الفوائد المدنيّة

محمّد أمين الإسترابادي

الفوائد المدنيّة

المؤلف:

محمّد أمين الإسترابادي


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-511-04
الصفحات: ٥٩٢

المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر. فقلت : يا سيّدي أنّهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال عليه‌السلام : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان؟ فقال : انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه وخذ بما خالفهم ، فإنّ الحقّ فيما خالفهم. فقلت : ربّما كانا معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر.

وفي رواية أنّه عليه‌السلام قال : إذن فأرجه حتّى تلقى إمامك فتسأله (١) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وذكر الشيخ السعيد قطب الدين شيخ الإسلام أبو الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي قدس‌سره في الرسالة الّتي صنّفها في بيان أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحّتها :

أخبرنا الشيخان محمّد وعليّ ابنا عليّ بن عبد الصمد ، عن أبيهما ، عن أبي البركات عليّ بن الحسين ، عن أبي جعفر بن بابويه : أخبرنا أبي ، أخبرنا سعد بن عبد الله ، عن أيّوب بن نوح ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال الصادق عليه‌السلام :

إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله عزوجل ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه.

وعن ابن بابويه أخبرنا محمّد بن الحسن ، أخبرنا محمّد بن الحسن الصفّار ، وأخبرنا أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن رجل ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن الحسين بن السريّ ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم.

وعن ابن بابويه : أخبرنا محمّد بن موسى بن المتوكّل ، أخبرنا عليّ بن الحسين السعدآبادي ، حدّثنا أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن ابن فضّال ، عن الحسن بن الجهم قلت للعبد الصالح عليه‌السلام : هل يسعنا فيما يرد علينا منكم إلّا التسليم لكم؟ فقال عليه‌السلام :

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ ، ح ٢٢٩.

٣٨١

لا والله لا يسعكم إلّا التسليم لنا. قلت : فيروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام شي‌ء ويروى عنه خلافه فبأيّهما نأخذ؟ قال : خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه.

وعن ابن بابويه : أخبرنا أبي ، أخبرنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما أنتم والله على شي‌ء ممّا هم فيه ولا هم على شي‌ء ممّا أنتم فيه ، فخالفوهم فما هم من الحنفية على شي‌ء.

وعن ابن بابويه : أخبرنا محمّد بن الحسن ، أخبرنا محمّد بن الحسن الصفّار ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن داود بن الحصين ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : والله ، ما جعل الله لأحد خيرة في اتّباع غيرنا ، وأنّ من وافقنا خالف عدوّنا ومن وافق عدوّنا في قول أو عمل فليس منّا ولا نحن منهم.

وعن ابن بابويه : أخبرنا محمّد بن موسى بن المتوكّل ، أخبرنا عليّ بن الحسين السعدآبادي ، أخبرنا أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن أبيه ، عن محمّد بن عبيد الله قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فانظروا ما يخالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يوافق أخبارهم فدعوه.

وعن ابن بابويه : أخبرنا أبي ، أخبرنا سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن جميل بن درّاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه. انتهى ما أردنا نقله عن رسالة قطب الدين الراوندي (١).

وفي آخر كتاب السرائر من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى عليهم‌السلام : محمّد بن عليّ بن عيسى قال سألته عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك صلوات الله عليهم قد اختلف علينا فكيف العمل به على اختلافه أو الردّ إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب : ما علمتم أنّه قولنا

__________________

(١) لا توجد عندنا الرسالة المذكورة.

٣٨٢

فالزموه وما لم تعلموه فردّوه إلينا (١) *.

وفي كتاب المجالس للشيخ الأجلّ أبي عليّ الحسن بن محمّد بن الحسن الطوسي رحمه‌الله : بسنده عن عمرو بن شمر عن جابر قال : دخلنا على أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما‌السلام ونحن جماعة بعد ما قضينا نسكنا ، فودّعناه وقلنا له : أوصنا يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عليه‌السلام : ليعن قويّكم ضعيفكم ، وليعطف غنيّكم على فقيركم ، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه ، واكتموا أسرارنا ولا تحملوا الناس على أعناقنا. وانظروا أمرنا ، وما جاءكم عنّا فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا (٢).

أقول : في هذا الحديث الشريف وأشباهه إشارة إلى أنّ مرادهم عليهم‌السلام من العرض

______________________________________________________

* يفهم من هذه الأحاديث عدّة فوائد :

منها : أنّه من زمنهم عليهم‌السلام قد وقع الاختلاف والاشتباه في أحاديثهم وعسر على غيرهم تمييزها. وتبيّن من ذلك احتمال كونها موضوعة كذبا عنهم ، لأمرهم بعرضها على كتاب الله وأحاديثهم وردّ ما خالف ذلك. ولو لم يكن أحاديثهم قابلة لدخول الضعيف ما ناسب من السائل الترديد على الإمام فيها مع الاختلاف ، بل كان الموافق لعدم دخول الضعيف فيها وعدم اشتباهها به أن يجنّب الإمام عليه‌السلام السائل بأنّ أحاديثنا لا تقبل الاختلاف لأنّ حكمنا واحد إلّا ما كان من باب التقية ، فمشيته عليه‌السلام مع السائل في الترديد اعتراف بصدق إمكان ذلك.

ومنها : صحّة التعويل على الظنّ في العمل بالحديث الموثّق حيث قال عليه‌السلام : « إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » لأنّه لا يحصل القطع بأنّ الّذي أخذه هو الحقّ وغيره ليس كذلك في نفس الأمر. وكذلك قوله عليه‌السلام في رواية زرارة : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ » وقوله : « خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » فإنّ في ذلك كلّه لا يحصل القطع بأنّه قول المعصوم دون الآخر.

ومنها : أنّه لا يرجع إلى الاحتياط والتوقّف مع إمكان الترجيح ، حيث إنّ الإمام عليه‌السلام لم يسوّغه لزرارة إلّا بعد انتفاء جميع التراجيح. وذلك يدلّ على ما أشرنا إليه سابقا : من أنّه لا وجه للتوقّف والاحتياط مع الترجيح. وجميع هذه الوجوه دالّة على بطلان ما يعتقده المصنّف ويصرّح بخلافها.

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٨٤.

(٢) أمالي الطوسي : ٢٣١ ، ح ٤١٠.

٣٨٣

على كتاب الله عرض الحديث الّذي جاء به غير الثقة على واضحات كتاب الله أي الّتي (١) تكون من ضروريّات الدين أو من ضروريّات المذهب ، بقرينة قوله عليه‌السلام : « وإن اشتبه الأمر عليكم » وبقرينة ما تقدّم من الأحاديث الدالّة على وجوب التوقّف عند كلّ مسألة لم يكن حكمها بيّنا واضحا.

وفي كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام لشيخنا الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه حدّثنا أبي ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ـ رضي‌الله‌عنهما ـ قالا : حدّثنا سعد بن عبد الله قال : حدّثني محمّد بن عبد الله المسمعي قال : حدّثني أحمد بن الحسن الميثمي أنّه سأل الرضا عليه‌السلام يوما ، وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشي‌ء الواحد ، فقال عليه‌السلام : ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاتّبعوا ما وافق نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره. وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرهه ولم يحرمه ، فذلك الّذي يسع الأخذ بهما جميعا أو بأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وما لم تجدوه في شي‌ء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم. وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا.

قال مصنّف هذا الكتاب رحمه‌الله (٢) : كان شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضى الله عنه سيّئ الرأي في محمّد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث ، وإنّما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنّه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه ولم ينكره ورواه لي (٣).

والحديث الشريف بطوله مذكور في كتاب عيون الأخبار نحن ذكرنا موضع الحاجة منه.

__________________

(١) خ : أي آية.

(٢) كتاب العيون.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠ ، ح ٤٥.

٣٨٤

وفي الكافي ـ في باب اختلاف الحديث ـ محمّد بن يحيى ، عن محمّد ابن الحسين ، عن محمّد بن عيسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن داود بن الحصين ، عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّا ثابتا له ، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله تعالى أن يكفر به ، قال الله عزوجل : ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (١) قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله. قلت : فإن كان كلّ واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين (٢) في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على صاحبه؟ قال ، فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ؛ وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم. قلت : فإن كان الخبران عنكم (٣) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة. قلت :

__________________

(١) النساء : ٦٠.

(٢) في الكافي : الناظرين.

(٣) في الكافي : عنكما.

٣٨٥

جعلت فداك! أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد. فقلت : جعلت فداك! فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (١).

وروى رئيس الطائفة ـ في التهذيب ـ بسنده عن عبد الملك بن أعين قال : حجّ جماعة من أصحابنا فلمّا وافوا المدينة ودخلوا على أبي جعفر عليه‌السلام فقالوا : إنّ زرارة أمرنا بأن نهلّ بالحجّ إذا أحرمنا ، فقال لهم : تمتّعوا. فلمّا خرجوا من عنده دخلت عليه فقلت : جعلت فداك! والله لئن لم تخبرهم بما أخبرت به زرارة ليأتينّ الكوفة وليصبحنّ بها كذّابا. قال : ردّهم عليّ ، قال : فدخلوا عليه فقال : صدق زرارة ، ثمّ قال : أما والله! لا يسمع هذا بعد اليوم أحد منّي (٢).

وروى بسنده عن إسماعيل الجعفي قال : خرجت أنا وميسر واناس من أصحابنا فقال لنا زرارة : لبّوا بالحجّ ، فدخلنا على أبي جعفر عليه‌السلام فقلنا : أصلحك الله! إنّا نريد الحجّ ونحن قوم صرورة ـ أو كلنا صرورة ـ فكيف نصنع؟ فقال : لبّوا بالعمرة. فلمّا خرجنا قدم عبد الملك بن أعين فقلت له : ألا تعجب من زرارة قال لنا : لبّوا بالحجّ وإنّ أبا جعفر عليه‌السلام قال لنا لبّوا بالعمرة؟ فدخل عليه عبد الملك بن أعين فقال له : إنّ اناسا من مواليك أمرهم زرارة أن يلبّوا بالحجّ عنك وأنّهم دخلوا عليك فأمرتهم أن يلبّوا بالعمرة ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : يريد كلّ إنسان منهم أن يسمع على حدة أعدهم عليّ فدخلنا فقال : لبّوا بالحجّ ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبّى بالحجّ (٣).

وفي كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : حدّثنا عليّ بن أحمد بن عبد الله بن أحمد ابن أبي عبد الله البرقي ومحمّد بن موسى البرقي ومحمّد بن عليّ ماجيلويه ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أحمد بن محمّد السياري قال حدّثنا عليّ بن أسباط

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ، ح ١٠.

(٢) التهذيب ٥ : ٨٧ ، ح ٩٧.

(٣) التهذيب ٥ : ٨٧ ، ح ٩٨.

٣٨٦

قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته وليس في البلد الّذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك؟ قال ، فقال : ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشي‌ء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه (١) *.

وفي كتاب القضايا من تهذيب الحديث عن عليّ بن أسباط قال : قلت له : يحدث الأمر من أمري لا أجد بدّا من معرفته ، وليس في البلد الّذي أنا فيه أحد أستفتيه ، فقال ائت فقيه البلد إذا كان ذلك فاستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشي‌ء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه (٢).

أقول : من جملة نعماء الله تعالى على الطائفة المحقّة : أنّه خلّى بين الشيطان وبين علماء العامّة ليضلّهم عن الحقّ في كلّ مسألة نظرية ، ليكون الأخذ بخلافهم لنا ضابطة كلية نظير ذلك ما ورد في حقّ النساء : شاوروهن وخالفوهنّ (٣) **.

وفي الكافي ـ في باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام يعلمون علم ما كان وما يكون ـ عن ضريس الكناسي قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول وعنده اناس من أصحابه : عجبت من قوم يتولّونا ويجعلونا أئمّة ويصفون انّ طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم! فينقصونا حقّنا ويعيبون ذلك

______________________________________________________

* إنّ مثل هذه الأحاديث المخالفة للاعتبار والعقل فضلا عن ضعف الطريق في هذا الحديث بالسياري وغيره ، فإنّ الشيخ والنجاشي بالغا في حقّه بالضعف بأنّه فاسد المذهب مجفوّ الرواية كثير المراسيل. وحكي عنه أنّه كان يقول بالتناسخ ، وكيف يستقيم مضمون هذه الرواية على العموم ، فإنّ الخلاف ليس متحقّقا بيننا وبينهم في جميع الأحكام. وتدوين المشايخ هذه الرواية وأمثالها هو الّذي أظهر أنّهم لم يتقيّدوا بالصحيح المحقّق.

** التزام هذه الضابطة من جملة مجازفات المصنّف ، ومن أين يعلم ما ذكره حتّى يقطع به ، فإنّ خلافاتهم معلومة محصورة ، ومسائل الاتّفاق لا يتمّ فيها ذلك ؛ على أنّ توجّه الشيطان للطائفة المحقّة أقرب من توجّهه إلى غيرها ، لأنّه قد حصل مقصوده منها بضلالهم ، فلم تبق له حاجة عندها.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٥ ، ح ١٠.

(٢) التهذيب : ٦ / ٢٩٤ وح ٢٧.

(٣) بحار الأنوار ١٠٣ : ٢٦٢.

٣٨٧

على من أعطاه الله تعالى برهان حقّ معرفتنا والتسليم لأمرنا (١).

وفي باب الشرك : عن عميرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول : امر الناس بمعرفتنا والردّ إلينا والتسليم لنا ، ثمّ قال : وإن صاموا وصلّوا وشهدوا أن لا إله إلّا الله وجعلوا في أنفسهم أن لا يردّوا إلينا كانوا بذلك مشركين (٢).

أقول : قد تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأنّ المشرك قسمان : مشرك في العبادة ومشرك في الطاعة (٣). ويمكن أن يكون المراد هنا الثاني.

وفي باب التفويض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : عن أبي إسحاق النحوي قال دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسمعته يقول : إنّ الله عزوجل أدّب نبيّه على محبّته فقال : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٤) ثمّ فوّض إليه فقال عزوجل : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٥) وقال عزوجل : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) (٦) ثمّ قال : وإنّ نبيّ الله فوّض إلى عليّ والأئمّة (٧) فسلّمتم أنتم وجحد الناس ، فو الله لنحبّكم أن تقولوا إذا قلنا ، وأن تصمتوا إذا صمتنا ، ونحن فيما بينكم وبين الله عزوجل ، ما جعل الله لأحد خيرا في خلاف أمرنا (٨).

وأقول : هنا فوائد :

الفائدة الاولى

من المعلوم عند اولي الألباب : أنّ هذه الأحاديث ناطقة بجواز العمل بخبر الثقة في الرواية ، ومن المعلوم : أنّ حكم باب الفتاوى أضيق من باب الشهادة في قضيّة جزئيّة ، إذ على الأول تبنى جزئيّات كثيرة إلى يوم القيامة بخلاف الثاني ، ولأنّه يجب في باب الفتاوى العلم والقطع بأحد الأمرين ـ كما حقّقناه سابقا ـ بخلاف القضايا الجزئيّة ، ومن المعلوم : أنّ في باب الشهادات لا بدّ من العدلين ، فعلم أنّ خبر الثقة في الرواية أقوى من شهادتهما *.

______________________________________________________

* إنّ الّذي فهم من الأخبار التعويل على ثقات مخصوصين لا كلّ ثقة وإن كان فاسد

__________________

(١) الكافي ١ : ٢١١ ح ٤. (٢) الكافي ٢ : ٣٩٨ ح ٥.

(٣) خ : شرك في الطاعة وشرك في المعصية ، راجع تفسير القمي ١ : ٣٨٦.

(٤) القلم : ٤.

(٥) الحشر : ٧.

(٦) النساء : ٨٠.

(٧) في الكافي : بدل « والأئمّة » : وائتمنه.

(٨) الكافي ١ : ٢٦٥ ، ح ١.

٣٨٨

الفائدة الثانية

إنّ أحاديث هذا الباب صريحة فيما اختاره رئيس الطائفة من جواز العمل بخبر الواحد الثقة في الرواية واستدلّ عليه باجماع الطائفة ، ونحن نستدلّ عليه بهذه الروايات المتواترة وبالروايات الواردة في وكلاء الصاحب عليه‌السلام المشتملة على الأمر بالأخذ عنهم ، لأنّهم ثقات وأشباه ذلك. وإذا لاحظنا هذه الروايات مع ما أثبتناه من أنّه لا بدّ في باب الفتاوى من أحد القطعين ينتج أنّ خبر الثقة في الرواية يفيد القطع العادي ، كما حقّقناه سابقا وجعلناه من أنواع القرائن المفيدة للقطع بصحّة الخبر ، لا بصحّة مضمون الحديث *.

______________________________________________________

المذهب. وجعل باب الفتاوى أضيق من باب الشهادة الأمر فيه بخلاف ذلك ، لأنّ الشهادة قد اعتبروا فيها ما لم يعتبروه فيه الرواية من الشهادة بالعلم وعدم التهمة وتعدّد الشهود وغير ذلك ، والفتاوى اكتفوا فيها وفي أصلها بالظنّ بالاتّفاق مع تعذّر العلم ، واكتفي بالراوي الواحد العدل في الفتوى ولم يكتف بالواحد في الشهادة. والمناسب بالفتوى التخفيف والاكتفاء بالظاهر ، لعموم الاحتياج إليها وعسر تحصيل العلم في كلّ مسألة. وحكم المصنّف بالاكتفاء في جواز العمل بخبر الواحد الثقة وعدم جواز التعويل على قول العدل الواحد في الشهادة ينادي بأنّ حكم الشهادة أضيق من حكم الرواية والفتوى ، لأنّ قبول الواحد في حكم وعدم قبوله في آخر يناسب بالتساهل فيه لا بقوّته ، كما هو واضح.

* أقول : ما أسهل على المصنّف في كلّ شي‌ء يريده ادّعاء تواتر الروايات! ولو كانت الروايات متواترة بجواز العمل بخبر الواحد الثقة ـ كما يزعم ـ ما جاز للسيّد المرتضى وغيره من أجلّاء العلماء ردّ الخبر الموثّق بل خبر العدل الواحد ، ولم يعملوا به بعد تواتر الروايات بوجوب العمل به. وأيضا كان الشيخ أحقّ بالاستدلال بذلك من الإجماع على العمل به ، لأنّ الإجماع قد صار المعروف منه أنّه مجرّد الشهرة ، فلا يكون دليلا قاطعا مثل التواتر ، فكأنّ هذا السرّ العظيم من ثبوت التواتر لم يتيسّر لأحد غيره الاطّلاع عليه ولا سبق أحد منهم قبله فهمه إليه. وتجويزه العمل فيما ذكره بعد هذا في الفائدة الثالثة بكلّ ما ورد من أصحاب العصمة ولو كان وروده من باب التقية بقول مطلق مناف للضابطة الّتي قدّمها سابقا من أنّ الحقّ دائما يكون في خلافهم ، واللازم على ذلك إذا وجد في كلام المعصوم ما يوافق مذهبهم أن نخالفه ولو لم نجد ما بينهما (١) على أنّه من موارد التقيّة لأنّ الحقّ في خلافهم.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : ما يدلّ.

٣٨٩

الفائدة الثالثة

إنّه يفهم من هذه الأحاديث الشريفة : أنّ من جملة نعماء الله تعالى على هذه الطائفة أنّه جلّ جلاله جوّز لهم العمل بكلّ ما ورد من أصحاب العصمة ولو كان وروده من باب التقيّة.

الفائدة الرابعة

إنّه يفهم من بعض تلك الأحاديث أنّه إذا لم نطّلع على أحد الوجوه المرجّحة المذكورة فيها يجب التوقّف عن تعيين أحد الطرفين قولا وفعلا إلى لقاء صاحبنا عليه‌السلام ويفهم من بعضها أنّه حينئذ نحن مخيّرون في العمل بأيّهما نريد من باب أنّ كلّ ما ورد منهم عليهم‌السلام يجب علينا تسليمه ولو كان وروده في الواقع من باب التقية والشفقة على الرعيّة ، لا من باب أن حكم الله الواقعي التخيير ، ولا من باب أنّه إذا تعارضت الأمارات في نظر المجتهد فهو مخيّر في العمل بأيّتهما أراد كما هو مذهب من يعمل بالظنّ في نفس أحكامه تعالى.

وقد تحيّر الطبرسي في كتاب الاحتجاج وابن جمهور الأحسائي في كتاب غوالي اللآلي في الجمع بينهما. والّذي فهمت أنا من كلامهم عليهم‌السلام أنّه إن كان مورد الحديثين المختلفين العبادات المحضة كالصلاة فنحن مخيّرون في العمل. وإن كان غيرها من حقوق الآدميّين من دين أو ميراث أو وقف على جماعة مخصوصين أو فرج أو زكاة أو خمس فيجب التوقّف عن الأفعال الوجودية المبنية على تعيين أحد الطرفين بعينه.

والإمام ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني ـ قدّس الله سرّه ـ ذكر في كتاب الكافي ما يدلّ على العمل بالحديث الدالّ على التخيير وقصده قدس‌سره ذلك عند عدم ظهور شي‌ء من المرجحات المذكورة في تلك الأحاديث. وينبغي أن يحمل كلامه على ما إذا كان مورد الروايتين العبادات المحضة ، بقرينة أنّه قدس‌سره ذكر بعد ذلك في باب اختلاف الحديث مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في المتخاصمين في دين أو ميراث ، الناطقة بأنّه مع عدم ظهور شي‌ء من المرجّحات المذكورة يجب الإرجاء إلى لقاء الإمام عليه‌السلام.

٣٩٠

الفائدة الخامسة

إنّ هذه الرواية الشريفة مشهورة بين متأخّري أصحابنا بمقبولة عمر بن حنظلة بناء على أنّ علماء الرجال لم يوثّقوه. لكنّ الشهيد الثاني رحمه‌الله وثّقه في شرح رسالته في فنّ دراية الحديث (١). واعترض عليه ولده الشيخ حسن ـ قدس‌سرهما ـ في كتاب المنتقى ، حيث قال : من عجيب ما اتّفق لوالدي قدس‌سره أنّه قال في شرح بداية الدراية : إنّ عمر بن حنظلة لم ينصّ الأصحاب عليه بتعديل ولا جرح ، ولكنّه حقّق توثيقه من محلّ آخر فوجدت بخطّه رحمه‌الله في بعض مفردات فوائده ما صورته : عمر ابن حنظلة غير مذكور بجرح ولا تعديل ، ولكنّ الأقوى عندي أنّه ثقة ، لقول الصادق عليه‌السلام في حديث الوقت : إذا لا يكذب علينا (٢) والحال أنّ الحديث الّذي أشار إليه ضعيف الطريق فتعلّقه به في هذا الحكم مع ما علم من انفراده به غريب! ولو لا الوقوف على الكلام الأخير لم يختلج في الخاطر أنّ الاعتماد في ذلك على هذه الحجّة (٣) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وأنا أقول : لنا مندوحة عن التمسّك بما تمسّك به العلّامة ومن وافقه في إثبات صحّة بعض الأحاديث من كون راويه إماميّا عدلا ضابطا ، وذلك لتصريح ابن بابويه في أوّل كتاب من لا يحضره الفقيه بأنّ كلّ ما فيه صحيح حجّة بينه وبين الله تعالى ، يعني أنّه قاطع بوروده عن أصحاب العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ بتواتر أو بقرينة إجماع أو بغيرهما ولو كان وروده في الواقع من باب التقيّة والشفقة على الرعيّة.

وصرّح الإمام ثقة الإسلام في أوّل الكافي بقريب من ذلك.

وهذه الرواية الشريفة (٤) مذكورة فيهما (٥) وعمل بها رئيس الطائفة ـ قدّس الله سرّه ـ مع تصريحه في مواضع من كتاب العدّة في الاصول بأنّ كلّ حديث عمل به في كتاب من كتبه أخذه من الاصول المجمع على صحّة نقلها (٦). وإنّا قطعنا قطعا عاديّا بأنّ أمثال هذه الدعاوى لم تصدر عن أمثال هؤلاء الأجلّاء إلّا في الامور

__________________

(١) الرعاية في شرح البداية : ١٣٤.

(٢) الكافي ٣ : ٢٧٥.

(٣) منتقى الجمان ١ : ١٩.

(٤) يعني رواية عمر بن حنظلة.

(٥) في الفقيه والكافي.

(٦) عدّة الاصول ١ : ١٢٦ و ٣٥٠.

٣٩١

الصحيحة البيّنة الواضحة الّتي لا تصلح لأن يرتاب فيها أحد.

وبالجملة ، كتاب من لا يحضره الفقيه كاف لنا في حصول القطع العادي بورود الحكم عنهم عليهم‌السلام في جميع أبواب الفقه ، فما ظنّك إذا انضمّ إليه كتاب الكافي مع ما ذكره مصنّفه في أوائله من صحّة كلّ ما فيه ، وإذا انضمّ إليه كتاب رئيس الطائفة مع ما ذكره مصنّفهما من أنّه لم يعمل إلّا بالأحاديث المأخوذة من الاصول المجمع على صحّتها وبعد التنزّل عن هذا المقام ، أقول : هذه الرواية متواترة المعنى *.

وأمّا النصيحة اللطيفة فأقول كأنّي أنظر إلى جماعة من الجهلة المنتسبين إلى

______________________________________________________

* أقول : إنّ ما في الكافي غير صريح في حكمه بصحّة ما فيه بمعنى الثبوت والقطع ، وإنّما المعلوم منه : أنّ الرجوع إليه والأخذ منه والعمل بالآثار الصحيحة ممّا فيه عن الصادقين عليهما‌السلام يؤدّي الإنسان بذلك فرض الله سبحانه وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ إنّه ذكر اختلاف الروايات عنهم عليهم‌السلام وأنّه لا يسع أحد التمييز بين شي‌ء منها برأيه إلّا على ما أطلقه العالم عليه‌السلام بقوله : اعرضوها على كتاب الله (١) إلى آخر كلامه ، ثمّ اختار رحمه‌الله قول الصادق عليه‌السلام بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم (٢) وتصريحه باختلاف الروايات وأنّه لا يسع أحد التمييز بينها والاحتياج إلى عرضها على كتاب الله عند تعذّر التمييز يقتضي جواز عدم صحّة بعضها ، ولو كانت كلّها صحيحة ما قبلت هذا الاختلاف المتناقض. ولا سبيل إلى حمل كلّ ما خالف على التقية وإلّا لأمر به الإمام عليه‌السلام من أوّل الأمر.

وأيضا لا وجه لاحتمال أن تكون أحاديث التقية مدوّنة مع أحاديث الشيعة في الاصول المراد بها حفظ دين الشيعة ، لأنّ ذلك لا يجامع ضرورة التقيّة الّتي اقتضت تدوينها معها بوجه من الوجوه ، وقد نبّهنا على ذلك فيما تقدّم.

وأمّا الصدوق رحمه‌الله فقد ذكر ما يدلّ بظاهره على ذلك ، لكن رأيناه في بعض فتاويه يذهب إلى خلاف ما أورده من الحديث ويورد الأخبار المقطوع بضعفها وعدم العمل بها بين الأصحاب. والكتب الّتي حصلت الإشارة إليها لم يثبت صحّة جميع ما تضمّنته ، لأنّ الكتب المنصوص عليها عن الأئمّة عليهم‌السلام كتب مخصوصة محصورة لا تستوعب جميع الاصول الّتي أخذوا منها. ويكفي

__________________

(١) الكافي ١ : ٨.

(٢) الكافي ١ : ٩.

٣٩٢

العلم من عربيّ وعجميّ ينكرون ما استفدناه من كلام أصحاب العصمة ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ إمّا من اعوجاج الذهن ، أو جموده والبلادة ، أو من الحسد والشقاوة.

فلنتبارك ببعض النصائح المذكورة في أوائل كتاب المعتبر حيث قال :

إنّ في الناس : المستعبد نفسه لشهوته ، المستغرق وقته في أهويته ، مع إيثاره الاشتهار بآثار الأبرار ، واختياره الاتّسام بسمة الأخيار ، إمّا لأنّ ذلك في جبلّته أو لأنّه وسيلة إلى حطام عاجلته فيثمر هذان الخلقان نفاقا غريزيّا وحرصا على الرئاسة الدينية طبيعيا ، فإذا ظهرت لغيره فضيلة عليه خشي غلبة المزاحم ومنافسة المقاوم ، ثمّ يمنعه نفاقه عن المكافحة فيرسل القدح في زيّ المناصحة ، ويقول : لو قال كذا لكان أقوم ، أو لم يقل كذا لكان أسلم ، موهما أنّه أوضح كلاما أو أرجح مقاما. فإذا ظفرت بمثله فليشغلك الاستعاذة بالله من بليّته عن الاشتغال بإجابته ، فإنّه شرّ الرجال وأضرّ على الامّة من الدجّال! فكأنّي بكثير ممّن ينتحل هذا الفنّ يقف على شي‌ء من مقاصد هذا الكتاب فيستشكله ويحيل (١) فكره فيه فلا يحصله ،

______________________________________________________

ابن بابويه فيما صرّح به أن تطمئنّ نفسه لما أثبته في كتابه ولو بالظنّ الغالب ، ولا يحتاج فيه إلى الجزم والقطع ، فإنّه أمر بعيد حصوله في كلّ ما أثبته ودوّنه.

ثمّ إنّا رأينا الأجلّاء من المشايخ المتقدّمين والمتأخّرين عن الكليني والصدوق ـ رحمهم‌الله جميعا ـ مثل المفيد والمرتضى ومن تقدّمهم ومن تأخّر عنهم لم يعتمدوا كلامهما في صحّة الأحاديث واكتفوا بالعدل الواحد في صحّة الحديث ، فلو يعلمون من كلامهم أنّه يفيد الإخبار بالصحّة بمعنى الجزم بها وأنّها ناشئة عن العلم لم يحتاجوا في صحّة الحديث إلى غيرها ولأغنى ذلك الشيخ وأمثاله عن التعب في تعريف الرجال ، لأنّ الأمر محصور في كتابيهما وكتابيه ، وقد علم صحّة كلّ الأحاديث بشهادتهما ، فما رأينا إلّا المخالفة في الفتوى ممّن ذكرنا لما في الكتابين ، ورأينا الشيخ رحمه‌الله أيضا كذلك يفتي في كلّ مسألة ويخالف نفسه فيها في وقت ، وقد أورد الأحاديث بخلاف ما تضمّنته فتواه. فلو لا ضعف الحديث وتغيّر نظره فيه ما جاز منه هذا الاختلاف ولا من غيره. والله أعلم.

__________________

(١) في المصدر : يحمل.

٣٩٣

فينزله بذهنه الجامد على التأويل الفاسد ويدعو إلى متابعته ، لظنّه الاصابة ، فهو كما قيل : « أساء سمعا فأساء إجابة » فعليك بإمعان النظر فيما يقال ، مستفرغا وسعك في ردّ الاحتمال ، فإذا تعيّن لك الوجه فهناك فقل وإلّا فاعتصم بالتوقّف ، فإنّه ساحل الهلكة ، وإنّك مخبر في حال فتواك عن ربّك وناطق بلسان شرعه ، فما أسعدك إن أخذت بالجزم! وما أخيبك إن بنيت على الوهم! فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (١) وانظر إلى قوله : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (٢). وتفطّن كيف قسّم مستند الحكم إلى قسمين ، فما لم يتحقّق الإذن فأنت مفتر (٣). انتهى كلامه أعلى الله مقامه *.

______________________________________________________

* لو تدبّر المصنّف رحمه‌الله هذا الكلام لعرف أنّه واقع في أكثره ، لأنّ من مدح نفسه هذا المدح الخارج عن صفة الكمال (٤) وأثبت لغيره من الأجلّاء المعروفين بالإجلال غاية الانتقاص والجهل ونسبهم إلى الغلط وقلّة الفهم وعرض لهم بالفسق وتخريب الدين ونسبهم إلى اتّباع العامّة فيما لا يجوز الاتّباع فيه وتفرّد بدعاوى مخالفة لجميع العلماء المتقدّمين ولم يتصوّرها فاضل من المتأخّرين وشكا (٥) من مواجهة بردها ، ولم يتوفّق للرجوع عن قصدها ؛ وكان يقنعه فيما أراده من إظهار الفضيلة لغير العارف أن يذكر كلّ شي‌ء اقتضاه خياله وانتهى إليه مآله ويجدّد به الدين بعد اندراسه سنين ، ولا يتعرّض بمكروه للمتقدّمين ولا يسمّ بالجهل من لم يوافقه على الباطل من المتأخّرين.

ومن كان بهذا الوصف المتحقر (٦) فهو حقيق بأن يشمله كلام المعتبر. وما أحسن قول القائل :

إنّ المرآة لا تريك خدوش وجهك مع صداها

وكذاك عينك لا تريك عيوب نفسك مع قذاها

* * *

__________________

(١) البقرة : ١٦٩.

(٢) يونس : ٥٩.

(٣) المعتبر ١ : ٢١.

(٤) وقد قال سبحانه وتعالى : ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : الشي‌ء الّذي لا يحسن أن يقال ولو كان حقّا مدح الإنسان لنفسه ( منه رحمه‌الله ).

(٥) كذا ، والظاهر : إلّا وشكا.

(٦) في نسخة : المحتقر.

٣٩٤

الفصل العاشر

في بيان الاصطلاحات الّتي تعمّ بها البلوى

وفيه فوائد :

الفائدة الاولى

نفس الأمر : ظرف النسبة الخبرية الصادقة. والاعتبار الذهني : ـ أي فرضه ـ ظرف للنسبة الخبرية الكاذبة. ومعنى كون الشي‌ء في نفس الأمر : أنّه في حدّ ذاته ، إذ الأمر هو الشي‌ء ، أي ليس هو منوطا بفرض فارض واعتبار معتبر فيكون الشي‌ء في نفس الأمر يرجع إلى معنى سلبي ولأجل ذلك « نفس الأمر » ظرف لنسب القضايا السلبية المحضة الصادقة ، كما أنّها ظرف لنسب القضايا الصادقة الإيجابية.

ووجود الشي‌ء في نفسه قسمان : وجود يترتّب عليه آثاره المعتدّ بها ، فسمّوه بالوجود الأصيل والعيني والخارجي. ووجود ليس كذلك فسمّوه بالوجود الظنّي والذهني والوجود الإدراكي.

ووجود الشي‌ء لغيره قسمان ، لأنّه قد يكون عروضه لذلك الغير في وجوده الخارجي ، وقد يكون في وجوده الذهني ، فالأوّل مسمّى بالعروض الخارجي والثاني بالعروض الذهني.

وصفة الشي‌ء قسمان : صفة لها وجود في نفسها هو عين وجودها لموصوفها ، وهي مسمّاة بالصفة الحقيقية والصفة الانضماميّة والخارجيّة. وصفة ليست كذلك ، بل معنى الاتّصاف بها في نفس الأمر صلاحية موصوفها لانتزاعها منه ، وهي مسمّاة بالصفة الانتزاعية والصفة الاعتبارية.

ويكون وجود شي‌ء في الخارج ، لا وجود وجوده. ويكون عروض شي‌ء في

٣٩٥

الخارج ، لا وجود عروضه.

وقد يكون نفس الأمر ظرفا لوجود نسبة في الذهن لا لنفس تلك النسبة ، مثاله : النسب الكاذبة الموجودة في الذهن.

والواسطة في الثبوت هي العلّة لوجود الشي‌ء ، والواسطة في الإثبات هي الدليل لإثبات المدّعى. والواسطة في العروض هي المعروض الأوّل للعارض.

والحيثية في كلام القوم جاءت على وجوه ثلاثة : الحيثية الّتي هي بيان للإطلاق ، كقولنا : الموجود من حيث هو موجود ، والحيوان من حيث هو حيوان أو من حيث هو هو ، فقالوا : كم من قيد بحسب اللفظ فهو بيان للإطلاق بحسب المعنى ، وقالوا : لأنّ ملاحظة الإطلاق متقدّمة على ملاحظة التقييد به وليست الاولى مستلزمة للثانية. والحيثية الّتي هي للتقييد ، كقولنا : الحيوان من حيث إنّه ناطق نوع. والحيثية الّتي هي للتعليل كقولنا : التقيّ من حيث إنّه تقيّ يستحقّ على الله ثواب عمله.

ثمّ اعلم أنّ القيد قسمان : قيد مخصّص لما قيّد به ، وقيد مغيّر لما قيّد به مثال الأوّل واضح. وأمّا مثال الثاني ، كقولنا : الجسم الفرضي (١) والجسم بالفرض ، والمطابق للواقع زعما ، ومعدوم النظير ، وواسع الدار وأبيض الفرس ، صرّح بذلك السيّد الشريف في حواشي المطوّل ، وقد غفل عنه الفاضل الدواني ووقع في حيص وبيص.

الفائدة الثانية

قال الشهيد الثاني رحمه‌الله في تمهيد القواعد الاصولية والعربية : الحكم الشرعي خطاب الله أو مدلول خطابه المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التخيير. قلت : عند المعتزلة الأحكام الخمسة بل الوضعية أيضا من الصفات الذاتية للأفعال ، فلا ينطبق هذا التعريف على مذهبهم. ولك أن تقول : إذا قيّد الحكم بالشرعي لا بدّ على مذهبهم أيضا من أن يؤخذ في تعريفه الخطاب أو مدلول الخطاب.

ثمّ قال : وزاد بعضهم « أو الوضع » ليدخل جعل الشي‌ء سببا أو شرطا أو مانعا ، كجعل الله تعالى زوال الشمس موجبا لصلاة الظهر ، وجعله الطهارة شرطا لصحّة

__________________

(١) خ : العرضي.

٣٩٦

الصلاة ، والنجاسة مانعة من صحّتها ، لاستفادته من الشارع ، ولا طلب فيه ولا تخيير ، إذ ليس من أفعالنا حتّى يطلب منّا أو نخيّر فيه. وتكلّف المقتصر على الأوّل بمنع كونها أحكاما ، بل هي أعلام له ، أو بعودها إليهما (١). وهو تكلّف بعيد. ومع ذلك فيتخلّف كثيرا في أفعال غير المكلّفين (٢) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

وأنا أقول : لا بدّ من تلك الزيادة ، لأنّه من المعلوم : أنّ الجعل المذكور معنى مغاير للأحكام الخمسة ، وأنّ له آثارا مغايرة لآثارها وأنّه مستفاد من الشارع *.

لا يقال : قد تقرّر في موضعه أنّه لا مشاحّة في الاصطلاح ، ولكلّ أحد أن يصطلح على ما يشاء ، فيجوز أن يكون تخصيص الحكم الشرعي بما عدا الوضعي من باب الاصطلاح لا من باب المنازعات المعنوية.

لأنّا نقول : قد تقرّر في موضعه أنّ اصطلاحات أهل كلّ فن ينبغي أن يكون على وجه يناسب غرض الفنّ. ومن المعلوم : أنّه كلّما تعلّق الغرض بالأحكام الخمسة تعلّق بالأحكام الوضعية. وبالجملة ، إخراج هذا النوع من الخطاب عن الحكم الشرعي غير سديد.

ثم قال : (٣) من فروع كون الحكم الشرعي لا بدّ من تعلّقه بأفعال المكلّفين أنّ وطء الشبهة القائمة بالغافل ـ وهو ما إذا وطئ أجنبية ظانّا أنّها زوجته مثلا ـ هل يوصف بالحلّ أو بالحرمة وإن انتفى عنه الإثم ، أو لا يوصف بشي‌ء منهما؟ فاللازم من القاعدة : الثالث ، لأنّ الساهي ليس مكلّفا. وربّما أبدل بعضهم « المكلّفين » بالعباد ، ليدخل مثل ذلك ، التفاتا إلى تعلّق الحكم الشرعي بكثير من غير المكلّفين كضمان الصبيّ ما يتلفه من الأموال ويجنيه على البهائم. والأشهر اعتبار القيد وجعل المكلّف بذلك هو الولي. وعلى هذا يتفرّع جواز وصف فعل الساهي للمحرّم

______________________________________________________

* من استغنى عن قيد الوضع لم يخصّ الاقتضاء بالصريح بل عمّم ما يشمل الضمني وأرجع ما خرج عن التعريف إلى الإباحة والتخيير ، فلا احتياج إلى زيادة ، لأنّه معلوم ضمنا وتبعا.

__________________

(١) في المصدر : إليها.

(٢) تمهيد القواعد : ٢٩.

(٣) الشهيد الثاني قدس‌سره.

٣٩٧

على غيره بالحلّ ، نظرا إلى عدم ترتّب الإثم على فعله ، ويجري ذلك في قتل الخطأ وأكل المضطرّ الميتة. والأولى وصف هذا بالإباحة وإن حرم اختيارا (١) انتهى كلامه قدس‌سره.

وأنا أقول : كلامهم في هذا المقام غير سديد ، وذلك لأنّ الذاهل عن حكم الله لا يتعلّق بفعله خطاب اقتضائي ولا تخييري ما دام ذاهلا ، وغير الذاهل لا بدّ من أن يتعلّق بفعله أحد الخطابين ، ومن هذا القبيل من وطئ أجنبية يظنّ أنّها زوجته ، فيكون وطؤه موصوفا بالحلّ الشرعي قطعا ، فاللازم من القاعدة : الأوّل.

توضيح ذلك : أنّ الموصوف بالحلّ الشرعي هو الّذي تعلّق به خطاب التخيير أو أحد الثلاثة وهنا تعلّق (٢) والمثال المطابق للمقام : من وطئ أجنبية عالما بأنّها أجنبية ذاهلا عن حكم الله فيها ، فإنّه حين هو كذلك لا يتعلّق بفعله خطاب اقتضائي ولا تخييري.

ويرد على قوله (٣) « ليدخل مثل ذلك ... » أنّه لا يدخل بالإبدال ، لما عرفت من أنّ الذاهل عن حكم الله لا يتعلّق بفعله حكم من الأحكام الاقتضائية أو التخييرية. وقوله : « التفاتا إلى تعلّق الحكم الشرعي بكثير من غير المكلّفين كضمان الصبيّ ما يتلفه ... الخ » غير منقّح.

وتنقيح المقام : أنّ الخطاب الوضعي لا يتعلّق أوّلا وبالذات بالفاعل ، بل يتعلّق أوّلا وبالذات بفعل الفاعل أو بغير فعل الفاعل ، والخطاب الاقتضائي والتخييري يتعلّقان بالفاعل أوّلا وبالذات ثمّ يتعلّقان بفعله ثانيا وبالعرض ، ومن ثمّ ليس التكليف شرطا في الوضعي * وقوله : « ويجري ذلك في قتل الخطأ وأكل المضطرّ الميتة » كلام ظاهري.

______________________________________________________

* إنّ ما ذكره أوّلا من عدم تعلّق الخطاب بالجاهل في هذه المسألة وعدم وصف فعله بالحرمة غير مستقيم ، لأنّ الجاهل هنا بمنزلة العامد ، لتقصيره في العلم بالحكم ، لأنّ مثل هذه التكاليف الواضحة الشائعة العامّة السهلة المعرفة والتعلّم لا يعذّر جاهلها ، وقد صرّحوا بعدم المعذرة فيما هو أخفى من ذلك وألحقوه بالعامد.

وأمّا ما ذكره من التنقيح فغير ظاهر لأنّ الخطاب بالأفعال على حدّ واحد ، فإن قيدنا الأفعال

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٣٠.

(٢) كذا ، والعبارة غير واضحة.

(٣) قول الشهيد الثاني.

٣٩٨

وتحقيق المقام : ما ذكرناه من أنّ الذاهل عن حكم الله تعالى حين هو كذلك لا يتعلّق بفعله خطاب تخييري ولا اقتضائي ، فلا يتصف بالحلّ الشرعي والإباحة الشرعيّة. نعم ، يتّصف بالإباحة الأصلية. وأمّا غير الذاهل عن حكم الله فيتّصف فعله بذلك ، سواء كان مضطرّا في فعله كأكل الميتة ، أو انتهى فعله إلى أمر لم يقصده كقتل الخطأ وسواء كان عالما بما هو حكم الله أو متحيّرا فيه.

ثمّ قال : (١) ومنها : ما لو أتلف الصبيّ أو المجنون مالا ، فعلى مغايرة الحكم الوضعي للشرعي لا إشكال فيتعلّق بهما الضمان ، لأنّ إتلاف مال الغير المحترم سبب في ضمانه والحكم الوضعي لا يعتبر في متعلّقه التكليف ، ولكن لا يجب عليهما أداؤه ما داما ناقصين ، لأنّ الوجوب حكم شرعي. نعم ، يجب على وليّهما دفعه من مالهما ، ولا فرق بين أن يكون لهما مال حال الاتلاف أو عدمه (٢) انتهى كلامه.

وأقول : قصده أنّه لا إشكال في أخذ « المكلّف » في تعريف الحكم الشرعي ، لأنّ الوضعي ليس من أفراد الحكم الشرعي ، فلا يتّجه أن يقال : تعريف الحكم الشرعي غير جامع.

ثمّ قال : ومنها : لو أودعا ففرّطا فإنّه لا ضمان ، لأنّ حفظ الوديعة غير واجب عليهما ، لأنّه من باب خطاب الشرع ، ولو تعدّيا فيها فأتلفاها أو بعضها ضمنا لما ذكرناه ، وفي هذين خلاف مشهور بين الأصحاب والموافق منه للقاعدة ما قرّرناه.

ومنها : ما لو جامع الصبيّ أو المجنون ، فإنّه لا يجب عليهما حينئذ الغسل ، لأنّه من باب خطاب الشرع أيضا ، ولكنّ الجماع من قبيل الأسباب الّتي يشترك فيها المكلّف وغيره ، فيجب عند التكليف عليهما الغسل بذلك السبب السابق إعمالا

______________________________________________________

في التعريف بالتكليف ـ كما هو المشهور ـ وقلنا : إن الوليّ هو المكلّف دخل خطاب الوضع في التعريف ، وإلّا احتجنا إلى إبدال « المكلّفين » بلفظ « العباد » وأدخلنا خطاب الوضع ضمنا في عموم الاقتضاء كما تقدّمت الإشارة إليه.

__________________

(١) الشهيد الثاني قدس‌سره.

(٢) تمهيد القواعد : ٣١.

٣٩٩

للسببية ، ولا يقدح فيه تخلّف المسبّب عنه لفقد الشرط ، كما لا يقدح تخلّفه عنه لوجود المانع فإذا وجد الشرط أو زال المانع عمل السبب عمله. ومثله القول في وجوب الوضوء بالحدث الأصغر الواقع قبل التكليف لو حضر وقت عبادة مشروطة به بعده (١) انتهى كلامه رحمه‌الله.

وأنا أقول : تحقيق المقام أنّ الخطاب الوارد من الشارع بعض أقسامه يتعلّق أوّلا وبالذات بالمكلّف ما دام هو مكلّفا ، أي ما دام عاقلا بالغا غير غافل عن الخطاب وهو الخطاب الاقتضائي والتخييري. وبعض أقسامه يتعلّق أوّلا وبالذات بفعله وبفعل البهائم كما إذا جنت بهيمة على زرع أو إنسان ، وبفعل الصبيّ والمجنون كما إذا أتلفا مال الغير ، وبغير الفعل كجعل زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر وهو الخطاب الوضعي *.

ثمّ اعلم أنّ بعض أصحاب الاصوليّين زعم أنّ خطاب الشارع كلّه متعلّق بأفعال الكاملين الغير الغافلين عنه ما داموا غير غافلين عنه (٢). والحقّ ما اخترناه من تعلّق بعضه أوّلا وبالذات بنفس المكلّف ، وبعضه بفعله وبفعل غيره ، وبعضه بأمر ثالث كزوال الشمس.

ثمّ هنا مقام آخر ، وهو أنّ الخطاب الاقتضائي الندبي هل يتعلّق بالصبيّ المميّز أيضا أم لا؟ والمشهور بين القوم الثاني والمستفاد من كلامهم عليهم‌السلام الأوّل.

[ ففي باب وصيّة الصبيّ والمحجور عليه : عن العبدي ، عن الحسن بن راشد ، عن العسكري عليه‌السلام قال : إذا بلغ الغلام سبع سنين فجائز أمره في ماله وقد وجب عليه الفرائض والحدود وإذا تمّ للجارية سبع سنين فكذلك (٣).

وعن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إذا بلغ الغلام ثلاث عشر سنة كتبت

______________________________________________________

* تعلّق الخطاب بفعل البهيمة لا وجه له ، لأنّه سبب لتعلّق الخطاب بفعل المكلّف في أداء حقّ جنايتها ، وذلك ليس من باب خطاب الوضع ، لأنّه بمنزلة من أتلف مال غيره بآلة أو بسبب خارج ، والتقصير في حفظ البهيمة بمنزلة ذلك ، لأنّه يرجع إلى فعله ومسبّب عنه.

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٣١.

(٢) لم نقف على زاعمه.

(٣) التهذيب ٩ : ١٨٣ ، ح ١١ ، وفيه : ثمان سنين.

٤٠٠