المهذّب

عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي

المهذّب

المؤلف:

عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧
الجزء ١ الجزء ٢

ولا يقول لواحد منهما تكلم ، لأنه إذا أفرده بالخطاب ، كسر قلب الأخر. وإذا ابتدأ أحدهما بالكلام وجعل يدعى على خصمه ، منع الأخير من مداخلته ، لأنه يفسد عليه نظام الدعوى.

وأقل ما على الحاكم ، ان يمنع كل واحد من ان يقال من عرض صاحبه ، لأنه جلس للفصل والانفصال بين الناس ، وأقل ما عليه ان لا يمكن أحدهما من ظلم الأخر ولا من الحيف عليه. ولا يجوز له ان يضيف أحد الخصمين دون صاحبه ، اما ان يضيفهما معا أو يتركهما معا.

ولا يجوز له ان يرتشي في الأحكام ، لان الراشي والمرتشي ملعونان ، وذلك حرام على المرتشي على كل حال ووجه ، فان كان الراشي قد رشاه على تغيير (١) حكم أو إيقافه فهو حرام على ما قدمناه ، وان كان لإجرائه على رسم له أو واجبة ، لم يحرم عليه ذلك.

واما الهدية ، فإن من لم يكن له بمهاداته عادة حرم عليه قبولها ، فان كان من جرت له بمهاداته عادة كالصديق والملاطف والقريب ، فأهدى إليه هدية تتعلق بحكومة بينه وبين غيره ، أو أحسن بأنه قدمها بالحكومة بين يديه ، حرم ذلك عليه كالرشوة ، وان لم يكن شي‌ء من ذلك جاز قبولها والأفضل له ان ينزه عن أخذها.

وإذا حضر مسافرون ومقيمون وكان الذي سبق هم المسافرون ، قدمهم ، لأنه ينبغي ان يقدم السابق فالسابق من أهل البلد وكذلك المسافر ، بل هو اولى. وان وافدا معا أو تأخر المسافرون فان كان بهم قلة من حيث لا يضر تقدمهم بأهل البلد ، كان مخيرا بين تقديمهم وبين ان يفرد يوما يفرغ فيه من حكوماتهم ، لان المسافر على شرف السفر والرجل يكثر شغله ويزدحم حوائجه ، فلهذا قدم. وان كانوا مثل المقيمين أو أكثر كأيام الموسم في مكة والمدينة كانوا هم والمقيمين سواء ، لأن في تقديمهم إضرارا بأهل البلد وفي تأخيرهم إضرارا بهم ، فكانوا سواء.

__________________

(١) في بعض النسخ « تعيين ».

٥٨١

وينبغي للحاكم ان يجلس في مكان بارز للناس مثل الصحراء ، أو رحبة (١) أو مكان واسع الا من ضرورة من مطر أو غيره فيجلس في بيته أو في المسجد وتتقدم إلى ثقة ليحفظ من جاء أولا ويضبط : قد جاء فلان أولا ، ثم فلان ، ثم فلان ، على هذا أبدا.

فإذا حكم (٢) الحاكم قدم الأول فالأول ، فإن كان عددهم قليلا يمكن الإقراع بينهم ، أقرع بينهم ، فمن خرج قرعته قدمه ، وان كثرت وتعذرت القرعة كتب الحاكم أسماءهم في رقاع وجعلها بين يديه ومد يده وأخذ رقعة بعد رقعة أخرى كما سبق.

فاذا قدم إنسانا بالسبق أو بالقرعة أو بالرقعة ، فحكم بينه وبين خصمه ، وفرغ منهما أمرهما بالقيام ، وقدم غيرهما. فان قال الأول : لي حكومة أخرى لم يلتفت اليه وقال له : قد حكمت بينك وبين خصمك بحكمك فاما ان تنصرف أو تصبر حتى افرغ من الناس فإنه لو قضى بينه وبين من يخاصمه ادى ذلك الى ان يستغرق المجلس لنفسه ، فلذلك لا يزاد على واحدة.

فإذا تقدم غيره فادعى فان شاء ادعى على المدعى عليه أولا وان شاء ادعى على المدعى الأول وان شاء ادعى المدعى عليه أولا على المدعى الأول ، فإنه يحكم بينهما لأنا إنما نعتبر الأول فالأول في المدعى واما في المدعى عليه فلا فاذا فرغ وبقي واحد حكم عليه وبين خصمه ، فان كان له من الحكومات أكثر من الواحد حكم في جميعها ، لأنه لا مزاحم له فيها ، اللهم الا ان يكون الأول قد جلس حتى يفرغ الناس فاذا حكم بين الأخير وخصمه حكومة قدم الأول ، لأنه لهذا جلس.

وإذا حضر اثنان فادعى أحدهما على الأخر ، فقال المدعى عليه : انا المدعى وهذا المدعى عليه ، لم يلتفت الحاكم الى ذلك ، وقال له : أجب عن دعواه ، فاذا

__________________

(١) رحبة المكان : اى ساحته وصحنه

(٢) في نسخة « حضر » بدل « حكم »

٥٨٢

فرغ من حكومتك وكان لك كلام أو دعوى فاذكره. فان حضرا وادعيا جميعا كل واحد منهما على الأخر في حال واحد ، لم يسبق أحدهما صاحبه ، قدم الذي يكون على يمين صاحبه.

وإذا كان لجماعة حقوق على واحد من جنس واحد أو أجناس مختلفة ووكلوا من ينوب عنهم في الخصومة فادعى الوكيل الحقوق فان اعترف الزم ذلك وان أنكر وكان هناك بينة حكم بها عليه ، وان لم يكن بينة كان القول قوله مع يمينه. وإذا أراد كل واحد من هذه الجماعة ان يستحلفه على الانفراد كان ذلك له ، لان اليمين حق له فكان له ان ينفرد بها ، فان رضيت الجماعة منه بيمين عن الكل كان ذلك جائزا لأن اليمين حق لهم فاذا رضوا بيمين واحدة صح ذلك واكتفى بها عن جميعهم.

وإذا حضر عند الحاكم إنسان واستعدى (١) على إنسان ، وكان المستعدى عليه حاضرا ، أعدى عليه وأحضره ، وليس في ذلك ابتذال (٢) لأهل الصيانات ان كان المستعدى عليه من أهلها ومن أهل المروات ، لأن أمير المؤمنين عليه‌السلام حضر عند شريح مع يهودي ، وحضر عمر مع ابى بن زيد عند ابن ثابت ليحكم بينهما ، وحضر أبو الدوانيق ـ في حجة ـ مع الجمالين مجلس الحكم بخلاف (٣) جرى بينهما.

فاذا كان إحضار من ذكرناه صحيحا جائزا ، فينبغي ان يكون عند الحاكم في ديوان حكمه ختوم من طين مطبوخة (٤) بخاتمه ينفذ منها شيئا مع الخصم إليه فإن حضر ، والا بعث بعض أعوانه إليه. فإن حضر ، والا أنفذ شاهدين يشهدان على امتناعه فان حضر ، والا استعان بصاحب الحرب وهو صاحب الشرطة.

__________________

(١) استعدى : اى استنصر

(٢) الابتذال : اى الخفة والمهانة ، وفي أكثر النسخ « ابتدال » بالمهملة اى اتخاذ البدل.

(٣) في نسخة « لخلف » بدل « بخلاف »

(٤) في المبسوط « مطبوعة »

٥٨٣

فان كان المستعدى عليه غائبا في ولاية هذا الحاكم ، مثل ان يكون غائبا إلى موضع ، والموضع موضع نظر هذا الحاكم وولايته ، وكان في موضع غيبته خليفة له ، كتب إليه رقعة وأنفذ بخصمه اليه ليحكم بينهما وان لم يكن هناك خليفة ، وكان فيه من يصلح ان يحكم بينهما ، كتب إليه رقعة وجعل النظر بينهما إليه فان لم يكن له ذلك في الموضع ولاوال فيه ، قال لخصمه : حرر دعواك عليه ، فاذا حررها أعدى عليه (١) وان كان غائبا في غير ولايته ، مثل ان يكون الحاكم ببغداد فغاب الى بصرة والبصرة في غير ولايته ، فإنه يقضى على غائب.

وان كانت امرأة وكانت بارزة فهي كالرجل ، فان كانت مخدرة بعث إليها من يقضى بينها وبين خصمها في منزلها والبارزة هي التي تبرز لقضاء حوائجها بنفسها ، والمخدرة هي التي لا تخرج لذلك.

فاذا حضر قيل له ادع الان ، فان ادعى لم يسمع الدعوى إلا محررة. فاما ان قال : لي عنده فرش أو ثوب أو حق لم يسمع دعواه ، لان الدعوى لها جواب ، فربما كان ب « نعم » وليس على الحاكم ان يقضى به عليه لأنه مجهول فاذا كان كذلك فلا بد من تجديد الدعوى ، كانت من الأثمان أو من جنس غيرها صحت مع تحريره لها ان يذكر الجنس والمقدار أو النوع أو ما أشبه ذلك مما يخرجها عن ان تكون مجهولة ، فإذا كان كذلك لم يكن للحاكم المطالبة بالجواب من غير مسألة المدعى ، لان الجواب حق للمدعي فليس للحاكم مطالبته به من غير مسألة كنفس الحق فإذا طالبه بالجواب بالمسألة كان ذلك بان يقول له : ما تقول فيما يدعيه؟

فإن أقر عند ذلك بالحق ، الزمه القيام لخصمه به لأنه لو قامت عليه بينة بذلك الزمه ، فبان يلزمه باعترافه اولى وإلزامه القيام به يكون بان يقول : ألزمتك ذلك أو قضيت به عليك أو اخرج له منه فاذا قال ذلك له كان حكما بالحق. فإن سأله المدعى ان يكتب له محضرا حجة له في يده بحقه فعل ذلك.

__________________

(١) في نسخة « اعتدى عليه »

٥٨٤

وان لم يقر بالحق وأنكرها فقال : لا حق لك قبلي ، كان هذا موضع البينة فإن كان المدعى لا يعرف له موضع البينة ، كان للحاكم ان يقول له : ألك بينة فان كان عارفا بأنه وقت البينة ، فالحاكم مخير بين ان يسكت أو يقول له ألك بينة ، فاذا قال ألك بينة ، فان لم يكن له بينة ، عرفه الحاكم بان لك يمينه ، فاذا عرف ذلك لم يكن للحاكم ان يستحلفه بغير مسألة المدعي اليمين حق له فليس له ان يستوفيه الى (١) مطالبته مثل نفس الحق فان لم يسأله واستحلفه من غير مسألة لم يعتد بهذه اليمين لأنه اتى بها في غير وقتها ، فان لم يعتد بها أعادها عليه بمسألة المدعي.

فإذا عرض عليه اليمين ، فإن أجاب إليها وحلف ، أسقط الدعوى ولم يكن لخصمه ان يستحلفه مرة أخرى ، لا في هذا المجلس ولا في غيره فإن سأله الحالف ان يكتب له بما جرى محضرا لئلا يدعيه مرة أخرى ، فعليه ان يكتب له ذلك يكون حجة في يده.

فان لم يحلف قال له الحاكم : ان حلفت ، والا جعلتك ناكلا ورددت اليمين على خصمك فيحلف فيستحق عليك ، يقول هذا ثلاثا ، فان سأل الحاكم ان يكتب له محضرا بما جرى فعل ذلك هذا إذا لم يكن بينة.

فان كانت بينة فكانت حاضرة ، لم يقل الحاكم : أحضرها ، لأنه حق له فله ان يفعل ما يرى ، فاذا حضرا لم يسأل الحاكم عما عندهما حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يتصرف فيه بغير أمره ، فإذا كان لا بد من سؤال المدعي للاستماع منهما لم يقل الحاكم لهما : اشهدا ، لأنه أمر ، والحاكم لا يأمرهما ، الا انه يقول : تكلما إن شئتما ، من كان عنده كلام فليذكره ان شاء ، فاذا قالا ما عندهما. فاما ان يكون ما اقاماه من الشهادة فاسدا أو صحيحا ، فان كان فاسدا مثل ان قالا : بلغنا ان له عليه ألفا ، أو قالا ، سمعنا بذلك ، قال له الحاكم : زدني في شهودك فيرد شهادتهما بذلك.

فان شهدا عنده بالحق شهادة صحيحة ، لم يحكم له الحاكم حتى يسأل الحاكم

__________________

(١) في نسخة « ألا بمطالبته »

٥٨٥

بها ، فإذا سأله بحث عن حال الشهود ، فان كانوا فساقا وقف الأمر حتى يأتي بالبينة ، وان كانوا عدولا قال الحاكم للمدعي عليه : قد عدلا عندي ، هل لك جرح؟ فان قال : نعم ، أنظره ـ حتى يجرح الشهود ـ ثلاثا ، فان لم يأت بجرح أو قال : لا جرح عندي. لم يحكم حتى يسأل المدعى ان يحكم له بذلك.

فإن سأله فيستحب للحاكم ان يقول للمدعي عليه : ( قد ادعى كذا عليك وشهد عليك بكذا وأنظرتك جرح الشهود فلم تفعل ، وهو (١) إذا أحكم عليك ) ليبين له انه حكم بحق ، فاذا قال هذا حكم عليه بالبينة ، ولم يستحلف المدعى مع بينته.

هذا إذا كانت البينة حاضرة ، فان كانت غائبة ، قال الحاكم له (٢) : ليس لك ملازمته ولا مطالبته بكفيل ، ولك يمينه أو تتركه حتى تحضر البينة ، وذكر :ان له ملازمته ومطالبته بكفيل حتى تحضر البينة ، وما ذكرناه أولا هو الأظهر والأصح والثاني أحوط لصاحب الحق ولا بأس به.

فان سكت أو قال : لا أقر ولا أنكر ، قال الحاكم له : ان أجبت عن الدعوى والا جعلتك ناكلا ورددت اليمين على خصمك ، وذكر انه يحبسه حتى يجيب إما بإقرار أو بإنكار ولا يجعله ناكلا. وما ذكرناه أولا هو الظاهر من مذهبنا ، ولا بأس بالعمل بالثاني.

ولا ينبغي له ان يأخذ الرزق على القضاء. وقد ذكر جواز ذلك وأخذه من بيت المال.

وإذا ترافع خصمان الى الحاكم ، فادعى أحدهما على الأخر حقا ، فأنكر ، وعلم الحاكم صدق المدعى فيما طالبه ، مثل ان يكون ما عليه يعلمه الحاكم أو قصاص وما أشبه ذلك ، كان له ان يحكم بعلمه.

فاما مخالفونا فلا خلاف بينهم في انه يحكم في الجرح بعلمه ، ويقولون :

__________________

(١) كذا في النسخ ولعل الضمير للشأن

(٢) اى للمدعي

٥٨٦

لو علم الجرح وشهدوا عنده بالتعديل ، ترك الشهادة وعمل بعلمه ولأنه لو لم يقض بعلمه أفضى إلى إيقاف الحكم أو فسق الحكام ، لأنه إذا طلق الرجل زوجته بحضرته ثلاثا ، ثم جحد الطلاق ، كان القول قوله مع يمينه ، فان حكم بغير علمه ـ وهو استحلاف الزوج ـ وتسليمها اليه فسق وان لم يحكم له وقف الحاكم (١). وهكذا إذا أعتق الرجل عبده بحضرته ثم جحد. وإذا غصب من رجل ماله ، ثم جحد يفضي الى ما قلناه ، فهذا قولهم ، ثم يعيبوننا إذا قلنا بمثله.

باب كتاب قاضٍ الى قاضٍ

لا يجوز عندنا العمل على كتاب قاضٍ الى قاضٍ في الأحكام ، ولا قبوله في ذلك. ومخالفونا مجيزون (٢) ذلك فيعملون عليه في الأحكام ، وكذلك يقولون في كتابه إلى الأمير (٣) ، وكتاب الأمير إلى القاضي أو الأمير على ما تضمنته الآية من قصة سليمان عليه‌السلام وبلقيس من قوله تعالى :

« يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » (٤) فكتب إليها سليمان فدعاها إلى الإسلام والايمان.

وما رواه عبد الله بن حكيم قال : أتانا كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل وفاته بشهر ان لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. (٥)

وما روى عن ضحاك بن سفيان من انه قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على قوم من العرب وكتب معى كتابا وأمرني فيه ان أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها

__________________

(١) كذا في النسخ ولعله تصحيف وأصلها « الحكم »

(٢) في بعض النسخ « مخيرون » ولعلها تصحيف والصحيح ما أثبتناه.

(٣) في المبسوط « الأمين » بدل « الأمير » في المواضع الثلاثة.

(٤) النمل ، الاية ٣١ ـ ٣٠.

(٥) المبسوط ، ج ٨ ، ص ١٢٢ ، « وفي الوسائل ، ج ١٦ ، ص ٣٦٨ ، الحديث ٢ ما يدل على ذلك ».

٥٨٧

فعمل به عمر وكان لا يورث المرءة من دية زوجها ، حتى روى الضحاك له ذلك فعمل به (١)

وما روى من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله جهز جيشا ، وأمر عليهم عبد الله بن رواحة ، وأعطاه كتابا مختوما وقال : لا تفضه حتى تبلغ موضع كذا وكذا ، فاذا بلغت ففضه ، واعمل بما فيه قال : ففضضته وعملت بما فيه (٢).

وما كتب به عليه‌السلام الى الأكاسرة والقياصرة.

فكتب الى قيصر ملك الروم ، « بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله الى عظيم الروم ، ( يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ) » الاية فلما وصل الكتاب اليه قام قائماً ووضعه على رأسه واستدعى مسكا فوضعه فيه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ثبت ملكه (٣).

وما كتب به الى ملك الفرس ، فإنه كتب الى كسرى بن هرمزان بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله الى كسرى بن هرمزان أسلموا تسلموا والسلام. فلما وصل الكتاب إليه أخذه ومزقه ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال تمزق ملكه (٤).

وما يدعونه من الإجماع على ذلك في جميع الأعصار ، قالوا : لأن الصحابة لم تزل كذلك ، والتابعون من بعدهم ، فكتب بعضهم الى بعض. ولان للناس إليه حاجة

وجميع ما ذكروه لا حجة لهم فيه اما ما ذكروه من كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنه (٥) عمل عليها لأنها كانت معلومة وهي حجة ، لأن قوله عليه‌السلام حجة ، وليس الخلاف في ذلك ، وانما الخلاف فيمن ليس بمعصوم ، وهل هو كتابه أم لا؟

واما ما كتبه الى كسرى وقيصر ، فإنه دعاهم فيها الى الله تعالى ، والإقرار بنبوته ، وذلك عليه دليل غير الكتاب ، ولا خلاف في انه لا يقبل فيه كتاب قاضٍ الى قاضٍ.

واما الإجماع فنحن نخالفهم فيه أشد الخلاف ، وليس هذا الكتاب موضوعا

__________________

(١) المبسوط ، ج ٨ ، ص ١٢٢ و ١٢٣.

(٢) المبسوط ، ج ٨ ، ص ١٢٢ و ١٢٣.

(٣) المبسوط ، ج ٨ ، ص ١٢٢ و ١٢٣.

(٤) المبسوط ، ج ٨ ، ص ١٢٢ و ١٢٣.

(٥) اى عبد الله بن رواحة

٥٨٨

للحجاج فنستقصى الكلام عليهم فيه ، وهو مستوفى في كتب أصحابنا الموضوعة في ذلك فمن أراد الوقوف عليه نظره من هناك.

باب الاستحلاف

إذا توجهت اليمين على أحد الخصمين وأراد الحاكم استحلاف من توجهت عليه ، فينبغي ان يخوفه بالله تعالى ويذكره العقاب الذي يستحق على اليمين الكاذبة والوعيد عليها فان راجع الحق حكم عليه بما يقتضي الحال حسب ما توجبه الشريعة وان لم يراجع ذلك ، واستمر على الإنكار ، استحلفه بالله الذي لا إله الا هو أو بشي‌ء من أسمائه.

ولا يجوز استحلافه بغير ذلك من الكتب المنزلة والأمكنة الشريفة ، ولا بالأنبياء ولا بالرسل ، ولا بالبراءة من الله تعالى ، ولا من رسله ولا من أحد من الأئمة ولا بطلاق ولا بعتق ولا بكفر.

فاذا استحلف الحاكم الخصم ، فينبغي ان يقول له :

قل « والله الذي لا إله الا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب ، الضار النافع ، المدرك المهلك ، الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ، ما لهذا المدعى على ما ادعاه ولا له قبلي حق بدعواه ».

فاذا حلف بذلك برئت ذمته مما ادعى خصمه عليه به.

وان قال له : قل « والله ماله قبلي حق » كان مجزيا الا أن الأول أقوى في الترتيب والردع على من تقدم باليمين.

واما استحلاف أهل الكتاب فينبغي ان يكون أيضا بالله تعالى أو بشي‌ء من أسمائه ، ويجوز ان يستحلفوا بما يذهبون هم الى الاستحلاف به وذلك الى الحاكم ، فإنه يستحلف بما يراه أردع لهم وأعظم عليهم وقد ذكرنا فيما سلف طرفا من كيفية استحلافهم ، فان استحلفهم كذلك ، كان جائزا.

فإن كان الذي توجهت عليه اليمين أخرس فإنه يستحلفه بالإشارة والإيماء

٥٨٩

إلى أسماء الله تعالى ويوضع يده على اسم الله تعالى في المصحف ويعرف يمينه على الإنكار كما يعرف إقراره وأنظره (١) فان لم يحضر مصحفا كتب اسم الله ووضع يده عليه. وينبغي ان يحضر استحلافه من كان معتادا لفهم أغراضه وإشاراته وإيمائه

وان كتب نسخة اليمين في لوح ثم غسل اللوح وجمع الماء وأمر بشربه كان جائزا وكان حالفا إذا شربه ، وان امتنع من شربه الزم القيام بالحق.

وإذا أراد الحاكم استحلاف الخصم ، فينبغي ان لا يستحلفه إلا في مجلس الحكم. فإن أراد استحلاف من توجهت اليمين عليه ومنعه من حضور مجلسه مانع من عجز أو مرض أو ما جرى مجرى ذلك أنفذ الحاكم اليه من ينوب عنه في استحلافه.

فاذا وجبت اليمين على امرأة. فينبغي ان يستحلفها أيضا في مجلس الحكم ويعظم الايمان عليها وقد ذكرنا فيما سلف حكمها في البروز أو غيره فلا وجه لإعادته فإن امتنعت بعد اليمين من الخروج من الحق كان له حبسها ، كما له حبس الرجل وقد تقدم أيضا في ذلك مالا طائل في إعادته.

فاما مواضع الاستحلاف فقد قدمنا ذكرها ، فمن أراد الوقوف عليه نظر في موضعه ان شاء الله تعالى.

باب آداب القضاء

قال الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) (٢)

وقال تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (٣).

وقال تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (٤).

وقال تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٥).

وقال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ

__________________

(١) في نسخة « وإنكاره » عطفا على « إقراره » بدل « وأنظره »

(٢) المائدة ، الاية ٥٥

(٣) المائدة ، الاية ٤٩.

(٤) المائدة ، الاية ٥٠.

(٥) المائدة ، الاية ٥٢.

٥٩٠

النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (١).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من حكم في قيمة عشرة دراهم فأخطأ حكم الله جاء يوم القيامة مغلولة يديه (٢) ومن افتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض (٣).

وقال على عليه‌السلام كل حاكم حكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت. وقرء « يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) (٤).

ثم قال : والله لقد فعلوا ، تحاكموا الى الطاغوت وأضلهم الشيطان ضلالا بعيدا ، فلم ينج ، من هذه الأمة (٥) إلا نحن وشيعتنا وقد هلك غيرهم ، فمن لم يعرفهم فعليه لعنة الله (٦).

وقال الصادق عليه‌السلام الحكم حكمان ، حكم الله عزوجل وحكم الجاهلية ، فمن أخطأ حكم الله فحكم الجاهلية (٧).

وروى ان القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنة ، فاما الثلاثة التي في النار : فقاض قضى بالباطل وهو يعلم انه الباطل ، وقاضٍ قضى بالباطل وهو يظن انه حق وقاضٍ قضى بشي‌ء وهو لا يعلم انه حق أو باطل ، واما الذي في الجنة فقاض قضى بالحق وهو يعلم انه حق (٨).

__________________

(١) النساء ، الاية ٦٢

(٢) دعائم الإسلام ، ج ٢ ، ص ٥٢٨

(٣) دعائم الإسلام ، ج ٢ ، ص ٥٢٨

(٤) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٢ ، ص ١٦ النساء ، الاية ٦٢.

(٥) في نسخة « من هذه الآية » بدل « من هذه الأمة »

(٦) دعائم الإسلام ، ج ٢ ، ص ٥٣٠

(٧) دعائم الإسلام ، ج ٢ ص ٥٢٩ ، والوسائل ، ج ١٨ ، ص ١١ ، الحديث ٧

(٨) الوسائل ، ج ١٨ ، أبواب صفات القاضي ، الباب ٤ و ١٢ ، الحديث ٦ و ٥٩ ، ص ١١ و ١٢٧ ، مع اختلاف بين ما في المتن والروايات ، ولعل المعقول في المتن رواية أخرى.

٥٩١

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا جلس القاضي للحكم ، بعث الله اليه ملكين يسدد أنه فان عدل أقاما ، وان جار عرجا وتركاه (١).

وقال : من طلب حقا حتى يناله ، فان غلب عدله جوره فله الجنة ، وان غلب جوره عدله فله النار (٢) وروى عنه انه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الله تعالى مع الحاكم ما لم يجر فاذا جار بري‌ء منه ولزمه الشيطان (٣).

فجواز القضاء معلوم من دين الإسلام على وجه لا يعترضه شك وهو من فروض الكفائات وإذا قام به قوم سقط عن الباقين ، فإن أطبق أهل بلد على تركه وامتنعوا منه ، خرجوا ، وجاز للإمام عليه‌السلام قتالهم عليه ، لما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال ان الله لا يقدس امة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه (٤) ولأنه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

فإذا أراد الحاكم ان يحكم بين الناس فيستحب له ان يجلس لذلك في موضع بارز للناس ، مثل فضاء واسع أو رحبة أو ما أشبه ذلك : ليصل من كانت له حاجة من غير مزاحمة ، فيكون في ذلك رفق بهم ويستحب أيضا ان يكون هذا الموضع في وسط البلد ، لأنه أقرب ما يكون إلى المساواة بين الناس ، فان جلس في طرف البلد أو حكم في بيته أو في موضع ضيق كان جائزا.

ويستحب ان يصل إليه في مجلس حكمه كل أحد ، ولا يتخذ صاحبا يجب الناس عن الوصول اليه ويجوز ان يتخذ الحاجب لغير ذلك لما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : من ولي شيئا من أمور الناس فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم ، احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره (٥) فاما جلوسه للحكومة في المساجد فجائز وقد روى ان أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقضى في مسجد الكوفة (٦) ودكة القضاء فيه معروفة الى هذا

__________________

(١) المبسوط ج ٨ ، ص ٨٣

(٢) المبسوط ج ٨ ، ص ٨٣

(٣) المبسوط ج ٨ ، ص ٨٣

(٤) المبسوط ج ٨ ، ص ٨٢

(٥) المبسوط ج ٨ ، ص ٨٧

(٦) المبسوط ج ٨ ، ص ٨٧

٥٩٢

الوقت لا يختلف أحد فيها واما إقامة الحدود فمكروهة فيها بغير خلاف.

ولا ينبغي للحاكم ان يحكم وهو غضبان ، ويستحب له إذا غضب ترك الحكم الى ان يزول عنه الغضب ثم يقضى بين الناس بعد ذلك لما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : لا يقضى القاضي ولا يحكم الحكم (١) بين اثنين وهو غضبان وكل أمر يكون معه في معنى الغضبان فحكمه حكم الغضبان في تركه الحكم حتى يزول عنه ذلك مثل الجوع الشديد والعطش الشديد والغم الشديد والفرح الشديد ، والوجع الشديد ، ومدافعة الأخبثين ، والنعاس الغامر للقلب ، كل ذلك سواء فيما ذكرناه لما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : لا يقضى القاضي وهو غضبان مهموم ولا مصاب محزون ، ولا يقضى وهو جائع (٢) فإن خالف وقضى بين الناس وهو على الصفة التي ذكرناها فوافق الحق نفذ حكمه ، ولا ينقض حكمه.

ويكره تولى البيع والشراء بنفسه ، لما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : ما عدل وال اتجر في رعيته ابدا (٣).

ولا ينظر في ضيعته ونفقة عياله بل يوكل من ينوب عنه في ذلك ، لان جميع ذلك ما يشغله من القضاء ويستحب ان يكون وكيله مجهولا لأنه إذا عرف خون (٤) لأجل الحكم وكان وكيله جار مجراه ، فان ( خالف في هذا فباع ) (٥) واشترى بنفسه كان التصرف صحيحا نافذا ، لأنه [ ليس بمحرم وانما ] هو مكروه لأجل الحكم.

ويستحب للحاكم إذا ادعى الى وليمة [ أن يحضرها لما ] روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله لو دعيت الى ذراع لأجبت ولو اهدى الى ذراع لقبلت (٦).

__________________

(١) في نسخة « الحاكم » بدل « الحكم » المبسوط ، ج ٨ ، ص ٨٨

(٢) المبسوط ، ج ٨ ، ص ٨٨

(٣) المبسوط ، ج ٨ ، ص ٨٨

(٤) خونة : نسبه الى الخيانة ، تنقصه

(٥) ما بين الهلالين ساقط عن النسخة وانما أخذناه من المبسوط وكذا فيما بعده ، لان عبارته موافقة للكتاب

(٦) المبسوط ، ج ٨ ص ٨٩ ، الا ان فيه « لو اهدى الى كراع لقبلت ».

٥٩٣

فان كثرت الولائم تخلف عن الأكل (١) لأن [ قبول ] ذلك مستحب والقضاء مقدم عليها. ويعود المرضى ، ويشهد الجنائز ، ويأتي مقام الغائب لأنها قربة وطاعة. فإن كثر ذلك ، فازدحم ، عليه ، حضر الكل ، لأنه حق يسهل قضاؤه بحضور لحظة.

ويتصرف إذا حضر بلد ولايته ، فأول ما يبتدى به ان ينفذ الى الحاكم المعزول ، فيأخذ ديوان الحكم اليه ، وهو ما عنده ، وثائق الناس وحججهم ، المحاضر والسجلات ، لان من عادة القضاة إذا حكموا بشي‌ء ان يكون ذلك في سجل على نسختين ، نسخة في يد المحكوم له ونسخة في ديوان الحكم احتياطا ، فمتى ضاعت حجة ، رجع الى ما في ديوان الحكم. ويكون فيه كتب الوقف ، فإن العادة جارية عند القضاة بتجديدهم كتب الوقف كلما أخلقت ومات شهودها. ويكون فيه ودائع الناس أيضا ، فإن من الناس من يودع كتبه ووثائقه في ديوان ، لأنه أحفظ لها وأحوط عليها.

فاذا حصل الديوان عنده خرج الى المجلس الذي يجلس فيه للحكم بين الناس راكبا ان كان له مركبا ، أو ماشيا ان لم يكن له ذلك ، فاذا مر بقوم سلم عليهم عن يمينه وشماله ، لما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يسلم الراكب على الماشي ، والقائم على القاعد ، والقليل على الكثير (٢). فاذا وصل الى مجلسه سلم على من سبق اليه من الوكلاء والخصوم.

فان كان مجلسه في المسجد صلى حين يدخله ركعتين تحية المسجد لما روى من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين (٣) ، وان لم يكن [ المكان مسجدا كان بالخيار بين ان يصلى ركعتين ] ان كان وقتا تجوز النافلة فيه و [ بين ان يترك ، ويفرش له ما يجلس عليه وحده من حصير أو بساط ] أو

__________________

(١) في المبسوط « عن الكل »

(٢) المبسوط ، ج ٨ ، ص ٩٠

(٣) المبسوط ، ج ٨ ، ص ٩٠

٥٩٤

غير ذلك ولا [ يجلس على التراب ولا على بارية المسجد لأنه أهيب له ] عند الخصوم [ وأنفذ لأمره ، ويجلس عليه وحده ليتميز من غيره عند تقدم الخصم ] اليه. ويكون متوجها الى القبلة لما روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : خير المجالس ما استقبل به القبلة (١) وقد ذكر انه يكون ظهره إليها ، ليكون وجوه الخصوم في الاستحلاف إليها. فالأول أظهر.

فإذا جلس ، وقف على رأسه ثقة ترتب الناس ، فتقدم السابق فالسابق ، والأول فالأول ، ولا يقدم من تأخر ، ولا يؤخر من تقدم ، لان السابق أحق من غيره ، ثم ينظر في ذلك فان كان يكتب لنفسه كتب ما يحتاج إليه ، فان لم يكتب لنفسه اتخذ كاتبا ثقة حافظا ، ويجلس بين يديه قريبا منه بحيث يشاهد ما يكتبه.

وينبغي ان يكون في مجلسه أهل العلم من أهل الحق ، ليكون متى حدثت حادثة تحتاج فيها إلى سؤالهم عنها ليذكر الجواب فيها ، والدليل عليها ، فان كانوا بالقرب منهم ، ذاكرهم وان كانوا بعيدين عنه استدعائهم لذلك. فاذا حكم بحكم وكان موافقا للحق لم يكن لأحد معارضته فيه ، وان أخطأ وجب عليهم ان ينهوه وليس عندنا في الشرع قياس ، ولا اجتهاد ، ولا كل مجتهد عندنا مصيب ، فيوجب عليهم تنبيهه من هذه الوجوه.

وينبغي ان يحضر عنده شهود البلد ، يستوفي بهم الحقوق ويثبت لهم الحجج والسجلات والمحاضر واما مكان جلوسهم : فان كان الحاكم من يحكم بعلمه فان [ شاء استدناهم وان ] أراد ، باعدهم عنه لأنه ان كان يقضى بعلمه [ فمتى أقر عنده مقر بحق ثم رجع ] عنه حكم عليه بعلمه ، ولا يحتاج إلى [ الشهادة على إقراره ، وان كان ممن لا يقضى ] الحكم بعلمه ، استدعاهم اليه بحيث يسمعون [ كلام الخصمين كيلا يقر منهم مقر ] ثم يرجع عنه وإذا رجع عنه شهد به عنده شاهدان وحكم عليه بالبينة لا بعلمه فاذا جلس للحكم كان أول ما ينظر فيه حال المحبسين. لان الحبس عذاب ،

__________________

(١) المبسوط ، ج ٨ ، ص ٩٠

٥٩٥

فيخلصهم منه ، ولأنه قد يكون فيهم من تم عليه الحبس بغير حق. ثم ينظر بعد الفراغ منهم في حال الأوصياء ، والأمناء ، واللقطة ، والضوال ، وما ينفق بعد ذلك الحكم فيه هذا الذي ينبغي ان يبتدئ بالنظر فيه إذا جلس للقضاء في ابتداء ولايته.

إذا حضر عند الحاكم خصمان ان يكون أحدهما أكبر من الأخر ، وقد تعلم اللدد (١) وهي الالتواء والعنت من وجوه ، منها ان يقدم الإنسان خصمه الى الحاكم فيتحاكمه ، فتوجه اليمين [ فاذا بدء باليمين قطعها ] عليه وقال لي عليه بينة ، فاذا فعل ذلك أول مرة ، نهاه عن ذلك ومنعه منه وأعلمه « ان ذلك لا يحل ، ان لم يكن لك بينة » فان عاد الى ذلك ، زبره ونهاه وأغلظ له في النهى ، وصاح عليه ولا يعجل عليه بالتعزير ، لئلا يكون جاهلا بذلك. فان عاد ثالثا فقد فعل ما يستحق به التأديب والتعزير. فان كان قويا لا يكفه [ الا ] التعزير عزره ، وان كان ضعيفا لا يحتمل الضرب حبسه وأدبه بالحبس دون الضرب وان رأى أن المصلحة في ترك ذلك كله فعل.

وإذا أغلظ للحاكم في القول ، فقال [ حكمت على بغير حق نهاه ] فان عاد وقد استحق [ التعزير ـ ظ ] على ما يراه [ الحاكم ].

وينبغي للحاكم ان لا يكون ضعيفا مهينا لأنه لا يهاب ، فربما جرت بالمشاتمة وينبغي ان يكون فيه شدة من غير عنف ، ولين من غير ضعف فهو اولى وأحق بالمقصود

فان حدثت حادثة وأراد الحكم فيها ، فان كان عليها دليل من نص كتاب أو سنة أو إجماع عمل في الحكم فيها عليه ، وان لم يكن عليها دليل على جملة أو تفصيل ولا غير ذلك من الحجج وكانت يبقاه على الأصل ، رجع في ذلك اليه.

ولا يجوز ان يقلد غيره في حكم [ و ] لا يشاور فيه ولا يستفتي غيره ثم يحكم بتلك الفتيا ، لان الحاكم ينبغي ان يكون عالما بما وليه فان اشتبه عليه بعض الأحكام ذاكر أهل العلم لتفقهه في ذلك على الدليل.

__________________

(١) في الجواهر ، ج ٤٠ ، ص ٧٩ : « استعمل اللدد اى طلب اليمين من الخصم ثم قطعها عليه وقال : لي بينة سأحضرها ، ثم يعود إلى الأول وهكذا ».

٥٩٦

والقضاء لا ينعقد للقاضي الا بان يكون من أهل العلم والعدالة والكمال ، وكونه عالما : بان يكون عارفا بالكتاب والسنة ، والإجماع ، والاختلاف ، ولسان العرب واما القياس فلسنا نعتبره ، لان استعماله في الشريعة عندنا باطل.

فاما الكتاب ، فيفتقر في تعرفه إلى المعرفة بأشياء وهي : العام والخاص ، والمحكم والمتشابه ، والمفسر ، والمطلق والمقيد ، والناسخ والمنسوخ فاما العموم والخصوص لئلا يتعلق بعموم قد دخله الخصوص مثل قوله سبحانه « وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ » (١) هذا عام في كل مشركة ، حرة كانت أو امة وقوله تعالى « وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ » (٢) خاص في الحرائر فلو تمسك بالعموم غلط وكذلك قوله « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ » (٣) عام وقوله « مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ » (٤) خاص في أهل الكتاب.

واما المحكم والمتشابه ليقضى بالحكم وبالمفسر كقوله « أَقِيمُوا الصَّلاةَ » (٥) وهذا غير مفسر وقوله « وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ » (٦) و ( حِينَ تُمْسُونَ ) ـ يعنى المغرب والعشاء والآخرة ـ وحين تصبحون.

واما المطلق والمقيد ليبنى المطلق على المقيد مثل قوله سبحانه « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ » (٧) فهذا مطلق في العدل والفاسق وقوله « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » (٨) مقيدا بالعدالة فيبني المطلق عليه.

واما الناسخ والمنسوخ يقضى بالناسخ دون المنسوخ ، كآية العدة بالحول (٩) والآية التي تضمنت العدة بالأشهر (١٠)

__________________

(١) البقرة ، ٢٢١

(٢) المائدة ، ٥

(٣) التوبة ، ٥

(٤) التوبة ، ٩

(٥) البقرة ، ٤٣

(٦) الروم ، ١٨

(٧) البقرة ، ٢٨٢

(٨) الطلاق ، ٢

(٩) البقرة ، ٢٤٢ « وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ .. »

(١٠) البقرة ، ٢٣٥ « وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً »

٥٩٧

واما السنة فيحتاج ان يعرف منها شيئا : المتواتر والآحاد ـ ليعمل بالمتواتر دون الآحاد ـ والخاص والعام والناسخ والمنسوخ لما تقدم في نص القرآن ، ولما كان في السنة مجمل ومفسر ومطلق ومقيد ـ كما في الكتاب ـ احتاج الى ان يعرف جميع ذلك لما تقدم ذكره.

ويعرف الإجماع والاختلاف ، لأن الإجماع حجة لئلا يقضي بخلافه

ويعرف الاختلاف ليعلم هل هو موافق لبعض الفقهاء أم لا؟ وهذا عندنا يضعف إدخاله في هذا الموضع ، والمعمول على ما تقدم :

واما لسان العرب فيحتاج الى معرفته ، لان صاحب الشرع عليه وآله السلام خاطبنا به.

وقد ذكر انه لا يلزمه ان يكون عارفا بجميع الكتاب ، بل يكفي في ذلك معرفته بالآيات المحكمة وذكر : ان جميع ذلك خمس مأة آية وذلك يمكن معرفته.

والسنة تكفى ان يتعلق بالأحكام من سننه دون آثاره واخباره ، فان جميع ذلك لا يحيط به أحد علما ، وما قبلها مدون في الكتب في أحاديث مخصوصة.

واما الخلاف ، فهو متداول بين الفقهاء يعرفه أصاغرهم.

واما لغة العرب ، فيكفي أن يعرف شيئا ذكرناه دون ان يكون عارفا بجميع اللغات ـ وهذه الجمل الأخيرة غير بعيدة من الصواب ، بل الظاهر ان القاضي إذا كان علمها كانت كافية له فيما هو عليه.

واما كونه عدلا ثقة فلا بد منه ، لأنه ان كان فاسقا لم ينعقد له القضاء بالإجماع الأخلاف الأصم (١) لأنه أجاز ان يكون فاسقا وخلافه غير مؤثر في الإجماع.

واما كونه كاملا ، والمراد به كامل الخلقة والأحكام.

اما كامل الخلقة ، ان يكون بصيرا ، لأنه ان كان أعمى لا ينعقد له القضاء ، لأنه يحتاج إلى معرفة المقر من المنكر ، والمدعى من المدعى عليه ، وما يكتبه كاتبه بين

__________________

(١) مرت ترجمته ص ٥٠٣

٥٩٨

يديه. وان كان ضريرا (١) لم يعرف ذلك ، وإذا لم يعرفه لم ينعقد القضاء له كما ذكرناه

واما كمال الأحكام ، بان يكون بالغا ، حرا ، ذكرا ، لأن المرأة لا تنعقد لها القضاء على حال. ولا يجوز له الحكم بالاستحسان ولا بالقياس.

وإذا حكم بشي‌ء ثم بان له انه خطأ ، أو بان له ان الحاكم قبله حكم بشي‌ء وأخطأ فيه ، كان عليه نقض ما أخطأ هو فيه ، وكذلك ما أخطأ فيه غيره من الحكام المتقدمين عليه ، وحكم بما يعلمه من الحق.

وليس يجب عليه إذا ولى القضاء ان يتبع حكم من كان قبله ، ولو تبعه لكان جائزا لكن ليس عليه ذلك. لكن عليه ان ينقض ما يتفق ظهوره له ، فان الحكم فيه وقع بخلاف الحق. وإذا حضر مجلس حكمه خصمان لا يعرف لسانهما ، أو شهد عنده شاهد بشي‌ء لا يعرف ، لم يكن بد من مترجم يترجم عنه ، ليعرف الحاكم ما يقوله. والأظهر أن الترجمة شهادة ويفتقر الى العدد والعدالة والحرية ولفظ الشهادة ، وقد ذكر خلاف ذلك ، وما ذكرناه هو الأحوط والأظهر من حيث انه مجمع على العمل به.

وقد تقدم في باب الشهادات من يجوز قبول شهادته ومن لا يجوز ، فلا حاجة الى أن نذكر تصفحه بحال من يحضر مجلسه في شهادة ، وهل هو عدل فيحكم بشهادته أو غير عدل فيردها ، اللهم الا ان يكون لم يتقدم له المعرفة بمن يحضر ليشهد ، فإنه لا بد أن يكشف عن حاله فيحكم بشهادة من يثبت عنده عدالته ، ويطرح شهادة من لا يكون كذلك. وقد تقدم أيضا طرف من كيفية السماع لشهادتهم وتعريفهم في ذلك ، وغيره ما يغني معرفته هناك من إعادته هاهنا.

ولا يجوز للحاكم ان يرتب له شهودا يسمع شهاداتهم دون غيرهم من سائر الناس [ بل يدع الناس ] وكل من شهد عنده وعرفه والا سأل عنه ، لأنه إذا رتب قوما فإنما يفعل ذلك بمن هو عدل عنده ، وغير من رتبه لذلك ، وقد يكون مثله أو أعدل منه. فاذا كان الكل سواء ، لم يجز ان يختص بعضهم بالقبول دون بعض ولان

__________________

(١) الضرير : الذاهب البصر

٥٩٩

فيه مشقة على الناس لشدة حاجتهم إلى الشهادة بالحقوق في كل وقت ، من نكاح وغصب ومعاملة وقتل وغير ذلك. وإذا لم يقبل الا قوما دون قوم شق ذلك على الناس ، ولان فيه ضررا عليهم. فان الشاهد إذا علم انه لا يقبل قول غيره ربما تقاعد حتى يأخذ الرشوة عليها. ولان فيه إبطال الحقوق ، فان كل من له حق ، لا يقدر على إقامة البينة به من كان مقبول الشهادة راتبا لها دون غيره ، فاذا كان كذلك لم يجز له ترتيبهم. فان رتب قوما قد عرف عدالتهم وسكن إليهم في استماع أقوالهم وتقبل شهادتهم ، فاذا شهد عنده بالحق غيرهم ، بحث عن أحوالهم ، فاذا زكوا حكم ان (١) شهادتهم ، لم يكن بذلك بأس

وينبغي أن يكون له كاتب يكتب بين يديه ، يكتب عنده الإقرار والإنكار وغير ذلك ، وصفة ذلك الكاتب ان يكون عدلا ، فقيها ، عاقلا ، نزها عن الطمع. وانما اعتبرت العدالة لأنها موضع امانة. واعتبر العقل لئلا يخدع. وكونه فقيها ، ليعرف الألفاظ التي تتعلق الأحكام بها ـ ولا بغيرها ـ لان غير الفقيه لا يفرق بين واجب وجائز ، وليكون أخف على القاضي ، لأنه يفوض اليه ذلك ، ولا يحتاج الى مراعاته فيما يكتبه ويكون نزها بريا من الطمع ، لئلا يرتشي فيغير. ويجوز ان يتخذ لذلك عبدا لأنه قد يجوز ان يكون عدلا ، ولا يتخذ كافرا بغير خلاف.

وفي آخر نسخة المكتبة الرضوية

تم كتاب المهذب في الفقيه للقاضي أبي القاسم بن البراج نور الله ضريحه

وفرغ من تحريره العبد الضعيف الفقير المحتاج إلى رحمة الله

تعالى أبو طالب على بن محمد بن على يوم الثلاثاء الرابع عشر

من صفر سنة احدى وخمسين وست مأة وهجرية

حامدا لله مصليا على نبيه محمد وعترته

الأطهرين وقد كتب هذا الكتاب مصنفه

في سنة سبع وستين وأربع مأة

__________________

(١) كذا في النسخ ولعله تصحيف وأصله « عن »

٦٠٠