه الّذي جعله الله له ، فافهم إن شاء الله تعالى واطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء الله تعالى (٢).
وفي كتاب المحاسن ـ في باب المقاييس والرأي ـ عنه ، عن أبيه ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في رسالة إلى أصحاب الرأي والمقاييس :
أمّا بعد ، فإنّ من دعا غيره إلى دينه بالارتياء والمقاييس لم ينصف ولم يصب حظّه ، لأنّ المدعوّ إلى ذلك لا يخلو أيضا من الارتياء والمقاييس ، ومتى ما لم يكن بالداعي قوّة في دعائه على المدعوّ لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعوّ بعد قليل ، لأنّا قد رأينا المتعلّم الطالب ربّما كان فائقا لمعلّم ولو بعد حين ، ورأينا المعلّم الداعي ربّما احتاج في رأيه إلى رأي من يدعو وفي ذلك تحيّر الجاهلون وشكّ المرتابون وظنّ الظانّون ، ولو كان ذلك عند الله جائزا لم يبعث الرسل بما فيه الفصل
______________________________________________________
* في الأمر باستنباط ما يجهلونه عنهم عليهمالسلام في الآية تلويح بل تصريح إلى صحّة استنباط المجهول من المعلوم وذلك هو عين الاجتهاد عند الإماميّة ، لأنّهم لا بدّ من رجوعهم فيه إلى الاصول والقواعد الثابتة عنهم عليهمالسلام لأنّ ترجيحهم لحكم من الأحكام لا يستندون فيه إلى الاستنباط من رأيهم أنفسهم وإنّما يرجعون فيه ويستخرجونه من آثار الأئمّة عليهمالسلام وقواعدهم ، فلا يخرج عمّا امروا به بل هو عينه.
__________________
(١) النساء : ٨٣.
(٢) المحاسن ١ : ٤١٧ ، ح ٣٦٢.
ولم ينه عن الهزل ولم يعب الجهل ، ولكنّ الناس لمّا سفهوا الحقّ وغمطوا النعمة واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم الله واكتفوا بذلك دون رسله والقوّام بأمره وقالوا : لا شيء إلّا ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا فولّاهم الله ما تولّوا وأهملهم وخذلهم حتّى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون ، ولو كان الله رضي منهم اجتهادهم وارتياءهم فيما ادّعوا من ذلك لم يبعث الله إليهم فاصلا لما بينهم ولا زاجرا عن وصفهم ، وإنّما استدللنا أنّ رضا الله غير ذلك ببعثه الرسل بالامور القيّمة الصحيحة والتحذير عن الامور المشكلة المفسدة ، ثمّ جعلهم أبوابه وصراطه والأدلّاء عليه بامور محجوبة عن الرأي والقياس. فمن طلب ما عند الله بقياس ورأي لم يزدد من الله إلّا بعدا ولم يبعث رسولا قطّ وإن طال عمره قابلا من الناس خلاف ما جاء به حتّى يكون متبوعا مرّة وتابعا اخرى ، ولم ير أيضا فيما جاء به استعمل رأيا ولا مقياسا حتّى يكون ذلك واضحا عنده كالوحي من الله. وفي ذلك دليل لكلّ ذي لبّ وحجى أنّ أصحاب الرأي والقياس مخطئون مدحضون ، وإنّما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل *. فإيّاك أيّها المستمع أن تجمع عليك خصلتين : إحداهما القذف بما جاش به صدرك واتّباعك لنفسك إلى غير قصد ولا معرفة حدّ ، والاخرى استغناؤك عمّا فيه حاجتك وتكذيبك لمن إليه مردّك ، وايّاك
______________________________________________________
* وقال المصنّف في الحاشية قوله : « إنّما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل » يعني من قال بالرسل لا ينبغي أن يجوّز الاختلاف في الدين ، لأنّهم مرسلون لرفع الاختلاف في الّذين لم يقولوا بهم أن يجوّزوا الاختلاف.
أقول : ربما يفهم من نفي الاختلاف في الرسل : أن يكون الاختلاف بعد إرسال الرسل ، لأنّ الرسول بعد ما ثبتت رسالته لا مجال للاختلاف فيه ، وقد أخبر الرسول باختلاف أمّته كاختلاف أمّة موسى عليهالسلام ولكن الذمّ عند الاختلاف لمن اعتمد على رأيه واكتفى بعقله وتحسينه ، كما ينبّه عليه قوله عليهالسلام : « واكتفوا بذلك دون رسله والقوّام بأمره ، وقالوا : لا شيء إلّا ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا » وكلام المصنّف في الحاشية : إن أراد أنّه لا يجوز لأحد تعمّد الخلاف مع وضوح الحقّ والصواب في الحكم فهذا ظاهر ولا فائدة مهمّة في التنبيه عليه ، وإن أراد أنّه لا يجوز في
وترك الحقّ سأمة وملالة وانتجاعك الباطل جهلا وضلالة ، لأنّا لم نجد تابعا لهواه جائرا عمّا ذكرنا قطّ رشيدا ، فانظر في ذلك (١).
أقول : غير خاف على اللبيب أنّ خلاصة ما ذكره عليهالسلام جارية في مطلق الاستنباطات الظنّية سواء كانت من باب القياس والاستحسان والاستصحاب أصالة البراءة من الأحكام الشرعية ، أو من باب غيرها من المدارك الّتي اعتبرتها العامّة وجماعة من الخاصّة *.
ومن أعجب العجائب! أنّ شيخنا الشهيد رحمهالله ذكر في كتاب الذكرى : أنّ أصالة البراءة تفيد القطع واليقين (٢) مع أنّها لا تفيد الظنّ على مذهب أهل الحقّ ، وهو أنّه لم تخل واقعة عن حكم قطعي وارد من الله تعالى. فاعتبروا يا اولي الأبصار!
وفي الكافي ـ في باب اختلاف الحديث ـ عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبان بن أبي عيّاش ، عن سليم بن قيس الهلالي قال : قلت لأمير المؤمنين عليهالسلام : إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن النبيّ صلىاللهعليهوآله غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنتم تخالفونهم فيها ، وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلىاللهعليهوآله متعمّدين ويفسّرون القرآن بآرائهم؟
______________________________________________________
الحكمة عند العقل وقوع الاختلاف في حكم من أحكام الدين بين أهله فهو خلاف الوجدان وخلاف ما أخبرت به الرسل ، وقد حصل الاختلاف بين القرّاء في زمانه عليهالسلام وثبت بالتواتر قراءة السبع. وكون الرسل مرسلين للهداية ورفع الاختلاف لا ينافي عدم حصول ذلك من تقصير المكلّفين ومخالفتهم للحقّ وعدم التفاتهم لتحصيله من أهله ، كما أنّ الإسلام لم يحصل بجميع الناس مع أنّ الرسول ما جاء إلّا لهداية الإنس والجنّ.
* لو حصل الاعتبار الصحيح لأغنى المصنّف في هذا الباب عن الإطالة والإكثار والإقدام على حمل كلام الأئمّة عليهمالسلام على غير مقتضاه ومعناه عند الاختبار ، وقد نبّهنا على مصداق ذلك مرارا سابقا.
__________________
(١) المحاسن ١ : ٣٣١ ، ح ٧٦.
(٢) الذكرى ١ : ٥٢.
قال : فأقبل عليّ فقال : قد سألت فافهم الجواب :
إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعامّا وخاصّا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله على عهده حتّى قام خطيبا فقال : « أيّها الناس! قد كثرت عليّ الكذابة ، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار » ثمّ كذب عليه من بعده. وإنّما آتاكم الحديث من أربعة ، ليس لهم خامس :
رجل منافق يظهر الإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول الله صلىاللهعليهوآله ورآه وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم ، فقال عزوجل : ( وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) (١) ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولّوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلّا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله صلىاللهعليهوآله شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمّد كذبا ، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه ويقول : أنا سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوآله فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلىاللهعليهوآله شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله صلىاللهعليهوآله لم ينسه ، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه وعلم الناسخ والمنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ ، فإنّ أمر
__________________
(١) المنافقون : ٤.
النبيّ صلىاللهعليهوآله مثل القرآن ناسخ ومنسوخ وخاصّ وعامّ ومحكم ومتشابه قد كان يكون من رسول الله صلىاللهعليهوآله الكلام له وجهان : كلام عامّ وكلام خاصّ مثل القرآن وقال الله عزوجل في كتابه : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (١) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله عليهالسلام وليس كلّ أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتّى أن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول الله صلىاللهعليهوآله حتّى يسمعوا. وقد كنت أدخل على رسول الله صلىاللهعليهوآله كلّ يوم دخلة وكلّ ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي يأتيني رسول الله صلىاللهعليهوآله أكثر ذلك في بيتي وكنت إذا دخلت عليه ببعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ. وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكتّ عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوآله آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها ، ودعا الله عزوجل أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه عليّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلّا علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفا واحدا ، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا ، فقلت : يا نبيّ الله بأبي أنت وأمّي! منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه ، أفتتخوّف عليّ النسيان والجهل فيما بعد؟ فقال : لا لست أتخوّف عليك النسيان والجهل (٢) *.
______________________________________________________
* في هذا الحديث دلالة واضحة لمن له عين بصيرة على عدم الوثوق بالأحاديث إلّا ما
__________________
(١) الحشر : ٧.
(٢) الكافي ١ : ٦٢ ، ح ١.
ومن كلامه عليهالسلام المذكور في نهج البلاغة ـ وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبر ـ فقال عليهالسلام : إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعامّا وخاصّا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله على عهده حتّى قام خطيبا فقال : « من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار » وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس ... (١) إلى آخر ما مرّ نقله من الكافي.
وفي كتاب المجالس لابن بابويه حدّثنا محمّد بن المتوكّل قال : حدّثنا عليّ بن إبراهيم عن أبيه قال : حدّثنا أبي عن الريّان بن الصلت ، عن عليّ بن موسى
______________________________________________________
صحّ منها ، لأنّه إذا كان مع وجود الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد حصل ما حصل ، فما ظنّك فيما بعده من زمن الأئمّة عليهمالسلام مع تفرّق الأهواء والمذاهب وانبعاث الدعاوي على الكذب على حسب موافقة المذاهب وكثرة الاختلاف والتضادّ فيها! فكيف يحتمل القول بأنّ جميع ما يوجد الآن من الأخبار المسندة إليهم عليهمالسلام في الكتب الأربعة أو غيرها مقطوع بصحّته وثبوته ويستفاد منها العلم بجميع الأحكام الّتي يحتاج المكلّف إليها بغير طريق الاجتهاد بدلالة قطعيّة واضحة؟ والوجوه الّتي عدّدها أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ هي كانت سبب الاختلاف ، وهي كلّها واقعة لا تختصّ زمانا دون زمان ، بل ربما وقوعها في الزمن المتأخّر عن النبيّ أكثر وأقرب إلى الوقوع ، وكأنّ المصنّف رحمهالله كان غافلا لمّا أورد هذا الحديث وهو صريح بفساد مدّعاه ، وله بذلك أمثال عديدة.
ثمّ لا يخفى أنّ تشبيه أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله بالقرآن وتمام ما ذكر في الحديث بعد وصف المحدّث الرابع يقتضي عدم حمل مدلول الحديث على ظاهره إذا خالف العقل أو الأمر المعلوم ثبوته من المذهب بالاتّفاق عليه ، كما وقع في القرآن. والمصنّف لا يتفطّن لذلك ويحمل الحديث على ظاهره. كما وقع له في باب المعارف الخمس وغيرها والحال فيها وفيما وافق بظاهره مذهب المجبّرة واحد من وجوب التأويل ، كما حصل في آيات القرآن المخالفة بظاهرها للمذهب الحقّ ؛ وقد أشرنا إلى ذلك سابقا. وهذا الحديث صريح فيما ذكرناه من أنّ ما وقع في القرآن وقع في الحديث مثله والحكمة فيهما واحدة.
__________________
(١) نهج البلاغة : ٣٢٥ ، ح ٢١٠.
الرضا عليهالسلام عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : قال الله عزوجل : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي وما عرفني من شبّهني بخلقي وما على ديني من استعمل القياس في ديني (١).
وفي كتاب المحاسن للبرقي ـ في باب أنزل الله القرآن تبيانا لكلّ شيء ـ عنه قال : حدّثني مرسلا قال : قال أبو جعفر عليهالسلام : إنّ القرآن شاهد الحقّ ومحمّد صلىاللهعليهوآله لذلك مستقرّ ، فاتّقوا الله فإنّ الله قد أوضح لكم أعلام دينكم ومنار هداكم ، فلا تأخذوا أمركم بالوهن ولا أديانكم هزوا فتدحض أعمالكم وتخطئوا سبيلكم ، ولا تكونوا أطعتم الله ربّكم أثبتوا على القرآن الثابت ، وكونوا في حزب الله تهتدوا ولا تكونوا في حزب الشيطان فتضلّوا ، يهلك من هلك (٢) ويحيى من حيّ ، وعلى الله البيان ، بيّن لكم فاهتدوا ، وبقول العلماء فانتفعوا ، والسبيل في ذلك كلّه إلى الله ، فمن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليّا مرشدا (٣).
وفي كتاب الكافي ـ في باب الاضطرار إلى الحجّة ـ عليّ بن إبراهيم عن أبيه ، عمّن ذكره ، عن يونس بن يعقوب قال : كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك ، فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : كلامك من كلام رسول الله أو من عندك؟ فقال : من كلام رسول الله صلىاللهعليهوآله ومن عندي ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : فأنت إذا شريك رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ قال : لا ، قال : فسمعت الوحي عن الله عزوجل يخبرك؟ قال : لا ، قال : فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ قال : لا ، فالتفت أبو عبد الله عليهالسلام إليّ فقال : يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلّم ، ثمّ قال : يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلّمته ، قال يونس : فيا لها من حسرة! فقلت : جعلت فداك! إنّي سمعتك تنهى عن الكلام وتقول : ويل لأصحاب الكلام! يقولون : هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله ، وهذا لا نعقله فقال أبو عبد الله عليهالسلام : إنّما قلت : فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون. ثمّ قال لي : اخرج إلى الباب فانظر من ترى
__________________
(١) أمالي الصدوق : ١٥ ، ح ٣.
(٢) في ط زيادة : عن بيّنة.
(٣) المحاسن ١ : ٤١٨ ، ح ٣٦٣.
من المتكلّمين فأدخله ، قال : فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما وكان قد تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين عليهماالسلام فلمّا استقرّ بنا المجلس وكان أبو عبد الله عليهالسلام قبل الحجّ يستقرّ أيّاما في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة ، قال : فأخرج أبو عبد الله عليهالسلام رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخبّ فقال : هشام وربّ الكعبة! قال : فظننّا أنّ هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبّة له ، قال : فورد هشام بن الحكم وهو أوّل ما اختطّت لحيته وليس فينا إلّا من هو أكبر منه سنّا ، قال : فوسّع له أبو عبد الله وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده ، ثمّ قال : يا حمران كلّم الرجل ، فكلّمه فظهر عليه حمران ، ثمّ قال : يا طاقي كلّمه ، فكلّمه فظهر عليه الأحول ، ثمّ قال : يا هشام بن سالم كلّمه فتعارفا ، ثمّ قال أبو عبد الله عليهالسلام لقيس الماصر : كلّمه فكلّمه فأقبل أبو عبد الله عليهالسلام يضحك من كلامهما ممّا قد أصاب الشامي ، فقال للشامي : كلّم هذا الغلام ـ يعني هشام بن الحكم ـ فقال : نعم ، فقال لهشام : يا غلام سلني في إمامة هذا ، فغضب هشام حتّى ارتعد! ثمّ قال للشامي : يا هذا أربّك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم؟ فقال الشامي : بل ربّي أنظر لخلقه ، قال : ففعل بنظره لهم ما ذا؟ قال : أقام لهم حجّة ودليلا كيلا يتشتّتوا أو يختلفوا يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم ، قال : فمن هو؟ قال رسول الله صلىاللهعليهوآله قال هشام : فبعد رسول الله من؟ قال : الكتاب والسنّة ، قال هشام : فهل ينفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا؟ قال الشامي : نعم ، قال : فلم اختلفت أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إيّاك؟ قال : فسكت الشامي ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام للشامي : ما لك لا تتكلّم؟ قال الشامي : إن قلت لم نختلف كذبت وإن قلت انّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت لأنّهما يحتملان الوجوه ، وإن قلت قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ فلم ينفعنا إذا الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي هذه الحجّة. فقال أبو عبد الله عليهالسلام : سله تجده مليّا ، فقال الشامي : يا هذا من أنظر لخلقه أربّهم أو أنفسهم؟ فقال هشام : ربّهم أنظر لهم منهم لأنفسهم فقال الشامي : فهل أقام
لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقّهم من باطلهم؟ قال هشام : في وقت رسول الله صلىاللهعليهوآله أو الساعة؟ قال الشامي : في وقت رسول الله صلىاللهعليهوآله والساعة من؟ فقال هشام : هذا القاعد الّذي تشدّ إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أب عن جدّ ، فقال الشامي : فكيف لي أن أعلم ذلك؟ قال هشام : سله عمّا بدا لك ، قال الشامي : قطعت عذري فعليّ السؤال. فقال أبو عبد الله عليهالسلام : يا شامي ، اخبرك كيف كان سفرك وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا ، فأقبل الشامي يقول : صدقت أسلمت لله الساعة ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام بل آمنت بالله الساعة ، إنّ الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون والإيمان عليه يثابون ، فقال الشامي : صدقت فأنا الساعة أشهد أنّ لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله وأنّك وصيّ الأوصياء.
ثمّ التفت أبو عبد الله عليهالسلام إلى حمران فقال : تجري الكلام على الأثر فتصيب ، والتفت إلى هشام بن سالم فقال : تريد الأثر ولا تعرفه ، ثمّ التفت إلى الأحول فقال : قيّاس روّاغ تكسر باطلا بباطل إلّا أنّ باطلك أظهر ، ثمّ التفت إلى قيس الماصر فقال : تتكلّم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أبعد ما تكون منه ، تمزج الحقّ مع الباطل وقليل الحقّ يكفي عن كثير الباطل ، أنت والأحول قفّازان حاذقان. قال يونس : فظننت والله أنّه يقول لهشام قريبا ممّا قال لهما. ثمّ قال يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك إذ هممت بالأرض طرت ، مثلك فليكلّم الناس ، فاتّق الزلّة والشفاعة من ورائها ، إن شاء الله تعالى (١).
وفي كتاب اختيار الشيخ من رجال الكشّي ـ قدّس الله سرّهما ـ حدّثني محمّد بن مسعود ، قال : حدّثني عليّ بن محمّد بن بريد (٢) القمّي ، قال : حدّثني محمّد بن أحمد بن يحيى ، قال : حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن هاشم ، قال : حدّثني محمّد بن حمّاد عن الحسن بن إبراهيم ، قال : حدّثني يونس بن عبد الرحمن ، عن يونس بن يعقوب ، عن هشام بن سالم قال : كنّا عند أبي عبد الله عليهالسلام جماعة من أصحابه فورد رجل من أهل الشام فاستأذن فأذن له فلمّا دخل سلّم ، فأمره أبو عبد الله عليهالسلام بالجلوس
__________________
(١) الكافي ١ : ١٧١ ، ح ٤.
(٢) في الكشّي : بن يزيد.
ثمّ قال له : حاجتك أيّها الرجل؟ قال : بلغني أنّك عالم بكلّ ما تسأل عنه فصرت إليك لاناظرك ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام ـ بعد كلام طويل ـ : يا أخا أهل الشام إنّ الله أخذ ضغثا من الحقّ وضغثا من الباطل فمغثهما ثمّ أخرجهما إلى الناس ، ثمّ بعث أنبياء يفرّقون بينهما ففرّقهما الأنبياء والأوصياء ، فبعث الله الأنبياء ليفرّقوا ذلك ، وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم الناس من يفضل الله ومن يختصّ ، ولو كان الحقّ على حدة والباطل على حدة كلّ واحد منهما قائم بشأنه ما احتاج الناس إلى نبيّ ولا وصيّ ، ولكن الله خلطهما وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمّة من عباده ، فقال الشامي : قد أفلح من جالسك (١).
وفي الكافي ـ في باب الضلال ـ عليّ بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن هاشم صاحب البريد ، قال أبو عبد الله عليهالسلام : أما إنّه شرّ عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا (٢).
وفي باب « القوم يجتمعون على الصيد وهم محرمون » عليّ بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى جميعا ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما وعلى كلّ واحد منهما جزاء؟ فقال : لا بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد ، قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا.
عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن بن الحجّاج مثله (٣). ورواه رئيس الطائفة في التهذيب بسند آخر (٤).
وفي باب « من مات وليس له إمام من أئمّة الهدى عليهمالسلام » مسندا عن المفضّل بن عمر قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله تعالى البتّة إلى العناد ، ومن ادّعى سماعا من غير الباب الّذي فتحه الله فهو مشرك ، وذلك الباب
__________________
(١) رجال الكشّي : ٢٧٥ ، ح ٤٩٤.
(٢) الكافي ٢ : ٤٠٢ ، ح ١.
(٣) الكافي ٤ : ٣٩١ ، ح ١ وذيله.
(٤) التهذيب ٥ : ٤٦٧ ، ح ٢٧٧.
المأمون على سرّ الله المكنون (١).
أقول : قد تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهمالسلام بأنّ المشرك قسمان : أحدهما من قال بشريك له تعالى في العبادة والآخر من قال بشريك له تعالى في الطاعة بأن يقلّده فيما يحلّ وفيما يحرم ، والظاهر أنّ المراد في هذا المقام وفي نظائره الثاني.
وفي كتاب المحاسن للبرقي ـ في باب الأهواء ـ عنه عن أبيه رحمهالله عن القاسم بن محمّد الجوهري ، عن حبيب الخثعمي والنضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن ابن مسكان ، عن حبيب قال : قال لنا أبو عبد الله عليهالسلام : ما أحد أحبّ إليّ منكم ، إنّ الناس سلكوا سبلا شتّى : منهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وإنّكم أخذتم بأمر له أصل (٢).
وفي حديث آخر لحبيب عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إنّ الناس أخذوا هكذا وهكذا ، فطائفة أخذوا بأهوائهم ، وطائفة قالوا بآرائهم ، وطائفة قالوا بالرواية ، وإنّ الله تعالى هداكم لحبّه وحبّ من ينفعكم حبّه عنده (٣).
أقول : المراد من الهواء أن يفتي بشيء من غير أن يتمسّك بدليل ظنّي عليه.
والمراد من الرأي أن يفتي بشيء متمسّكا بدليل ظنّي.
وفي الكافي ـ في باب أصناف الناس ـ عليّ بن محمد ، عن سهل بن زياد ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى جميعا ، عن ابن محبوب ، عن أبي اسامة ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عمّن حدّثه ممّن يوثق به قال : سمعت أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : إنّ الناس آلوا بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى ثلاثة : آلوا إلى عالم على [ سبيل ] (٤) هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره ، وجاهل مدّع للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدنيا وفتن غيره ، ومتعلّم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة ، ثمّ هلك من ادّعى وخاب من افترى (٥).
الحسين بن محمّد الأشعري عن معلّى بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : الناس
__________________
(١) الكافي ١ : ٣٧٧ ، ح ٤.
(٢) المحاسن ١ : ٢٥٥ ، ح ٨٨.
(٣) المحاسن ١ : ٢٥٥ ، ح ٨٩.
(٤) لم ترد في الكافي.
(٥) الكافي ١ : ٣٣ ، ح ١.
ثلاثة : عالم ومتعلّم وغثاء (١).
عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن جميل ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : يغدوا الناس على ثلاثة أصناف : عالم ومتعلّم وغثاء ، فنحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون وسائر الناس غثاء (٢).
أقول : هذه الأحاديث صريحة في انحصار الناس في ثلاثة بعده صلىاللهعليهوآله أصحاب العصمة عليهمالسلام ومن التزم أن يأخذ كلّ مسألة يجوز الخطأ فيها عادة من العقائد والأعمال منهم عليهمالسلام ومن لا يكون لا هذا ولا ذاك ، وصريحة في أنّ القسم الثالث مردود ، فانظر وتدبّر في أنّ من يتمسّك في الاعتقادات بالمقدّمات العقلية القطعية بزعمه وفي الأعمال بالخيالات الظنّية بزعمه ـ كأصالة البراءة من الأحكام الشرعية ، وكاستصحاب الحكم السابق على الحالة الطارئة ، وكالعمومات والإطلاقات مع احتمال أن تكون مخصّصة أو مقيّدة في الواقع أو بغير ذلك من الأدلّة المفيدة للظنّ بزعمه ـ داخل في أيّ الأقسام الثلاثة؟ ولا تكن من المعاندين ، والتكلان على التوفيق.
وفي باب « ثواب العالم والمتعلّم » محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن جميل بن صالح ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : إنّ الّذي يعلم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلّم وله الفضل عليه ، فتعلّموا العلم من حملة العلم وعلّموه إخوانكم كما علّمكموه العلماء (٣).
وفي باب « صفة العلم وفضله وفضل العلماء » محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن خالد ، عن أبي البختري ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، وذلك أنّ الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا وافرا ، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه ، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (٤) *.
______________________________________________________
* أوّل ما في هذا الحديث الموجب لردّه : أنّه رواية محمّد بن خالد البرقي عن وهب
__________________
(١) الكافي ١ : ٣٤ ، ح ٢.
(٢) الكافي ١ : ٣٤ ، ح ٤.
(٣) الكافي ١ : ٣٥ ، ح ٢.
(٤) الكافي ١ : ٣٢ ، ح ٢.
عليّ بن محمّد عن سهل بن زياد ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليهالسلام عن آبائه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا خير في العيش إلّا لرجلين : عالم مطاع ومستمع واع (١).
محمّد بن الحسن وعليّ بن محمّد عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عيسى ، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان ، عن درست الواسطي ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي الحسن موسى عليهالسلام قال : دخل رسول الله صلىاللهعليهوآله المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال : ما هذا؟ فقيل : علّامة ، فقال وما العلّامة؟ فقالوا له : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهلية والأشعار العربية ، قال : فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : ذاك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه ، ثمّ قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : إنّما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة ، وما خلاهنّ فهو فضل (٢).
______________________________________________________
أبي البختري ، ومحمّد وإن كان ثقة ، لكنّه ضعّف في كتب الرجال لتعمّده الرواية عن الضعفاء ، وفي هذه الرواية مصداق ذلك ، لأنّ أبا البختري هذا قال العلّامة في الخلاصة : إنّه روى عن أبي عبد الله عليهالسلام وكان كذّابا قاضيا عامّيّا ، إلّا أنّ له أحاديث عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام كلّها لا يوثق بها ، وله أحاديث مع الرشيد في الكذب ، قال سعد : تزوّج أبو عبد الله عليهالسلام بامّه (٣) انتهى كلامه.
الثاني : إنّ ظاهره موافق لاعتقاد العامّة في تصديق الخبر الّذي منعوا به فاطمة عليهاالسلام عن الميراث من أبيها ـ صلوات الله عليه ـ فكيف نحكم بصحّته ونقطع بأنّه قول الإمام عليهالسلام ويجب علينا العمل به كما يقوله المصنّف ويعتقده في كلّ حديث ورد في الكتب الأربعة ، وأمثال هذا الحديث كثير في الكتب الأربعة ممّا يخالف المتّفق عليه عند الشيعة ويخالف الدليل العقلي ، واللازم من ذلك طرحه إذا خالف العقل أو تأويله بما يوافق إن كان طريقه صحيحا على مصطلح أصحابنا أو حمله على التقيّة إذا ناسب الحمل. وفي هذا الحديث حمله على التقيّة غير مناسب لآخره وضعفه ظاهر ، فردّه من الأصل أولى وأنسب من التمحّلات في تأويله ؛ وكذلك أمثاله. وإيراد المصنّف لهذا الحديث ونظائره زاعما دلالته على اعتقاده عجيب! بل الظاهر منها فساد ما يدّعيه ويعتقده ، وربما كان ذلك أمرا ربّانيّا ، حيث إنّ الحقّ سخّره لإيراد ما يبطل دعواه بنفسه حتّى يكون كالساعي على حتفه بظلفه.
__________________
(١) الكافي ١ : ٣٣ ، ح ٧.
(٢) الكافي ١ : ٣٢ ، ح ١.
(٣) الخلاصة : ٢٦٢.