الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

فائدة

أقول : ذلك التقسيم ـ أي تقسيم الرعيّة إلى مجتهد ومقلّد ـ وما يتعلّق به من شرائطه وأحكامه وقع على منوال كلام الاصوليّين من العامّة ، حيث قسّموا الناس بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قسمين مجتهد ومقلّد ، ثمّ ساقوا الكلام إلى آخر ما نقلناه عن متأخّري أصحابنا بتفاوت قليل سيظهر عليك ـ إن شاء الله تعالى ـ ممّا سننقله من كتب العامّة ، والحقّ أنّ تلك المقدّمات تتّجه على مذهب من لا يقول بوجوب التمسّك بالعترة الطاهرة عليهم‌السلام ولا يجعلهم وسيلة إلى فهم كتاب الله وسنّة نبيّه ، وقول غيره بها من باب الغفلة عن هذه الدقيقة ، كما سيجي‌ء بيان ذلك كلّه إن شاء الله تعالى.

ففي الشرح العضدي للمختصر الحاجبي من كتب الشافعيّة : من عناية الله تعالى بالعباد أن شرّع الأحكام وبيّن الحلال والحرام سببا يصلحهم في المعاش وينجيهم في المعاد ، ولمّا علم كونها متكثّرة وأنّ قوّتهم قاصرة عن ضبطها منتشرة ، ناطها بدلائل وربطها بأمارات ومخايل ، ورشّح طائفة ممّن اصطفاهم لاستنباطها ووفّقهم لتدوينها بعد أخذها من مأخذها ومناطها ، وكان لذلك قواعد كلّية بها يتوصّل ، ومقدّمات جامعة منها يتوسّل ، أفردوا لذلك علما سمّوه لذلك « اصول الفقه » فجاء علما عظيم الخطر ، محمود الأثر ، يجمع إلى المعقول مشروعا ويتضمّن من علوم شتّى اصولا وفروعا (١).

وفي موضع آخر من الشرح المذكور : الأحكام قد تؤخذ لا من الشرع كالتماثل والاختلاف ، وقد تؤخذ منه ، وتلك إمّا اعتقاديّة لا تتعلّق بكيفيّة عمل وتسمّى « أصليّة » أو عمليّة تتعلّق بها وتسمّى « فرعيّة » وهذه لا تكاد تتناهى ، فامتنع حفظها كلّها لوقت الحاجة للكلّ ، فنيطت بأدلّة كلّيّة من عمومات وعلل تفصيليّة ـ أي كلّ

______________________________________________________

ما يوجب عدم صحّة ذلك الحديث وتعطيله أن يكون قد أغراه بالجهل وأوقعه في خلاف الحقّ. وكلّ هذا دليل على اعتقاد الميرزا خطاء المصنّف إن صحّ منه أنّه عرّفه شيئا من ذلك ، وما أظنّه جسر على إظهار هذه الامور الشنيعة في زمانه أو مع تجويزه العلم بها.

__________________

(١) شرح القاضي : ٢.

٦١

مسألة مسألة بدليل دليل ـ ليستنبط منها لكلّ واحد عند الحاجة ، وإذ ليس في وسع الكلّ أيضا أن ينتهض له لتوقّفها على أدوات يستغرق تحصيلها العمر وكان يفضي إلى تعطّل غيره من المقاصد الدينية والدنيوية فخصّ قوم بالانتهاض له ، وهم المجتهدون والباقون يقلّدونهم فيه ، فدوّنوا ذلك فسمّوا العلم الحاصل لهم منها « فقها » وأنّهم احتاجوا في الاستنباط إلى مقدّمات كلّيّة كلّ مقدّمة منها يبنى عليها كثير من الأحكام ، وربّما التبست ووقع فيها الخلاف فتشعّبوا فيها شعبا وتحزّبوا أحزابا ورتّبوا فيها مسائل تحريرا واحتجاجا وجوابا ، فلم يروا إهمالها نصحا لمن بعدهم وإعانة لهم على درك الحقّ منها بسهولة فدوّنوها وسمّوا العلم بها « اصول الفقه » (١).

وفي موضع آخر من الشرح المذكور : الفقه العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة بالاستدلال (٢).

وأورد على حدّ الفقه : أنّ المراد بالأحكام الشرعيّة إن كان هو البعض لم يطّرد ، لدخول المقلّد فيه إذا عرف بعض الأحكام كذلك ، لأنّا لا نريد به العامّي بل من لم يبلغ درجة الاجتهاد وقد يكون عالما يمكنه كذلك مع أنّه ليس بفقيه إجماعا. وإن كان هو الكلّ لم ينعكس ، لخروج بعض الفقهاء عنه ، لثبوت لا أدري عمّن هو فقيه بالإجماع ، نقل أنّ مالكا سئل عن أربعين مسألة ، فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري.

والجواب : أنّا نختار أنّ المراد البعض ، قولكم : « لا يطّرد لدخول المقلّد فيه » ممنوع ، إذ المراد بالأدلّة الأمارات ولا يعلم شيئا من الأحكام كذلك إلّا مجتهد يجزم بوجوب العمل بموجب ظنّه. وأمّا المقلّد فإنّما يظنّ ظنّا ولا نفضي إلى علم لعدم وجوب العمل بالظنّ عليه إجماعا. أو نختار أنّ المراد الكلّ ، قولكم : « لا ينعكس لثبوت لا أدري » قلنا : ممنوع ، ولا يضرّ ثبوت لا أدري ، إذ المراد بالعلم بالجميع التهيّؤ له وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه بأن يرجع عليه فيحكم ، وعدم العلم في الحالة الراهنة لا ينافيه ، لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلّة أو لعدم التمكّن من الاجتهاد في الحال لاستدعائه زمانا (٣).

__________________

(١) شرح القاضي : ٥.

(٢) شرح القاضي : ٤.

(٣) شرح القاضي : ٦.

٦٢

وفي موضع آخر من الشرح المذكور : الاجتهاد في الاصطلاح : استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظنّ بحكم شرعيّ ، فقولنا : « استفراغ الفقيه » بذل تمام الطاقة بحيث يحسّ من نفسه العجز عن المزيد عليه. « والفقيه » قد تقدّم ، لأنّك علمت الفقه فيكون الموصوف به هو الفقيه. وقد علم بذلك ركنا الاجتهاد وهما المجتهد والمجتهد فيه ، فالمجتهد من اتّصف نفسه بالاجتهاد على التفسير المذكور ، والمجتهد فيه حكم ظنّيّ شرعيّ عليه دليل (١).

وذكر في موضع آخر : قالوا : لو لم يتنجّز الاجتهاد لزم علم المجتهد بجميع المآخذ ويلزمه العلم بجميع الأحكام ، واللازم منتف ، لأنّ مالكا مجتهد بالإجماع وقد سئل عن أربعين مسألة ، فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري. الجواب انّ العلم بجميع المآخذ لا يوجب العلم بجميع الأحكام ، لجواز عدم العلم ببعض ، لتعارض الأدلّة ، أو للعجز في الحال عن المبالغة إمّا لمانع يشوّش الفكر ، أو لاستدعائه زمانا (٢).

وفي موضع آخر في مباحث بيان أحكام الاجتهاد : لا يجوز للمجتهد نقض الحكم في المسائل الاجتهاديّة ، لا حكم نفسه إذا تغيّر اجتهاده ، ولا حكم غيره إذا خالف اجتهاده اجتهاده بالاتّفاق ، لأنّه يؤدّي إلى نقض النقض من مجتهد آخر يخالفه ويتسلسل وتفوت مصلحة نصب الحاكم وهو فصل الخصومات ، هذا ما لم يكن مخالفا لقاطع ، وإذا خالف قاطعا نقضه اتّفاقا (٣) انتهى.

وفي موضع آخر في تزييف قول المصوّبة : واستدلّ بأنّ تصويب الكلّ مستلزم للمحال فيكون محالا ، بيانه في صورتين :

إحداهما : إذا كان الزوج مجتهدا شافعيّا والزوجة مجتهدة حنفيّة فقال لها : « أنت بائن » ثمّ قال : « راجعتك » والرجل يعتقد الحلّ والمرأة تعتقد الحرمة ، فيلزم من صحّة المذهبين حلّها وحرمتها.

وثانيتهما : أن ينكح مجتهد امرأة بغير وليّ لأنّه يرى صحّته ، وينكح مجتهد آخر تلك المرأة إذ يرى بطلان الأوّل ، فيلزم من صحّة المذهبين حلّها لهما وأنّه محال.

__________________

(١) شرح القاضي : ٤٦٠ ـ ٤٦١.

(٢) شرح القاضي : ٤٦١.

(٣) شرح القاضي : ٤٧٣.

٦٣

والجواب أنّه مشترك الإلزام ، إذ لا خلاف في أنّه يلزمه اتّباع ظنّه. والجواب الحقّ هو الحلّ ، وهو أنّه يرجع إلى حاكم ليحكم بينهما فيتّبعان حكمه ، لوجوب اتّباع الحكم للموافق والمخالف (١).

وفي التلويح للعلّامة التفتازاني ( شرح التوضيح لصدر الشريعة من كتب الحنفيّة ) : لمّا كان بحث الاصول عن الأدلّة من حيث أن يستنبط منها الأحكام وطريق ذلك هو الاجتهاد ، ختم مباحث الأدلّة بباب الاجتهاد ، وهو في اللغة تحمّل الجهد والمشقّة. وفي الاصطلاح : استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظنّ بحكم شرعيّ ، وهذا هو المراد بقولهم : « بذل المجهود لنيل المقصود » ومعنى : « استفراغ الوسع » بذل تمام الطاقة بحيث يحسّ من نفسه العجز عن المزيد عليه ، فخرج استفراغ غير الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي ، وبذل الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعيّ قطعيّ ، أو في الظنّ بحكم غير شرعيّ.

وشرط الاجتهاد أن يجمع العلم بالامور الثلاثة :

الأوّل : الكتاب ( أي القرآن ) بأن يعرفه بمعانيه لغة وشريعة ، أمّا لغة فبأن يعرف معاني المفردات والمركّبات وخواصّها في الإفادة ، فيفتقر إلى اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان ، اللهمّ إلّا أن يعرف ذلك بحسب السليقة. وأمّا شريعة فبأن يعرف المعاني المؤثّرة في الأحكام ، مثلا يعرف في قوله تعالى : ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) (٢) أنّ المراد بالغائط الحدث وانّ علّة الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان الحيّ ، وبأقسامه من العامّ والخاصّ والمشترك والمجمل والمفصّل وغير ذلك ممّا سبق ذكره ، بأن يعلم أنّ هذا خاصّ وذاك عامّ ، وهذا ناسخ وذاك منسوخ ، إلى غير ذلك. ولا خفاء في أنّ هذا مغاير لمعرفة المعاني. والمراد بالكتاب قدر ما يتعلّق بمعرفة الأحكام ، والمعتبر هو العلم بمواقعها بحيث يتمكّن من الرجوع إليها عند طلب الحكم ، لا الحفظ عن ظهر القلب.

الثاني : السنّة قدر ما يتعلّق بمعرفة الأحكام بأن يعرف بمتنها وهو نفس

__________________

(١) شرح القاضي : ٤٧٠.

(٢) النساء : ٤٣ ، المائدة : ٦.

٦٤

الحديث ، وسندها وهو طريق وصولها إلينا تواترا وشهرة أو آحادا ، وفي ذلك معرفة حال الرواة في الجرح والتعديل ، إلّا أنّ البحث عن أحوال الرواة في زماننا هذا كالمتعذّر ، لطول المدّة وكثرة الوسائط ، فالأولى الاكتفاء بتعديل الأئمّة الموثوق بهم في علم الحديث كالبخاري ومسلم والبغوي والصنعاني وغيرهم من أئمّة الحديث. ولا يخفى أنّ المراد معرفة متن السنّة بمعانيه لغة وشرعا ، وبأقسامه من الخاصّ والعامّ وغيرهما.

الثالث : وجوه القياس بشرائطها وأحكامها وأقسامها والمقبول منها والمردود ، وكلّ ذلك ليتمكّن من استنباط الصحيح.

وكان الأولى ذكر الإجماع أيضا ، إذ لا بدّ من معرفته ومعرفة مواقعه لئلّا يخالفه في اجتهاده.

ولا يشترط علم الكلام لجواز الاستدلال بالأدلّة السمعيّة للجازم بالإسلام تقليدا. ولا علم الفقه ، لأنّه نتيجة الاجتهاد وثمرته فلا يتقدّمه ، إلّا أنّ منصب الاجتهاد في زماننا إنّما يحصل بممارسة الفروع فهي طريق إليه في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمن الصحابة ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة.

ثمّ هذه الشرائط إنّما هي في حقّ المجتهد المطلق الّذي يفتي في جميع الأحكام. وأمّا المجتهد في حكم دون حكم فعليه معرفة ما يتعلّق بذلك الحكم كذا ذكره الغزالي.

فإن قلت : لا بدّ من معرفة جميع ما يتعلّق بالأحكام لئلّا يقع اجتهاده في تلك المسألة مخالفا لنصّ أو إجماع. قلت : بعد معرفة جميع ما يتعلّق بذلك الحكم لا يتصوّر الذهول عمّا يقتضي خلافه ، لأنّه من جملة ما يتعلّق به ذلك الحكم ولا حاجة إلى الباقي ، مثلا الاجتهاد في حكم متعلّق بالصلاة لا يتوقّف [ على معرفة جميع ما يتعلّق بالصلاة ، ولا يتوقّف ] (١) على معرفة جميع ما يتعلّق بأحكام النكاح ، وحكمه أي الأثر الثابت بالاجتهاد غلبة الظنّ بالحكم مع احتمال الخطأ ، فلا يجري الاجتهاد في القطعيّات ، وفيما يجب فيه الاعتقاد الجازم من اصول الدين ، وهذا مبنيّ

__________________

(١) أثبتناه من هامش خ.

٦٥

على أنّ المصيب عند اختلاف المجتهدين واحد. وقد اختلفوا في ذلك بناء على اختلافهم في أنّ لله تعالى في كلّ صورة من الحوادث حكما معيّنا أم الحكم ما أدّى إليه اجتهاد المجتهد؟ فعلى الأوّل يكون المصيب واحدا ، وعلى الثاني يكون كلّ مجتهد مصيبا.

وتحقيق هذا المقام : أنّ المسألة الاجتهاديّة إمّا أن لا يكون لله تعالى فيها حكم معيّن قبل اجتهاد المجتهد أو يكون ، وحينئذ إمّا أن لا يدلّ عليه أو يدلّ ، وذلك الدليل إمّا قطعيّ أو ظنّيّ ، فذهب إلى كلّ احتمال جماعة ، فحصل أربعة مذاهب :

الأوّل : أن لا حكم في المسألة قبل الاجتهاد بل الحكم ما أدّى إليه رأي المجتهد وإليه ذهب عامّة المعتزلة ثمّ اختلفوا ، فذهب بعضهم إلى استواء الحكمين في الحقّيّة ، وبعضهم إلى كون أحدهما أحقّ ، وقد ينسب ذلك إلى الأشعري ، بمعنى أنّه لم يتعلّق الحكم بالمسألة قبل الاجتهاد وإلّا فالحكم قديم عنده.

الثاني : أنّ الحكم معيّن ولا دليل عليه بل العثور عليه بمنزلة العثور على دفين ، فلمن أصاب أجران ولمن أخطأ أجر الكدّ ، وإليه ذهب طائفة من الفقهاء والمتكلّمين.

الثالث : أنّ الحكم معيّن وعليه دليل قطعيّ والمجتهد مأمور بطلبه ، وإليه ذهب طائفة من المتكلّمين ، ثمّ اختلفوا في أنّ المخطئ هل يستحقّ العقاب؟ وفي أنّ حكم القاضي بالخطإ هل ينقض؟

الرابع : أنّ الحكم معيّن وعليه دليل ظنّيّ إن وجده أصاب وإن فقده أخطأ والمجتهد غير مكلّف بإصابتها ، لغموضها وخفائها ولذا كان المخطئ معذورا بل مأجورا (١). انتهى كلامه.

وفي إحكام الآمدي من كتب الشافعيّة : الاجتهاد في اصطلاح الاصوليّين مخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظنّ بشي‌ء من الأحكام الشرعيّة على وجه يحسّ من النفس العجز عن المزيد عليه ، فقولنا : « استفراغ الوسع » كالجنس ، وما وراه خواصّ مميّزة ، وقولنا : « في طلب الظنّ » احتراز عن الأحكام القطعيّة ، وقولنا :

__________________

(١) التلويح للتفتازاني ، لا يوجد عندنا.

٦٦

« بشي‌ء من الأحكام الشرعيّة » ليخرج عنه الاجتهاد في المعقولات والمحسوسات وغيرها ، وقولنا : « بحيث يحسّ من النفس العجز عن المزيد إليه » ليخرج منه اجتهاد المقصّر في اجتهاده مع إمكان الزيادة عليه ، فإنّه لا يعدّ في اصطلاح الاصوليّين اجتهادا معتبرا.

وأمّا المجتهد فكلّ من اتّصف بصفة الاجتهاد وله شرطان :

الشرط الأوّل : أن يعلم وجود الربّ تعالى وما يجب له من الصفات ويستحقّه من الكمالات ، وأنّه واجب الوجود لذاته ، حيّ عالم قادر مريد متكلّم حتّى يتصوّر منه التكليف. وأن يكون مصدّقا بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات والآيات الباهرات ، ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام محقّا. ولا يشترط أن يكون عارفا بدقائق علم الكلام متبحّرا فيه كالمشاهير من المتكلّمين بل أن يكون عارفا بما يتوقّف عليه الإيمان ممّا ذكرناه. ولا يشترط أن يكون مستند علمه في ذلك الدليل المفصّل بحيث يكون قادرا على تقريره وتحريره ودفع الشبه عنه كالجاري من عادة الفحول من أهل الاصول ، بل أن يكون عالما بأدلّة هذه الامور من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.

الشرط الثاني : أن يكون عالما بمدارك الأحكام الشرعيّة وأقسامها وطرق إثباتها ووجوه دلالاتها على مدلولاتها واختلاف مراتبها والشروط المعتبرة فيها على ما بيّنّاه ، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفيّة استثمار الأحكام منها ، قادرا على تحريرها وتقريرها والانفصال عن الاعتراضات الواردة عليها. وإنّما يتمّ ذلك بأن يكون عارفا بالرواة وطرق الجرح والتعديل والصحيح والسقيم لا كأحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وأن يكون عارفا بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ في النصوص الأحكاميّة عالما باللغة والنحو. ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي ، وفي النحو كسيبويه والخليل ، بل أن يكون قد حصل من ذلك ما يعرف به أوضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات بحيث يميّز بين دلالات الألفاظ من المطابقة والتضمّن والالتزام ، والمفرد والمركّب ، والكلّي منها

٦٧

والجزئي ، والحقيقة والمجاز ، والتواطؤ والاشتراك والترادف والتباين ، والنصّ والظاهر ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمنطوق والمفهوم ، والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء ، ونحو ذلك ممّا فصّلناه ويتوقّف عليه استثمار الحكم من دليله.

وذلك كلّه أيضا إنّما يشترط في حقّ المجتهد المطلق المتصدّي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه ، وأمّا الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلّق بتلك المسألة وما لا بدّ منه فيها ، ولا يضرّه في ذلك جهله بما لا تعلّق له بها ممّا يتعلّق بباقي المسائل الفقهيّة. كما أنّ المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المتكثّرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها ، فإنّه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإنّ ذلك ممّا لا يدخل تحت وسع البشر ، ولهذا نقل عن مالك أنّه سئل عن أربعين مسألة ، فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري.

وأمّا ما فيه الاجتهاد ، فما كان من الأحكام الشرعيّة دليله ظنّيّا ، فقولنا : « من الأحكام الشرعيّة » تمييزا له عمّا كان من القضايا العقليّة واللغويّة وغيرها ، وقولنا : « دليله ظنّيّ » تمييزا له عمّا كان دليله منها قطعيّا كالعبادات الخمس ونحوها ، فإنّها ليست محلّا للاجتهاد فيها ، لأنّ المخطئ فيها يعدّ آثما ، والمسائل الاجتهاديّة ما لا يعدّ المخطئ فيها باجتهاده فيها آثما (١) انتهى كلامه.

فائدة

في كتب الشافعيّة كشرح جمع الجوامع لبدر الدين الزركشي : إنّما تشترط الامور المتقدّمة في المجتهد المطلق وقد فقد الآن ، ودونه في الرتبة مجتهد المذهب وهو المقلّد لإمام من الأئمّة فلا يشترط فيه إلّا معرفة قواعد إمامه ، فإذا سئل عن حادثة لم يعرف لإمامه فيها نصّا اجتهد فيها على مذهبه وخرّجها على اصوله ،

__________________

(١) الإحكام للآمدي ٤ : ١٦٤.

٦٨

وادّعى ابن أبي الدم أنّ هذا النوع قد انقطع أيضا ، وهو مردود. وقال ابن الصلاح : والّذي رأيته من كلام الأئمّة مشعر بأنّه لا يتأدّى فرض الكفاية بالمجتهد المقلّد (١) ، والّذي يظهر أنّه يتأدّى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأدّ به فرض الكفاية في إحياء العلوم الّتي منها الاستمداد في الفتوى. انتهى ودونه في المرتبة مجتهد الفتيا ، وهو المتبحّر في مذهبه المتمكّن من ترجيح قول على آخر ، وهذا أدنى المراتب ، وما بقي بعده إلّا العامّي ومن في معناه (٢). انتهى.

فائدة

يظهر من كلام جمع من علماء العامّة أنّ في زمن المتأخّرين منهم انعقد إجماع على أنّه لا يجوز العمل إلّا باجتهاد أربعة من مجتهديهم إلى يوم القيامة ، فلو قلّد أحد في هذا الزمان وبعده مجتهدا خامسا من مجتهديهم المتقدّمين أو اجتهد اجتهادا جديدا كان أهل البدعة والضلالة. نعم ، يجوز الاجتهاد في مذهب أحد الأربعة كما في تلميذي أبي حنيفة فإنّهما اجتهدا في مذهبه أي استخرجا فتاوى بناء على اصوله *.

ولننقل طرفا من كلام الشيخ العالم العلّامة تقيّ الدين أحمد بن عليّ بن عبد القادر الشهير والده بالمقريزي الشافعي من كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ، وقد رأيته في المدينة المنوّرة ، وهو من الكتب الموقوفة على تلك الحضرة الشريفة ، فإنّ فيه تصريحا ببعض ما نسبناه إليهم ، فقال في فصل عنوانه : ذكر مذاهب أهل مصر ونحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص أرض مصر إلى أن صاروا إلى اعتقاد المذاهب الأربعة وما كان من الأحداث :

______________________________________________________

* هذا خلاف المنقول عن أبي حامد الغزالي ، فإنّه جوّز الاجتهاد بعد الأربعة ، إذ لا مانع منه عقلا ولا نقلا ، والإجماع غير معلوم.

__________________

(١) ط : المقيّد.

(٢) شرح جمع الجوامع : لا يوجد عندنا.

٦٩

اعلم أنّ الله تعالى لمّا أن بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رسولا إلى كافّة الناس جميعا عربهم وعجمهم ، وهم كلّهم أهل شرك وعبدة غير الله تعالى إلّا بقايا من أهل الكتاب وكان من أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش ما كان حتّى هاجر من مكّة إلى المدينة وكانت الصحابة حوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يجتمعون إليه في كلّ وقت مع ما كانوا فيه من ضنك المعيشة وقلّة القوت ، فمنهم من كان يحترف في الأسواق ، ومنهم من كان يقوم على نخله ويحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ وقت منهم طائفة عند ما تجد أدنى فراغ ممّا هم بسبيله من طلب القوت ، فإذا سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسألة أو حكم أو أمر بشي‌ء أو فعل شيئا وعاه من حضر عنده من الصحابة وفات من غاب عنه علم ذلك. ألا ترى أنّ عمر بن الخطّاب قد خفى عليه ما علمه جبل بن مالك بن النابغة ـ رجل من الأعراب من هذيل ـ في دية الجنين.

وكان يفتي في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وعمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وسلمان الفارسي ـ رضي‌الله‌عنهم ـ.

فلمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واستخلف أبو بكر تفرّقت الصحابة ، فمنهم من خرج لقتال مسيلمة وأهل الردّة ، ومنهم من خرج لجهاد أهل الشام ، ومنهم من خرج لقتال أهل العراق ، وبقي من الصحابة بالمدينة مع أبي بكر عدّة ، وكانت القضيّة إذا نزلت بأبي بكر قضى فيها بما عنده من العلم بكتاب الله عزوجل أو سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن لم يكن عنده سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك ، فإن وجد عندهم علما من ذلك رجع إليه وإلّا اجتهد في الحكم.

فلمّا مات أبو بكر وولي أمر الامّة من بعده عمر بن الخطّاب ، فتحت الأمصار وزاد ، تفرّق الصحابة فيما افتتحوه من الأقطار ، وكانت الحكومة تنزل بالمدينة أو في غيرها من البلاد ، فإن كان عند الصحابة الحاضرين بها في ذلك أثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حكم به ، وإلّا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك ، وقد يكون في تلك القضيّة حكم عن

٧٠

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله موجود عند صاحب آخر في بلد آخر ، وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري ، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي ، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري ، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي ؛ كلّ هذا موجود في الآثار وفيما علم من مغيب بعض الصحابة عن مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض الأوقات وحضور غيره فمضت الصحابة على ما ذكرنا.

ثمّ خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم ، وكلّ طبقة من التابعين في البلاد الّتي تقدّم ذكرها إنّما تفقّهوا مع من كان عندهم من الصحابة ، وكانوا لا يتعدّون فتاواهم إلّا اليسير ممّا بلغهم عن غير من كان في بلادهم عن الصحابة ، كاتّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عمر ، واتّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى عبد الله بن مسعود ، واتّباع أهل مكّة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عبّاس ، واتّباع أهل مصر في الأكثر فتاوى عبد الله ابن عمرو بن العاص.

ثمّ أتى من بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة ، وابن جريح بمكّة ، ومالك وابن الماجشون بالمدينة ، وعثمان البتّي وسوار بالبصرة ، والأوزاعي بالشام ، والليث بن سعد (١) بمصر ، فجروا على تلك الطريقة من أخذ كلّ واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم.

وذكر أبو عمرو الكندي : أنّ أبا سعيد عثمان بن عتيق مولى غافق أوّل من رحل من أرض مصر إلى العراق في طلب الحديث ، توفّي سنة أربعة وثمانين ومائة ، وكان حال أهل الإسلام من أهل مصر وغيرها من الأمصار في أحكام الشريعة على ما تقدّم ذكره ، ثمّ كثر الترحّل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع الحديث النبوي وتقييده ، فكان أوّل من دوّن العلم محمّد بن شهاب الزهري ، وكان ممّن صنّف وبوّب سعيد بن أبي عروبة والربيع بن صبيح بالبصرة ، ومعمّر بن راشد باليمن ، وابن جريح بمكّة ، ثمّ سفيان الثوري بالكوفة ، وحمّاد بن سلمة بالبصرة ،

__________________

(١) ط : سعيد.

٧١

والوليد بن مسلم بالشام ، وجرير بن عبد الحميد بالريّ ، وعبد الله بن المبارك بمرو وخراسان ، وهيثم بن بشير بواسط ، وتفرّد بالكوفة أبو بكر ابن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة التصنيف وحسن التأليف ، فوصلت أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده ، وقامت الحجّة على من بلغه شي‌ء منها ، وجمعت الأحاديث وعرف الصحيح من السقيم وزيّف الاجتهاد المؤدّي إلى خلاف كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى ترك عمله ، وسقط العذر عمّن خالف ما بلغه من السنن ببلوغه إليه وقيام الحجّة عليه.

وعلى هذا الطريق كانت الصحابة وكثير من التابعين ، كانوا يرحلون في طلب الحديث الواحد الأيّام الكثيرة ، يعرف ذلك من نظر في كتب الحديث وعرف سير الصحابة والتابعين.

فلمّا قام هارون الرشيد في الخلافة ولى القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم ـ أحد أصحاب أبي حنيفة ـ بعد سنة سبعين ومائة ، فلم يقلّد ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلّا من أشار به القاضي أبو يوسف واعتنى به.

وكذلك لمّا قام بالأندلس الحكم المرتضى بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بعد أبيه وتلقّب بالمنتصر في سنة ثمانين ومائة اختصّ بيحيى بن كثير الأندلسي (١) وكان قد حجّ وسمع الموطّأ من مالك إلّا أبوابا وحمل عن ابن وهب وعن أبي القاسم وغيره علما كثيرا ، وعاد إلى الأندلس فنال من الرئاسة والحرمة ما لم ينله غيره وعادت الفتيا إليه وانتهى السلطان والعامّة إلى بابه ، فلم يقلّد في سائر أعمال الأندلس قاض إلّا بإشارته واعتنائه ، فصاروا على رأي مالك بعد ما كانوا على رأي الأوزاعي. ولم يزل مذهب مالك مشتهرا بمصر حتّى قدم الشافعي محمّد بن إدريس إلى مصر مع عبد الله بن عبّاس بن موسى بن عيسى (٢) بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس في سنة ثمان وتسعين ومائة ، فصحبه من أهل مصر جماعة من أعيانها وكتبوا من الشافعي ما ألّفه

__________________

(١) ط : يحيى بن يحيى بن كثير الأندلسي.

(٢) خ : موسى بن عيسى بن موسى.

٧٢

وعملوا بما ذهب إليه ولم يزل أمر مذهبه يقوى بمصر وذكره ينتشر.

وأمّا العقائد : فإنّ السلطان صلاح الدين حمل الكافّة على عقيدة الشيخ أبي الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعري تلميذ أبي عليّ الجبّائي وشرط ذلك في أوقافه الّتي بديار مصر. فاستمرّ الحال على عقيدة الأشعري بديار مصر وبلاد الشام وأرض الحجاز واليمن وببلاد المغرب أيضا لإدخال محمّد بن تومرت رأي الأشعري إليها حتّى أنّه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد بحيث من خالفه ضربت عنقه ، والأمر على ذلك إلى اليوم. ولم يكن في الدولة الأيّوبيّة بمصر كثير ذكر لمذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ، ثمّ اشتهر مذهب أبي حنيفة وأحمد في آخرها.

فلمّا كانت سلطنة الظاهر بيبرس (١) البندقداري ولي بالقاهرة ومصر أربع قضاة : شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي ، فاستمرّ ذلك من سنة خمس وستّين وستّمائة حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه الأربعة وعقيدة الأشعري ، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام وعودي من يذهب بغيرها وانكر عليه ، ولم يولّ قاض ولا قبلت شهادة أحد ولا قدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن متقلّدا أحد هذه المذاهب [ وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب ] (٢) وتحريم ما عداها والعمل على هذا إلى اليوم. وكان أبو الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعري قد أخذ عن أبي عليّ محمّد بن عبد الوهّاب الجبّائي ولازمه عدّة أعوام ، ثمّ بدا له فترك مذهب الاعتزال وسلك طريق أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن سعيد بن كلاب ، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر وقال بالفاعل المختار وترك القول بالتحسين والتقبيح العقلي واحتجّ لمذهبه ، فمال إليه جماعة وعوّلوا على رأيه ، منهم القاضي أبو بكر محمّد بن الخطيب الباقلاني المالكي ، وأبو بكر محمّد بن الحسن بن فورك ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن مهران الأسفرائني ، والشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف الشيرازي ، والشيخ أبو حامد محمّد

__________________

(١) خ ، ط : الظاهري في برس. وما أثبتناه من المصدر.

(٢) لم يرد ما بين المعقوفتين في خ.

٧٣

ابن محمّد الغزالي ، وأبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني ، والإمام فخر الدين الرازي ، وغيرهم ، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه ، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام. فلمّا ملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن ديارس الماراني على هذا المذهب قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق فلذلك حملوا في أيّام دولتهم كافّة الناس على التزامه فتمادى الحال على ذلك ، وأبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر (١) الأشعري البصري ولد سنة ستّ وستين ومائتين. وقيل : سنة سبعين وتوفّي ببغداد سنة بضع وثلاثين وثلاثمائة. وقيل : سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وتلمّذ لزوج أمّه أبي عليّ محمّد بن عبد الوهاب الجبّائي واقتدى برأيه في الاعتزال عدّة سنين حتّى صار من أئمّة الاعتزال ، ثمّ رجع عن القول بخلق القرآن وغيره من آراء المعتزلة ، وصعد يوم الجمعة بجامع البصرة كرسيّا ونادى بأعلى صوته من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا اعرّفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن وإنّ الله تعالى لا يرى بالأبصار وإنّ أفعال الشرّ أنّا فاعلها ، وأنا تائب مقلع معتقد الردّ على المعتزلة مبيّن لفضائحهم ومعايبهم. وأخذ من حينئذ في الردّ عليهم وسلك بعض طريق أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن سعيد بن كلاب القطّان وبنى على قواعده وصنّف خمسة وخمسين تصنيفا.

والحقّ الّذي لا ريب فيه : أنّ دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجهر لا ستر تحته وهو كلّه لازم كلّ أحد لا مسامحة فيه ، ولم يكتم رسول الله من الشريعة ولا كلمة ولا أطلع أخصّ الناس به ـ من زوجة أو ابنة أو صاحب أو ابن عمّ ـ على شي‌ء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم ، ولا كان عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله سرّ ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلّهم إليه ، ولو كتم شيئا لما بلّغ كما امر ومن قال هذه فهو كافر بإجماع ، وأصل كلّ بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف

__________________

(١) بشير ( خ ل ).

٧٤

عن اعتقاد الصدر الأوّل (١) انتهى كلام الشيخ المقريزي الشافعي المصري.

فائدة

أقول : المستفاد من كلام أهل الذكر عليهم‌السلام أنّ لله تعالى في كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة حكما معيّنا وأنّ عليه دليلا قطعيّا ، والناس مأمورون بطلبه من عند حفظة الدين وهم أهل الذكر عليهم‌السلام وأنّ المخطئ في الحكم أو الفتوى آثم ضامن ويلحقه وزر من عمل بفتياه وأنّ حكم القاضي بالخطإ ينقض ، وأنّه لا اعتداد في غير الضروريّات إلّا بحكم المعصوم أو فتواه أو برواية حكمه أو فتواه.

وأقول : فيه ردّ على علماء العامّة ، حيث زعموا أنّ الأحكام غير متناهية فلا يمكن أن يعلّمها الله تعالى أحدا من العباد ، فلذلك ناطها بدلائل وربطها بأمارات ومخائل. وحاصل الردّ أنّ الله تعالى كان عالما بالأحكام الّتي تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة وتلك الأحكام متناهية وأزمنتها متناهية *.

فائدة

أقول : ما ذكره الاصوليّون من العامّة من القواعد الاصولية إنّما يتّجه بعضه لإنكارهم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف لكلّ زمان معصوما مسئولا مرجعا للخلائق عالما بما تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة بوحي لا برأي ، وإنكارهم حجّيّة الأحاديث المنقولة عن العترة الطاهرة عليهم‌السلام.

______________________________________________________

* إنّ العامّة وإن سلّموا التناهي المذكور في علم الله لكن لا يسع زمان نبيّ أن يعلم الناس كلّ ما أعلمه الله بالتفصيل ، فاحتيج إلى ما اعتبروه من طريق التوصّل إلى معرفتها ؛ على أنّ المنقول عن العامّة في بعض تفاسيرهم القول بتناهي معلومات الله. وبعضهم فرّق بين ما هو ترك وغيره ، فحكم بعدم التناهي في الأوّل دون الثاني. وهذا النقل عند تفسير ( الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (٢) لأنّ الغفران ترك ضرر فلا يتناهى بخلاف غيره ، وهو حجّة القائل بالفرق.

__________________

(١) المواعظ والاعتبار للمقريزي ٤ : ١٤٧.

(٢) لم نعثر عليه فيما تفحّصناه من تفاسيرهم.

٧٥

ويتّجه بعضه لزعمهم أنّ القرآن نزّل على قدر عقول الناس وأنّهم مكلّفون باستنباط الأحكام النظرية منه ، ولإنكارهم أنّ علم القرآن من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمؤول وغيرها عندهم عليهم‌السلام خاصّة.

ويتّجه بعضه ، لأنّه ليس عندهم حديث يكون وروده من باب التقية.

ويتّجه بعضه لزعمهم أنّه لم يبق شي‌ء ممّا جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مخزونا عند أحد ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر عند أصحابه كلّ ما جاء به وتوفّرت الدواعي على أخذه ونشره ولم تقع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله فتنة انتهت إلى إخفاء بعض ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله وزعمهم أنّ الله تعالى ناط الأحكام الشرعية بدلائل وربطها بأمارات ومخائل تخطر ببال أصحاب الملكة المخصوصة المعتبرة عندهم ، وأنّه أوجب عليهم الاستنباطات الظنّية والعمل بها وعلى غيرهم اتّباع ظنونهم.

ودليلهم على ذلك كلّه ادّعاؤهم إجماع الصحابة على ذلك وادّعاؤهم أنّ مثل ذلك الإجماع لا يقع إلّا بسبب ظهور نصّ قطعي عندهم وإن لم ينقل عنهم. وذكروا أنّ ظاهر كتاب الله في مواضع حرمة العمل بالظنّ المتعلّق بأحكامه تعالى لكن لأجل هذا الإجماع القطعي تركنا تلك الظواهر وأوّلناها.

ثمّ جماعة من متأخّري أصحابنا غفلوا عمّا ذكرناه من ابتناء تلك القواعد على تلك الامور فدوّنوا اصولا على منوال اصولهم إلّا في مواضع يسيرة اطّلعوا على أنّها مخالفة لما تواتر عن العترة الطاهرة عليهم‌السلام *.

______________________________________________________

* لمّا كان زمن الأئمّة عليهم‌السلام مستمرّا فيه ظهورهم وإمكان استعلام الأحكام منهم لم يحتج أصحابنا في ذلك الوقت إلى بعض ما اعتبره العامّة من الاستنباط وغيره ، وبعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يتجدّد تكليف شرعيّ يختصّ بعلمه بعض دون بعض ، وإنّما خفي بعض أحكام التكليف عن العامّة لأنّهم لم يرجعوا في استعلامه إلى من امروا بالرجوع إليهم من أهل بيته بل تعمدوا خلافهم ، وبعد عدم التمكّن من الرجوع إليهم عليهم‌السلام صار حالنا وحالهم واحدا في الأحكام الّتي لم يوجد فيها نصّ ظاهر ، فاحتجنا كما احتاجوا إلى تدوين اصول وقواعد يستنبط منهما الأحكام الشرعيّة. والفارق بيننا وبين العامّة أنّا نرجع في الدليل والاستنباط إلى الاصول والقواعد المأثورة

٧٦

وسمعت من بعض المشايخ أنّه لمّا غيّرت جماعة من علماء العامّة أصحابنا بأنّه ليس لكم فنّ كلام مدوّن ولا اصول فقه كذلك ولا فقه مستنبط وليس عندكم إلّا الروايات المنقولة عن أئمّتكم ، تصدّى جماعة من متأخّري أصحابنا لرفع ذلك ، فصنّفوا الفنون الثلاثة على الوجه المشاهد ، وغفلوا عن نهيهم عليهم‌السلام أصحابهم عن تعلّم فنّ الكلام المبنيّ على الأفكار العقلية وأمرهم بتعلّم فنّ الكلام المسموع منهم عليهم‌السلام وكذلك عن القواعد الاصولية الفقهية الغير المسموعة منهم عليهم‌السلام. وكذلك عن المسائل الفقهية الاجتهادية ، وصرّحوا عليهم‌السلام بأنّه علّموا أولادكم أحاديثنا قبل ألفة أذهانهم بما في الكتب الغير المأخوذة عنّا (١) وصرّحوا بأنّ ما في أيدي الناس من حقّ فقد خرج منّا أهل البيت وما في أيديهم من باطل فمن أنفسهم (٢).

وأنا أقول : لاكتفاء هذه الجماعة بمجرّد العقل في كثير من المواضع خالفوا الروايات المتواترة عن العترة الطاهرة عليهم‌السلام في كثير من المباحث الكلامية والاصولية. وتفرّعت على المخالفة في الاصول المخالفة في المسائل الفقهية في مواضع كثيرة من حيث لا يدرون. ثمّ اكتفاؤهم بذلك وعدم رجوعهم إلى كلامهم عليهم‌السلام إمّا لشبهة دخلت عليهم وإمّا لغفلة ، والله أعلم *. ولو التزموا عند تدوين الفنون

______________________________________________________

عن الأئمّة عليهم‌السلام ويرجعون هم إلى الفتاوى والقياس وغير ذلك ممّا لم يصحّ عندنا الرجوع إليه.

* العجب من ادّعاء حصول الدلائل الاصوليّة المبنيّة غالبا على القواعد العقليّة والبراهين القطعيّة المفيدة للعلم كلّها من أحاديث الأئمّة عليهم‌السلام ولو كان الأمر كذلك كان المتقدّمون أحقّ بهذا التنبّه وعدم الغفلة عنه والراحة ممّا ارتكبوه من الاستدلالات العقليّة والبحث فيها مع سعة اطّلاعهم على الأحاديث وقربهم منها ، فكيف يتنبّه ويتفطّن هذا المتأخّر القاصر عن رتبتهم واطّلاعهم بعد طول الزمان واندراس الآثار على شي‌ء مهمّ لم يطّلعوا عليه؟ ولو لا ما دوّنوه واستنبطوه لتعطّل استفادة أكثر الأحكام والفروع من صريح الأخبار تفصيلا أو إجمالا ؛ على أنّا لم نر شيئا من الأحاديث الّتي ادّعى مخالفة العلماء لها في الأصوليين إلّا ما خالف بظاهره بعض الأحكام المعلوم من دين الشيعة خلاف ما دلّ عليه ظاهرها ، مثل الأخبار الواردة بأنّ المعرفة

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٧ ح ٥.

(٢) الكافي ١ : ٣٩٩ ، ح ١.

٧٧

الثلاثة تصدير الأبواب والفصول والمسائل مثلا بكلام العترة الطاهرة عليهم‌السلام ثمّ توضيحها وتأييدها باعتبارات عقلية لكان خيرا لهم. والله المستعان.

وأوّل من غفل عن طريقة أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام واعتمد على فنّ الكلام وعلى اصول الفقه المبنيّين على الأفكار العقلية المتداولين بين العامّة ـ فيما أعلم ـ محمّد ابن أحمد بن الجنيد العامل بالقياس ، وحسن بن عليّ بن أبي عقيل العماني المتكلّم ، ولمّا أظهر الشيخ المفيد حسن الظنّ بتصانيفهما بين يدي أصحابه ـ ومنهم السيّد الأجلّ المرتضى ، ورئيس الطائفة ـ شاعت طريقتهما بين متأخّري أصحابنا قرنا فقرنا. حتّى وصلت النوبة إلى العلّامة الحلّي فالتزم في تصانيفه أكثر القواعد الاصولية للعامّة ، ثمّ تبعه الشهيدان والفاضل الشيخ عليّ رحمهم‌الله تعالى *. وأوّل

______________________________________________________

والهداية والإيمان ليست من كسب العبد ولا من فعله (١) وما تقتضي بظاهره موافقة الجبريّة في مذهبهم ممّا يجب تأويله بما يوافق المتّفق عليه في دين الشيعة كما أوّل في القرآن الشريف والحكمة فيهما واحدة كما قدّمناه.

* من تأمّل هذا الكلام وما نسبه إلى أعلام هذا المذهب من سادات العلماء الأجلّاء من الغفلة والجهالة وارتكاب غير الجائز من الاعتماد على الظنّ في محلّ عدم جواز الاعتماد عليه ومدحه لنفسه بالتفطّن والتنبيه لما غفل عنه مثل هؤلاء الأجلّاء وذلك لا يكون إلّا لنقص علمهم وفهمهم بل وعقلهم أيضا عن مرتبته حيث ارتكبوا غير الجائز من اتّباع الظنّ على مذهبه مطلقا ، لأنّه لا يجيز اتّباع الظنّ أو على المذهب الصحيح حيث لا يسوغ في مثله اتّباع الظنّ كما ذكرناه وفعلوا خلاف الصواب بل خلاف الحقّ ، يظنّ بعد ذلك ان لهذا القائل تصوّرا ناشئا عن عقل سديد وعن رأي حميد ، ومن أين اطّلع على قواعد أصحاب الأئمّة وطريقتهم حتّى حكم بمخالفتهم بآثار اختصّ بها من زمن الأئمّة لم يكن توجد إلّا عنده أو بإلهام ربّاني ، ولا عجب أن يدّعيه! ومتى عرف أنّ المفيد رحمه‌الله عوّل في شي‌ء من مؤلّفاته على آثار ابن الجنيد وابن أبي عقيل ، بل مخالفة أقوالهما للمفيد وغيره في غالب المسائل أوضح من أن تبيّن ، وكذلك من تأخّر عن المفيد ، فعجيب وغريب إقدام المصنّف على مثل هذه التهجّمات القبيحة المخالفة للعقل والنقل ؛ ونعوذ بالله من ذلك واتّباع الهوى!

__________________

(١) انظر الكافي ١ : ١٦٥ ، باب الهداية أنّها من الله عزوجل.

٧٨

من زعم فيما أعلم أنّ أكثر أحاديث أصحابنا المأخوذة من الاصول الّتي ألفوها بأمر أصحاب العصمة عليهم‌السلام وكانت متداولة بينهم وكانوا مأمورين بحفظها ونشرها بين أصحابنا لتعمل بها الطائفة لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى ـ أخبار آحاد خالية عن القرائن الموجبة للقطع بورودها عن أصحاب العصمة عليهم‌السلام محمّد بن إدريس الحلّي ـ تجاوز الله عن تقصيراتي وتقصيراته ـ ولأجل ذلك تكلّم على أكثر فتاوى رئيس الطائفة المأخوذة من تلك الاصول.

وبالجملة ، هو وافق رئيس الطائفة وعلم الهدى ومن تقدّم عليهما من قدمائنا في أنّه لا يجوز العمل بخبر الواحد الخالي عن القرينة الموجبة للقطع ، وغفل أو تغافل عن أنّ أحاديث أصحابنا ليست من ذلك القبيل ، مع أنّ علم الهدى في كثير من رسائله ورئيس الطائفة في كتاب العدّة وغيره ومحمّد بن يعقوب الكليني ومحمّد بن بابويه في كتابيهما صرّحوا بذلك ، ثمّ تبعه العلّامة الحلّي في ذلك ومن جاء بعد العلّامة تبع العلّامة في المقامين ، لأنّه رحمه‌الله كان بحر العلوم.

وممّا يوضح ما ذكرناه ما ذكره صاحب الكرامات والمقامات والمنامات سيّدنا الأجلّ عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن محمّد بن طاوس الحسني رضى الله عنه في بعض رسائله ، حيث قال :

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلواته على سيّد المرسلين محمّد النبيّ وآله الطاهرين ، يقول عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن محمّد بن طاوس : إنّني ذاكر في هذه الأوراق بعض ما رويته أو رأيته من الأحاديث في تحقيق المضايقة في فوائت الصلوات وما أتقلّد الحكم بأحد القولين بل يعيّن ذلك من كلّف به من أهل النظر والأمانات.

فمن ذلك ما أرويه بإسنادي إلى محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري ـ رضوان الله عليه ـ وكان له مكاتبة إلى المهديّ صلوات الله وسلامه عليه ـ وأجوبة تبرز بين السطور إليه ، فذكر هذا محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الإسناد ، وكان تاريخ النسخة الّتي نقلت منها شهر ربيع الأوّل سنة تسع وعشرين وأربعمائة ،

٧٩

وذكر ناسخها أنّه نقلها من نسخة عليها خطّ مؤلّفها تاريخه في صفر سنة أربع وثلاثمائة بإسناده عن عليّ بن جعفر قال : وسألته ـ يعني الكاظم عليه‌السلام ـ عن رجل نسي المغرب حتّى دخل وقت العشاء الآخرة؟ قال : يصلّي العشاء ثمّ المغرب. وسألته عن رجل نسي العشاء فذكر قبل طلوع الفجر كيف يصنع؟ قال : يصلّي العشاء ثمّ الفجر. وسألته عن رجل نسي الفجر حتّى حضرت الظهر؟ قال : يبدأ بالظهر ثمّ يصلّي الفجر كذلك صلاة بعد صلاة.

ومن ذلك ما رويته من كتاب الفاخر (١) المختصر من كتاب تخيير الأحكام (٢) تأليف أبي الفضل محمّد بن أحمد بن سليم رواية محمّد بن عمر الّذي ذكر في خطبته : أنّه ما روى فيه إلّا ما اجمع عليه وصحّ من قول الأئمّة عليهم‌السلام عنده ، فقال فيه ما هذا لفظه : والصلوات الفائتات يقضين ما لم يدخل عليه وقت صلاة ، فإذا دخل عليه وقت صلاة بدأ بالّتي دخل وقتها وقضى الفائتة متى أحبّ.

ومن ذلك ما رويته عن عبيد الله بن عليّ الحلبي فيما ذكره في كتاب أصله ـ رضوان الله عليه ـ وقال جدّي أبو جعفر الطوسي في الثناء عليه : عبيد الله بن عليّ الحلبي ، له كتاب مصنّف معمول عليه (٣). وقيل : إنّه عرض على الصادق عليه‌السلام فاستحسنه وقال ليس لهؤلاء ـ يعني المخالفين ـ مثله (٤).

أقول أنا فقال فيه ما هذا لفظه : ومن نام أو نسي أن يصلّي المغرب والعشاء الآخرة فإن استيقظ قبل الفجر بمقدار ما يصلّيهما جميعا فليصلّهما وإن استيقظ بعد الفجر فليصلّ الفجر ثمّ يصلّي المغرب ثمّ العشاء.

وقال ـ أيضا ـ عبيد الله بن عليّ الحلبي في الكتاب المذكور ما هذا لفظه : وخمس صلوات يصلّين على كلّ حال متى ذكر ومتى ما احبّ : صلاة فريضة نسيها يقضيها مع غروب الشمس وطلوعها ، وصلاة ركعتي الإحرام ، وركعتي الطواف ، والفريضة ، وكسوف الشمس عند طلوعها وعند غروبها.

__________________

(١) ط : المقاصد.

(٢) ط : تحرير الأحكام ، وفي البحار : بحر الأحكام.

(٣) في المصدر : يعوّل عليه.

(٤) الفهرست : ٣٠٥ ، الرقم ٤٦٧.

٨٠