المهذّب - المقدمة

المهذّب - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : الفقه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تقديم : جعفر السبحاني

رزقنا الله الاجتهاد

الذي هو أشد من طول الجهاد

هذه الكلمة المباركة التي افتتحنا به المقال قد سمعناها من بطل الفقه والاجتهاد ، الامام المغفور له : السيد حسين البروجردي (١) وقد نقلها عن الشيخ الأعظم الأنصاري ، في درسه الشريف ثم أضاف :

هذه الكلمة الصادرة عن شخصية لامعة في سماء العلم والفضيلة وعن بطل كبير في مجالي الفقه والأصول من الذين لا يسمح بهم الدهر إلا في فترات يسيرة ويضن بهم إلا في الفينة بعد الفينة.

هذه الكلمة ، توقفنا على مكانة الاجتهاد من العظمة والصعوبة وان الوصول إليه

__________________

(١) ألقاها في محاضراته الأصولية التي كانت تحضرها عدة من الأعلام والفضلاء في مسجد « عشق على » في « قم » المحمية عند البحث عن حجية الخبر الواحد وذكرها الشيخ الأعظم في التنبيه الثاني من تنبيهات الانسداد عند البحث عن نتيجة دليل الانسداد وانها هل هي قضية مهملة من حيث الأسباب أو قضية كلية والموجود في الفرائد هكذا : ووفقنا الله للاجتهاد .. لاحظ طبعة رحمة الله صفحة ١٤٨.

٣

لا يتم الا باقتحام عقبات وطئ مسافات بعيدة ، أشد من العقبات التي يقتحمها المجاهد المناضل لفتح الجبال والقلل ، والأمصار والبلدان ، إلى درجة ان الشيخ الأعظم ـ وهو أستاذ الفقهاء والمجتهدين وقد عكف على كتبه العلماء واستضاء بنور علمه الفضلاء ـ يتمناه ويطلب منه سبحانه ان يرزقه.

فاذا كان هذا هو حال الشيخ الأعظم وهو يطلب الاجتهاد ويدعو الله سبحانه ان يرزقه ، فما ظنك بغيره خصوصا الطبقة الجدد الذين لم يمارسوا الاجتهاد والاستنباط إلا في أبواب ومسائل يسيرة و.

هذا كلامه قدس‌سره نقلناه بتصرف يسير فنقول :

ان استفراغ الوسع واستنفاد الجهد في استنباط أحكام الله سبحانه يتوقف على تحصيل علوم وإحراز صلاحيات ذكرها الفقهاء في أبحاث القضاء والاجتهاد والتقليد تحت عنوان « مبادئ الاستنباط » ونحن في غنى عن تكريرها للقارئ الكريم في هذا المقام مع ضيق المجال غير انا نحب التركيز على أمرين مهمين كان يحث عليهما سيدنا الراحل آية الله البروجردي وكان عليهما نظام دراسته الفقهية.

١ ـ الوقوف على الآراء المطروحة في عصر الأئمة

لا شك ان للآيات أسباب نزول يعبر عنها أحيانا بشأن النزول وهي تلعب دورا كبيرا في إيضاح مفاد الآيات وتبيين اهدافها وتلقى ضوءا على مضامينها ولا منتدح للباحث من الرجوع إليها إذا صحت إسنادها ووصلت اليه بطرق صحيحة.

نقول : كما ان للآيات هذه الحال ، فكذا للروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت مثل هذا فإنه لا تظهر اهدافها الا بالمراجعة إلى الموجبات والأسباب التي بعثت الأئمة إلى إلقائها ، فالمسائل المعنونة في أحاديثهم والأسئلة التي طرحت عليهم ، والأجوبة التي أجابوا بها عنها ، كانت مطروحة في مجتمعهم وبيئتهم إذ كان للصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الفقهاء وجلسوا منصة الفتيا ، فيها آراء ونظريات وأقوال ، فلم يكن للأئمة المعصومين عندئذ بد عن إبداء النظر في هذه المسائل اما ابتداء أو

٤

بعد السؤال عنهم ـ من جانب أصحابهم وتلاميذهم ـ فكانت بين آراء أولئك الفقهاء في تلك المسائل وما قال به الأئمة ، صلة وثيقة ورابطة خاصة بحيث تعد تلك الآراء قرينة منفصلة لكلماتهم وأحاديثهم وعند ذلك لا غنى للفقيه الباحث ، عن الوقوف على تلك الآراء والنظريات التي كان يتبناها فقهاء عصرهم حتى تكون على بصيرة كاملة منها ثم يرجع في كل مسألة الى ما اثر عن أئمة أهل البيت ويستوضح اهدافها على ضوء تلك الآراء المطروحة في تلك الأوساط العلمية. فعند ذلك يتجلى لهذه المأثورات معنى خاص لم يكن مفهوما قبل الرجوع الى تلك الملابسات والظروف ، ولنأت بمثال وان كان ضيق المجال لا يسمح بذلك.

روى الصدوق في الخصال في حديث شرائع الدين عن الامام الباقر عليه‌السلام انه قال :

« والإجهار ببسم الله الرحمن الرحيم واجب » (١).

فاذا نظر الإنسان الى هذه الكلمة ( واجب ) يتحير في مفاد الرواية وانها إلى ماذا تهدف ، فهل المراد وجوب الجهر في الصلوات التي تجهر فيها بالقراءة ، فهذا توضيح للواضح وان كان المراد وجوب الجهر بها في الصلوات الإخفائية ، فهذا لم يقل به أحد وتكون الرواية معرضا عنها لعدم الإفتاء بمضمونها ، غير انه إذا رجع الى الأقوال المطروحة حول البسملة في زمن الامام عليه‌السلام من جانب الفقهاء يقف على مضمون الرواية فإن فقهاء عصر الامام (ع) كانوا :

بين قائل بترك البسملة في القراءة لحديث انس وحديث ابن عبد الله المغفل قال : سمعنى ابى فانا أقول :

بسم الله الرحمن الرحيم فقال اى بنى! محدث ، إياك والحدث قال : ولم أر واحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أبغض إليه الحدث في الإسلام ـ يعني منه ـ فانى صليت مع النبي (ص) ومع ابى بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها إذا صليت فقل الحمد لله رب العالمين ، أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن وافتى بها مالك والأوزاعي وقالا لا يقرؤها في أول الفاتحة لحديث انس.

__________________

(١) الوسائل الجزء ٤ الباب ٢١ من أبواب قراءة الصلاة الحديث ٥.

٥

وعن عائشة : ان النبي (ص) كان يفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ « الحمد لله رب العالمين ».

وبين قائل بأنه يقرأ بها سرا ولا يجهر بها ولا تختلف الرواية عن أحمد : ان الجهر بها غير مسنون قال الترمذي : وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي (ص) ومن بعدهم من التابعين وبه يقول الحكم وحماد والأوزاعي والثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي.

نعم يروى عن عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير ، الجهر بها وهو مذهب الشافعي » (١).

وفي هذا الجو المزدحم بأقاويل حول نفس البسملة في الصلوات كلها ، والجهر بها في خصوص الجهرية منها ، يقول الامام « والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم واجب » ولا يريد منه الا الجهر في الصلوات الجهرية دون الإخفائية ولا يظهر هذا المعنى الا بالرجوع إلى آرائهم المطروحة حول البسملة ولأجل ذلك يقول الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : كتموا بسم الله الرحمن الرحيم فنعم والله الأسماء كتموها (٢).

ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة طويلة حول الأحداث التي ظهرت بعد رسول الله (ص) وعارضها الامام : وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (٣)

لزوم دراسة الفقه المقارن

بهذا البيان يتجلى لزوم دراسة الفقه الإسلامي بشكل مقارن وبعرض المناهج والمدارس الفقهية بعضها على بعض والقضاء حولها بالكتاب والسنة وسائر الأدلة الاجتهادية حسب ما فعله شيخ الطائفة الطوسي في خلافه والعلامة في تذكرته ومنتهاه ، فان لتلك الدراسة مزايا ومعطيات خاصة لا توجد في الدراسة على أساس مذهب واحد

__________________

(١) لاحظ مغني ابن قدامة ج ١ ص ٤١٨ ـ ٤٢٠ ـ راجع الخلاف ج ١ ص ١٠٣ ـ المسألة ٨٣.

(٢) الوسائل الجزء ٤ ـ الباب ٢١ ـ الحديث ٢.

(٣) روضة الكافي ج ٨ ص ٦١.

٦

أضف اليه أن في المقارنة تتجلى قوة منطق أهل البيت وصلابته كما يظهر ركونهم في بيان الأحكام قبل كل شي‌ء إلى الكتاب والسنة ويتبين ان كثيرا من الفتاوى التي يتبناها غيرهم فتاوى شاذة عن الكتاب والسنة.

هذا وفي ضوء هذه الدراسة تنحل مشكلة التقريب وترتفع موانعها إذ تظهر بوضوح ان الفقه الإمامي يتفق غالبا مع أحد آراء أئمة المذاهب الأربعة أو آراء من تقدمهم من الصحابة والتابعين والفقهاء الذين جاؤا بعدهم وعند ذلك يظهر انه لا إشكال في ان يعتنق ذلك المذهب كل من أراد ويعمل به على قرار عمله بسائر المذاهب وان تتخذه الحكومات الإسلامية مذهبا رسميا للمملكة من دون لزوم التقيد باطار خاص في المذاهب الفقهية.

٢ ـ الشهرة الفتوائية وقيمتها :

هذا هو الأمر الثاني الذي نريد ان نركز عليه في هذا التقديم ونقول انه غير خفي على الباحث النابه ان الشهرة على أقسام ثلاثة :

١ ـ الشهرة الروائية.

٢ ـ الشهرة العملية.

٣ ـ الشهرة الفتوائية.

والمراد من الاولى هو اشتهار الرواية بين نقلة الأحاديث من دون إفتاء على مضمونها وهذه الشهرة لا تسمن ولا تغنى من جوع بل هي موهنة للرواية لأن نقل الرواية من دون الإفتاء بمضمونها يورث الشك فيها إذ لو كانت الرواية خالية عن الاشكال لما اعرض نقلتها عن مضمونها.

وعلى الجملة لو كانت الرواية مما يتعلق بالأحكام والإفتاء بمضمونها فإعراض النقلة وشيوخ المحدثين والمفتين من بينهم ، يفيد انهم وقفوا على وجود خلل في جهة صدورها أو غيرها من الجهات فلم يروها صالحة للاستناد فأعرضوا عنه ، والرواية التي هذا شأنها خارجة عن حريم أدلة الحجية لأن القدر المتيقن هو الخبر الموثوق

٧

بصدوره وجهة صدوره والخبر المشكوك من بعض هذه الجهات غير مشمولة لأدلة الحجية.

والمراد من الثانية هي الرواية المشهورة التي تضافرت على نقلها والإفتاء بمضمونها ، نقلة الآثار وأصحاب الفتيا ، فلا شك ان مثل هذه الشهرة يورث الاطمئنان وتسكن اليه النفس ، وهي التي يقول الإمام في حقها في مقبولة عمر بن حنظلة « ينظر الى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه .. وانما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه الى الله ورسوله » (١)

وتوضيح الدلالة يتوقف على بيان أمور أربعة :

١ ـ ان المراد من « المجمع عليه » ليس ما اتفق الكل على روايته بل المراد ما هو المشهور بين الأصحاب في مقابل ما ليس بمشهور ويوضح ذلك قول الامام عليه‌السلام « ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك ».

٢ ـ ان المراد من إجماع الأصحاب واشتهارها بينهم هو نقل الرواية مع الإفتاء بمضمونه إذ هو الذي يمكن ان يكون مصداقا لما لا ريب فيه. والا فيكون مما فيه ريب كله والشك أجمعه.

٣ ـ ان المراد من قوله « مما لا ريب فيه » هو نفى الريب على وجه الإطلاق لأن النكرة في سياق النفي يفيد العموم فالرواية المشهورة إذا أفتى على مضمونها الأصحاب يكون مصداقا لما ليس فيه أى ريب وشك ، وما ربما يتصور من ان المراد من قوله « لا ريب فيه » هو نفى الريب النسبي بالإضافة إلى الريب الموجود في مقابلها خلاف الظاهر وخلاف القاعدة المسلمة بين الأدباء في مدخول « لا » النافية حيث اتفقوا

__________________

(١) الوسائل الجزء ١٨ ـ الباب ٩ ـ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ وقد رواها المشايخ الثلاث في جوامعهم وتلقتها الأصحاب بالقبول بل هي المدار في باب القضاء ويظهر بالمراجعة إلى كتبه مضافا الى إتقان الرواية وعلو مضمونها والشك والترديد في صحتها أشبه شي‌ء بالوسوسة.

٨