مستمسك العروة الوثقى - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١١

[ مسألة ٥٣ ] : إذا قلد من يكتفي بالمرة مثلا في التسبيحات الأربع واكتفى بها ، أو قلد من يكتفي في التيمم بضربة واحدة ، ثمَّ مات ذلك المجتهد فقلد من يقول بوجوب التعدد ، لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة [١].

______________________________________________________

جواز البقاء على تقليد الميت فأدى رأيه الى ذلك كغيره من المجتهدين كان تقليده بذلك صحيحا. لأن التقليد الصحيح لا بد أن يكون من مباديه الاجتهاد لما عرفت آنفا من أن حجية التقليد لا بد أن تنتهي إلى الاجتهاد ، لئلا يلزم الدور أو التسلسل. وعلى هذا لا بأس باستثناء هذه الصورة من حكم المسألة لكن المنصرف من العبارة غيرها.

[١] هذا إما مبني على اقتضاء موافقة الأمر الظاهري للاجزاء. لكن المحقق في محله خلافه ، لقصور أدلته عن إثبات ذلك ، وإطلاق دليل الواقع محكم. أو على دعوى قيام الدليل عليه بالخصوص ، وهو إما ظاهر الإجماع بل نسب إلى بعض دعوى صريح الإجماع بل الضرورة عليه. وفيه ـ مع أنه غير ثابت ـ : أن المحكي عن العلامة والعميدي [ قدهما ] دعوى الإجماع على خلافه. وإما لأنه لولاه لم يبق وثوق بالفتوى. لكنه جار في كثير من موارد الأحكام الظاهرية التي يحتمل قيام أمارة في المستقبل على خلافها وإما لدعوى قيام السيرة عليه. لكنها غير ثابتة أيضا. وإما لدعوى كونه مقتضى نفي العسر والحرج. لكنها غير مطردة في جميع فروض المسألة.

وإما لأن ما دل على جواز العدول أو وجوبه إنما دل عليه بالإضافة إلى الوقائع اللاحقة ، إذ العمدة فيهما الإجماع أو أصالة التعيين في الحجية عند الدوران بينه وبين التخيير ، وكلاهما لا يثبتان الحجية بالإضافة إلى الوقائع السابقة ، لإهمال الأول فيقتصر فيه على القدر المتيقن ، ولا سيما مع تصريح جماعة من الأعاظم بالرجوع في الوقائع السابقة إلى فتوى الأول وعدم وجوب‌

٨١

______________________________________________________

التدارك بالإعادة أو القضاء. ولورود استصحاب الأحكام الظاهرية الثابتة بمقتضى فتوى الأول في الوقائع السابقة على أصالة التعيين ، لأنها أصل عقلي لا يجري مع جريان الأصل الشرعي. وبالجملة : استصحاب الحجية لفتوى الميت بالإضافة إلى الوقائع السابقة لا يظهر له دافع.

نعم لو كان دليل حجية فتوى الحي بعينها دليلا لفظيا أمكن التمسك بإطلاقه بالإضافة الى جميع الوقائع لاحقة وسابقة. لكنه غير ظاهر ، كما عرفت في مسألة جواز تقليد الميت.

وكذا الحال في جميع الموارد التي يكون فيها العدول الى مجتهد مخالف في الفتوى للمرجع في الزمان السابق إذا كان دليله لبيا لا يمكن التمسك بإطلاقه بالإضافة إلى الوقائع السابقة ، فإن القدر المتيقن في حجية فتوى اللاحق لما كان خصوص الوقائع اللاحقة كان المرجع في الوقائع السابقة استصحاب الحجية لفتوى السابق بلا مانع. فاذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط فعدل المقلد إلى غيره المحالف له في الفتوى اقتصر في العدول على الوقائع اللاحقة لا غير. نعم لو كان العدول لأجل أعلمية المعدول اليه فوجوب العدول إليه يقتضي تدارك الأعمال السابقة ، لإطلاق دليل حجية فتوى الأعلم حتى بناء العقلاء الشامل للأعمال السابقة كاللاحقة. أما في غير ذلك من من موارد العدول فالحكم فيه كما تقدم. وكذلك الحكم لو عدل المجتهد عن الفتوى بالطهارة إلى الفتوى بالنجاسة مثلا ، فان المقلد يجب عليه العمل بالفتوى اللاحقة في الوقائع المتجددة اللاحقة ، ولا يجب عليه التدارك بالإعادة أو القضاء بالإضافة إلى الوقائع السابقة لعين الوجه المتقدم. اللهم إلا أن يقال : اعتراف المفتي بخطئه في فتواه الأولى مانع من صحة الاعتماد عليها من أول الأمر ، لأن حجيتها مشروطة بعدم الاعتراف بالخطإ ولو بعد حين ، فالفتوى التي يعلم بلحوق الاعتراف بالخطإ فيها ليست موضوعا لدليل الحجية ولا مشمولة لعمومه.

٨٢

وكذا لو أوقع عقداً أو إيقاعا بتقليد مجتهد يحكم بالصحة ثمَّ مات وقلد من يقول بالبطلان يجوز له البناء على الصحة [١]. نعم فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني. وأما إذا قلد من يقول بطهارة شي‌ء ـ كالغسالة ـ ثمَّ مات وقلد من يقول بنجاسته ، فالصلوات والأعمال السابقة محكومة‌

______________________________________________________

نعم لو كان العدول لنسيان المستند من دون اعتراف منه بخطئه واحتمل صحته كان استصحاب الحكم الظاهري الثابت سابقاً في محله. فتأمل جيداً.

وأما حكم المجتهد نفسه بالإضافة إلى إعماله السابقة على العدول الى خلاف ما أفتى به أولا ، فالظاهر وجوب التدارك عليه ، لأن الدليل الدال في نظره على مضمون الفتوى اللاحقة لا فرق فيه بين الوقائع السابقة واللاحقة فمقتضى وجوب العمل به لزوم التدارك بالإعادة أو القضاء. ودليل الفتوى الاولى بعد نسيانه أو اعتقاده الخطأ فيه لا يصلح لإثبات صحة الأعمال السابقة كما هو ظاهر.

هذا ومقتضى ما ذكرنا في وجه عدم لزوم التدارك في مفروض مسألة المتن : أنه لو كان عمل العامي في مدة من عمره بلا تقليد غفلة أو عمدا ، فالمدار في صحة أعماله مطابقتها لفتوى من يجب الرجوع اليه حال العمل ، لا حال الالتفات أو الندم ، لحجية الفتوى السابقة في حقه دون اللاحقة. نعم لو فرض اختلاف الفتوى حال العمل ، فلأجل عدم حجية إحدى الفتويين بعينها قبل الاختيار ، يكون المدار في صحة العمل مطابقته لما يختاره من الفتويين ولو بعد العمل. أما مع فرض اتفاق الفتاوى حال العمل ، أو انفراد المجتهد المفتي ، فالمدار في صحة العمل مطابقته للفتوى حينه لا غير وان حدث الاختلاف في الفتوى بعد ذلك.

[١] لا فرق في جميع ما ذكرنا بين العبادات والمعاملات. والتفصيل بينهما‌

٨٣

بالصحة وان كانت مع استعمال ذلك الشي‌ء. وأما نفس ذلك الشي‌ء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته [١]. وكذا في الحلية والحرمة ، فإذا أفتى المجتهد الأول بجواز الذبح بغير الحديد مثلا. فذبح حيواناً كذلك فمات المجتهد وقلد من يقول بحرمته ، فان باعه أو أكله حكم بصحة البيع واباحة الأكل. وأما إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله ، وهكذا.

______________________________________________________

بوجوب التدارك في الثانية دون الاولى ، بدعوى اختصاص الإجماع على عدم التدارك بها دون الثانية. ضعيف ، لما عرفت من منع الإجماع ، والمتعين العمل بما ذكرنا.

والمتحصل منه أمور : [ الأول ] : إذا عدل جوازاً أو وجوبا لا يجب عليه تدارك الأعمال السابقة المخالفة لفتوى المعدول اليه إلا إذا كان أعلم. [ الثاني ] : إذا عدل المجتهد عن فتواه الى ما يخالفها عملا وجب على مقلديه تدارك الأعمال السابقة المخالفة للفتوى اللاحقة إذا كان يعترف بخطئه في الفتوى. [ الثالث ] : ان حكم المجتهد نفسه لو عدل إلى ما يخالف فتواه وجب تدارك الأعمال السابقة المخالفة للمعدول إليها [ الرابع ] أن العامل بلا تقليد المدار في صحة عمله الموافقة للفتوى حين العمل ، إلا إذا تعددت واختلفت فان المدار الموافقة للفتوى التي يختارها بعد ذلك [ الخامس ] : أن الكلام في هذه الأمور يطرد في العبادات والمعاملات على نسق واحد.

[١] هذا غير ظاهر ، فإن طهارة الماء من آثار عدم انفعاله بملاقاة النجاسة في مقام التطهير ، والملاقاة لما كانت سابقة كانت مورداً لتقليد الأول لا الثاني. وكذا الحال في حلية لحم الحيوان المذبوح بغير الحديد ،

٨٤

______________________________________________________

فإنها من آثار تذكيته بغير الحديد ، وهي واقعة سابقة يكون المرجع فيها فتوى الأول وتترتب عليها أحكامها ، فلا فرق بين الزوجة المعقود عليها بالفارسية التي تبقى على الحلية بعد العدول الى الثاني ، لأن حليتها من آثار صحة العقد بالفارسي الواقع في حال تقليد الأول ، وبين المثالين المذكورين. وكذا لو قلد الأول في تطهير الثوب والبدن بالماء مرة ، ثمَّ بعد وقوع التطهير قلد الثاني ، فإن الطهارة في حال تقليد الثاني من آثار التطهير السابق ، فهو واقعة سابقة يرجع فيها الى تقليد الأول ، وهكذا الحال في أمثال ذلك من الموارد.

والمعيار : أن الأثر الثابت حال تقليد الثاني ان كان من آثار السبب الواقع في حال تقليد الأول فالعمل فيه على تقليد الأول ، وان كان من آثار أمر حاصل حين تقليد الثاني فالعمل فيه عليه لا على تقليد الأول. مثلا لو كان عنده مسكر فأفتى له الأول بطهارته فرتب عليه أحكام الطهارة ثمَّ مات فقلد من يقول بنجاسته وجب عليه اجتنابه ، لأن الحكم المذكور من آثار ذاته الحاضرة ، بخلاف حلية الزوجة المعقود عليها بالفارسية سابقاً ، أو اللحم المذبوح حيوانه بغير الحديد ، أو الثوب الذي طهره سابقا بالماء مرة ، أو الماء الملاقي للنجس في مقام التطهير أو نحو ذلك ، فان الجميع يرجع فيها الى فتوى الأول ، لاستنادها إلى أمر سابق صحيح في نظر الأول وقد قلده فيه ، ولا فرق في الواقعة السابقة بين سببية شي‌ء وعدمها ، واشتغال ذمة وفراغها وحصول امتثال وعدمه. فلاحظ وتأمل.

[ تنبيه ] : قد تقدم في المسألة الإحدى والأربعين أنه إذا شك في صحة التقليد بنى على الصحة ، وذكرنا هناك أن جريان أصل الصحة مبني على اعتبار صحة التقليد في الاجزاء ظاهراً بعد العدول. وهذا المبنى لا يتم بناء على ما ذكرنا ، لأن حجية الفتوى الأولى بالإضافة إلى الأعمال السابقة‌

٨٥

[ مسألة ٥٤ ] : الوكيل في عمل عن الغير كإجراء عقد أو إيقاع أو إعطاء خمس أو زكاة أو كفارة أو نحو ذلك ـ يجب أن يعمل بمقتضى تقليد الموكل لا تقليد نفسه [١] إذا كانا مختلفين. وكذلك الوصي في مثل ما لو كان وصياً في استيجار الصلاة عنه يجب أن يكون وفق فتوى مجتهد الميت.

______________________________________________________

حتى بعد العدول لم يشترط فيها التقليد. وحينئذ لو شك في صحة التقليد السابق ، فان رجع الى الشك في حجية الفتوى التي يطابقها العمل وجب عليه الفحص عن ذلك ، ليحرز الاجتزاء به ظاهراً. ولا مجال لإجراء أصالة الصحة ، لعدم كونها موضوعا لأثر عملي. وإن رجع الى الشك في صحة المقدمات التي اعتمد عليها عند التقليد ـ مثل صحة البينة القائمة على عدالة المجتهد أو اجتهاده أو نحو ذلك ـ فلا أثر للشك المذكور بعد أن أحرز بعد العدول شرائط الحجية [ وبالجملة ] : المدار في عدم وجوب التدارك حجية الفتوى السابقة التي كان العمل على طبقها ، سواء أكان اعتماداً عليها أم لا وسواء أكان اعتماده على حسب الموازين أم لا. فلاحظ.

[١] لا ينبغي التأمل في أن إطلاق الوكالة يقتضي إيكال تطبيق العمل الموكل عليه الى نظر الوكيل ، فاذا وكله على شراء فرس بدرهم ، وكان نظر الوكيل أن المطابق لمفهوم شراء الفرس بالدرهم هو كذا ، كان موضوعا للتوكيل ونافذاً في نظره. نعم إذا اتفق التفات الموكل إلى الاختلاف في التطبيق فقد يشكل ذلك من جهة أن نظر الموكل مانع من عموم التوكيل لمورد الاختلاف. ويدفعه : أنه وان كان يمنع من عمومه بنظر الموكل تفصيلا ، لكن لا يمنع من عمومه إجمالا ، وهو كاف في جواز العمل. مثلا إذا وكله في أن يعقد له على امرأة ، وكان الموكل يعتقد فساد العقد بالفارسية والوكيل يعتقد صحته ، فان موضوع الوكالة وهو العقد الصحيح بإطلاقه الإجمالي ينطبق على‌

٨٦

______________________________________________________

العقد بالفارسية وان كان لا ينطبق بإطلاقه التفصيلي بنظر الموكل. نعم إذا كانت قرينة على تقييد الوكالة بالعمل بنظر الموكل ، أو كان ما يصلح أن يكون قرينة على ذلك ، لم يصح عمل الوكيل بنظره المخالف لنظر الموكل ، وان لم يكن كذلك فإطلاق التوكيل يقتضي جواز عمل الوكيل بنظره ، ومجرد التفات الموكل إلى الاختلاف غير كاف في تقييد إطلاق التوكيل ، ففي مقام الإثبات لا مانع من الأخذ بالإطلاق إذا تمت مقدمات الحكمة.

وكذلك الكلام في الوصي إذ هو كالوكيل من هذه الجهة ، فإن الوصاية استنابة في التصرف بعد الممات ، والوكالة استنابة في حال الحياة. وأما المتبرع عن الغير في عبادة ـ كصلاة وصوم ـ أو غير عبادة ـ كوفاء دين ـ فلا ينبغي التأمل في جواز عمله بنظره حتى مع التفات المتبرع عنه إلى خطأ المتبرع في التطبيق ، ومنعه عن العمل ، لان عمل المتبرع ليس منوطا بأمر المتبرع عنه ، ولا بإذنه ، وإنما هو منوط بحصول الجهات المصححة للتبرع ، فاذا علم بحصولها صح منه التبرع وان كان يخالفه المتبرع عنه ويخطؤه بنظره التفصيلي.

وأما الأجير على عمل فيجوز أن يستأجر على العمل بنظره ، كما يجوز أن يستأجر على العمل بنظر المستأجر ، وعلى العمل بنظر شخص ثالث وان كان نظرهما مخالفا لنظره ، لأنه يكفي في صحة الإجارة ترتب أثر عقلائي على العمل ، وكل ذلك مما يترتب عليه أثر عقلائي ولو كان هو الفراغ الاحتياطي. نعم مع علم الأجير ببطلان العمل العبادي لا تصح الإجارة ، لعدم القدرة على التقرب. أما إذا لم يكن العمل عبادة يكون الأجير قادراً على العمل حتى مع اعتقاد البطلان ، وكذا لو كان عبادة مع احتمال كونه موضوعا للأمر. وحينئذ لا مانع من صحة الإجارة إذا كان يترتب عليه تفريغ ذمة المنوب عنه احتياطا ولو بنظر المستأجر ، حتى لو كان الأجير‌

٨٧

[ مسألة ٥٥ ] : إذا كان البائع مقلداً لمن يقول بصحة المعاطاة مثلا ، أو العقد بالفارسي ، والمشتري مقلداً لمن يقول بالبطلان ، لا يصح البيع بالنسبة إلى البائع أيضاً ، لأنه متقوم بطرفين [١] فاللازم أن يكون صحيحاً من الطرفين. وكذا في كل عقد كان مذهب أحد الطرفين بطلانه ، ومذهب الأخر صحته.

______________________________________________________

يعتقد عدم ترتب الأثر المذكور عليه ، فان أمان المستأجر من الخطر كاف في كونه أثراً مصححا للإجارة وأخذ الأجرة. هذا حال الإجارة في مقام الثبوت ، أما في مقام الإثبات فإن كانت قرينة على تقييد العمل بنظر شخص معين تعين العمل عليها ، وإلا كان مقتضى إطلاق الإجارة العمل بنظر الأجير على نحو ما تقدم في الوكيل.

ومن ذلك تعرف حكم الوصي عن الميت في الاستنابة عنه في صلاة أو صيام فإنه إن كانت قرينة على تقييد الوصية بالعمل بنظر شخص معين فالعمل عليها ، وإلا كان مقتضى إطلاقها الاستنابة في العمل المطابق لنظر الوصي. وكذلك الحال في الوكيل عن الحي في الاستنابة عنه في العبادات التي تجوز فيها النيابة عن الحي فإن مقتضى إطلاق التوكيل أن يكون عمل الأجير صحيحاً بنظره لا بنظر الأجير ولا بنظر الأصيل. ومن ذلك تعرف الإشكال في بعض الحواشي على المقام.

[١] هذا غير ظاهر ، فان وجود العقد وان كان متقوما بالطرفين ، كما أن حكمه الواقعي في مقام الثبوت متقوم بهما أيضاً ، فلا يكون إلا صحيحا للمتعاقدين معا أو فاسداً كذلك ، إلا أن حكمه الظاهري يمكن التفكيك فيه بين الطرفين فيكون صحيحا في حق أحدهما فاسداً في حق‌

٨٨

[ مسألة ٥٦ ] : في المرافعات اختيار [١] تعيين الحاكم بيد المدعي ، إلا إذا كان مختار المدعى عليه أعلم. بل مع وجود الأعلم وإمكان الترافع إليه الأحوط الرجوع اليه مطلقاً.

______________________________________________________

الآخر ، كما أنه يمكن اختلافه بالنظر فيكون صحيحا بنظر أحدهما فاسداً بنظر الآخر وتختلف الآثار بالنسبة إليهما. ولا مانع من مثل هذا التفكيك فان الماء الواحد يمكن أن يكون طاهراً في حق أحد المكلفين ونجسا في حق الآخر. نعم ربما يؤدي ذلك إلى النزاع والمخاصمة فيتعين الرجوع إلى الحاكم في حسمهما.

[١] الكلام [ تارة ] : في صورة تساوي الحكام في الفضيلة ، [ وأخرى ] : في صورة اختلافهم ، وكل منهما إما يكون الخصمان فيها مدعيا ومنكراً أو متداعيين.

ففي الأول من الاولى لا اشكال عندهم في كون الاختيار بيد المدعي وفي المستند : دعوى الإجماع عليه. وهو العمدة فيه ، المعتضد بالإجماع على أنه لو رفع أحد الخصمين أمره إلى الحاكم فطلب الحاكم الخصم الآخر وجب عليه الإجابة ، وهذا لا يطرد في المنكر ، لأنه لو رفع امره إلى الحاكم لا يسمع منه إنكاره ، وان طلب تخليصه من دعوى المدعي لا تجب على الحاكم اجابته. هذا وقد استدل على الحكم المذكور بأن المدعي له الحق.

فإن كان المقصود منه الإشارة إلى الإجماع المذكور فهو ، وإلا توجه عليه الإشكال : بأن المراد من الحق ان كان الحق المدعى فهو غير ثابت ، وان كان حق الدعوى فهو لا يوجب كون اختيار الحاكم له.

وفي الثاني من الأولى لا يكون الاختيار لواحد معين منهما ، بل إذا سبق أحدهما إلى رفع امره إلى الحاكم فحكم له نفذ حكمه. ولو رفعا أمرهما إلى حاكمين ينفذ حكم من سبق بالحكم ، لدخوله تحت أدلة النفوذ بلا مانع.

٨٩

______________________________________________________

ولو اقترنا لم ينفذ أحدهما ، لعدم المرجح ، ونفوذهما معا ممتنع للتنافي. وفي كفاية سبق حضور أحدهما عند الحاكم في تعينه إشكال ، والأظهر عدمه لعدم الدليل عليه. نعم وجوب طلب الحاكم لغير الحاضر ووجوب اجابته عليه يقتضي تقديم الحاكم الذي يسبق الحضور عنده بعد الطلب ، لا تقديم الحاكم بمجرد الحضور عنده وان لم يطلب لعذر.

وأما الصورة الثانية بقسميها : فالمشهور المدعى عليه الإجماع وجوب الرجوع إلى الأعلم ، لما‌ في مقبولة ابن حنظلة من قوله : « فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم. فقال (ع) : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ... » (١). لكن موردها صورة اختلاف الحكمين ، والتعدي عنه إلى غيرها محتاج إلى قرينة مفقودة. بل هو خلاف ظاهر إطلاق ما في صدر الرواية فالعمل عليه متعين. ولا سيما وأن البناء على الترجيح بذلك يستدعي الترجيح بغيره من المرجحات المذكورة في رتبة المرجح المذكور وفي غيرها من الرتب ، وهو مما لم يلتزم به أحد.

نعم إذا كانت الشبهة حكمية وكان الأعلم قد تعين تقليده على المتخاصمين وجب الترافع عنده ، لما عرفت من وجوب تقليد الأعلم. أما إذا كانت الشبهة موضوعية ، أو كان الخصمان مجتهدين ، أو مقلدين لمن هو أعلم منه مع الاتفاق في الفتوى ، جاز الترافع إلى غير الأعلم.

وبالجملة : ما دام لم يلزم من رفع المدعي أمره إلى غير الأعلم مخالفة لفتوى الأعلم الحجة لا مانع من الرجوع إلى غير الأعلم ويجب على الخصم متابعته. بل بناء على ما يأتي ـ من حجية الحكم بنحو يجوز نقض الفتوى به ، ومن وجوب سماع الدعوى غير الجازمة يجوز لمن يقلد الأعلم في عدم‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

٩٠

[ مسألة ٥٧ ] : حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه [١]

______________________________________________________

استحقاق الحبوة أن يدعي الاستحقاق عند من يرى استحقاقها فاذا حكم له بها جاز له أخذها وان كان مذهب مقلده عدم جواز أخذها ، لأن حكم الحاكم مقدم في الحجية على الفتوى. فلاحظ.

[١] كما لعله المشهور ، وفي الجواهر : « لما هو المعلوم ، بل حكى عليه الإجماع بعضهم من عدم جواز نقض الحكم الناشئ عن اجتهاد صحيح باجتهاد كذلك ، وانما يجوز نقضه بالقطعي من إجماع أو سنة متواترة أو نحوهما ». وكأنه لما‌ في مقبولة ابن حنظلة من قوله (ع) : « فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله تعالى ، وهو على حد الشرك بالله » (١).

لكن أطلق جماعة جواز النقض عند ظهور الخطأ ، ففي الشرائع : « كل حكم قضى به الأول وبان للثاني فيه الخطأ فإنه ينقضه ، وكذا لو حكم به ثمَّ تبين الخطأ ، فإنه يبطل الأول ويستأنف الحكم بما علمه » ، ونحوها ما في القواعد والإرشاد. فيحتمل أن يكون مرادهم صورة العلم بوقوع الخطأ فيه ، سواء أعلم بخطئه للواقع أم بخطئه في طريق الواقع وان احتمل موافقته للواقع. ولعله مقتضى إطلاق العبارة. وحملها بعضهم على ما إذا كان الحكم ناشئاً عن اجتهاد غير صحيح. واحتمل في الجواهر حملها على ما إذا تراضى الخصمان بتجديد الدعوى عند حاكم آخر. لكن كلا من الحملين مشكل ، فإن الثاني خلاف إطلاق ما دل على حرمة رد الحكم ووجوب تنفيذه ، الشامل لصورة تراضي الخصمين برده ، وليس هو من حقوق المحكوم له ، كي يكون منوطا برضاه وعدمه. والأول مبني على‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي الحديث : ١.

٩١

______________________________________________________

أن الحكم الصادر عن اجتهاد صحيح حكم بحكمهم (ع) دون غيره ، وهو غير ظاهر مع ثبوت الخطأ في الاستناد ـ كما إذا حكم اعتماداً على بينة غير عادلة مع اعتقاد عدالتها ، أو على رواية اعتقد ظهورها في الحكم مع عدم ظهورها لدى الحاكم الآخر ـ أو ثبوت الخطأ في المستند ـ كما إذا اعتمد على ظاهر رواية لم يعثر على قرينة على خلافه وقد عثر عليها الحاكم الآخر ، أو على بينة تزكي الشهود مع علم الحاكم الثاني بفسقهم ونحو ذلك ـ فان القضاء الصادر من الحاكم وان كان عن مبادي مشروعة واجتهاد صحيح ، إلا أنه مخالف للواقع في نظر الحاكم الثاني ، لقيام حجة عنده على الخلاف وحينئذ لا يكون حكما بحكمهم (ع).

وبالجملة : الحكم الصادر من الحاكم الجامع لشرائط الحكم الصادر عن اجتهاد صحيح وان كان طريقا شرعا إلى الواقع لكل أحد ، لكن كما يسقط عن الطريقية عند العلم بمخالفته للواقع ، كذلك يسقط عن الطريقية عند العلم بوقوع الخطأ في طريقه وفي مباديه وقيام الحجة على خلافه ، وان احتمل موافقته للواقع. وعلى هذا فإطلاق ما ذكره الجماعة من جواز نقض الحكم مع وقوع الخطأ فيه في محله.

اللهم إلا أن يقال قوله (ع) : « فاذا حكم بحكمنا » ‌لا يراد منه الحكم الواقعي الإلهي ، لأن لازمه عدم وجوب تنفيذ الحكم مع الشك في كونه كذلك لعدم إحراز قيد موضوعه. وكذا مع العلم ، لأن العلم حينئذ حجة ، ولا معنى لجعل حجية الحكم حينئذ ، بل المراد منه الحكم الواقعي بنظر الحاكم ، فيكون النظر موضوعا لوجوب التنفيذ ، فالمعنى أنه إذا حكم بما يراه حكمهم (ع) وجب قبوله وحرم رده ، ومقتضى إطلاقه وجوب القبول ولو مع العلم بالخطإ في مباديه. نعم ينصرف عن الحكم الجاري على خلاف موازين الاستنباط عمداً أو سهواً أو نسيانا ، ويبقى غيره داخلا في‌

٩٢

______________________________________________________

عموم الدليل وان علم فيه الخطأ في بعض المبادي الذي يكثر وقوعه من المجتهدين ، ولذا وقع الاختلاف بينهم في كثير من المسائل.

نعم قد يشكل ذلك : بأن الارتكاز العقلائي في باب الحجية يساعد على اعتبار عدم العلم بالخطإ فيها ، فمعه تنتفي الحجية. ويدفعه : أن حجية الحكم ليست من قبيل حجية الخبر عن حس أو حدس ، بل فيه نحو من الموضوعية وشبه بها لأنه منصب وولاية ، فحكم الحاكم نظير حكم الوالي والأمير واجب الاتباع ولو مع العلم بالخطإ ما دام يحتمل موافقته للواقع.

وبالجملة : فرق واضح ـ في نظر العرف ـ بين جعل قول المجتهد : « حكمت بأن هذا نجس » حجة ، وجعل قوله : « هذا نجس » حجة ، فإنه مع العلم بالخطإ في طريق الأول لا يسقط عن الحجية ، وفي الثاني يسقط وان شئت قلت : مقتضى إطلاق ما دل على نفوذ الحكم نفوذه مطلقا على نحو الموضوعية.

ولذا صرح المصنف [ ره ] في قضائه (١) ـ تبعاً لما في الجواهر ـ بوجوب تنفيذ الحكم وان كان مخالفاً لدليل قطعي نظري كإجماع استنباطي وخبر محفوف بقرائن وأمارات قد توجب القطع مع احتمال عدم حصوله للحاكم الأول. انتهى. وهذا لا يتم إلا على السببية المحضة والموضوعية الصرفة وإلا فلا معنى لجعل الطريقية في ظرف العلم بالخلاف أو الوفاق ، فكيف يكون الحكم حجة مع القطع بخلافه؟.

وان كان الالتزام بذلك صعباً جداً ، لأنه حكم بخلاف ما أنزل الله تعالى فكيف يحتمل وجوب قبوله وحرمة درة ، ويكون الراد عليه الراد على الله تعالى ، وأنه على حد الشرك بالله تعالى؟!. وفي صحيح هشام بن الحكم : « قال رسول الله (ص). إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان ، وبعضكم‌

__________________

(١) راجع المسألة : ٣٢ من الفصل الأول من كتاب القضاء.

٩٣

______________________________________________________

ألحن بحجته من بعض ، فأيما رجل اقتطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار » (١). فان هذا صريح في عدم موضوعية للحكم. ومورده وان كان الشبهات الموضوعية ، لكن دليل وجوب القبول وحرمة الرد. إذا حمل على الطريقية في الشبهات الموضوعية لا بد أن يحمل عليها في الشبهات الحكمية ، لعدم إمكان التفكيك عرفا بين الموردين في الدليل الواحد ، فيتعين حمل الدليل على الطريقية والحجية. ولأجل أنه يمتنع جعل الطريقية في ظرف العلم بالواقع يمتنع العمل بالدليل مع العلم بمخالفة الحكم للواقع. أما مع احتمال الموافقة للواقع فيجب العمل بدليل حجيته وان علم بوقوع الخطأ في طريقه ، لما عرفت من أنه سنخ آخر في قبال سنخ الخبر والفتوى ، ولم يثبت عند العقلاء قدح مثل هذا العلم بالخطإ في الحجية عندهم على نحو يكون كالقرينة المتصلة التي يسقط بها إطلاق المطلق ، فالعمل بالإطلاق متعين.

فان قلت : سلمنا عموم دليل الحجية لجميع صور احتمال الموافقة للواقع حتى مع العلم بالخطإ في الاستناد ، أو المستند ، أو قيام حجة على خلافه ، لكن العموم المذكور معارض بدليل حجية الحجة القائمة على الخلاف ، فما الوجه في تقديم دليله على دليل تلك الحجة؟

قلت : مورد دليل حجيته ـ وهو مقبولة ابن حنظلة ـ صورة التنازع في الميراث ، الظاهر في التنازع في الحكم الكلي على وجه الجزم ، وهو إنما يكون مع الحجة ، فلو بني على العمل بالحجة في مقابل الحكم لزم تخصيص المورد وهو غير جائز ، فيتعين البناء على الأخذ بالحكم ورفع اليد عن الحجة. نعم مقتضى إطلاق مورد المقبولة العموم لصورة العلم بالخلاف. لكن يجب الخروج عن الإطلاق في الصورة المذكورة بقرينة امتناع جعل‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء حديث : ١.

٩٤

ولو لمجتهد آخر ، إلا إذا تبين خطؤه [١].

[ مسألة ٥٨ ] : إذا نقل ناقل فتوى المجتهد لغيره ، ثمَّ تبدل رأي المجتهد في تلك المسألة ، لا يجب على الناقل إعلام من سمع منه الفتوى الاولى ، وان كان أحوط. بخلاف ما إذا تبين له خطوة في النقل ، فإنه يجب عليه الإعلام [٢]

______________________________________________________

الحجية في صورة العلم بالخلاف.

هذا والمتحصل مما ذكرنا : أن الحكم إذا كان معلوم المخالفة للواقع لا يجوز الأخذ به ، ومتى كان محتمل الموافقة للواقع يجوز الأخذ به ، بل يجب سواء أعلم بالخطإ في طريق ذلك الحكم في الاستناد أو المستند أم لا ، وسواء أقامت حجة على خلافه أم لا. نعم إذا كان الخطأ ناشئاً عن تقصير في الاجتهاد عمدا أو سهوا ، بحيث كان جاريا على خلاف الموازين اللازمة في الاجتهاد ، فلا يجوز العمل به ، لانصراف دليل حجيته عن مثل ذلك.

نعم يشكل ذلك بأن لازمه أن لو كان المختصمان عالمين بالواقع لا مجال لحكم الحاكم ، مع قيام الإجماع على فصل الخصومة به. ويدفعه : أن الإجماع المذكور هو المستند لا المقبولة ونحوها ، بل ما في ذيل المقبولة من الرجوع الى المرجحات ظاهر في اختصاصها بصورة عدم العلم بالواقع.

[١] بناء على ما عرفت منا لا يصح هذا الاستثناء ، إلا إذا حمل على تبين خطأ المجتهد في مخالفة الواقع تبينا علمياً. وبناء على ما ذكره المصنف [ ره ] ـ تبعا لصاحب الجواهر ـ لا يصح إلا إذا حمل على تبين الخطأ على نحو لا يكون الاجتهاد صحيحا.

[٢] الظاهر أن هذا التفصيل بين الفرضين مبني على حرمة التسبيب الى الوقوع في الحرام ، وكون الفرض الثاني منه دون الأول. وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الثامنة والأربعين فراجع.

٩٥

[ مسألة ٥٩ ] : إذا تعارض الناقلان في نقل الفتوى تساقطا [١]. وكذا البينتان. وإذا تعارض النقل مع السماع من المجتهد شفاها قدم السماع [٢]. وكذا إذا تعارض ما في الرسالة مع السماع [٣]. وفي تعارض النقل مع ما في الرسالة قدم ما في الرسالة [٤].

______________________________________________________

[١] لأصالة التساقط في المتعارضين. لكن عرفت فيما سبق تقريب عموم أدلة الترجيح والتخيير للمقام. فلاحظ المسألة العشرين. هذا مع العلم بعدم العدول ، فلو احتمل وكان التاريخ مختلفا تعين العمل بالمتأخر. وكذا الكلام فيما يأتي من صور التعارض.

[٢] لأن النقل طريق الى السماع ، فالعلم بالسماع يستوجب العلم بمخالفته للواقع. هذا مع وحدة التاريخ ، وأما مع اختلافه وعدم احتمال العدول ، فإنه وان كان التعارض ـ بدواً ـ حاصلا بينهما لكن العرف يقدم السماع على النقل. بل يمكن دعوى انصراف دليل الحجية عن مثله.

[٣] إذا لم تكن الرسالة بخط المجتهد كان الفرض راجعاً الى الفرض السابق ، لأن الكاتب للرسالة بمنزلة المخبر عن المجتهد ، ولو بواسطة حكاية الكاتب عن خط المجتهد الحاكي عن قوله. وأما إذا كانت الرسالة بخط المجتهد فيشكل الترجيح ، لأن الخط حاك عن الفتوى ، فيكون التعارض قائماً بين خطه وقوله ، وأصالة عدم الخطأ فيهما على حد واحد. نعم لو ثبت عند العقلاء ترجيح الأوثق منهما كان العمل عليه أيهما كان. وكذا في الفرض الآتي.

[٤] إن كانت الرسالة بخطه كان الفرض نظير تعارض السماع والنقل لأن الخط بمنزلة القول. وان كانت بغير حطه كان من قبيل تعارض النقلين فيجري عليه حكمه.

٩٦

مع الأمن من الغلط [١].

[ مسألة ٦٠ ] : إذا عرضت مسألة لا يعلم حكمها ، ولم يكن الأعلم حاضراً فإن أمكن تأخير الواقعة إلى السؤال وجب ذلك [٢] ، وإلا فإن أمكن الاحتياط تعين [٣] ، وان لم يمكن يجوز الرجوع الى مجتهد آخر الأعلم فالأعلم ، وان لم يكن هناك مجتهد آخر ، ولا رسالته ، يجوز العمل بقول المشهور بين العلماء [٤] ، إذا كان هناك من يقدر على تعيين‌

______________________________________________________

[١] يعني : بالمقدار اللازم في جريان أصالة عدم الخطأ. ويحتمل أن يكون المراد الوثوق التام ، ويكون هو الوجه في الترجيح على النقل ، لعدم حصول ذلك فيه.

[٢] قد عرفت في أوائل المبحث أنه لا مانع من العمل بالاحتياط حتى مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، وعليه فلا يجب التأخير إلا حيث يتعذر الاحتياط.

[٣] هذا مبني على عدم عموم الإجماع على عدم لزوم الاحتياط على العامي مع إمكان التقليد للمقام ، وإلا جاز له الرجوع الى غير الأعلم. وعلى عدم إطلاق يدل على حجية الفتوى ، وإلا تعين العمل به بالنسبة إلى فتوى غير الأعلم مع عدم العلم بالمخالفة للأعلم تفصيلا أو إجمالا ، كما أشرنا الى ذلك في مبحث وجوب الفحص عن الأعلم. فراجع المسألة الثانية عشرة. فكأن موضوع كلام المصنف [ ره ] صورة العلم بالاختلاف ، وأن الإجماع على جواز الرجوع الى غير الأعلم مختص عنده بصورة تعذر الاحتياط.

[٤] كما تقتضيه مقدمات الانسداد الجارية في الواقعة الخاصة المقتضية للأخذ بالظن الأقوى فالأقوى ، فلو بني على عدم تماميتها جاز عقلا الأخذ‌

٩٧

قول المشهور. وإذا عمل بقول المشهور ، ثمَّ تبين له بعد ذلك مخالفته لفتوى مجتهده فعليه الإعادة أو القضاء [١] ، وإذا لم يقدر على تعيين قول المشهور يرجع الى أوثق الأموات ، وان لم يمكن ذلك أيضاً يعمل بظنه ، وان لم يكن له ظن بأحد الطرفين يبني على أحدهما. وعلى التقادير بعد الاطلاع على فتوى المجتهد ان كان عمله مخالفا لفتواه فعليه الإعادة أو القضاء.

[ مسألة ٦١ ] : إذا قلد مجتهدا ثمَّ مات ، فقلد غيره فمات ، فقلد من يقول بوجوب البقاء على تقليد الميت أو جوازه ، فهل يبقى على تقليد المجتهد الأول أو الثاني؟ الأظهر الثاني [٢] ، والأحوط مراعاة الاحتياط.

______________________________________________________

بأحد المحتملات على التخيير. وكذا الحال في الرجوع الى أوثق الأموات وما بعده.

[١] بناء على أن مقدمات الانسداد الجارية في الواقعة إنما تقتضي حجية الظن بنحو الحكومة لا الكشف ، وإلا جرى ما تقدم في المسألة الثالثة والخمسين ، وكذا الحال في صورة الرجوع الى غير الأعلم ، فإنه لو بني على حجية فتواه شرعا ـ ولو بتوسط مقدمات الانسداد بناء على الكشف ـ كان الحكم ما تقدم في المسألة المذكورة. أما بناء خلاف ذلك ، فيتعين التدارك بالإعادة أو القضاء.

[٢] لأن تقليد الأول قد انقطع بتقليد الثاني المفروض الصحة ، فالرجوع إلى الأول بعد تقليد الثاني ليس من البقاء على التقليد ، بل هو من التقليد الابتدائي ، فإذا كان رأي الثالث وجوب البقاء تعين البقاء على تقليد الثاني وإذا كان رأيه جواز البقاء وجواز العدول تخير المكلف بين البقاء‌

٩٨

[ مسألة ٦٢ ] : يكفي في تحقق التقليد أخذ الرسالة والالتزام بالعمل بما فيها [١] ، وان لم يعلم ما فيها ولم يعمل فلو مات مجتهده يجوز له البقاء. وان كان الأحوط مع عدم العلم ، بل مع عدم العمل ولو كان بعد العلم ، عدم البقاء‌

______________________________________________________

على تقليد الثاني والعدول إلى الثالث.

هذا بناء على ما تقدم في المسألة الثالثة والخمسين من عدم انتقاض التقليد الصحيح الواقع في زمان بتقليد مجتهد آخر في زمان لاحق ، لعدم حجية رأي المجتهد اللاحق بالإضافة إلى الوقائع السابقة المطابقة لرأي المجتهد في ذلك الزمان. أما بناء على الانتقاض ، فان كان رأي المجتهد الثالث وجوب البقاء على تقليد الميت ، تعين على المكلف البقاء على تقليد الأول لأن عدوله السابق الى الثاني ـ بعد موت الأول ـ في غير محله في نظر المجتهد الثالث. وان كان رأيه جواز العدول وجواز البقاء جاز للمكلف البقاء على تقليد الثاني ، والعدول الى الثالث. وإن كان رأيه وجوب العدول تعين العدول من الثاني اليه. وعلى هذا ما استظهره المصنف [ ره ] مبني على ما تقدم منه في المسألة الثالثة والخمسين.

[١] قد عرفت أن أخذ الرسالة والالتزام ، ونحوهما ، مما لا يرتبط بالتقليد ، بل ليس هو إلا العمل اعتماداً على فتوى المجتهد. كما لا ينبغي التأمل في كفاية ثبوت حجية الرأي آنا ما في جواز الاستصحاب الذي هو الوجه في وجوب البقاء وجوازه ، ولا يتوقف على العمل ، ولا على الالتزام. نعم بناء على ما ذكرنا من كون التقليد هو العمل برأي الغير فمع عدم العمل حال الحياة يكون العمل بعد الوفاة برأي المجتهد من قبيل التقليد الابتدائي للميت الذي حكي الإجماع على المنع عنه ، وان كان الاستصحاب ، وبناء العقلاء ، يقتضيان عدم الفرق بين العمل وعدمه. ولكن عموم الإجماع لمثل‌

٩٩

والعدول إلى الحي. بل الأحوط استحبابا على وجه عدم البقاء مطلقا ، ولو كان بعد العلم والعمل [١].

[ مسألة ٦٣ ] : في احتياطات الأعلم إذا لم يكن له فتوى يتخير المقلد بين العمل بها ، وبين الرجوع الى غيره [٢] الأعلم فالأعلم.

[ مسألة ٦٤ ] : الاحتياط المذكور في الرسالة أما‌

______________________________________________________

الفرض لا يخلو من تأمل. وأشكل منه ما لو تحقق الالتزام فقط بلا عمل فان وجود القول بجواز البقاء في مثله مانع عن انعقاد الإجماع على المنع عنه وان لم يتحقق التقليد. ومثله ما لو تحقق العمل بلا اعتماد على الفتوى ، فإنه وان لم يتحقق التقليد ، لكن انعقاد الإجماع على المنع عن بقاء الحجية في مثله غير واضح ، وان كان قريباً. فراجع وتأمل. كما أنك عرفت في المسألة الثالثة والخمسين : أن صحة الأعمال السابقة تتوقف على مطابقتها للفتوى الحجة حال العمل ولا تتوقف على الاعتماد على الفتوى حال العمل الذي هو من مقومات التقليد ، فالصحة ليست موقوفة على تحقق التقليد ، بل موقوفة على الحجية واقعاً. فلاحظ.

[١] كأن المراد بهذا الوجه احتمال عموم معاقد الإجماعات على عدم جواز تقليد الميت للحدوث والبقاء ، وان كان يعارض هذا الاحتمال احتمال المنع ، كما نسب الى أكثر القائلين بجواز البقاء. فالعدول موافق للاحتياط في وجه مخالف له في وجه آخر.

[٢] هذا التخيير موقوف في العبادات على جواز الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، فلو قيل بعدمه تعين التقليد لغير الأعلم ، ولا يجوز له العمل بالاحتياط مع التمكن من تقليد غيره الأعلم.

١٠٠