الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

وتوضيح المقام : أنّ الشيخ الطوسي صرّح في كتاب العدّة بأنّ كلّ حديث عمل به في كتبه أخذه من تلك الاصول الّتي وقع إجماع الطائفة على ورود كلّ ما فيها من الروايات عن أصحاب العصمة عليهم‌السلام ولم يعمل بغيره ، وصرّح بأنّه قد طرح العمل ببعض الروايات لأنّ معارضه أقوى منه إمّا لأجل أنّه موافق لروايات كثيرة أو لأجل أنّه جمع بين ذلك الإجماع وبين قوّة سنده (١). ومراده من الضعيف هذا المعنى ، لا أنّه لم يثبت وروده عنهم عليهم‌السلام. يؤيّد ذلك أنّه كثيرا ما يقول : هذا الحديث ضعيف لأنّه شاذ ، أي يخالف أحاديث اخر كثيرة.

السؤال الحادي والعشرون

أنّه يلزم من حقّيّة تلك القواعد الاصوليّة المتقدّمة المستفادة من كلام الأئمّة عليهم‌السلام ومن كلام قدمائنا ومن الأدلّة العقلية أن يكون العلّامة الحلّي ومن جاء بعده ووافقه في اصوله ، كالشهيدين وكالفاضل الشيخ عليّ وكالمقداد والسيوري وكالشيخ صلاح والشيخ فلاح والشيخ مفلح والشيخ مصلح (٢) ونظرائهم ـ رحمهم‌الله ـ في غفلة عن كثير من القواعد الّتي عليها مدار الشريعة المقدّسة ، مع أنّ كلام هؤلاء المشايخ المعظّمين المكرّمين الصائمين القائمين المشهورين المقتدين لعامّة أهل بلادهم مؤيّد باصول أهل السنّة والجماعة المعروفين بالتحقيق والتدقيق ، فإنّ مسائلهم الكلاميّة موافقة في الأكثر لما ذكرته فحول المعتزلة ، وقواعدهم الاصولية وقواعد الدراية في الأكثر موافقة لما في كتب العامّة فيجب ترك نصوص الأئمّة عليهم‌السلام وترك نصوص

______________________________________________________

بأجمعها بالقطع عن المعصوم ، فما أجاب به ما أفاد إلّا تحقيق غلطه وقلّة تدبّره ، والبليد يشهد عليه بذلك فضلا عن اللبيب عند حقيقة الإنصاف. وبعد أن اتّضح غلطه وفساد تصوّره في هذه القاعدة ومعظم مؤلّفه مبنيّ عليها أغنى ذلك عن بيان فساد ما سواها بأوضح دليل.

__________________

(١) عدّة الاصول : ١٢٦ ، ٣٥٠.

(٢) مراده من « الشيخ مفلح » مفلح بن الحسين الصيمري ولم نتعرّف « الشيخ صلاح » و « الشيخ فلاح » و « الشيخ مصلح » والباقي معلوم.

٣٦١

أصحابهم ، لأنّ قول المجتهدين لا يردّ والرواية تردّ ، ولئلّا يلزم غفلة هؤلاء المعظمين المجتهدين المعروفين بالفضل والصلاح.

وجوابه :

أنّ الأمر دائر بين الشيئين ، بين نسبة الغفلة والمعذورية إلى هؤلاء المعروفين المحصورين في جماعة قليلة ، وبين نسبة الغلط والخطأ إلى الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم ، فإن اختار أحد من المتعصّبة الثانية أو ملزومها بعد علمه بالملازمة فالله حاكم بيني وبينه يوم القيامة *.

وأقول : قد جاءكم بصائر من ربّكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ. ولا يزال يخطر بالبال أن اظهر حقّا كنت اخفيه خوفا من تعصّب الفسّاق والجهّال ، ولكن توكّلت على الله فأظهرته ، فإن ردّه الجاهلون فسيقبلها الماهرون ، وإن ذمّه الجهلة فسوف يمدحه الكملة **.

______________________________________________________

* بعد نهاية التعجّب من الإقدام على هذه الدعوى! أنّه متى يخطر ببال عاقل أنّ قواعد هؤلاء المشايخ الصلحاء الأجلّاء خارجة ومخالفة لنصوص الأئمّة عليهم‌السلام وإن كانت في بعضها موافقة للعامّة ، لأنّ الاصول الّتي لا يقبل الاختلاف ومرجعها ودليلها العقل والأحكام الظاهرة الواضحة إذا حصل الاشتراك فيها ما المانع منه؟ ولو لزم الخلاف للعامّة في كلّ ما ذهبوا إليه للزم أن نترك الصلاة مثلا إذا رأيناهم اعتمدوها وحكموا بثبوتها ، وكيف يمكن تصوّر هذا الاختيار لمن يؤمن بالله وبرسوله حتّى يلتزمه ويحكم الله بينه وبين المصنّف! ولو يرجّح نسبتهم إلى الخطأ كان أخفّ في القباحة من مساواته لنسبته إلى الأئمّة عليهم‌السلام وتجويزه لذلك ، وإمكان اختياره لأحد من الناس أقبح وأقبح! وما على هذا الخطأ مزيد! والله المستعان.

** إنّ انفراده بهذه المقالة الخارجة عن المعقول والمنقول والمخالفة لجميع العلماء الراسخين الماضين المتأخّرين والمؤيّدين بالعناية الإلهيّة والهداية الربّانية دليل واضح جليّ على فساد ما ادّعاه فضلا عن بيان خطائه في حججه على كلّ ما خيّل له هواه وإن توهّم لعدم تعقّله وخطأ فهمه موافقة بعضهم لشي‌ء ممّا ادعاه ، وليته كان بقي على خفائه ليسلم من فضيحته دنيا وآخرة إن لم يسامحه الله بعفوه على ما ارتكب من المبالغة في القدح في حقّ العلماء والصلحاء والسادات الأجلّاء ـ تغمّدهم الله بالرحمة والرضوان ، وأسكنهم فسيح الجنان ـ.

٣٦٢

فأقول : من أغلاط العلّامة الحلّي : أنّه في مقام ترويج مذهبه والردّ على السيّد الأجلّ المرتضى والردّ على محمّد بن إدريس الحلّي والردّ على المحقّق الحلّي في مسألة العمل بخبر الواحد المظنون العدالة نسب إلى جميع أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام أنّهم كانوا يعملون في عقائدهم وأعمالهم بخبر الواحد المظنون العدالة الخالي عن القرائن المفيدة للقطع (١) ، ومن المعلوم : أنّ في أصحاب الأئمّة جمعا ذكر الصادق عليه‌السلام في شأنهم أنّ هؤلاء أمناء الله في أرضه ، لو لا هؤلاء لاندرست آثار النبوّة (٢) وقال في حقّهم عليه‌السلام : لا يزال ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين (٣).

ونسب إلى رئيس الطائفة ذلك أيضا (٤) * وتفرّع على ذلك تناقضات في كلام رئيس الطائفة ذكرها المتأخّرون كالشهيد الثاني في شرح رسالته في فنّ دراية الحديث (٥) مع أنّ المحقّق الحلّي قبل العلّامة الحلّي والشيخ الفاضل الشيخ حسن بن الشهيد الثاني ـ قدّس الله أرواحهم ـ بعد العلّامة الحلّي فسّروا كلام رئيس الطائفة تفسيرا لا يرد عليه تناقض أصلا على مقتضى تفسيرهما (٦) ورأينا كلام رئيس الطائفة في العدّة صريحا فيما فهمناه.

ومن أغلاطه : أنّه ذكر في اصوله : أنّه إذا جرت مخاصمة بين مجتهدين مبنيّة

______________________________________________________

* إنّ ما نقله عن العلّامة هو صريح كلام الشيخ في العدّة أيضا. وكذلك المحقّق الحلّي يفهم من كلامه ما يقارب ما نقله عن العلّامة. وقد أوردنا كلامهما في ذلك فيما تقدّم. ومدح الأئمّة عليهم‌السلام لمن مدحوه لا ينافي ذلك ، لأنّه لا يلزم منه ارتكاب خطأ ولا منكر ، بل إطلاق الصادق عليه‌السلام لبعض أصحابه الإفتاء بكلّ من سأله ربما يكون قرينة على ذلك ، لأنّه لا يمكن علم كلّ المسائل بالمشافهة من المعصوم ويجوز أن يعوّل في بعضها على الواسطة. واحتمال التواتر في كلّ الوسائط مستبعد وإذا لم يكن العمل بخبر الواحد مستبعدا ولا يمنع منه العقل عند تعذّر العلم ولا ظاهر البطلان ، فمن أين يلزم عدم جواز نسبته إليهم؟ فكيف وقد ثبت بالأدلّة صحّته.

__________________

(١) نهاية الوصول ( مخطوطة ) : الورقة ١٤٦ س ١٨.

(٢) رجال الكشّي : ١٧٠ ، الرقم ٢٨٦.

(٣) رجال الكشّي : ١٣٧ ، الرقم ٢٢٠.

(٤) نهاية الوصول ( مخطوطة ) : الورقة ١٤٦ س ١٩.

(٥) الرعاية في شرح البداية : ٩٢.

(٦) معارج الاصول : ١٤٧ ، معالم الدين ١٩٨.

٣٦٣

على اختلاف اجتهادهما يجب عليهم الرجوع إلى أحد من الرعيّة ليفصل بينهما بقوله « حكمت » فإنّه نصب لفصل الخصومات (١) *.

ومن جملة أغلاطه : ما نقله عنه الشهيد الثاني في شرح الشرائع من قوله : أفتيت بهذا بمجرّد رأي ولم أجد فيه نصّا وأثرا (٢) **.

ومن جملة أغلاط الفاضل الشيخ عليّ : أنّه أمر أهل المشرق بأن يأخذوا الجدي خلف المنكب الأيمن (٣) وخرّب المحاريب الّتي كانت في بلاد العجم من زمن أصحاب الأئمّة من الأفاضل المحقّقين الماهرين في الفنّ الرياضي كفضل بن شاذان الّذي صنّف رسالة في قبلة البلدان سمّاها ازاحة العلّة في معرفة القبلة.

ومن المعلوم : أنّ هذا تبعيد عن الحقّ في أمر يدرك بالحسّ ، فكيف يعتمد على

______________________________________________________

* لو نسب الغلط إلى نفسه أصاب وخلص من محذور ذلك ، لأنّه قد ثبت عنهم عليهم‌السلام أنّه إذا اختلف اثنان من شيعتهم في حكومة يرجعان إلى حاكم منها يعرف شيئا من قضاياهم وأحاديثهم ويجب الرضا بقوله (٤) فبعد ذلك كيف لا يجب على المجتهدين الرجوع إلى مجتهد مثلهم؟ والعقل أيضا يقضي برجحان ذلك ، لأنّ المجتهد المرجوع إليه إذا اطّلع على كلاميهما ودليليهما يتبيّن عنده الطرف الراجح ويقرب قوله من الصواب. ويكون ثبوت هذا الحكم بالطريق الأولى فيما إذا كان الخصمان غير مجتهدين ، لأنّ مع الاطّلاع على الحجّة يتّضح الصواب من الخطأ. فأيّ غلط حصل من العلّامة في هذا الحكم حتّى يجترى عليه بالغلط!

** إنّ ما نقل عن العلّامة إن صحّ أنّه بهذه الصورة لا يخطر ببال عاقل عرف حال العلّامة وجلالة قدره وفضله أنّه أراد بذلك الرأي الناشئ عن غير دليل كرأي العامّة الظاهر لأدنى عارف عدم جوازه ونهاية ذمّه ، بل أراد الرأي الناشئ عن الاجتهاد والاستنباط من القواعد المقرّرة والاصول عن الأئمّة عليهم‌السلام. ونفيه لوجدان النصّ والأثر ـ ولا شكّ أنّ المراد بهما الصريح ـ صريح في ذلك ؛ على أنّ معنى الرأي هو ما كان مرجعه الرويّة والفكر ، وكلّ حكم لا بدّ قبله من حصول ذلك ، لكن لمّا كانت العامّة أطلق عليهم الحكم بالرأي المذموم وحصل الإنكار عليهم بذلك كما حصل على العمل بالقياس صار نسبة الحكم إلى الرأي مستهجنا. لكن بعد الفرق لا محذور فيه.

__________________

(١) راجع نهاية الوصول ( مخطوطة ) : ٢٢٠ س ٣١.

(٢) المسالك ٤ : ٢٧٦ ، وراجع التذكرة ٢ : ١٨٢ س ١٨.

(٣) راجع جامع المقاصد : ٢ : ٥٣ ـ ٥٤.

(٤) الوسائل ١٨ : ٤ ، ح ٥.

٣٦٤

فتاويه في الامور النظرية العقلية الصرفة؟ وهذان الفاضلان والشهيدان هم العمدة ـ بعد الشيخين الأقدمين ابن الجنيد وابن أبي عقيل وبعد محمّد بن إدريس الحلّي ـ في إجراء أكثر قواعد اصول العامّة وقواعد فنّ دراية الحديث في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام وفي أحكامهم. والجماعة الآخرون الّذين وافقوا هذه الخمسة في طريقتهم بضاعتهم في العلوم قليلة وبينهم وبين تحقيق المباحث الغامضة الدينية الاصولية بون بعيد ، هيهات هيهات أين الثريّا من الثرى! وهؤلاء يمكن أن يكونوا معذورين لغفلتهم ، وأمّا بعد ما نبّهنا الناس على أنّهم غفلوا عن كثير من القواعد الاصولية الّتي هي مدار الشريعة وذهبوا إلى نقائضها ، فلو وافقوهم لعمّهم الفسق وشملهم الإثم مع أنّهم اعترفوا بأنّ ظنّ الميت كالميّت *.

______________________________________________________

* قد صار الإقدام على القدح في حقّ العلماء والجرأة عليهم بالفسق واتّباع الباطل وتخريب الدين أمرا معتادا للمصنّف لا يتحرّز منه ، كأنّه أمر أمره الله به بالوحي ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا! وأوّل ما يقتضي عدم توجّه كلامه على الفاضل الشيخ عليّ الّذي اعترف له بالفضل أنّ القبلة المذكورة لو كانت متحقّقة عن المعصوم اتّجه كلامه ، وأمّا الفضل بن شاذان فليس بمعصوم لا يحتمل خطأه هذا لو علم تصريحه بصحّة تلك القبلة ، وإلّا قد يكون الخطأ سابقا عليه ومنع من تغييره مانع أو لم يتوجّه إلى تغييره كما هو واقع في غير تلك الجهة في كثير من المحاريب ولم يتفق تغييرها مع ظهور خطائها. ومن الجائز صحّة ما اعتبره الشيخ عليّ رحمه‌الله فمن أين علم خطأه باليقين؟ والثاني : لو سلّم خطؤه في هذه المسألة والإنسان محلّ الخطأ لا يلزم ما ذكره المصنّف من عدم صحّة الاعتماد على فتاويه بطريق العموم.

وقوله : « وهو تبعيد عن الحقّ في أمر يدرك بالحسّ » كيف يدرك بالحسّ غير المشاهد؟ ووصف من تابع المذكورين بشمول فسق المتبوع للتابع وعمومه للجميع هل يعتقده أحد أو ينطق به من يخشى الله سبحانه في حقّ من أحيوا دين الشيعة بمصنّفاتهم وتحقيقاتهم ولم يلحق شوطه خطوهم ولا بحره قطرهم؟ وأين رتبته من رتبتهم وفهمه من فهمهم وأكثر تصوّراته وتحمّسه بتحقيقاته خيالات فاسدة وأفكار باردة لا يتّجه لها طريق مقبول ولا وجه معقول! لكنّ الجهل وعدم التقيّد يقود صاحبه إلى أعظم من ذلك.

٣٦٥

[ ومن أغلاط جمع من أهل الاجتهاد والمعروفين بالفضل والصلاح : أنّهم يقولون : سمعنا من مشايخنا متّصلا إلى أصحاب العصمة عليهم‌السلام أنّ الولد لرشده أو لغيّه ـ بكسر اللام الأوّل وضمّ اللام الثاني ـ مع أنّ كلّ من له أدنى معرفة باللغة يقطع ببطلان هذا ويقطع بأنّ هذا افتراء بلا امتراء على الأئمة عليهم‌السلام ومن المعلوم : أنّ مثل هذا صدر عنهم من باب الإسراع في الامور وعدم التزامهم أن يكون كلامهم بعد التأمّل والتفكّر في أطراف الامور. ثمّ بعد ما ظهر الحقّ ما رضيت نفوسهم بالاعتراف به ، خوفا من أن تنقص درجتهم عند جهّال الناس ، وجعل الرشد في مقابله وقع في كلام الله تعالى : ( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ووقع في أبواب اخر من الأحاديث كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وشبهات بين ذلك » (١) وكتب اللغة كنهاية ابن الأثير وغيرهما مصرّحة بخلاف ما يحكيه عن الأئمّة عليهم‌السلام هذا الحاكي ] (٢).

ومن أغلاط جمع منهم : أنّهم يقولون في كثير من الأحاديث الواردة في كمّية الكرّ : إنّها خالية عن ذكر أحد الأبعاد الثلاثة ، لكنّه محذوف ليقاس المحذوف على المذكور ، والحذف مع القرينة شائع ذائع. وفي هذا دلالة على إسراعهم في تفسير الأحاديث وفي تعيين ما هو المراد منها ، والدلالة على ذلك كلّه : أنّ أصحّ أحاديث هذا الباب هكذا : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته.

وجه الدلالة : أنّه يفهم اعتبار أربعة أشبار في العمق وثلاثة في الآخرين ، فلم تبق دلالة على أنّ حكم المحذوف حكم المذكور مع وجود هذا الاحتمال ، وأنّه يفهم من هذا الحديث الشريف أنّ المراد من أحد المذكورين في الأحاديث العمق ومن الآخر السعة. ومن المعلوم عند كلّ لبيب غير غافل : أنّ معنى « السعة » مجموع الطول والعرض ، فلا حاجة إلى القول بالحذف. ومن له أدنى معرفة بأساليب كلام العرب يعرف أنّهم يقصدون بقولهم : « ثلاثة في ثلاثة » في الثوب وشبهه أنّ كلّ واحد من طوله وعرضه ثلاثة ، ويقصدون به في الحياض والآبار وشبههما أنّ كلّ واحد من

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ، ح ١٠.

(٢) بين المعقوفتين لم يرد في ط.

٣٦٦

سعته وعمقه ثلاثة *.

وتوضيح المقام : أنّ الكرّ في الأصل مكيال لأهل العراق ، وإنّما جرت عادة الأئمّة عليهم‌السلام بذكر لفظ « الكرّ » في معرض بيان المعيار بين مقدار الماء الّذي ينجس بمجرّد ورود النجاسة عليه وبين مقدار الماء الّذي ليس كذلك ، لأنّ مخاطبهم عليهم‌السلام كان من أهل العراق ، ومن المعلوم : أنّ الكرّ مدوّر مثل البئر ، ومن المعلوم : أنّ المناسب بمساحة المدوّر أن يذكر قطره وأن يذكر عمقه وغير مناسب أن يذكر طوله وعرضه وعمقه.

ومن جملة أغلاط جمع منهم : أنّ بعضهم زعم أنّ محمّد بن إسماعيل الّذي يروي عنه الكليني هو ابن بزيع ، وزعم أنّ كلّ حديث في طريقه الكليني عن محمّد بن إسماعيل مرسل ، ويلزم من ذلك أن يكون الإمام ثقة الإسلام مدلّسا في هذا الباب. وأنّ بعضهم زعم أنّ محمّد بن إسماعيل هذا هو البرمكي صاحب الصومعة ، مع أنّ في كتاب الكشّي عبارات ناطقة بأنّه النيسابوري (١) **.

______________________________________________________

* إنّ مثل هذه المسألة لا تحرز أنّ التنبّه لها مزيّة ، وقد سبقه غيره إلى هذا الاحتمال ، والحذف أيضا محتمل لقيام القرينة في مثله. ولا صراحة في لفظ « السعة » لأحد الأمرين. ورواية إسماعيل بن جابر المتضمّنة لأنّ « الكرّ ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار » ردّها المحقّق في المعتبر بقصورها عن اعتبارهم (٢) حيث إنّ فيها إخلالا بذكر البعد الثالث. وفي هذا الحديث قرينة على ترجيح الحذف في الحديث السابق ، لأنّه لا مرجّح لدلالته هنا بنفسه على البعد الثالث من دون الحذف ، ومفاد الحديثين بالنسبة إلى الابعاد واحد ، فإذا ترجّح حمل أحدهما على معنى ترجّح الآخر.

إذا تقرّر ذلك فليت شعري! أيّهم أحقّ بالغلط؟ المصنّف أو من نسبه إليهم من الأجلّاء.

** إنّ منشأ الوهم في ذلك أنّ الكليني رحمه‌الله في أوّل الروضة قال : محمّد بن يعقوب الكليني ، حدّثني عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن فضّال ، عن حفص المؤذّن ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام وعن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمّد بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣)

__________________

(١) راجع رجال الكشّي : ٥٣٨ ، الرقم ١٠٢٤ ، و ٥٣٢ ، الرقم ١٠١٦.

(٢) المعتبر ١ : ٤٦.

(٣) الكافي ٣ : ٢.

٣٦٧

ومن جملة إسراعهم : أنّهم لم يطالعوا كتاب العدّة ولا اصول المحقّق ولا ما ذكره في أوائل المعتبر ، ولم يطّلعوا على ما هو المسطور فيها من أنّ أحاديث كتب أصحابنا مأخوذة من اصول أجمعت الطائفة المحقّة على أنّها معتمد عليها ، وأجمعت على جواز العمل بها بتفصيل مذكور فيها. ولم يمعنوا النظر فيما ذكره الإمام ثقة الإسلام في أوائل كتاب الكافي : من أنّ أحاديث كتابه كلّها صحيحة ، ولا فيما ذكره رئيس الطائفة في أوّل الاستبصار.

وبالجملة ، وقع تخريب الدين مرّتين مرّة يوم توفّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومرة يوم اجريت القواعد الاصولية (١) والاصطلاحات الّتي ذكرتها العامّة في الكتب الاصوليّة وفي كتب

______________________________________________________

والشيخ الطوسي رحمه‌الله في باب الحدود من التهذيب ابتدأ به في أوّل السند مع التصريح بأنّه ابن بزيع (٢). والّذي يدفع هذا الوهم ، أمّا الأوّل : فلأن « محمّد بن إسماعيل » معطوف على « ابن فضّال » لأنّ إبراهيم بن هاشم يروي عنهما ، وعطفه على فاعل « حدّثني » بعيد ، بل لا يستقيم ، لما سنذكره. وأمّا الثاني : فلأنّ الشيخ رحمه‌الله من عادته في كتابيه أن يروي عن بعض جماعة من المتقدّمين ـ مثل صفوان وحريز وغيرهم ـ مع ذكر طريقه إليهم في آخر الكتاب اعتمادا على أخذه من كتبهم كما يفهم منه ذلك من كلامه في أوّل الأسانيد ؛ فذكر الكشّي في ترجمة الفضل بن شاذان حكاية عن الفضل وقال : « إنّ أبا الحسن محمّد بن إسماعيل البندقي النيشابوري ذكرها » (٣) وهذا الكلام يرجّح أن يكون هو الّذي يروي عن الفضل بن شاذان ، والكليني يروي عنه ، لكنّه مجهول الحال. وربما يترجّح صحّة الرواية عنه إمّا بكون كتب الفضل كانت موجودة فكان الأخذ منها ، أو لأنّ الكليني أكثر الرواية عنه ، وفيه شهادة بحسن حاله. ووصف العلّامة وغيره أحاديث هو في طريقها بالصحّة ، ورجّح صاحب المنتقى ـ الأخ رحمه‌الله ـ إدخال حديثه في قسم الحسن.

وأمّا محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، فإنّ الفضل بن شاذان متأخّر عنه ، لأنّه من أصحاب الهادي عليه‌السلام ويظهر من كلام النجاشي أنّه روى عن أبي جعفر الثاني ومحمّد بن إسماعيل بن بزيع من أصحاب الكاظم والرضا عليهما‌السلام وقال الكشّي : إنّه أدرك أبا جعفر الثاني عليه‌السلام فرواية الشيخ أو الكليني عنه بغير واسطة لا وجه لها ، وتوهّمها فاسد. ولم يختصّ هذا التنبيه بالمصنّف حتّى يتمدح به والحال أنّه مسبوق إليه.

__________________

(١) في ط زيادة : العامة.

(٢) التهذيب ١٠ : ١٤٦ ، ح ٨.

(٣) الكشّي : ٥٣٨ ، الرقم ١٠٢٤.

٣٦٨

دراية الحديث في أحكامنا وأحاديثنا. وناهيك أيّها اللبيب؟ أنّ هذه الجماعة يقولون بجواز الاختلاف في الفتاوى من غير ابتناء أحدها على ضرورة التقيّة ، ويقولون : قول الميّت كالميّت ، مع أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بأنّ حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ولا اختلاف فيهما أبدا *.

______________________________________________________

* لا يخفى ما في هذا الكلام من الشناعة والإقدام على غير الحقّ والنسبة إلى تخريب الدين وتشبيهه بفعل أهل الضلال في التخريب الأوّل الموجب للخروج من الإسلام عند كثير من العلماء ، ونعوذ بالله من ذلك! وما الّذي أوجب تخريب الدين من القواعد والاصطلاحات الّتي ارتكبها الأصحاب؟ فإنّا لم نجد لهم ارتكاب قاعدة ولا اصطلاح فيه خلاف الحقّ ولا خروج كلامهم عن حديث الأئمّة عليهم‌السلام الصحيحة في حال من الأحوال ، ولا حصل عند أحد من المتقدّمين والمتأخّرين ـ ولله الحمد ـ تخيّل خلل في الدين سوى المصنّف بسبب ذلك ولا بغيره.

وجميع القواعد والاصطلاحات ودرايات الحديث ليس فيها خروج عن مذهب الأئمّة عليهم‌السلام ولا عن مدلول أحاديثهم الصحيحة غير الواجبة التأويل بما يوافق المذهب المتّفق عليه ، فأيّ قاعدة وأيّ اصطلاح وأيّ دراية جارية على مذهب العامّة ومخالفة لمذهب الشيعة حتّى ينسبها إليهم نسبة صحيحة؟ وإنّما الأوهام والخيالات الّتي تخطر على بال المصنّف في حال الغفلة أو اليقظة مخالفة للعقل والنقل يحسبها قواعد واصطلاحات ويحكم بأنّ غيرها خلاف الموافق بالمذهب ، ولا يدري بأنّ نسبة ما نسبه إلى الغير نسبته إليه أحقّ وأجدر.

وأمّا أنّ الميّت لا قول له ليس المراد أنّ أدلّته وبراهينه على المسائل إذا كانت حقّا لا يعوّل عليها إذا رآها الحيّ كذلك ، وإنّما فتواه لم يثبت التعويل عليها مع وجود الحيّ وإمكان التوصّل إليه ، ومع عدم امكان ذلك لا مانع منه إذا لم يتحقّق إجماع على منعه ، وقد نقل الخلاف فيه ، خصوصا إذا كان الظنّ الحاصل للمقلّد من قول الميّت أرجح من قول الحيّ ، إلّا أن يسوّى ، الإجماع مانع منه (١).

وأمّا أنّ « أحكام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تتغيّر ولا تتبدّل » إن كان في نفس الأمر فلا نزاع فيه ، وليس تخالف فتوى المجتهدين يقتضي تبديلها ولا تغييرها (٢) إذا كانوا قد ثبت أمرهم بالاجتهاد منهم عليهم‌السلام وحكم كلّ واحد منهم لا يخرج عن حكمهم ، وقد تقدّم شرح ذلك ، بل الحكم بصحّة كلّ الأحاديث

__________________

(١) كذا في نسخة الهامش ، وفي الأصل : إلّا أنّ دعوى الإجماع هنا منع بينه.

(٢) العبارة في الأصل ناقصة ، أثبتناها من نسخة الهامش ، وهي أيضا مشوّشة أصلحناها بهذه الصورة حدسا.

٣٦٩

وممّا يوضح هذا المقام ما في كتاب التهذيب لرئيس الطائفة ـ قدّس الله سرّه ـ في باب القضاء سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن أبيه ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي مريم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال عليّ عليه‌السلام : لو قضيت بين رجلين بقضيّة ثمّ عادا إليّ من قابل لم أزدهما على القول الأوّل ، لأنّ الحقّ لا يتغيّر (١).

وفي باب « البدع والرأي والمقاييس » من كتاب الكافي عن حريز ، عن زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحلال والحرام ، فقال : حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال أبدا إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجي‌ء غيره (٢).

وقال : وقال عليّ عليه‌السلام : ما أحد ابتدع بدعة إلّا ترك بها سنّة.

وفي باب بعد ذلك الباب : عن عمر بن قيس ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الامّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل لكلّ شي‌ء حدّا وجعل عليه دليلا يدلّ عليه وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا (٣).

وفيه : عن حمّاد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : ما من شي‌ء إلّا وفيه كتاب أو سنّة (٤).

وعن المعلّى بن خنيس قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال (٥).

وعن سماعة ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : كلّ شي‌ء في كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦).

ولا أظنّ برجل يخاف الله أن يكون في ريب ممّا تلوناه ، وكم من رجل حسبناه صالحا ، فلمّا ذكرنا عنده هذه الأحاديث تحرّك عليه عرق العصبيّة والحسد وعاند وكابر إمّا قبل التصوّر أو بعده. والله الموفّق.

* * *

______________________________________________________

عنهم المختلفة وغيرها ـ كما يقوله المصنّف ـ يقتضي ذلك ، فالزامه به أحقّ من إلزامه للغير.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٢٩٦ ، ح ٣٢. (٢) الكافي ١ : ٥٨ ، ح ١٩.

(٣) الكافي ١ : ٥٩ ، ح ٢.

(٤) الكافي ١ : ٥٩ ، ح ٤.

(٥) الكافي ١ : ٦٠ ، ح ٦.

(٦) الكافي ١ : ٦٢ ، ح ١٠.

٣٧٠

الفصل التاسع

في تصحيح أحاديث كتبنا

بوجوه ، تفطّنت بها بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام وبجواز التمسّك بها لكونها متواترة بالنسبة إلى مؤلّفيها ، وفي بيان القاعدة الشريفة الّتي وضعوها عليهم‌السلام للخلاص عن الحيرة في باب الأحاديث المتعارضة البالغة حدّ التعادل أو غير البالغة ، وفي نصيحة لطيفة ، فنقول بالله التوفيق وبيده أزمّة التحقيق :

الوجه الأوّل

من الوجوه الدالّة على صحّة أحاديث الكتب الأربعة ـ مثلا ـ باصطلاح قدمائنا : إنّا نقطع قطعا عاديّا بأنّ جمعا كثيرا من ثقات أصحاب أئمّتنا ـ ومنهم الجماعة الّذين أجمعت العصابة على أنّهم لم ينقلوا إلّا الصحيح باصطلاح القدماء ـ صرفوا أعمارهم في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة في أخذ الأحكام عنهم عليهم‌السلام وتأليف ما يسمعونه منهم عليهم‌السلام وعرض المؤلّفات عليهم عليهم‌السلام ثمّ التابعون لهم تبعوهم في طريقتهم واستمرّ هذا المعنى إلى زمن الأئمّة الثلاثة ـ قدّس الله أرواحهم ـ.

الوجه الثاني

إنّا نعلم أنّه كانت عند قدمائنا اصول من زمن أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى زمن الأئمّة الثلاثة ـ قدّس الله أرواحهم ـ كانوا يعتمدون عليها في عقائدهم وأعمالهم ، ونعلم علما عاديّا أنّهم كانوا متمكّنين من استعلام حالة تلك الاصول وأخذ الأحكام

٣٧١

منهم عليهم‌السلام بطريق القطع واليقين ، ونعلم علما عاديّا أنّهم كانوا عالمين بأنّه مع التمكّن من القطع واليقين في أحكام الله تعالى لا يجوز الاعتماد على ما ليس كذلك وأنّهم لم يقصّروا في ذلك ، واستمرّ هذا المعنى إلى زمن الأئمّة الثلاثة ـ قدّس الله أرواحهم ـ فعلم أنّ تلك الأحاديث كلّها صحيحة باصطلاح القدماء.

الوجه الثالث

إنّ مقتضى الحكمة الربّانية وشفقة سيّد المرسلين والأئمّة عليهم‌السلام بالشيعة أن لا يضيع من كان في أصلاب الرجال منهم ويمهّد لهم اصولا معتمدة يعملون بما فيها في زمن الغيبة الكبرى *.

______________________________________________________

* إنّ المصنّف كأنّه غفل عن أنّ الدنيا دار الابتلاء وأنّ ابتلاء المؤمن على قدر إيمانه ، وهو إلى المؤمنين أقرب من غيرهم ، وقد اقتضت حكمة الله خفاء كثير من الحقوق ، بحيث لم تظهر كلّ الظهور الّذي لا يسع معه الاختلاف ، ولا اختفت كلّ الخفاء الّذي لا يمكن معه العلم ليتحقّق مصداق قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) فعلم أنّ الحقّ في المخفيّ يظهر بعد المجاهدة في طلبه. وغيبة الإمام عليه‌السلام من أعظم الابتلاء. ولو كانت الحكمة الإلهيّة تقتضي أن ينساق إلى الشيعة في كلّ وقت ما يقتضي ظهور الحقّ بالقطع والجزم ولا يجوز خفاء ذلك عنهم لكان الّذي في زمن الأئمّة عليهم‌السلام من أصحابهم الأجلّاء في العلم والمعرفة والدين أحقّ أن ينساق إليهم ما يوجب بقاءهم على الهدى ، بعد أن كانوا قد حصّلوه ثمّ عدلوا عنه من مثل الواقفة والفطحيّة والزيديّة وأمثالهم ، فما رأينا حالهم إلّا كحال غيرهم في الضلالة والهداية. وليس عند الله سبحانه فرق في إرادة الهداية من كلّ مخلوق ، فالّذي كانت تقتضيه الحكمة للشيعة تقتضيه لغيرهم من مخلوقات الله ، لأنّ الكلّ عباده وتحت رحمته ؛ وقد علمنا كثرة الاختلاف الواقع في حال الرواة من المدح والطعن بما لا مزيد عليه من ذلك الزمان ، وكذلك اختلاف مذاهبهم وتصريح أصحاب كتب الرجال بمدح بعضهم وضعف رواياته وتصريحهم أيضا بكذب بعضهم ووضعه للأحاديث ، ونقلوا عن ابن عقدة : أنّه كان يحفظ مائة وعشرين ألف حديث بأسانيدها ويذاكر بثلاثمائة ، وروى جميع كتب أصحابنا (١) ومع ذلك كان زيديّا جاروديّا ، ومثل

__________________

(١) رجال الطوسي : ٤٠٩ ، الرقم ٥٩٤٩.

٣٧٢

الوجه الرابع

إنّه تواترت الأخبار بأنّهم عليهم‌السلام أمروا أصحابهم بتأليف ما يسمعونه منهم وضبطه ونشره لتعمل به الشيعة في زمن الغيبة الكبرى وأخبروا بوقوعه.

الوجه الخامس

إنّ أكثر أحاديثنا موجودة في اصول الجماعة الّتي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ، أي على أنّهم لم ينقلوا إلّا الصحيح ، وللعلم بوجودها في تلك الاصول طرق ، من جملتها : أن نقطع بقرينة المقام أنّ الطريق المذكور للحديث إنّما هو طريق إلى الأصل المأخوذ منه الحديث ، وتلك القرينة وافرة في كتابي الشيخ وكتاب من لا يحضره الفقيه بل في كتاب الكافي أيضا عند النظر الدقيق. وقد ذكرهم شيخنا الثقة الجليل الصدوق أبو عمرو الكشي ـ قدّس الله سرّه ـ في كتابه فقال ، قال الكشّي : أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام وأصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام وانقادوا لهم بالفقه ، فقالوا : أفقه الأوّلين ستّة : زرارة ، ومعروف بن خرّبوذ ، وبريد ، وأبو بصير الأسدي ، والفضيل بن يسار ، ومحمّد ابن مسلم الطائفي ؛ قالوا : وأفقه الستّة زرارة ، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي : أبو بصير المرادي ، وهو ليث بن البختري.

حدّثنا الحسين بن حسن بن بندار القمّي قال : حدّثني سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمّي قال : حدّثني محمّد بن أبي عبد الله المسمع قال حدّثني عليّ بن حديد وعليّ بن أسباط عن جميل بن درّاج قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أوتاد

______________________________________________________

هذه الوجوه الموجبة للضعف.

ولم تتميّز الأحاديث بعضها من بعض في زمن من الأزمان ، ولا نقل ذلك أحد من المتقدّمين ولا نبّهوا عليه ، وقد وجدنا عيانا بينها الاختلاف والتضادّ المناسب للاستناد لذلك ، فكيف يتحقّق لأحد من المتقدّمين بعد زمن الأئمّة عليهم‌السلام والمتأخّرين القطع والجزم بصحّة كلّ حديث نقل ووصل إلينا؟ وقد تكرّر من المصنّف أمثال هذه الدعاوي وبيّنّا فسادها وكان يكفيه منها بعضها ، إلّا أنّه أراد طول الكتاب لظنّه أنّ في ذلك مزيّة بتكرار السؤال والجواب.

٣٧٣

الأرض وأعلام الدين أربعة محمّد بن مسلم ، وبريد بن معاوية ، وليث بن البختري المرادي ، وزرارة بن أعين.

وبهذا الإسناد عن محمّد بن عبد الله المسمعي ، عن عليّ بن أسباط ، عن محمّد ابن سنان ، عن داود بن سرحان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّي لاحدّث الرجل بحديث وأنهاه عن القياس ، فيخرج من عندي فيتأوّل حديثي على غير تأويله ، إنّي أمرت قوما أن يتكلّموا ونهيت قوما ، فكلّ يتأوّل لنفسه يريد المعصية لله تعالى ولرسوله ، فلو سمعوا وأطاعوا لأودعتهم ما أودع أبي عليه‌السلام أصحابه ، إنّ أصحاب أبي كانوا زينا أحياء وأمواتا ، أعني : زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، ومنهم ليث المرادي ، وبريد العجلي ، هؤلاء قوّامون بالقسط ، هؤلاء قوّالون بالصدق ، هؤلاء السابقون السابقون أولئك المقرّبون (١) انتهى كلامه قدس‌سره.

ثمّ قال في موضع آخر بعد ذلك : تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ من هؤلاء وتصديقهم لما يقولون وأقرّوا لهم بالفقه ـ من دون اولئك الستّة الّذين عددناهم وسمّيناهم ـ ستّة نفر : جميل بن درّاج ، وعبد الله بن مسكان ، وعبد الله بن بكير ، وحمّاد بن عيسى ، وحمّاد بن عثمان ، وأبان ابن عثمان ؛ قالوا : وزعم أبو إسحاق الفقيه ـ يعني ثعلبة بن ميمون ـ أنّ أفقه هؤلاء جميل بن درّاج ، وهم أحداث أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام (٢).

ثمّ قال في موضع آخر بعد ذلك : تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا عليهم‌السلام أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم وأقرّوا لهم بالفقه والعلم ، وهم ستّة نفر آخر دون الستّة النفر الّذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام منهم : يونس بن عبد الرحمن ، وصفوان بن يحيى بياع السابري ، ومحمّد بن أبي عمير ، وعبد الله بن المغيرة ، والحسن بن محبوب ، وأحمد ابن محمّد بن أبي نصر ؛ وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب : الحسن بن عليّ بن فضّال وفضالة بن أيّوب ، وقال بعضهم مكان ابن فضّال : عثمان بن عيسى ، وأفقه

__________________

(١) رجال الكشّي : ٢٣٨ ، ح ٤٣١ و ٤٣٢ و ٤٣٣.

(٢) رجال الكشّي : ٣٧٥ ، ح ٧٠٥.

٣٧٤

هؤلاء يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى (١) انتهى كلامه.

وأقول : مستند الإجماع الّذي نقله الكشّي في حقّ هذه الجماعة الروايات الناطقة بأنّهم معتمدون في كلّ ما يروون.

وبهذا التحقيق ظهر عليك وانكشف لديك : أنّ ما ذكره رئيس الطائفة في كتاب العدّة : من أنّه أجمعت الطائفة على صحّة مراسيل جمع من الرواة كما أجمعوا على صحّة مسانيدهم (٢) مبنيّ على ورود الروايات الناطقة بأنّهم معتمدون في كلّ ما يروون.

والمتأخّرون ـ كالشهيد الثاني في شرح رسالته في فنّ دراية الحديث (٣) ـ تكلّموا على الإجماع الثاني ، وسببه قلّة تتبّعهم واستعجالهم في التأليفات واشتغالهم بها قبل أن يحقّقوا المباحث ، وبناؤهم تصانيفهم على المقدّمات المألوفة المشهورة الّتي يوجد مصداقها في أحاديث العامّة وفي رواة أحاديثهم ، كما صرّح بذلك ولد الشهيد الثاني ، وقد مرّ نقله عنه (٤).

الوجه السادس

توافق أخبار الأئمّة الثلاثة ـ قدّس الله أرواحهم ـ في صحّة أحاديث كتبهم ولا يقدح في ذلك اشتمال طرق كثير منها على من تغيّر حاله من الاستقامة إمّا بانتحال المذاهب الفاسدة أو بظهور الكذب منه وطروّ الاختلال عليه بعد أن كان ثقة مستقيما. ويؤيّدهم ما تقدّم نقله عن السيّد الأجلّ المرتضى رضى الله عنه.

الوجه السابع

إنّه لو لم يكن أحاديث كتبنا مأخوذة من الاصول المجمع عليها لزم أن يكون أكثر أحاديثنا غير صالحة للاعتماد عليها ، والعادة قاضية ببطلانه.

الوجه الثامن

إنّ كثيرا ما يطرح رئيس الطائفة الأحاديث الصحيحة باصطلاح المتأخّرين

__________________

(١) رجال الكشّي : ٥٢٣ ، ح ١٠٠٥.

(٢) عدّة الاصول : ١٥٤.

(٣) شرح البداية : ٨٢.

(٤) راجع ص ١٢٨.

٣٧٥

ويعمل بنقائضها الضعيفة باصطلاح المتأخّرين. فلو لا ما ذكرناه لما وقع من مثل رئيس الطائفة ذلك عادة.

الوجه التاسع

إنّ كثيرا ما يعتمد رئيس الطائفة على طرق ضعيفة مع تمكّنه من طرق اخرى صحيحة. فلو لا ما ذكرناه لما وقع ذلك من مثله عادة.

الوجه العاشر

إنّ رئيس الطائفة صرّح في كتاب العدّة (١) وفي أوّل الاستبصار بأنّ كلّ حديث عمل به مأخوذ من الاصول المجمع على صحّة نقلها. ونحن نقطع عادة بأنّه ما كذب *.

الوجه الحادي عشر

إنّ شيخنا الصدوق قدس‌سره ذكر مثل ذلك بل أقوى منه في أوائل كتاب من لا يحضره الفقيه. ونحن نقطع عادة بأنّه ما كذب. وكذلك نقول في حقّ الكافي للإمام ثقة الإسلام.

______________________________________________________

* لو سلّمنا إرادة الظاهر من هذا الكلام لتقيّد بالّذي عمل به ، فلا يلزم أن يكون غيره كذلك. وأيضا فإنّ هذا الاجماع نقله الكشّي على تصديق أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله وعدّدهم وكذلك أصحاب الكاظم والرضا عليهما‌السلام ومنهم من قبل بضعفه (٢) وتكلّم الشهيد الثاني على هذا الإجماع وقال : إنّ المراد به مجرّد الشهرة (٣) وربما أنّ الشيخ تبعه في ذلك أو (٤) أراد بالإجماع (٥) مجرّد الشهرة كما هو من عادته غالبا ، أو أراد بالصحّة ما ثبتت عدالة راويه كما هو المشهور. وكلّ ذلك لا يفيد القطع بالنقل عن المعصوم عليه‌السلام ولو أراد به الإجماع الحقيقي لما صحّ مخالفته له في بعض فتاويه ولا اختلاف فتاويه أيضا في حكم واحد. فعلم أنّ مراده بالصحّة مجرّد الرجحان وبعد احتمال الكذب.

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ١٢٦.

(٢) قال ابن داود في أبان بن عثمان الأحمر : وقد ذكر أصحابنا أنّه كان ناووسيا ، فهو بالضعفاء أجدر ، لكن ذكرته هنا ـ القسم الأوّل ـ لثناء الكشّي وإحالته على الإجماع المذكور. رجال ابن داود : ١١ ـ ١٢.

(٣) كذا ، والظاهر : و.

(٤) لم نعثر عليه.

(٥) في الأصل زيادة : على.

٣٧٦

الوجه الثاني عشر

إنّا قطعنا قطعا عاديّا في حقّ أكثر رواة أحاديثنا بقرينة ما بلغنا من أحوالهم أنّهم لم يرضوا بالافتراء في رواية الحديث ، والّذي لم نقطع في حقّه بذلك كثيرا ما نقطع بأنّه طريق إلى أصل الثقة الّذي أخذ الحديث منه. والفائدة في ذكره مجرّد التبرّك باتّصال سلسلة المخاطبة اللسانية ، ودفع طعن العامّة بأنّ أحاديثكم ليست معنعنة بل مأخوذة من كتب قدمائكم ومن اصولهم *. ومن جملة القرائن على ما ذكرناه أنّ الإمام ثقة الإسلام صرّح في أوّل الكافي بصحّة جميع أحاديثه ومع ذلك كثيرا ما يذكر في أوائل الأسانيد من ليس بثقة.

بقي احتمال السهو وهو يندفع تارة بتعاضد بعض الروايات ببعض ، وتارة بقرينة تناسب أجزاء الحديث ، وتارة بقرينة السؤال والجواب وتارة بقرائن اخرى (١).

______________________________________________________

وعلى هذا المعنى حمل الشيخ بهاء الدين قدس‌سره كلام الصدوق رحمه‌الله في « من لا يحضره الفقيه » (٢) والّذي يعيّن ذلك ، الموجود من اختلاف الفتوى ومخالفة بعضها لما دوّنوه في كتبهم وتصريح الشيخ بضعف بعض الأحاديث الّتي أوردها في كتابيه ، وذلك دليل صريح في حكمهم بعدم صحّة كلّ الأحاديث الموجودة في كتبهم بطريق القطع ، لئلّا يناقض فعلهم كلامهم رحمهم‌الله.

* قد نبّهنا سابقا أنّ مجرد التبرّك بذكر السند الضعيف لا يعادل احتمال ضعف الحديث ، بل رجحان ضعفه غالبا عند من تخفى عليه حقيقة الحال ، وهذا هو الّذي كان محتاجا إلى التنبيه عليه لو صحّ أنّه كذلك ، لاحتمال الاغراء بالجهل. وأمّا غير ذلك فلا يحتاج إلى التنبيه ، لا حالة تمييزه على المعلوم من كتب الرجال الوافية ببيان ذلك. وأمّا أمر العامّة والتوجيه به فلا يخفى ضعفه.

__________________

(١) قد وقع في عبائر هذا الوجه ـ من أوّله إلى هنا ـ تقديم وتأخير وتخليط بعضها ببعض ، والّذي استظهرناه أنّ الأصل هكذا :

إنّا قطعنا قطعا عاديّا في حقّ أكثر رواة أحاديثنا بقرينة ما بلغنا من أحوالهم أنّهم لم يرضوا بالافتراء في رواية الحديث. بقي احتمال السهو ، وهو يندفع تارة بتعاضد بعض الروايات ببعض ، وتارة بقرينة تناسب أجزاء الحديث ، وتارة بقرينة السؤال والجواب وتارة بقرائن اخرى. ومن جملة القرائن ـ على ما ذكرناه ـ أنّ الإمام ثقة الإسلام صرّح في أوّل الكافي بصحّة جميع أحاديثه ، ومع ذلك كثيرا ما يذكر في أوائل الأسانيد من ليس بثقة ، والّذي لم نقطع في حقّه بذلك كثيرا ما نقطع بأنّه [ له ] طريق إلى أصل الثقة الّذي أخذ الحديث منه ، والفائدة في ذكره مجرّد التبرّك باتّصال سلسلة المخاطبة اللسانيّة ودفع طعن العامّة بأنّ أحاديثكم ليست معنعنة ، بل مأخوذة من كتب قدمائكم ومن أصولهم.

وبعد التنزّل ...

(٢) مشرق الشمسين ( المطبوع مع الحبل المتين ) : ٢٧٠.

٣٧٧

وبعد التنزّل عن المقام السابق نقول على سبيل الاستظهار : نحن قطعنا قطعا عاديّا بأنّ تلك المسائل المذكورة في كتب حديثنا عرضت على الأئمّة عليهم‌السلام وسئلوا عنها وبأنّهم عليهم‌السلام أجابوا عنها وبأنّ أجوبتهم عليهم‌السلام موجودة في تلك الأحاديث المتداولة بين أصحابنا ، واللازم من ذلك أن يكون كلّ تلك الأحاديث جوابهم أو بعضها. فإن لم ينقل في مسألة إلّا حديث واحد أو نقلت فيها أحاديث متوافقة لم يبق إشكال ، وإن نقلت فيها أحاديث متخالفة فللتميّز علامات يعرفها الماهر في أحاديثهم عليهم‌السلام وسندلّك على باب واسع فيه إن شاء الله تعالى بتوفيق الملك العلّام ودلالة أهل الذكر عليهم‌السلام.

وأمّا كون الكتب الأربعة [ ونظائرها ] (١) متواترة النسبة إلى مؤلّفيها (٢) ـ قدّس الله أرواحهم ـ وأنّ هذا التواتر يفيد القطع الإجمالي وأنّ القطع التفصيلي بخصوصيّات الأحاديث يحصل بالقرائن المقاميّة كاتّفاق النسخ كما في كتاب الله تعالى ، فهو أظهر من أن يظهر من أن يرتاب فيه لبيب منصف.

وممّا يوضح ذلك ما ذكره صاحب المعالم حيث قال قدس‌سره في كتاب المعالم الإجازة في العرف إخبار إجمالي بامور مضبوطة معلومة مأمون عليها من الغلط والتصحيف ونحوهما ، وما هذا شأنه لا وجه للتوقّف في قبوله ، والتعبير عنه بلفظ « أخبرني » وما في معناه مقيّدا بقوله : « إجازة » تجوز مع القرينة فلا مانع منه. ومثله آت في القراءة على الراوي ، لأنّ الاعتراف إخبار إجمالي ، ولم يلتفتوا إلى الخلاف في قبوله وإنّما ذكر بعضهم أنّ قبوله موضع وفاق.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنّما يظهر حيث لا يكون متعلّقها معلوما بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا الأربعة ، فإنّها متواترة إجمالا ، والعلم بصحّة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ، ولا مدخل للإجازة فيه غالبا ، وإنّما فائدتها حينئذ بقاء اتّصال سلسلة الإسناد بالنبيّ والأئمّة عليهم‌السلام وذلك أمر مطلوب مرغوب إليه للتيمّن كما لا يخفى (٣) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

__________________

(١) لم ترد في خ.

(٢) في خ زيادة : الثلاثة.

(٣) معالم الدين : ٢٠٩ و ٢١٢.

٣٧٨

وإنّما ذكرنا ذلك لتحقيق المقام الّذي زلّت فيه أقدام أقوام من فحول الأعلام لا لحاجتنا إليه (١) فإنّي قد قرأت اصول كتاب الكافي وكلّ تهذيب الحديث وغيرهما على أعلم المتأخّرين بعلم الحديث والرجال وأورعهم وهو سيّدنا الإمام العلّامة والقدوة الهمام الفهّامة قدوة المقدّسين أعظم المحقّقين الميرزا محمّد الأسترابادي وهو قد قرأ على شيخه وقرأ شيخه على شيخه متّصلة إلى أصحاب العصمة عليهم‌السلام كما ذكره في آخر كتاب الرجال ـ نوّر الله مرقده ـ ولي طرق اخرى من مشايخ اخر ـ قدّس الله سرّهم ـ منهم السيّد والسند والعلّامة الأوحد صاحب كتاب المدارك قدس‌سره.

وأمّا القاعدة الشريفة الّتي وضعوها عليهم‌السلام للخلاص عن الحيرة في باب الأحاديث المتعارضة فقد نطقت بها أحاديث بالغة حدّ التواتر المعنوي ، مع صحّة كثير منها في ظاهر الأمر وزعم المتأخّرون أيضا ، وصحّة كلّها عند التحقيق وعند قدمائنا ولا يمكنني استقصاؤها.

ولنذكر ما يحضرني الآن منها ، فمن تلك الجملة ما في كتاب الاحتجاج للطبرسي ـ في مبحث احتجاج أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ـ روى الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام فترد إليه (٢).

وروى عن سماعة بن مهران قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه؟ قال : لا تعمل بواحد منهما حتّى تأتي صاحبك فتسأله عنه. قال ، قلت : لا بدّ أن يعمل بأحدهما؟ قال : خذ بما فيه خلاف العامّة (٣).

وروى عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام قال ، قلت للرضا عليه‌السلام : تجيئني الأحاديث عنكم مختلفة؟ قال : ما جاءك عنّا فاعرضه على كتاب الله عزوجل وأحاديثنا ، فإن كان ذلك يشبههما فهو منّا وإن لم يكن يشبههما فليس منّا. قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلم نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : إذا لم

__________________

(١) خ : لا لحاجتنا إلى هذه الدقيقة.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٣٥٧ ، وفيه : فتردّه عليه.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٣٥٧.

٣٧٩

تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت (١).

وفي كتاب الاحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبد الله الحميري رحمه‌الله إلى صاحب الزمان عليه‌السلام : يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه تكبيرة ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوّته أقوم وأقعد في الجواب عن ذلك حديثان (٢) :

أمّا أحدهما : « فإذا انتقل من حالة إلى اخرى فعليه التكبير ». وأمّا الحديث الآخر : فإنّه روى « إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى » وبأيّهما اخذ من باب التسليم (٣) كان صوابا.

ومن تلك الجملة : صحيحة عليّ بن مهزيار ، قال : قرأت (٤) في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم أن صلّهما في المحمل وروى بعضهم أن لا تصلّهما إلّا على الأرض ، فاعلمني كيف تصنع أنت؟ لأقتدي بك في ذلك. فوقّع عليه‌السلام موسّع عليك بأيّة عملت (٥).

وفي الكافي : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عثمان بن عيسى والحسن بن محبوب جميعا ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتّى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتّى يلقاه.

وفي رواية اخرى : بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك (٦).

وذكر محمّد بن عليّ بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي في كتاب غوالي اللآلي ـ الّذي ألّفه في سنة سبع وتسعين وثمانمائة ـ روى العلّامة مرفوعا إلى زرارة ابن أعين قال : سألت الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك! يأتي عنكم الخبران أو الحديثان

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٣٥٧.

(٢) في المصدر : الجواب : إنّ فيه حديثين.

(٣) في المصدر : وبأيّها أخذت من جهة التسليم.

(٤) الاحتجاج ٢ : ٤٨٣.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٢٨ ، ح ٩٢.

(٦) الكافي ١ : ٦٦ ، ح ٧.

٣٨٠