الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم حتّى كان أبو جعفر عليه‌السلام ففتح لهم وبيّن لهم مناسك حجّهم وحلالهم وحرامهم ، حتّى صار الناس يحتاجون إليهم من بعد ما كانوا يحتاجون إلى الناس ، وهكذا يكون الأمر. والأرض لا تكون إلّا بإمام ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية. وأحوج ما تكون إلى ما أنت عليه إذا بلغت نفسك هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ وانقطعت عنك الدنيا ، تقول : لقد كنت على أمر حسن (١) *.

______________________________________________________

* قال المصنّف في الحاشية على هذا الحديث أقول : هذا الحديث الشريف موافق لما اخترناه من أنّ أوّل الواجبات الإقرار بالشهادتين ، ولما تواترت به الأخبار : من أنّ معرفة خالق العالم ومعرفة النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام ليستا من أفعالنا الاختياريّة ، ومن أنّه على الله بيان هذه الامور وإيقاعها في القلب بأسبابها وبأنّ على الخلق بعد أن أوقع الله في قلوبهم تلك المعارف الإقرار بها والعزم على العمل بمقتضاها ، ومن أنّ الإيمان عمل كلّه ، ومن أنّ المعرفة متقدّمة عليه ، ومن أنّ تحصيل المعرفة ليس تحت قدرة العبد وتحصيل الإيمان تحت قدرته.

أقول : ليس في هذا الحديث موافقة لما اختصّ باختياره من الامور الخارجة عن الاتّفاق ، بل في كلام السائل والإمام عليه‌السلام ما يرشد إلى أنّ جميع ما ذكر من دعائم الإسلام مسندة إلى فعل العبد ، لأنّ إسناد التقصير في الفعل إليه يدلّ على قدرته عليه وإن ترك فعله باختياره ؛ وكذلك نسبة الشهادة والإيمان والإقرار وحقّ الأموال والولاية إلى فعله. وقد اعترف المصنّف به هنا بأنّ الإيمان عمل كلّه وأنّه تحت قدرة العبد ، بخلاف المعرفة. وقد عرفت أنّ الّذي ورد في المعرفة ورد مثله في الإيمان ، وكلاهما مخالف للاتفاق فإمّا أن يعترف المصنّف بتساوي حكميهما في اعتقاد الظاهر أو بتأويليهما ، وإلّا فلا وجه للفرق بينهما بحال.

وممّا يدلّ على أنّ معرفة النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام ليست حاصلة للمكلّف قبل الدعوة إليها قوله تعالى : ( وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ـ ) إلى قوله ـ ( ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) فكيف يصدر هذا الكلام ممّن سبق في عمله من الله ـ سبحانه ـ معرفته وإدراكه ومعرفة النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام ومع ذلك لا يكون متذكّرا لشي‌ء منه وينكره أشدّ الإنكار ويتعجّب ويتوحّش منه! وإن قلنا : إنّ الله سبحانه حجب معرفة ذلك عنهم ولم يمنحهم بها فلا يحسن في حكمه تعالى

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٩ ، ح ٦.

٤٤١

وفي كتاب الجنائز من الكافي ـ في باب الأطفال ـ عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته هل سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الأطفال؟ فقال : قد سئل فقال : « الله أعلم بما كانوا عاملين » ، ثمّ قال : يا زرارة هل تدري قوله : « الله أعلم بما كانوا عاملين؟ » قلت : لا ، قال لله فيهم المشيئة ، إنّه إذا كان يوم القيامة جمع الله عزوجل الأطفال والّذي مات من الناس في الفترة والشيخ الكبير الّذي أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو لا يعقل والأصمّ والأبكم الّذي لا يعقل والمجنون والأبله الّذي لا يعقل ، فكلّ واحد منهم يحتجّ على الله عزوجل فيبعث الله إليهم ملكا من الملائكة فيؤجّج لهم نارا ثمّ يبعث الله إليهم ملكا فيقول لهم : إنّ ربّكم يأمركم أن تثبتوا فيها ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما وادخل الجنّة ومن تخلّف عنها دخل النار (١).

عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن غير واحد رفعوه أنّه سئل عن الأطفال : فقال : إذا كان يوم القيامة جمعهم الله وأجّج لهم نارا وأمرهم أن يطرحوا أنفسهم فيها ، فمن كان في علم الله تعالى أنّه سعيد رمى بنفسه فيها وكانت عليه بردا وسلاما ، ومن كان في علمه أنّه شقيّ امتنع فيأمر الله بهم إلى النار ، فيقولون : يا ربّنا تأمر بنا إلى النار ولم تجر علينا القلم؟ فيقول الجبّار : قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني

______________________________________________________

مؤاخذة العبد على ترك غير المقدور له.

إذا تقرّر هذا علم أنّ ما يتمسّك به المصنّف في اعتقاداته وتخيّلاته كلّها امور واهية مخالفة لما حصل الاتّفاق عليه خارجة عن طور العقل موجبة لأن ينسب إلى العلماء بل وللأئمّة عليهم‌السلام ما لا يجوز ولا يليق بمذهبهم عليهم‌السلام هذا مع استلزامه اختصاصه بهذا السرّ العظيم الّذي لم يجز في حكمة الله لأحد من العلماء والصلحاء الأوّلين والآخرين معرفته والاطّلاع عليه مع كونه مخالفا لما انعقد عليه الاجماع الصحيح ، لأنّ في هذا الزمان المتطاول ما عرف إنكار أحد فيه غيره لما العلماء والفضلاء والناس عليه ، ولا يجوز على الإمام عليه‌السلام الاختفاء إذا اجتمع أهل مذهبه على الباطل ، ولا إذا أجمعوا على حكم من الأحكام الشرعيّة أن يكون قوله عليه‌السلام خارجا عنهم.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٤٨ ، ح ١.

٤٤٢

فكيف لو أرسلت رسلي بالغيب إليكم.

وفي حديث آخر : أمّا أطفال المؤمنين فيلحقون بآبائهم وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم ، وهو قول الله تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (١) (٢).

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن ابن مسكان ، عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الولدان ، فقال : سئل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الولدان والأطفال ، فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين (٣).

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن اذينة ، عن زرارة قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في الأطفال الّذين ماتوا قبل أن يبلغوا؟ فقال : سئل عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « الله أعلم بما كانوا عاملين » ثمّ أقبل عليّ وقال : يا زرارة هل تدري ما عنى بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال ، قلت : لا ، فقال : إنّما عنى كفّوا عنهم ولا تقولوا فيهم شيئا وردّوا علمهم إلى الله (٤).

عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد ، عن عليّ بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن ابن بكير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (٥) قال ، فقال : قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحقوا الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم (٦).

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه سئل عمّن مات في الفترة وعمّن لم يدرك الحنث والمعتوه ، فقال : يحتجّ الله عليهم ، يرفع لهم نارا ، فيقول لهم : ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن أبى قال : ها أنتم قد أمرتكم فعصيتموني (٧).

وبهذا الإسناد قال : ثلاثة يحتجّ عليهم : الأبكم والطفل ومن مات في الفترة فترفع لهم نار فيقال لهم : ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن أبى قال تبارك وتعالى : هذا قد أمرتكم فعصيتموني (٨).

__________________

(١) الطور : ٢١.

(٢) الكافي ٣ : ٢٤٨ ، ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٢٤٨ ، ح ٣.

(٤) الكافي ٣ : ٢٤٩ ، ح ٤.

(٥) الطور : ٢١.

(٦) الكافي ٣ : ٢٤٩ ، ح ٥.

(٧) الكافي ٣ : ٢٤٩ ، ح ٦.

(٨) الكافي ٣ : ٢٤٩ ، ح ٧.

٤٤٣

واعلم أنّ كثيرا من أحاديث باب الأطفال مذكور في كتاب التوحيد لابن بابويه وفي كتاب من لا يحضره الفقيه له ، فإن شئت فارجع إليهما وفيما نقلناه عن الكافي كفاية إن شاء الله تعالى.

وفي كتاب الإيمان والكفر من كتاب الكافي ـ في الباب الثالث من أبواب طينة المؤمن والكافر ـ زرارة ، عن حمران ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذبا وماء مالحا أجاجا فامتزج الماءان ، فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا ، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذرّ يدبّون : « إلى الجنّة بسلام ، وقال لأصحاب الشمال إلى النار ولا أبالي ، ثمّ قال : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (١) ثمّ أخذ الميثاق على النبيّين فقال : ألست بربّكم وإنّ هذا محمّد رسولي وإنّ هذا عليّ أمير المؤمنين؟ قالوا : بلى ، فثبتت لهم النبوّة ، وأخذ لها الميثاق على اولي العزم أنّي ربّكم ومحمّد رسولي وعليّ أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزّان علمي عليهم‌السلام وأنّ المهديّ أنتصر به لديني واظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي واعبد به طوعا وكرها ، قالوا : أقررنا يا ربّ وشهدنا ولم يجحد آدم ولم يقرّ فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي ، ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به ، وهو قوله عزوجل : ( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) قال : إنّما هو فترك ، ثمّ أمر نارا فاجّجت ، فقال لأصحاب الشمال : ادخلوها فهابوها ، وقال لأصحاب اليمين : ادخلوها فدخلوها فكانت عليهم بردا وسلاما ، فقال أصحاب الشمال : يا ربّ أقلنا ، فقال : قد أقلتكم اذهبوا فادخلوها فهابوها ، فثمّ ثبتت الطاعة والولاية والمعصية (٣).

وأقول : أحاديث هذه الأبواب لكثرتها بلغت حدّ التواتر المعنوي.

وفي باب آخر بعده : صالح بن سهل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّ بعض قريش قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بأيّ شي‌ء سبقت الأنبياء وأنت بعثت بعدهم آخرهم وخاتمهم؟ فقال : إنّي كنت أوّل من آمن بربّي وأوّل من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيّين

__________________

(١) الأعراف : ١٧٢.

(٢) طه : ١١٥.

(٣) الكافي ٢ : ٨ ، ح ١.

٤٤٤

وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، فكنت أنا أوّل نبيّ قال : بلى ، بل فسبقتهم بالإقرار بالله عزوجل (١).

وأقول : هنا فوائد لا بد من التنبيه عليها :

الاولى : أنّه يستفاد من هذه الأحاديث أغلاط المعتزلة والأشاعرة ومن وافق المعتزلة (٢) من متأخّري أصحابنا في مسألة أوّل الواجبات.

الثانية : أنّه يستفاد منها أنّ قول المعتزلة ومن وافقهم من أصحابنا في تحقيق كيفيّة بدء تعلّق التكليف بعيد عن الحقّ نهاية البعد.

الثالثة : أنّه يستفاد منها أنّ ما زعمه الأشاعرة : من أنّ مجرد تصوّر الخطاب من غير سبق معرفة إلهامية بخالق العالم وبأنّ له رضى وسخطا وبأنّه لا بدّ من معلّم من جهته تعالى ليعلّم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم كاف في تعلّق التكليف بهم ، ليس بصحيح *.

الرابعة : أنّه يستفاد منها أنّ العباد لم يكلّفوا بتحصيل معرفة أصلا وأنّه على الله التعريف والبيان أوّلا بإلهام محض ، وثانيا بإرسال الرسول وإنزال الكتاب وإظهار المعجزة على يده صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهم قبول ما عرّفهم الله.

الخامسة : أنّ الحديث الشريف الّذي نقلناه عن باب القرآن من كتاب التوحيد

______________________________________________________

* قد بيّنّا فساد ما توهّمه المصنّف في باب المعارف الخمس وأنّها أوّل الواجبات الّتي لا يجوز التقليد فيها. وفوائده هنا مبنيّة على اعتقاده ، وكلام الأشاعرة وغيرهم يرجع إلى أنّ كلّ مكلّف عاقل يشعر بأنّه لم يخلق عبثا وأنّه لا بدّ لخلقه من غاية ، فيتفطّن بذلك إلى مراجعة العقل في التفكّر والتذكّر لما يوجب له معرفة غاية ما خلق له. ومن هنا يعرف وجوب تحصيل المعرفة عليه ، فينظر ويتعقّل ما يمكنه به الوصول إليها بقدر حاله وقدرته ، ولا شكّ أن ما يوصله إلى المعرفة من قوى الاستعداد لإدراكها وتحصيلها والاهتداء إليها هو من خلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأنّه علّة العلل والمتفضّل بحلائل النعم. وليس ذلك مانعا من كون العبد مختارا فيها ، كما أنّه مختار في كلّ أفعاله غيرها.

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٠ ، ح ١.

(٢) خ : أحدهما.

٤٤٥

لابن بابويه (١) يشتمل على فوائد لا تعد ولا تحصى :

من جملتها انّ فيه تصريحا بأنّ الإذعان القلبي المتعلّق بالقواعد الإيمانية من الله تعالى وليس من أفعالنا الاختيارية * ، وفيه وجهان :

أحدهما : كونه ميلا قلبيا طبيعيا يترتّب على المقدّمات الفائضة على القلب من الله تعالى.

وثانيهما : كونه مخلوقا لله تعالى ، وهو الحقّ ، وهو صريح الأحاديث ، وذهب إليه المتأخّرون من المنطقيّين ، كما نقله عنهم العلّامة الرازي في شرح الشمسيّة (٢) إلّا أنّه من الأفعال القلبية وذكر السيّد الشريف في حاشية شرح الشمسيّة وغيرها : قد توهّموا أنّ الحكم فعل من أفعال النفس الصادرة عنها ، بناء على أنّ الألفاظ الّتي يعبّر بها عن الحكم تدلّ على ذلك كالإسناد والإيقاع والانتزاع والإيجاب والسلب وغيرها. والحقّ أنّه إدراك ، لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا علمنا أنّا بعد إدراك النسبة الحكمية الاتّصالية والانفصالية لم يحصل لنا سوى ادراك أنّ تلك النسبة واقعة أي مطابقة لما في نفس الأمر ، أو إدراك أنّها ليست بواقعة أي غير مطابقة لما في نفس الأمر انتهى كلامه.

وهنا إشكال لا يزال كان يخطر ببالي في أوائل سنّي ، وهو أنّه كيف نقول بأنّ

______________________________________________________

* قد تقدّم في الأحاديث السالفة : أنّ على العبد قبول ما خلق الله له وعرّفه به من المعرفة به والنبوّة والإمامة ، وذلك يقتضي أن يكون القبول من فعل العبد. وليس المفهوم من القبول إلّا الإذعان القلبيّ ، والمصنّف يوجّه أنّه من فعل الله ، فالكافر حينئذ لم يبق عليه حجّته ، لأنّ توجّه المؤاخذة عليه على اعتقاد المصنّف بأنّ المعرفة والنبوّة والإمامة ليست في قدرته كانت على عدم تلقّي ما خلق الله له وعرّفه به بالقبول والإذعان ، فإذا كان القبول والإذعان أيضا ليس من فعل العبد فقد انتفت عنه المؤاخذة من كلّ وجه ولا يحسن عقابه على كفره ، ولست أدري أمرا يخيّل في العقل حسنه أوجب للمصنّف الدخول والتوغّل في هذه الخيالات والإصرار عليها والتعب المفرط في ترويحها وتحسينها وكلّما زاد خطؤها [ زاد ] وضوحا وبيانا.

__________________

(١) تقدّم نقله في ص ٤١٨ ـ ٤٢١.

(٢) لا يوجد لدينا.

٤٤٦

التصديقات فائضة من الله تعالى على النفوس الناطقة ومنها كاذبة ومنها كفرية ، وهذا إنّما يتّجه على رأي جمهور الأشاعرة القائلين بجواز العكس ـ بأن يجعل الله كلّ ما حرّمه واجبا وبالعكس ـ المنكرين للحسن والقبح الذاتيّين ، لا على رأي محقّقيهم ولا على رأي المعتزلة ولا على رأي أصحابنا.

اللهمّ إلّا أن يقال : تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأنّ الله يحول بين المرء وبين أن يجزم جزما باطلا (١) فبقي الإشكال في الظنّ الباطل. ويمكن أن يقال : إنّه من الميول القلبية. والإنصاف أنّ الفرق بين الجزم والظنّ بأنّ الجزم من الكيفيات النفسانية الفائضة على النفوس من المبدأ والظنّ من الميول الطبيعية القلبية ، بعيد عن الصواب. [ فتبيّن أنّ كلاهما من الميول القلبية الطبيعية ] (٢).

وأقول : لقائل أن يقول : الأحاديث السابقة صريحة في أنّ التصديقات القلبية الإيمانية الّتي يرتفع بها الشكّ مخلوقة لله تعالى وللعباد اكتساب الأعمال. وفي الأحاديث تصريحات بأنّ من جملة نعماء الله تعالى على بعض عباده أنّه يسلّط عليه ملكا ليسدّده ويلهمه الحقّ ، ومن جملة غضب الله تعالى على بعض عباده أنّه يخلّي بينه وبين الشيطان ليضلّه عن الحقّ ويلهمه الباطل (٣). وأيضا من المعلوم : أنّ خلق الإذعان الغير المطابق للواقع قبيح لا يليق به تعالى.

فالجواب الحقّ عن الإشكال أن يقال : التصديقات الصادقة فائضة على القلوب من الله تعالى بلا واسطة أو بواسطة ملك وهي تكون جزما وظنّا ، والتصديقات الكاذبة تقع في القلوب بإلهام الشيطان ، وهي لا تتعدّى الظنّ فلا تصل إلى حدّ الجزم [ ولك أن تقول في جواب القائل : إنّ وسوسة الشيطان سبب لفيضان المفهومات والظنون على القلوب من الله تعالى ككلام المضلّ من بني آدم ، وليست للشيطان قدرة على خلق المفهومات في نفوسنا ولا خلق الظنّ ولا للملك. وفي خلق الظنون الصحيحة والفاسدة بحسب أسبابها منافع كثيرة وبه ينتظم المعاش والمعاد ، فلا نسلّم أنّ خلقها قبيح ، وإنّما كان قبيحا إذا اكتفى به ولم يخلق في القلوب يقينا معارضا له

__________________

(١) راجع مجمع البيان سورة الأنفال ٢٤.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.

(٣) الكافي ١ : ١٦٦ ، ح ٢.

٤٤٧

في باب ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكتف ، وإذا لم يقع نهي عن اتّباعه في العقائد والأحكام الشرعية وقد وقع ] (١).

السادسة : أنّه تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأنّ « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم » (٢) كما تواترت بأنّ المعرفة موهبية غير كسبية وإنّما عليهم اكتساب الأعمال (٣) فكيف يكون الجمع بينهما؟

أقول : الّذي استفدته من كلامهم عليهم‌السلام في الجمع بينهما : أنّ المراد بالمعرفة ما يتوقّف عليه حجّية الأدلّة السمعية من معرفة صانع العالم (٤) وتوحيده وأنّ له رضى وسخطا ، وينبغي أن ينصب معلّما ليعلّم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم ومن معرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والمراد من العلم الأدلّة السمعية كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « العلم إمّا آية محكمة أو سنّة متّبعة أو فريضة عادلة » (٥) وفي قول الصادق عليه‌السلام ـ المتقدّم ـ : « إنّ من قولنا إنّ الله احتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ثمّ أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب وأمر فيه ونهى » (٦) ونظائره إشارة إلى ذلك. ألا ترى أنّه عليه‌السلام قدّم أشياء على الأمر والنهي فتلك الأشياء كلّها معارف وما يستفاد من الأمر والنهي ، كلّه هو العلم *.

السابعة : أنّ العامّة قد روت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قريبا ممّا تقدّم ، فالأشاعرة منهم ذهبوا إلى أنّ الله تعالى يخلق التوحيد والكفر والطاعة والمعصية في عباده. ويمكن أن يتوهّم متوهّم أنّ ظاهر بعض الآيات وبعض الروايات معهم. وليس الأمر كذلك ، بل معناهما أنّ الله تعالى كلّف الأرواح كلّهم صغيرهم وكبيرهم وكافرهم ومؤمنهم قبل

______________________________________________________

* العلم ليس منحصرا في معرفة الله ، بل يعمّ جميع ما يمكن طلبه وعلمه ، غاية الأمر خصّص بما يدعو التكليف إليه ، فما كان منه حاصلا بدون الطلب كالمعرفة إذا حصلت من عند الله ـ على معتقد المصنّف ـ فهي خارجة عن الطلب المأمور به ، لأنّ الطلب لا يكون إلّا للمجهول ، وعلى هذا فأيّ احتياج للجمع الّذي تكلّفه المصنّف وغاير بين علم المعرفة وعلم غيرها بتوجيهات لا مناسبة لها ولا تقتضي مغايرة.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.

(٢) الكافي ١ : ٣٠.

(٣) راجع ص ٤٢٣ ـ ٤٣٦.

(٤) خ : معرفة الله.

(٥) تحف العقول : ٣٢٦.

(٦) الكافي ١ : ١٦٤ ، ح ٤.

٤٤٨

تعلّقهم بالأبدان مرّة بثلاثة أشياء : الإقرار بالربوبية والنبوّة والولاية ، فأقرّ بعضهم بكلّها دون بعض ، ثمّ كلّف جمعا منهم بعد تعلّقهم بالأبدان مرّة ثانية ، فكلّ يعمل في عالم الأبدان على وفق ما عمل في عالم الأرواح.

وأمّا إنّه تعالى هو المضلّ ، فقد تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأنّ الله تعالى يخرج العبد من الشقاوة إلى السعادة ولا يخرجه من السعادة إلى الشقاوة ، فلا بدّ من الجمع بينهما. ووجه الجمع ـ كما يستفاد من الأحاديث وإليه ذهب ابن بابويه (١) ـ أنّ من جملة غضب الله تعالى على بعض العباد أنّه إذا وقع منهم عصيان ينكت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب وأناب يزيل الله تعالى تلك النكتة ، وإلّا فتنتشر تلك النكتة حتّى تستوعب قلبه كلّه ، فحينئذ لا يلتفت قلبه إلى موعظة ودليل.

لا يقال : من المعلوم : أنّه مكلّف بعد ذلك ، وإذا امتنع تأثّر قلبه يكون تكليفه بالطاعة من قبيل التكليف بما لا يطاق.

لأنا نقول : إنّ انتشار النكتة لا ينتهي إلى حدّ تعذّر التأثّر.

وممّا يؤيّد هذا المقام ما اشتمل عليه كثير من الأدعية المأثورة من أهل البيت عليهم‌السلام من الاستعاذة بالله من ذنب لا يوفّق صاحبه للتوبة بعده أبدا (٢).

ثمّ أقول : هنا دقيقة اخرى هي أنّه [ تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بانقسام غير السعيد إلى قسمين : المغضوب عليه والضالّين (٣) وبانقسام الامّة إلى ثلاثة : المؤمن والناصبي والضالّ (٤) وفي كلامهم عليهم‌السلام تصريح بأنّ المحسن من الضالّ يدخله الجنّة بفضل رحمته (٥) ، فمعنى كونه مضلّا : أنّه يخلّي بعض على ما هو عليه كما في أهل الفترة. ويمكن أن يقال ] (٦) : يستفاد من قوله تعالى : ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (٧) أي نجد الخير ونجد الشرّ ، ومن نظائره من الآيات والروايات [ ومن قوله تعالى : ( أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) (٨) ومن نظائره من الآيات والروايات : أنّ تصوير النجدين

__________________

(١) راجع التوحيد : ٣٥٨ ، ح ٦.

(٢) الدعوات : ٦١ ح ١٥٠.

(٣) لم نظفر بخبر صريح في التقسيم المذكور.

(٤) لم نظفر فيه أيضا بخبر صريح. وقد ادّعى تواتر الأخبار بذلك السيّد الجزائري أيضا في نور البراهين ١ : ٥٨.

(٥) الكافي ٢ : ١٩ باب دعائم الاسلام ، ح ٥.

(٦) ما بين المعقوفتين لم يرد في ط.

(٧) البلد : ١٠.

(٨) الأنفال : ٢٤.

٤٤٩

وتمييز نجد الخير من نجد الشرّ من جانبه تعالى ، والله عزوجل قد يحول بين المرء وبين أن يميل إلى الباطل ، وقد لا يحول ويخلّي بينه وبين الشيطان ليضلّه عن الحقّ ويلهمه الباطل ، وذلك نوع من غضبه تعالى يتفرّع على اختيار العبد العمى بعد أن عرّفه الله تعالى نجد الخير والشرّ ، فهذا معنى كونه تعالى هاديا ومضلّا *.

وبالجملة ، إنّ الله تعالى يقعد أوّلا في أحد اذني قلب الإنسان ملكا وفي أحد اذنيه شيطانا ، ثمّ يلقي في قلبه اليقين بالمعارف الضرورية ، فإن عزم الإنسان على إظهار تلك المعارف والعمل بمقتضاها يزيد الله في توفيقه ، وإن عزم على إخفائها

______________________________________________________

* إنّ الظاهر من خبر عالم الذرّ مشكل إن صحّ ، لأنّه يقتضي أنّ الطاعة والعصيان بعد خلق عالم الأبدان ليسا من قدرة المكلّفين ، بل من سبقت منه الطاعة فهو مطيع ولا يجوز عليه العصيان ومن سبقت منه المعصية كذلك ، فلم يبق للعبد اختيار في فعل ما يوجب الطاعة ، وكذلك صاحب الطاعة انتفت عنه القدرة على المعصية. وممّا يشبه ذلك الآثار الدالّة على الأرزاق والآجال وأنّها مقسومة ومحتومة ، مع ورود ما يخالف ذلك من العبادات والصدقات وصلة الأرحام الّتي توجب الزيادة فيهما ، وكذلك الدعوات الّتي يطلب بها الهداية والتعوّذ من إزاغة القلوب ، كما هو نصّ القرآن (١) فقول المصنّف : « فكلّ يعمل في عالم الأبدان على وفق ما عمل في عالم الأرواح » ظاهر الخطأ.

وأمّا ما نقله عن ابن بابويه ومضمون الحديث إن صحّ فالمراد منه : أنّ الذنب يوجب لصاحبه أثرا في القلب ينشأ عن الغفلة عن الطاعة ويدعو إليه اتّباع الهوى ووسوسة الشيطان ، فإن تذكّر وتنبّه من غفلته رجع وتاب كما قال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ) وإن استوعبت الغفلة وتغلّب الشيطان والهوى زادت الضلالة ولم تنفعه الموعظة. وأمّا قوله تعالى ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) فهو صريح واضح إنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل قدرة عبده على السواء في الطاعة والمعصية ، ولم يكن من فعله ـ سبحانه وتعالى ـ ما يجبر العبد به من طاعة ولا معصية ، بل ربما يقتضي حكمته اللطف بعبده فيقرّب له أسباب الطاعة بحيث لا يخرج فعله بسبب ذلك عن الاختيار ، ولا يوجب عدم حصول اللطف لغيره امتناع الفعل منه بالاختيار. وغير ذلك لا يجوز اعتقاده ، وما عداه ظاهر بطلانه وفساده.

__________________

(١) مثل قوله تعالى : ( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ ) آل عمران : ٨.

٤٥٠

وإظهار خلافها يرفع الله الملك عن قلبه ويخلّي بينه وبين الشيطان ليلقي في قلبه الأباطيل الظنّية ، وهذا معنى كونه تعالى مضلّا لبعض عباده ] (١).

الثامنة : أنّه وقعت مشاجرة عظيمة من غير فيصل بين المتأخّرين من أصحابنا في تحقيق معنى الناصبيّ ، فزعم بعضهم أنّ المراد به : من نصب العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام. وذهب بعضهم إلى أنّ المراد به من نصب العداوة لمذهب الإماميّة (٢). وفي الأحاديث تصريحات بالثاني. ومن قال بالأوّل كان قليل البضاعة في أحاديثنا الواردة في الأصوليين.

ومن الأحاديث الصريحة فيما اخترناه ما نقله الشيخ الصدوق في كتاب العلل حيث قال : حدّثنا محمّد بن الحسن قال : حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار ، عن محمّد بن أحمد ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عن عبد الله بن حمّاد ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت ، لأنّك لا تجد رجلا يقول : أنا ابغض محمّدا وآل محمّد ، ولكنّ الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنّكم تتولّونا وأنّكم من شيعتنا (٣) *.

وما نقله محمّد بن إدريس الحلّي في آخر السرائر عن كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى عليه‌السلام في جملة

______________________________________________________

* مقتضى هذا الحديث : أنّ المراد من النصب إظهار البغض والعداوة لمحبّي أهل البيت ومواليهم وشيعتهم وأنّه ليس السبب لبغضهم وعداوتهم إلّا ذلك ، وهو يستلزم أن لا يكون الموجب له إلّا بغض أهل البيت وكراهتهم ، لأنّ من أحبّ إنسانا بالطبع أحبّ محبّه ، ومن أبغضه أبغض محبّه ، ولكن منعهم عن إظهار البغض بالصريح لأهل البيت خوف لوازمه الموجب للعقاب ، فأبطنوه وأظهروا أثره في محبّيهم وشيعتهم. وهذا المعنى كالصريح المفهوم من قوله عليه‌السلام : « لأنّك لا تجد أحدا يقول : أنا ابغض محمّدا وآل محمّد » لأنّه يدلّ على أنّه ليس لهم مانع من ذلك إلّا الخوف ، ولو لم يكن لأظهروه وأعلنوا به. فعلم أنّ أصل العداوة إنّما هي لأهل البيت وأمّا لمحبّيهم وشيعتهم فبالعارض ، فيرجع الصواب إلى رجحان القول الأوّل وقلّة البضاعة إلى نافيه.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين لم يرد في خ.

(٢) خ : من نصب عداوة لما ذهبت إليه أصحابنا.

(٣) العلل : ٦٠١ ، ح ٦٠.

٤٥١

مسائل محمّد بن عليّ بن عيسى ، قال : كتبت إليه أسأله عن الناصب ، هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب : من كان على هذا فهو ناصب (١).

والأحاديث الصريحة في حصر المسلم في المؤمن والناصبيّ والضالّ (٢) وفي تفسير الضالّ بمن لم يعرف مذهب الإماميّة ولم ينصب العداوة له (٣).

ويمكن جعل المناقشة بين الفريقين لفظية بأن يقال : المراد من نصب العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام ما يعمّ نصب العداوة لهم بأعيانهم ونصب العداوة لهم تحت قاعدة كلّية ، مثل أن يقال نبغض كلّ من يبغض الشيخين.

التاسعة : أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام بأنّه لا بدّ في كلّ زمان من معصوم منصوب من قبله تعالى ، ليكون حجّة على الناس أجمعين من لدن آدم عليه‌السلام إلى انقراض الدنيا (٤) فعلى هذا يكون معنى الفترة عندنا : استتار الإمام خوفا من أشرار الناس استتارا ينتهي إلى عدم بلوغ الدعوة إلى جمع من الناس ، وإلى عدم تمكّن جمع آخر من أخذ كلّ الأحكام منه عليه‌السلام.

العاشرة : أنّه يستفاد من هذه الروايات أنّ أهل الفترة ـ أي القسم المتعارف منه وهو الّذي من لم تبلغه الدعوة ومن يحذوا حذوهم ـ لم يتعلّق به تكليف أصلا ، أمّا بالمعارف فلأنّها من الله تعالى مطلقا ، وأمّا بغيرها فلأنّه يستفاد ممّا جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما مرّ تحقيقه. وقد وقع من جميع الفرق غير الأخباريّين من أصحابنا إفراط وتفريط في مسألة أهل الفترة ، والسبب فيه أنّهم لم يأخذوها من صاحب الوحي واتّكلوا على مجرّد عقولهم فيها.

واعلم أنّ الاصوليّين وضعوا بابا لتحقيق أنّ الأفعال الاختيارية الغير الضرورية مع قطع النظر عن خطاب الشارع كيف يكون حكمها؟ ليفرّعوا عليه حكم واقعة لم يبلغ العبد فيها خطاب من جهة الشارع سواء كان من أهل الفترة أو لم يكن.

فقال صاحب جمع الجوامع من الشافعية : حكّمت المعتزلة العقل ، فإن لم يقض

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٨٣.

(٢) راجع ص ٥٤٧ ، الهامش ٣.

(٣) نور البراهين ١ : ٥٨.

(٤) الكافي ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

٤٥٢

فثالثها لهم الوقف عن الحظر والإباحة (١).

وقال الزركشي في شرحه : هذا من المصنّف تحرير (٢) لنقل مذهب الاعتزال ، فإنّ الإمام الرازي عمّم الخلاف بينهم في جميع الأفعال. وليس كذلك ، بل الأفعال الاختيارية عندهم تنقسم إلى ما يقتضي العقل فيها بحسن أو قبح ، وتنقسم إلى الأحكام الخمسة بحسب ترجيح الحسن أو القبح وتعادلهما ، ولا خلاف عندهم في هذا ، وإليه أشار بقوله : « وحكّمت المعتزلة العقل » أي فيما يقضي فيه العقل ودلّ عليه قوله بعد : « فإن لم يقض » وإنّما الخلاف فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح كفضول الحاجات والنعمات هل هو واجب أو مباح أو على الوقف؟ ثلاثة مذاهب.

والقائلون بالحظر ـ كما قاله التلمساني ـ لا يريدون أنّه باعتبار صفة في المحلّ ، بل حظر احتياطي كما يجب اجتناب المنكوحة إذا اختلطت بأجنبية. والقائلون بالوقف أرادوا وقف خيرة. وطريق البحث معهم في هذه المسألة والّتي قبلها أنّ كلّ احتمال عيّنوه وبنوا عليه حكما قابلناهم بنقيضه ، فتعارض شبه القائل بالإباحة شبه القائلين بالحظر وشبه الواقفين من شبههما.

تنبيهات (٣) :

الأوّل : تحرير النقل عنهم هكذا تابع فيه الآمدي ، قال القرافي وإطلاق الإمام الخلاف عنهم ينافي قواعدهم ، فإنّ القول بالحظر مطلقا يقتضي تحريم إنقاذ الغريق ونحوه ، والقول بالإباحة مطلقا يقتضي إباحة القتل والفساد. وأمّا ما لا يطّلع العقل على مصلحته أو مفسدته ، فيمكن أن يجي‌ء فيه الخلاف.

الثاني : قوله : « وحكّمت المعتزلة العقل » (٤) يقتضي أنّ مذهبهم أنّ العقل منشأ للحكم مطلقا. وليس كذلك ، بل التحقيق والنقل عنهم أنّهم قالوا : الشرع مؤكّد لحكم العقل فيما أدركه من حسن الأشياء وقبحها كحسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضارّ والكفران ، وليس مرادهم أنّ العقل يوجب أو يحرّم ، وقد لا يستقلّ

__________________

(١) جمع الجوامع ١ : ٦٤ ـ ٦٧.

(٢) ط : تجويز.

(٣) استطراد كلام الزركشي في الشرح.

(٤) يعني قول صاحب جمع الجوامع.

٤٥٣

بذلك بل يحكم به بواسطة ورود الشرع بالحسن والقبح ، كحكمه بحسن الصلاة في وقت الظهر وقبحها في وقت الاستواء.

الثالث : يتبادر إلى الذهن استشكال قول المصنّف لهم ، فإنّ الخلاف محكيّ أيضا عن جماعة من أصحابنا كابن أبي هريرة وغيره. والّذي فعله المصنّف هو الصواب ، لأنّ الخلاف المحكيّ عن أصحابنا في ذلك إنّما هو بمقتضى الدليل الشرعي الدالّ على ذلك بعد مجي‌ء الشرع لا بمجرّد العقل ، وليس خلافهم في أصل التحسين والتقبيح بالعقل ، وصار الفرق بينهم وبين أصحابنا في هذا الخلاف من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّهم خصّوا هذه الأقوال بما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح. وأمّا ما يقضي ينقسم إلى الأحكام الخمسة ، ولهذا نسبهم أصحابنا إلى التناقض في قول من رجّح الاباحة أو الحظر ، لأنّ ذلك عندهم يستند إلى دليل العقل وفرض المسألة فيما لم يظهر للعقل حسنه ولا قبحه ، وأمّا أصحابنا فأقوالهم في جميع الأفعال. هذا على طريقة الآمدي ومن تابعه.

والثاني : انّ معتمدهم دليل العقل ، ومعتمد أصحابنا الدليل الشرعي ، أمّا على التحريم كقوله تعالى : ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ) (١) ومفهومه أنّ المتقدّم قبل الحلّ هو التحريم ، فدلّ على أنّ حكم الأشياء كلّها على الحظر. وأمّا على الإباحة كقوله تعالى : ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (٢) وقوله : ( أَعْطى كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) (٣) وذلك يدلّ على الإذن في الجميع. وأمّا الوقف فلتعارض الأدلّة بهذه المدارك الشرعيّة الدالّة على الحال قبل ورود الشرائع فلو نرد هذه النصوص لقال الأصحاب : لا علم لنا بتحريم ولا إباحة ، ولقالت المعتزلة : المدرك عندنا العقل فلا يضرّ عدم ورود الشرائع.

والثالث : أنّ الواقفين أرادوا وقف حيرة كما قال التلمساني. وأمّا أصحابنا فأرادوا به انتفاء الحكم على ما سبق انتهى كلام بدر الدين الزركشي في شرح جمع الجوامع (٤).

وفي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي : قد قسّم المعتزلة الأفعال الاختيارية

__________________

(١) المائدة : ٤.

(٢) البقرة : ٢٩.

(٣) طه : ٥٠.

(٤) شرح جمع الجوامع : لا يوجد عندنا.

٤٥٤

إلى ما لا يقضي العقل فيها بحسن ولا بقبح ، ولهم فيها ثلاثة مذاهب : الحظر والإباحة والوقف عنهما ، وإلى غيرها ، وهو ينقسم عندهم إلى الأقسام الخمسة المشهورة من واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح ، لأنّه لو اشتمل أحد طرفيه على مفسدة فإمّا فعله حرام وإمّا تركه فواجب ، وإن لم يشتمل عليه فإن اشتمل على مصلحة فإمّا فعله فمندوب أو تركه فمكروه ، وإن لم يشتمل عليها أيضا فمباح.

أمّا الحاظر فنقول له : لو كانت محظورة وفرضنا ضدّين لا ثالث لهما كالحركة والسكون لزم التكليف بالمحال.

قال الاستاذ من ملك بحرا لا ينزف واتّصف بغاية الجود وأخذ مملوكه قطرة من ذلك البحر فكيف يدرك العقل تحريمها؟ والتقريب واضح ، قالوا : تصرّف في ملك الغير بغير إذنه فيحرم.

الجواب : أنّ حرمة التصرف في ملك الغير عقلا ممنوع ، فإنّها تبتني على السمع ، ولو لا ورود السمع بها لما علم. ولو سلّم كونها عقلية فذلك فيمن يلحقه ضرر بالتصرّف في ملكه ، ولذلك لا يقبح النظر في مرآة الغير والاستظلال بجداره والاصطلاء بناره والمالك فيما نحن فيه منزّه عن الضرر. فمعارض ولو سلّم بما في المنع من الضرر الناجز ودفعه عن النفس واجب عقلا ، وليس تحمّله لدفع ضرر الخوف أولى من العكس.

وأمّا المبيح فنقول له : إن أردت أن لا حكم بحرج في الفعل والترك فمسلّم ، وإن أردت خطاب الشارع بذلك فلا شرع. وإن أردت حكم العقل بذلك فالمفروض أنّه لا حكم للعقل فيه بحسن أو قبح في حكم الشارع بذلك فإنّ ذلك معنى عدم حكم العقل بحسنه أو قبحه وقد فرضه كذلك ، فيلزمك التناقض ؛ ومثله آت في المحرّم. قالوا : خلق العبد وما ينتفع به ، فالحكمة تقتضي إباحته له تحصيلا لمقصود خلقهما وإلّا كان عبثا خاليا عن الحكمة وأنّه نقص.

الجواب : المعارضة بأنّه ملك الغير فيحرم التصرّف ، والحلّ بأنّه ربّما خلقهما ليشتهيه فيصبر عنه فيثاب عليه ، فلا يلزم من عدم الإباحة عبث.

٤٥٥

وأمّا الواقف فنقول له : إن أردت أنّك توقّفت عن الحكم لتوقّفه عن السمع فمسلّم ، وإن أردت به أنّك توقّفت لتعارض الأدلّة ففاسد ، لأنّا بيّنّا بطلانها فلا تعارض.

وقد يقال من قبل الحاظر : لا نسلّم أنّ الضدّين بلا واسطة ممّا لا حكم للعقل فيه لأنّه يحكم بإباحة أحدهما قطعا. ومن قبل المبيح : الفرض أن لا حكم فيه بخصوصه ، إذ لا يدرك صفة محسّنة أو مقبّحة ، ولا ينافي ذلك الحكم العامّ بالإباحة. ومن قبل الواقف : اريد أنّ ثمّة حكما بأحدهما في نفسه فالبعض مباح والبعض محظور ولا أدري أيّهما هو في الفعل المعيّن ، وهو غير ما رددت فيه من الأمرين (١) انتهى كلامه.

وأقول : أحكام الله تعالى الخمسة والوضعية والكلام النفسي عند الأشاعرة قديمان ، ولتلك الأحكام تعلّقان عندهم : تعلّق عقلي قديم ، وتعلّق تنجيزي حادث يحدث عند اجتماع شرائط التكليف في العبد ، وقبل ورود الشرائع لم يعلم عندهم هل لله عزوجل حكم أم لا؟ وعلى تقدير أن يكون لله تعالى حكم هل الكلّ الإباحة أو الكلّ الحرمة أو ملفّق منهما؟ وهم اتّفقوا على أنّ العبد بري‌ء الذمّة عن الأحكام كلّها قبل بلوغ الخطاب إليه ، ولو علم إجمالا بقول نبيّ أنّ هناك أحكاما.

وذكر رئيس الطائفة قدس‌سره في كتاب العدّة :

فصل : في ذكر حقيقة الحظر والإباحة ، والمراد بذلك. اعلم أنّ معنى قولنا في الشي‌ء : « إنّه محظور » أنّه قبيح لا يجوز له فعله ، إلّا أنّه لا يسمّى بذلك إلّا بعد أن يكون فاعله اعلم حظره أو دلّ عليه ، ولأجل هذا لا يقال في أفعال الله تعالى : إنّها محظورة لما لم يكن اعلم قبحها ولا دلّ عليه ، وإن كان في أفعاله ما لو فعله كان قبيحا ، فكذلك لا يقال في أفعال البهائم والمجانين أنّها محظورة لما لم يكن هذه الأشياء اعلم قبحها ولا دلّ عليه. ومعنى قولنا : « إنّه مباح » أنّه حسن وليس له صفة زائدة على حسنه ، ولا يوصف بذلك إلّا بالشرطين الّذين ذكرناهما : من إعلام فاعله ذلك أو دلالته عليه. وكذلك لا يقال : إنّ فعل الله تعالى العقاب بأهل النار مباح لما لم

__________________

(١) شرح القاضي : ٧٩.

٤٥٦

يكن أعلمه ولا دلّ عليه وإن لم يكن لفعله العقاب صفة زائدة على حسنه ، وهي كونه مستحقّا ، وكذلك لا يقال في أفعال البهائم : إنّها مباحة لعدم هذين الشرطين ، ولأجل ذلك نقول : إنّ المباح يقتضي مبيحا والمحظور يقتضي حاظرا. وقد قيل في حدّ المباح : هو إنّ لفاعله أن ينتفع به ولا يخاف ضررا في ذلك لا عاجلا ولا آجلا ، وفي حدّ الحظر : إنّه ليس له الانتفاع به وإنّ عليه في ذلك ضررا إمّا عاجلا أو آجلا ، وهذا يرجع إلى المعنى الّذي قلناه.

فصل (١) في ذكر بيان الأشياء الّتي يقال إنّها على الحظر أو الاباحة والفصل بينهما وبين غيرها والدليل على الصحيح من ذلك.

أفعال المكلّف لا تخلو من أن يكون حسنة أو قبيحة ، والحسنة لا تخلو من أن يكون واجبة أو ندبا أو مباحا ، وكلّ فعل يعلم جهة قبحه بالعقل على التفصيل ، فلا خلاف بين أهل العلم المحصّلين في أنّه على الحظر ، وذلك نحو الظلم والكذب والعبث والجهل وما شاكل ذلك. وما يعلم جهة وجوبه على التفصيل ، فلا خلاف أيضا أنّه على الوجوب ، وذلك نحو وجوب ردّ الوديعة وشكر المنعم والإنصاف وما شاكل ذلك. وما يعلم جهة كونه ندبا ، فلا خلاف أيضا أنّه على الندب وذلك نحو الإحسان والتفضّل. وإنّما كان الأمر في هذه الأشياء على ما ذكرناه ، لأنّها لا يصحّ أن تتغيّر من حسن إلى قبح ومن قبح إلى حسن.

واختلفوا في الأشياء الّتي يصحّ الانتفاع بها هل هي على الحظر أو على الإباحة أو على الوقف؟ فذهب كثير من البغداديّين وطائفة من أصحابنا الإماميّة إلى أنّها على الحظر ، ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء. وذهب أكثر المتكلّمين من البصريّين ـ وهو المحكيّ عن أبي الحسن وكثير من الفقهاء ـ إلى أنّها على الإباحة وهو الّذي يختاره سيّدنا المرتضى. وذهب كثير من الناس إلى أنّها على الوقف ، ويجوز كلّ واحد من الأمرين فيه وينتظر ورود السمع بواحد منهما. وهذا هو المذهب ، كان ينصره شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله وهو الّذي يقوى في نفسي. والّذي يدلّ

__________________

(١) استطراد قول الشيخ الطوسي.

٤٥٧

على ذلك أنّه قد ثبت في العقول أنّ الإقدام على ما لا يأمن المكلّف كونه قبيحا مثل إقدامه على ما يعلم قبحه. ألا ترى أنّ من أقدم على الإخبار بما لا يعلم صحّة مخبره جرى في القبح مجرى من أخبر مع علمه بأنّ مخبره على خلاف ما اخبر به على حدّ واحد ، وإذا ثبت ذلك وفقدنا الأدلّة على حسن هذه الأشياء قطعا ينبغي أن نجوّز كونها قبيحة وإذا جوّزنا ذلك فيها قبح الإقدام عليها.

فإن قيل : نحن نأمن قبحها ، لأنّها لو كانت قبيحة لم تكن إلّا لكونها مفسدة ، لأنّه ليس لها جهة قبح يلزمها ، مثل الجهل والظلم والكذب والعبث وغير ذلك ، ولو كانت قبيحة للمفسدة لوجب على القديم أن يعلمنا ذلك وإلّا قبح التكليف ، فلمّا لم يعلمنا ذلك علمنا حسنها عند ذلك وذلك يفيدنا الإباحة.

قيل : لا يمتنع أن تتعلّق والمفسدة بإعلامنا جهة الفعل على التفصيل ، فيقبح الإعلام ويكون المصلحة لنا في التوقّف في ذلك والشكّ وتجويز كلّ واحد من الأمرين ، وإذا لم يمتنع أن تتعلّق المصلحة بشكّنا والمفسدة بإعلامنا جهة الفعل لم يلزم إعلامنا على كلّ حاصل وصار ذلك موقوفا على تعلّق المصلحة بالإعلام أو المفسدة بالشكّ ، فحينئذ يجب الإعلام وذلك موقوف على السمع.

وليس لأحد أن يقول : إنّ هذا الّذي فرضتموه يكاد يعلم ضرورة تعذّره ، لأنّ الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك ، فإن كان قبيحا فلا يكون كذلك إلّا للمفسدة ، وإن لم يكن قبيحا فذلك الحسن. وهذه قسمة متردّدة بين النفي والإثبات فكيف اخترتم أنتم قسما ثالثا لا يكاد يعقل؟ وذلك أنّ الفعل كما قالوا لا يخلو من أن يكون قبيحا أو لا يكون كذلك. ولكن لا يمتنع أن يكون للمكلّف حالة اخرى يتعلّق بها المفسدة والمصلحة ، وهي الحالة الّتي يقطع فيها على جهة الفعل على التفصيل ، وإذا كان ذلك جائزا لم ينفعنا تردّد الفعل في نفسه بين القبح والحسن واحتجنا أن نراعي حال المكلّف ، فمتى وجدنا المصلحة تعلّقت بإعلامه جهة الفعل وجب ذلك فيه ، ومتى تعلّقت المفسدة بذلك وجب ألّا يعلم ذلك وكان فرضه الوقف والشكّ وهو الّذي لخصناه (١)

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي العدّة : لحضناه ، ولعلّ الصحيح : لحصناه. لحص خبر فلان : استقصاه وبيّنه شيئا فشيئا ( المنجد ).

٤٥٨

ينبغي أن يتأمّل جيّدا ، فإنّه يسقط معتمد القوم في أدلّتهم ، فربّما لم يتصوّر كثير من الّذين يتكلّمون في هذا الباب ما بيّنّاه ، ومتى تأمّله من يضبط الاصول وقف على وجه الصواب في ذلك.

فإن قيل : كيف يمكنكم أن تدفعوا حسن هذه الأشياء ونحن نعلم ضرورة حسن التنفّس في الهواء وتناول ما يقوم به الحياة طول مدّة النظر في حدوث العالم وإثبات الصانع وبيان صفاته ، وعلى ما قلتموه ينبغي أن يمتنع في هذه الأوقات من الغذاء وغير ذلك ، وذلك يؤدّي إلى تلفه وعطبه ، ومن ارتكب ذلك علم بطلان قوله ضرورة.

قيل له : أمّا التنفّس في الهواء فالإنسان ملجأ إليه مضطرّ وما يكون ذلك حكمه فهو خارج عن حدّ التكليف ، فإن فرضوا (١) فيما زاد على قدر الحاجة فلا نسلّم ذلك بل ربّما كان قبيحا على جهة القطع ، لأنّه عبث لا فائدة فيه ولا نفع في ذلك يعقل.

وأمّا أحوال النظر فمستثناة أيضا ، لأنّه في تلك الأحوال ليس بمكلّف أن يعلم حسن هذه الأشياء ولا قبحها ، لأنّه لا طريق له إلى ذلك ، وإنّما يمكنه ذلك إذا عرف الله تعالى بجميع صفاته وأنّه ينبغي أن يعلمنا مصالحنا ومفاسدنا ، فإذا علم جميع ذلك حينئذ تعلّق فرضه بأن يعلم هذه الأشياء هل هي على الحظر أو على الإباحة؟ وفي هذه الأحوال لا يجوز له أن يقدم إلّا على قدر ما يمسك رمقه وتقوم به حياته.

ومن أصحابنا من قال : إنّ في هذه الأحوال لا بدّ من أن يعلمه الله تعالى ذلك بسمع يبعثه إليه فيعلمه أنّ ذلك مفسدة يتجنّبه أو مصلحة يجب عليه فعله أو مباح يجوز له تناوله. وعلى ما قرّرته من الدليل لا يجب ذلك ، لأنّه إذا فرضنا تعلّق المصلحة والمفسدة بحال المكلّف لم يمتنع أن يدوم ذلك زمانا كثيرا ، ويكون فرضه فيه كلّه الوقف والشكّ والاقتصار على قدر ما يمسك رمقه وحياته. وهذا الدليل الّذي ذكرنا هو المعتمد في هذا الباب ، والّذي يلي ذلك في القوّة أن يقال : إذا فقدنا الدلالة على حظر هذه الأشياء وعلى إباحتها وجب التوقّف فيها وتجويز كلّ واحد من الأمرين.

وليس يلزمنا أكثر من أن نبيّن أنّ ما تعلّق به كلّ واحد من الفريقين ليس بدليل

__________________

(١) في العدّة : فرضتموه.

٤٥٩

في هذا الباب. فما استدلّ به من قال : إنّ الأشياء على الحظر قطعا ، أن قالوا : قد علمنا أنّ هذه الأشياء لها مالك ، ولا يجوز لنا أن نتصرّف في ملك الغير إلّا بإذنه ، كما علمنا قبح التصرّف فيما لا نملكه في الشاهد.

واعترض القائلون بالإباحة هذه الطريقة بأن قالوا : إنّما قبح في الشاهد التصرّف في ملك الغير لأنّه يؤدّي إلى ضرر مالكه ، بدلالة أنّ ما لا ضرر عليه في ذلك جاز لنا أن نتصرّف فيه ، مثل الاستظلال بفي‌ء داره والاستصباح بضوء ناره والاقتباس منها وأخذ ما يتساقط من حبّه عند الحصاد ، وغير ذلك ، من حيث لا ضرر عليه في ذلك. فعلمنا أنّ الّذي قبح من ذلك إنّما قبح لضرر مالكه لا لكونه مالكا ، والقديم تعالى لا يجوز عليه الضرر على حال ، فينبغي أن يسوغ لنا التصرّف في ملكه.

ولمن نصر هذا الدليل أن يقول : إنّما حسن الانتفاع في المواضع الّتي ذكرتموها لا لارتفاع الضرر ، بل لأنّ هذه الأشياء لا يصحّ تملّكها ، لأنّ في الحائط ليس بشي‌ء يملك إذا كان في طريق غير مملوك ، ومتى كان الفي‌ء في ملك صاحبه قبح الدخول إليه ، وكذلك القول في المصباح ، فأمّا أخذ ما يتناثر من حبّه ، فلا نسلّم أنّه يحسن ، فكيف نسلّم وله أن يمنعه من ذلك وأن يجمعه لنفسه ، ولو كان مباحا لم يجز له منعه منه : على أنّ العلّة الّتي ذكروها من اعتبار دخول الضرر على مالكه كان ينبغي أن لا يسوغ له أخذ ما يتناثر من حبّه ، لأنّا نعلم أنّ ذلك يدخل عليه فيه ضرر وإن كان يسيرا ، فعلى المذهبين جميعا كان ينبغي أن يقبح ذلك ؛ على أنّ ذلك لو قبح لضرر لا لفقد الإذن من مالكه لكان ينبغي أن لو أذن فيه أن لا يحسن ذلك ، لأنّ الضرر حاصل. وليس لهم أن يقولوا : إنّه يحصل له عوض أكثر منه من الثواب أو السرور عاجلا ، وذلك إنّا نفرض فيمن لا يعتقد العوض على ذلك من الملاحدة ، وليس هو أيضا ممّا يسرّ به بل ربّما شقّ عليه واغتمّ به ، ومع ذلك حسن التصرّف منه إذا أذن فيه. وليس لأحد أن يقول : إنّ دليل العقل الدالّ على إباحة هذه الأشياء يجري مجرى إذن سمعيّ ، فجاز لنا التصرّف فيها. وذلك أنّ لمن نصر هذا الدليل أن يقول : لم يثبت ذلك ، ولو ثبت لكان الأمر على ما قالوه. ونحن نتّبع ما يستدلّ به أصحاب

٤٦٠