مستمسك العروة الوثقى - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١١

______________________________________________________

وفي مثله يجب البناء على التخيير بعد قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على العامي ، حتى أحوط القولين المتعين في نظر العقل ـ لو لا الإجماع المذكور ـ للعلم الإجمالي بثبوت الحجة بينهما ، المستوجب لوجوب موافقتهما عقلا ، والعمل بأحوطهما موافقة لهما معا. لكن الإجماع على عدم وجوب الاحتياط مطلقاً على العامي يستوجب الحكم بالتخيير.

نعم البناء على ذلك موقوف على عدم جريان الأصول الشرعية ، وإلا كان عليها المعول فنقول : أما من حيث العمل وصحته فقد عرفت أنه إذا كانت فتوى الميت الرخصة ، كما لو أفتى بعدم وجوب الكفارة للوطء في الحيض ، وكانت فتوى الحي وجوبها لا مانع من جريان استصحاب الحكم الظاهري لعدم المعارض. فنقول هنا : أنه لا مانع من العدول إلى فتوى الحي من حيث العمل ، لموافقتها للاحتياط. أما إذا كانت فتوى الميت حكماً اقتضائياً ـ كالوجوب والحرمة ـ فلا مجال للاستصحاب التعليقي وان البقاء لا بأس به. أما جواز العدول فمقتضى الإجماع على التخيير في تعيين الحجة عند احتمال التعيين في كل واحد من محتملي الحجية ، لما عرفت أنه كما يحتمل حجية رأى الميت يحتمل حجية رأي الحي كما يحتمل التخيير بينهما أيضاً ، فله اختيار البقاء وله اختيار العدول.

هذا كله من حيث العمل. وأما من حيث جواز الالتزام والاعتقاد القلبي ، ومن حيث جواز النقل والاخبار عن الحكم الواقعي ، ـ اللذين هما من آثار العلم المترتبين على الطرق الشرعية بمقتضى دلالة أدلتها على تنزيلها بمنزلة العلم ، فحيث أن هذا التنزيل أيضاً من الأحكام الشرعية يجري فيه ما تقدم في الأحكام الاقتضائية التي تتضمنها فتوى الميت ، ويجري الأصل فيه على نحو جريانه في تلك الأحكام. ولأجل السقوط بالمعارضة يرجع إلى التخيير المستفاد من الإجماع عليه ، عند تردد الحجة تعييناً بين فردين حسبما‌

٢١

ولا يجوز تقليد الميت ابتداء [١].

______________________________________________________

عرفت. وقد عرفت أن هذا الكلام كله مع تساوي الحي والميت في العلم لا مع الاختلاف ، وإلا تعين الرجوع إلى الأعلم كان الحي أو الميت. فلاحظ وتأمل.

[١] إجماعاً إلا من جماعة من علمائنا الأخباريين ، على ما نسب إليهم على تأمل في صحة النسبة ، لظهور كلمات بعضهم في كون ذلك في التقليد بمعنى آخر غير ما هو محل الكلام. وكيف كان فالوجه في المنع : أنك عرفت قصور أدلة حجية الفتوى عن شمول الفتاوى المختلفة ، فلا مجال للرجوع إلى الآيات والروايات لإثبات حجية فتوى الميت ـ على تقدير تمامية دلالتها في نفسها على الحجية ، وكونها مطلقة ـ وكذلك بناء العقلاء عليها ، وكذلك الإجماع. إذ لا إجماع على جواز الرجوع إلى الميت ابتداء ، بل المنع مظنته ، كما عرفت. وكذلك السيرة ، فإن دعواها على الرجوع ابتداء إلى الأموات مجازفة. وقد عرفت إشكال استصحاب الحجية ، واستصحاب الأحكام الواقعية ، في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت ، فضلا عن المقام ، لعدم ثبوت الحجية هنا حدوثاً ، ولا قام عند المقلد طريق على ثبوت الحكم الواقعي في وقت من الأوقات. ومن هنا كان الإشكال في جريانهما هنا أعظم. ولأجل ذلك يشكل جريان استصحاب الأحكام الظاهرية ، إذ لا يقين بالثبوت لا وجداني ولا تعبدي. فيتعين الرجوع إلى الأصل العقلي عند الدوران بين التعيين والتخيير ، حيث يعلم بجواز الرجوع إلى الحي ويشك في الميت ، فان الحكم العقلي في مثله الاحتياط بالرجوع إلى معلوم الحجية.

ومن ذلك تعرف الفرق بين تقليد الميت ابتداء واستمراراً ، وأنه في الأول لا يقين بثبوت أمر شرعي سابقاً كي يجري الاستصحاب فيه ، بخلاف الثاني ، لليقين بثبوت الحجية سابقاً أو الحكم الظاهري ، فيمكن جريان‌

٢٢

______________________________________________________

الاستصحاب فيه. وأن الشك في الأول بين التعيين والتخيير ، بخلاف الثاني فإن احتمال التعيين موجود في كل من الميت والحي. ولأجل ذلك كان الأصل العقلي التعيين في الأول دون الثاني ، بل المرجع فيه التخيير بعد الإجماع على عدم وجوب الاحتياط.

هذا كله مع تساوي الميت والحي في الفضيلة. أما إذا كان الميت أعلم فمقتضى بناء العقلاء لزوم تقليده تعييناً. وليس ما يوجب الخروج عنه إلا حكاية الإجماع على المنع عنه ، فقد حكاه غير واحد عليه ، كما في الجواهر ، وجعله فيها مفروغاً عنه بين أصحابنا ، وقد تعرض في تقريرات درس شيخنا الأعظم [ ره ] لكلماتهم في حكاية الإجماع على المنع. ولعل هذا المقدار كاف في رفع اليد عن بناء العقلاء على وجوب الرجوع إلى الأفضل ، فإن الحاكين للإجماع وإن كانوا جماعة خاصة ، لكن تلقي الأصحاب لنقلهم له بالقبول ، من دون تشكيك أو توقف من أحد ، وتسالمهم على العمل به ، يوجب صحة الاعتماد عليه. ولا سيما مع كون نقلة الإجماع المذكور من أعاظم علمائنا وأكابر فقهائنا ، ولهم المقام الرفيع في الضبط والإتقان والتثبت. قدس الله تعالى أرواحهم ، ورفع منازل كرامتهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء.

ومن هذا الإجماع تعرف سقوط ما يتصور في المقام أيضاً من الاستصحاب الجاري في الحكم الظاهري ، نظير ما سبق في مسألة الاستدامة. وتقريبه : أن هذا المقلد وان لم يثبت في حقه حكم ظاهري إلى حين موت المجتهد ، لعدم وجوده في حياته ، أو لعدم تكليفه أصلا حينئذ. لكن كان بحيث لو كان موجوداً في حياة المجتهد ورجع إليه لثبت الحكم الظاهري في حقه ، فيستصحب ذلك إلى ما بعد موت المجتهد ووجود ذلك العامي ، فيثبت حينئذ أنه لو رجع إليه لكان محكوماً بالحكم الظاهري ، فتكون هذه المسألة نظير‌

٢٣

[ مسألة ١٠ ] : إذا عدل عن الميت إلى الحي لا يجوز له العدول إلى الميت [١].

______________________________________________________

المسألة السابقة من هذه الجهة. غاية الأمر أن الشك هنا من حيث الشخص المقلد ، وهناك من حيث الواقعة المتجددة ، وهذا غير فارق في جريان الاستصحاب بنحو استصحاب أحكام الشرائع السابقة. فالعمدة إذاً في الخروج عن الاستصحاب المذكور في الفرض الإجماع المتقدم. على أنه لا يطرد في بعض الفروض كما لو كان مقلداً في حال حياته لغيره الأعلم ففقد بعض الشرائط المانعة من البقاء على تقليده ، فإنه لا مجال للاستصحاب بالنسبة إلى الميت ، كما لا يخفى.

وأما الأصل العقلي عند الدوران بين التعيين والتخيير في الحجية ، فلا تنتهي النوبة إليه إلا بعد سقوط الأصل الشرعي. وقد عرفت أن هذا الأصل في الفرض المتقدم لو جرى في الحكم الظاهري غير الاقتضائي فلا معارض له من حيث العمل. نعم هو من حيث الاخبار عن الواقع ، أو الالتزام به ، ومن حيث العمل أيضاً ـ لو كان الحكم اقتضائياً ـ معارض في الجميع بالاستصحاب التنجيزي. فالمرجع في ذلك يكون هو الأصل العقلي.

فالعمدة في الفرق المطرد بين المسألتين على هذا يكون في مقتضى الأصل العقلي لا غير ، وإلا ففي الأصل الشرعي قد لا يكون فرق بينهما.

وكيف كان ففي الإجماع المذكور كفاية. وبه يكون الفرق بين المسألتين أيضاً ، إذ القول بجواز تقليد الميت استدامة محكي عن جماعة من الأكابر ، بل القول بوجوب ذلك محكي في الجواهر وغيرها ، فكيف يمكن دعوى الإجماع على المنع أو يجب العمل بها؟! والله سبحانه أعلم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[١] لما يأتي في المسألة اللاحقة. مضافاً إلى أنه من التقليد الابتدائي‌

٢٤

[ مسألة ١١ ] : لا يجوز العدول عن الحي إلى الحي ، إلا إذا كان الثاني اعلم [١].

______________________________________________________

الذي قد عرفت قيام الإجماع على المنع عنه.

[١] إجماعاً في الجملة حكاه غير واحد. ويقتضيه الأصل العقلي المتقدم ، للشك في حجية فتوى من يريد العدول إليه ، والعلم بحجية فتوى من يريد العدول عنه ، وفي مثله يبنى على عدم حجية مشكوك الحجية. وليس ما يوجب سقوط هذا الأصل العقلي من دليل أو أصل شرعي. إذ أدلة التقليد اللفظية قد عرفت عدم شمولها لصورة الاختلاف في الفتوى ، بلا فرق بين إطلاق الآيات والروايات. وكذلك بناء العقلاء. ولا إجماع على جواز العدول ولا سيرة. وأما استصحاب التخيير فقد تقدم في مسألة جواز العدول عن الميت إلى الحي : أنه من الاستصحاب التعليقي المعارض بالاستصحاب التنجيزي ، فلا مرجع إلا الأصل العقلي ، وهو أصالة التعيين عند التردد في الحجية بين التعيين والتخيير. نعم مع الاتفاق في الفتوى لا مانع من الاعتماد على فتوى كل من المجتهدين عملا بإطلاق أدلة الحجية كما عرفت ، لكن الظاهر أن هذه الصورة خارجة عن محل الكلام.

هذا كله إذا لم يكن المعدول إليه أعلم. وإلا ـ فبناء على ما يأتي من وجوب الرجوع إلى الأعلم ـ يجب الرجوع إليه. لعدم الفرق في كون مقتضى أدلة وجوب الرجوع إلى الأعلم وجوب الرجوع إليه بين سبق تقليد غيره فيجب العدول إليه. وعدمه فيرجع إليه ابتداء. نعم لو كان الوجه في وجوب الرجوع إلى الأعلم الأصل العقلي ـ أعني : أصالة التعيين عند الدوران بين التعيين والتخيير ـ وكان الوجه في عدم جواز العدول استصحاب حجية فتوى من يريد العدول عنه ونحوه من الأصول الشرعية ، لزم عدم جواز العدول ولو إلى الأعلم ، لأن الأصل الشرعي وارد على الأصل العقلي. فلاحظ.

٢٥

[ مسألة ١٢ ] : يجب تقليد الأعلم مع الإمكان [١] على الأحوط.

______________________________________________________

هذا والمحكي عن جماعة التفصيل بين الوقائع التي التزم فيها بتقليد من قلده فلا يجوز العدول عنه إلى غيره ، كما لو عقد على زوجته بالفارسية اعتماداً على فتوى مجتهد يجوّز ذلك ، فلا يجوز العدول إلى غيره فيه ، بأن لا يرتب آثار الزوجية من النفقة والقسمة ونحوهما اعتماداً على فتوى مجتهد آخر لا يصح عنده العقد الفارسي ، وبين غيرها من الوقائع ، كالعقد على امرأة أخرى ، فيجوز له العدول إليه فيه ، فلو عقد على امرأة أخرى بالفارسية بعد العدول جاز له عدم ترتيب آثار الزوجية عليها. واختار هذا القول في الجواهر. وكأنه لاستصحاب التخيير الذي لا إجماع على خلافه هنا. وفيه ما عرفت.

[١] كما هو المشهور بين الأصحاب ، بل عن المحقق الثاني الإجماع عليه ، وعن ظاهر السيد في الذريعة كونه من المسلمات عند الشيعة.

وعن جماعة ممن تأخر عن الشهيد الثاني جواز الرجوع إلى غير الأعلم. لإطلاق الأدلة كتاباً وسنة ، بل حمل مثل آيتي النفر والسؤال (١) على صورة تساوي النافرين والمسؤولين في الفضيلة حمل على فرد نادر. ولاستقرار سيرة الشيعة في عصر المعصومين (ع) على الأخذ بفتاوى العلماء المعاصرين لهم مع العلم باختلاف مراتبهم في العلم والفضيلة. ولأن في وجوب الرجوع إلى الأعلم عسراً ، وهو منفي في الشريعة. ولأنه لو وجب تقليد الأعلم لوجب الرجوع إلى الأئمة (ع) لأنهم أولى من الأعلم.

وفيه : أن الإطلاقات لا تشمل صورة الاختلاف في الفتوى ـ كما هو محل الكلام ـ ولا فرق بين آيتي النفر والسؤال وغيرهما ، كيف وقد عرفت‌

__________________

(١) تقدم ذكرهما في المسألة : ٨ من هذا الفصل.

٢٦

______________________________________________________

أنه غير معقول. وندرة تساوي النافرين والمسؤولين مسلمة ، لكنها غير كافية إلا مع ندرة الاتفاق في الفتوى ، وهي ممنوعة ، بل الاختلاف في مورد الآيتين أولى بالندرة. بل ما لم يحرز الاختلاف لا تصلح الآيتان الشريفتان دليلا على جواز الرجوع إلى غير الأعلم ، لأن الحمل على الحجية التخييرية خلاف ظاهر الأدلة ، ومنها الآيتان ، فالحمل عليها محتاج إلى قرينة. نعم لو علم الاختلاف كان هو القرينة ، وإلا فلا قرينة تستدعي الحمل على خلاف الظاهر.

ومن ذلك يظهر الإشكال في الاستدلال بالسيرة ، إذ مجرد قيام السيرة على الرجوع إلى المختلفين في الفضيلة لا يجدي في جواز الرجوع إليهم مع الاختلاف في الفتوى ، ولم تثبت سيرة على ذلك. والعلم بوجود الخلاف بينهم وإن كان محققاً ، لكن ثبوت السيرة على الرجوع إلى المفضول غير معلوم ، بل بعيد جداً فيما هو محل الكلام ، أعني : صورة الاختلاف المعلوم وإمكان الرجوع إلى الأعلم.

وأما لزوم العسر فممنوع كلية ، كيف وقد عرفت أن المشهور المدعى عليه الإجماع وجوب الرجوع إلى الأعلم في أكثر الأعصار ، ولم يلزم من العمل بهذه الفتوى عسر على المقلدين. نعم لو بني على وجوب الرجوع إلى الأعلم على نحو يجب الفحص عنه مهما احتمل وجوده كان ذلك موجباً للعسر غالباً. لكنه ليس كذلك ، لما يأتي. وبالجملة : محل الكلام ما إذا أمكن الرجوع إلى الأعلم بلا عسر ولا حرج.

وأما الاستدلال الأخير : فإنما يتم لو كان الرجوع إلى غير الأعلم ممنوعاً عقلا ذاتاً ، وأما إذا كان من جهة عدم الدليل على حجية فتوى غير الأعلم فالمقايسة غير ظاهرة ، لقيام الدليل على جواز الرجوع إلى غير المعصوم مع إمكان الرجوع إليه.

٢٧

______________________________________________________

وربما يستدل على الجواز بما ورد في الرجوع إلى شخص معين ، فإن إطلاقه يقتضي جواز الرجوع إليه وإن كان غيره أعلم. وفيه : أن الإرجاع على نحو الخصوص كالارجاع على نحو العموم إنما يقتضي الحجية في الجملة ولا يشمل صورة الاختلاف ، وإلا تعارض مع ما دل على الإرجاع إلى غيره بالخصوص ، بل مع ما دل على الإرجاع على نحو العموم ، فيكون كتعارض تطبيقي العام بالإضافة إلى الفردين المختلفين ، كما لا يخفى. واحتمال التخصيص يتوقف على احتمال الخصوصية في الشخص المعين وهو منتف. ولو سلم اختص الحكم بذلك الشخص بعينه ، ولا يطرد في غيره من الأشخاص.

وبالجملة : فلا يتضح دليل على جواز تقليد المفضول مع تيسر الرجوع إلى الأفضل ، ومقتضى بناء العقلاء تعين الرجوع إلى الأفضل ، والتشكيك في ثبوت بناء العقلاء على ذلك يندفع بأقل تأمل.

مضافاً إلى الأصل العقلي عند دوران الأمر في الحجية بين التعيين والتخيير الذي عرفته فيما سبق ، فان رأي الأفضل معلوم الحجية ، ورأي المفضول مشكوك الحجية. لكنه لا يطرد العمل بهذا الأصل مع سبق تقليد المفضول ، لعدم وجود الأفضل ثمَّ تجدد وجوده ، فان استصحاب بقاء الأحكام الظاهرية وارد على الأصل المذكور إذا كانت الأحكام غير اقتضائية ، وكذا إذا كانت اقتضائية من جهة الإشكال في جريان استصحابها ، لأنه من الاستصحاب التعليقي بالإضافة إلى الوقائع المتجددة ، المعارض بالاستصحاب التنجيزي ، وبعد التساقط يرجع إلى الأصل العقلي المقتضي للتخيير بين البقاء والعدول ، كما عرفت ذلك في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت فلاحظ.

وأما مقبولة ابن حنظلة (١) الواردة في رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث قال فيها : « فان كان كل منهما اختار رجلا من أصحابنا‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٩ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

٢٨

ويجب الفحص عنه [١].

______________________________________________________

فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما ، فاختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثنا؟ فقال (ع) : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ». فإنها ـ بقرينة التنازع الذي لا يكون إلا مع العلم حقيقة أو تعبداً ، وبقرينة ما في ذيلها من الرجوع إلى المرجحات الداخلية والخارجية ـ ظاهرة في الحكم الفاصل للخصومة ، ولا تشمل الفتوى. وإلحاق الفتوى به لعدم القول بالفصل غير ظاهر. مع أن ظهورها في جواز فصل الخصومة بالحكم الصادر من الحكام المتعددين مما يظهر من الأصحاب عدم جواز العمل به ، لاعتبار الوحدة في القاضي عندهم ظاهراً. فلاحظ وتأمل.

[١] الكلام في وجوب الفحص [ تارة ] : يكون في صورة العلم بالاختلاف في الفتوى وبالتفاضل ، بأن يعلم بأن أحدهما أفضل من الآخر ولم يعرف الأفضل بعينه. [ وأخرى ] : في صورة الجهل بالاختلاف والعلم بالتفاضل. [ وثالثة ] : في صورة العكس. [ ورابعة ] : في صورة الجهل بهما معاً. [ وخامسة ] : في صورة الشك في وجود مجتهد غير من يعرف.

أما الكلام في الأولى : فهو أنه بعد ما عرفت من عدم شمول أدلة الحجية للفتويين المختلفتين ، وأن العمدة في التخيير بين المجتهدين هو الإجماع ، فلا مجال للرجوع إلى واحد بعينه ، إذ لا إجماع عليه قبل الفحص ، فيجب الفحص لأصالة عدم الحجية. بل مقتضى ما دل على وجوب الرجوع إلى الأعلم يكون الفرض من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، المستوجب للأخذ بأحوط القولين حتى بعد الفحص والعجز عن معرفة الأفضل. لكن الظاهر الاتفاق على جواز الرجوع حينئذ إلى أيهما شاء ، وعدم وجوب الاحتياط‌

٢٩

______________________________________________________

المذكور عليه. وبالجملة : الرجوع إلى أحد المجتهدين قبل الفحص اعتماد على مشكوك الحجية ، فلا يجوز في نظر العقل فلاحظ.

وأما في الثانية : فهو أن مقتضى إطلاق أدلة الحجية حجية كل واحدة من الفتويين. واحتمال الاختلاف بين الفتويين الموجب لسقوط الإطلاق عن الحجية لا يعتنى به في رفع اليد عن الإطلاق ، كما في سائر موارد التخصيص اللبي ، وإذا ثبتت حجية كل منهما جاز الاعتماد عليها قبل الفحص. [ ودعوى ] : أن العمل المطابق لإحدى الفتويين وان جاز الاجتزاء به في نظر العقل لموافقته للحجة ، لكن لما كان مقتضى إطلاق دليل الحجية حجية الفتوى الأخرى ، ويحتمل مخالفة العمل لها لاحتمال الاختلاف بين الفتويين ، كان العمل مما يحتمل مخالفته للحجة ، والعمل المحتمل المخالفة للحجة مما لا يجوز الاجتزاء به في نظر العقل ، لاحتمال الخطر. [ مندفعة ] : بأنه يعلم بانتفاء الخطر من قبل الفتوى الأخرى ، لأن احتمال الخطر إنما جاء من قبل احتمال مخالفة العمل لها ، لاحتمال مخالفتها للفتوى الأولى ، واحتمال ذلك ملازم لاحتمال عدم حجيتها ، لعدم شمول دليل الحجية للفتويين المختلفتين ، فلا خطر في العمل بالإضافة إلى تطبيق الدليل على الفتوى الأخرى قطعاً. مضافاً إلى ما ربما قيل من أن إطلاق دليل الحجية الشامل لإحدى الفتويين يدل بالالتزام على نفي الاختلاف بينهما ، وعلى موافقة العمل لهما معاً. وان كان صلاحية العموم لإثبات مثل هذه اللوازم الخارجية محل تأمل واشكال.

وأما الصورة الثالثة : فالكلام فيها هو الكلام في الصورة الأولى ، لاشتراكهما في العلم بالاختلاف المانع من العمل بإطلاق أدلة الحجية ، فتكون كل من الفتويين مشكوكة الحجية قبل الفحص. كما أن الكلام في الصورة الرابعة ، هو الكلام في الصورة الثانية ، لاشتراكهما في عدم المانع من الأخذ بإطلاق دليل الحجية بالإضافة إلى إحدى الفتويين ، وأن احتمال اختلافهما‌

٣٠

[ مسألة ١٣ ] : إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخير بينهما ، إلا إذا كان أحدهما أورع ، فيختار الأورع [١].

______________________________________________________

الموجب لسقوط دليل الحجية بالإضافة إلى كل منهما لا يؤبه به ، كما عرفت.

ثمَّ إنه قيل بعدم وجوب الفحص مع العلم بالاختلاف لوجهين. [ الأول ] : أصل البراءة ، للشك في وجوبه. [ والثاني ] : أنهما أمارتان تعارضتا لا يمكن الجمع بينهما ، ولا طرحهما ، ولا تعيين إحداهما ، فلا بد من التخيير بينهما. ويشكل الأول : بأنه ليس الكلام في وجوب الفحص مولوياً كي يرجع الى أصل البراءة في نفيه ، وإنما الكلام في وجوبه عقلا وجوباً إرشادياً الى الخطر بدونه ، إذ قد عرفت أنه لو لا الفحص لا تحرز حجية إحدى الفتويين. ومن ذلك يظهر الإشكال في الثاني ، إذ لا حكم للعقل بالتخيير بين الفتويين المتعارضتين ، وإنما التخيير بين الفتويين بتوسط الإجماع على حجية ما يختاره منهما ، وقد عرفت أن معقد الإجماع إنما هو الحجية بعد الفحص لا قبله.

وأما الصورة الخامسة : فإثبات حجية فتوى من يعرف بإطلاق دليل الحجية أظهر مما سبق ، للشك في وجود مفت آخر ، فضلا عن كونه أفضل وكون فتواه مخالفة. ولا يبعد استقرار بناء العقلاء ، وسيرة المتشرعة ، على العمل بالفتوى مع الشك في وجود مجتهد آخر من دون فحص عنه. فعدم وجوب الفحص في هذه الصورة أظهر منه فيما سبق. فتأمل جيداً.

[١] كما عن النهاية ، والتهذيب ، والذكرى ، والدروس ، والجعفرية والمقاصد العلية ، والمسالك ، وغيرها ، ويقتضيه أصالة التعيين الجارية عند الدوران بينه وبين التخيير. ولا يظهر على خلافها دليل ، إذ الإطلاقات الدالة على الحجية ـ لو تمت ـ لا تشمل صورة الاختلاف. اللهم الا أن يكون بناء العقلاء على التخيير بين المتساويين في الفضل وان كان أحدهما‌

٣١

[ مسألة ١٤ ] : إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز في تلك المسألة الأخذ من غير الأعلم [١] وإن أمكن الاحتياط [٢].

[ مسألة ١٥ ] : إذا قلد مجتهداً كان يجوّز البقاء على تقليد الميت [٣] ، فمات ذلك المجتهد ، لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة ، بل يجب الرجوع الى الحي الأعلم في جواز البقاء وعدمه.

______________________________________________________

أورع ، فيتبع اتباعه في حجية رأي العالم. لكن هذا البناء غير ظاهر مع الاختلاف ، كما عرفت آنفاً. ولو كان أحد المجتهدين أفضل والآخر أورع قدم الأفضل ، لما عرفت من بناء العقلاء على تعينه.

[١] سيجي‌ء التقييد بالأعلم فالأعلم ، كما هو مقتضى ما تقدم في وجوب تقليد الأعلم.

[٢] لعدم وجوبه على العامي. لما عرفت من الأدلة القطعية على جواز رجوع الجاهل الى العالم ولو مع إمكان الاحتياط.

[٣] الظاهر أن المراد تقليده في المسائل الفرعية ، كما لو قلده حين البلوغ. ويحتمل أن يكون المراد أنه قلده في خصوص مسألة جواز البقاء على تقليد الميت. وكيف كان فقد عرفت أنه مع الشك في جواز البقاء على تقليد الميت يتعين عليه الرجوع الى الحي في نظر العقل ، فيعمل على مقتضى فتواه في جواز العدول وحرمته ، ووجوبه. وهو ظاهر في الصورة الأولى التي هي ظاهر المتن. وأما في الفرض الثاني ـ الذي هو محتمل العبارة ـ فقد يشكل فيما لو أفتاه الحي بوجوب البقاء ـ مثلا ـ فهل يتعين عليه الرجوع الى المجتهد الأول؟ أو يتخير بينه وبين الرجوع الى الثاني؟

٣٢

______________________________________________________

أو يفصل بين ما لو كان رأي الثاني جواز البقاء ، فالثاني ، ووجوبه فالأول؟ فيه وجوه. وأشكل منه ما لو أفتاه الحي بوجوب البقاء ، وكانت فتوى المجتهد الثاني وجوب العدول ، لتناقض الفتويين عملا ولذلك بنى شيخنا الأعظم [ ره ] على عدم الأخذ بعموم فتوى الحي بالنسبة إلى مسألة البقاء والعدول ، للزوم تخصيص الأكثر ، ولاقتضائه وجوب العدول مع أن المفتي الحي لا يقول به.

والذي ينبغي أن يقال : إذا قلد زيداً في المسألة الفرعية ، كوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة ـ مثلا ـ فمات زيد ، فقلد عمراً في جواز البقاء على تقليد زيد في وجوب صلاة الظهر ، فاذا مات عمرو فقلد بكراً فأفتى له بوجوب البقاء على تقليد الميت ، كان مقتضى ذلك وجوب العمل برأي زيد دون رأي عمرو. وذلك أن عمراً وإن كان ميتاً قد قلده حال حياته في جواز البقاء على تقليد الميت ، إلا أنه يمتنع الرجوع إليه في مسألة جواز تقليد الميت ، لأن هذه المسألة قد قلد فيها بكراً بعد موت عمرو ، فلا مجال لتقليد عمرو فيها ، لأن المسألة الواحدة لا تحتمل تقليدين مترتبين. لأنه لو بني على جواز اجتماع المثلين في رتبتين فلا أقل من لزوم اللغوية مع اتفاقهما عملا ، أو التناقض مع اختلافهما ، وبطلانه ظاهر.

وتوهم : أن رأي بكر حجة في مسألة جواز البقاء على تقليد عمرو ورأي عمرو حجة في مسألة جواز البقاء على تقليد زيد ، فيكون هناك مسألتان لاختلاف موضوعيهما يرجع في إحداهما إلى بكر ، وفي الأخرى إلى عمرو ، ولا يكون تقليد أحدهما فيما قلد فيه الآخر ، كما لو أخبر بكر بحجية خبر عمرو ، وأخبر عمرو بحجية خبر زيد ، فيكون كل منهما حجة في مؤداه ، ولا اشتراك بينهما في موضوع واحد. [ مندفع ] : بأن خصوصية عمرو ليست مقومة للقضية الشرعية التي يرجع فيها العامي إلى بكر ، ويكون رأيه حجة فيها ، فان فتوى بكر جواز تقليد الميت بنحو الكلية ، لا خصوص عمرو ،

٣٣

______________________________________________________

فاذا كان رأي بكر حجة فيها على عمومها امتنع في الرتبة اللاحقة جعل حجة أخرى عليها. ومن ذلك يظهر الفرق بين المقام وبين المثال المذكور.

ومن ذلك أيضاً يظهر أنه لو كان رأي بكر وجوب البقاء ، وجب البقاء على تقليد زيد وإن كان رأي عمرو وجوب العدول أو جواز كل من البقاء والعدول. كما أنه لو كان رأي بكر جواز كل من البقاء والعدول ، جاز البقاء على تقليد زيد والعدول عنه ، وإن كان رأي عمرو وجوب البقاء أو وجوب العدول. ثمَّ إن العدول هنا إنما يكون إلى الحي لا إلى الميت الثاني ، لأنه من التقليد الابتدائي للميت. فتأمل.

ثمَّ إنه يمكن أن يقرر المنع عن الرجوع إلى الميت في جواز البقاء وعدمه بوجه آخر ، وهو أنه إذا رجع إلى الحي في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت ، فالتقليد المأخوذ موضوعاً في هذه القضية لا بد أن يكون في غير هذه المسألة ، لامتناع أخذ الحكم في موضوع نفسه ، فيمتنع أن يفتي الحي بجواز البقاء على تقليد الميت في جواز البقاء على تقليد الميت ، أو بحجية رأى الميت في حجية رأى الميت ، فلا بد أن يكون موضوع الحجية غير هذه المسألة. وهذا الاشكال قد أورد نظيره في عموم حجية الخبر للخبر بالواسطة ، ودفع بما لا يطرد في المقام لما عرفت من أن الخصوصيات الموجبة للاختلاف مثل خصوصية كون الميت زيداً أو عمراً ليست دخيلة في القضية الشرعية التي يرجع فيها إلى المجتهد ، فيلزم المحذور المتقدم. ومن هنا يظهر امتناع حجية رأى الميت في حجية رأى الميت ، فكما يمتنع أن يكون ذلك بتوسط الرجوع إلى الحي يمتنع في نفسه أيضاً ، وأن امتناع ذلك في نفسه مانع من احتماله ، ليصح الرجوع فيه إلى الحي ، وان كان يمنع من الرجوع فيه إلى الحي ما عرفت آنفاً من اجتماع تقليدين مترتبين في مسألة واحدة.

ومن ذلك يظهر الوجه في قول المصنف [ ره ] : « لا يجوز البقاء‌

٣٤

[ مسألة ١٦ ] عمل الجاهل المقصر الملتفت باطل وان كان مطابقاً للواقع [١].

______________________________________________________

على تقليده في هذه المسألة » مع أنه [ ره ] قد تقدم منه جواز البقاء على تقليد الميت. للفرق بين هذه المسألة وغيرها من المسائل ، بامتناع جعل حجية رأى الميت فيها وإمكانه في غيرها ، فاذا مات المجتهد الذي يفتي بجواز البقاء على تقليد الميت فمقلده لا يشك في عدم جواز البقاء على تقليده في هذه المسألة ، وإنما الشك في جواز البقاء على تقليده في بقية المسائل. فلاحظ وتدبر.

[١] قد تقدم هذا الحكم في المسألة السابعة ، وحملناه على صورة عدم العلم بالمطابقة للواقع أو لرأي من رأيه حجة ، لكون البطلان حينئذ عقلياً. لكن هنا قد صرح بالبطلان ولو مع المطابقة للواقع. والوجه فيه ـ مضافاً إلى نفي الاشكال والخلاف فيه ظاهراً ، على ما ادعاه شيخنا الأعظم [ ره ] في مبحث العمل قبل الفحص من رسالة البراءة ـ ما ذكره [ قده ] في ذلك المقام من عدم تحقق نية القربة ، لأن الشاك في كون المأتي به موافقاً للمأمور به كيف يتقرب به؟ وقال [ ره ] في مبحث الشبهة الوجوبية : « من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الأمر الواقعي على كل تقدير. نعم هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقاً ، وهذا غير كاف في العبادات المعلوم وقوع التعبد بها ... » (١) إلى آخر ما ذكره في المقامين. ومحصله اعتبار الجزم بالنية في التعبد المعتبر في صحة العبادات. هذا ولكن التحقيق منع ذلك ، لعدم ظهور بناء العقلاء عليه ، وقد عرفت في أوائل الكتاب أن الإطاعة الاحتمالية كالاطاعة الجزمية في‌

__________________

(١) التنبيه الثاني من تنبيهات الشبهة الوجوبية من مبحث اشتباه المكلف به مع العلم بأصل التكليف.

٣٥

وأما الجاهل القاصر أو المقصر الذي كان غافلا حين العمل [١] وحصل منه قصد القربة ، فإن كان مطابقاً لفتوى المجتهد الذي قلده بعد ذلك كان صحيحاً [٢]. والأحوط مع ذلك مطابقته لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حين العمل.

[ مسألة ١٧ ] : المراد من الأعلم [٣] من يكون أعرف‌

______________________________________________________

كون صدور الفعل عن الإرادة التكوينية الحاصلة للعبد بداعي إطاعة الإرادة التشريعية المولوية ، واحتمال الانطباق كالجزم به دخيلان في تأثير الإرادة المتعلقة بمعلوم الفردية أو محتملها.

ودعوى : أن الاقتصار على بعض المحتملات مع البناء على عدم فعل الباقي. يدل على أن الباعث ليس هو الإرادة المولوية ، وإلا لأثرت في غيره من المحتملات. [ مندفعة ] : بإمكان أن يكون قد منع من تأثيرها مانع من مشقة أو غيرها ، ولذلك تختلف الواجبات في ترتب الإطاعة على العلم بوجوبها وعدمه. وأما دعوى نفي الاشكال والخلاف فلم يعتن بها شيخنا الأعظم [ قده ] في رسالته المعمولة في التقليد ـ على ما حكاه بعض الأكابر من تلامذته ـ فكيف يصح الاعتماد عليها حينئذ؟.

[١] المراد به الملتفت إلى الأحكام فلم يتعلم تهاوناً حتى غفل حين العمل. ويقابله القاصر.

[٢] عملا بما دل على حجية رأيه ولو بعد العمل مع عدم ورود الشبهة المتقدمة. أما اعتبار مطابقته لرأي من يجب عليه تقليده حال العمل فلا دليل عليه فان أدلة الحجية لا تقتضي السببية ، كما هو محقق في محله.

[٣] الظاهر أن المراد به الأعرف في تحصيل الوظيفة الفعلية ، عقلية كانت أم شرعية. فلا بد أن يكون أعرف في أخذ كل فرع من أصله.

٣٦

بالقواعد والمدارك للمسألة ، وأكثر اطلاعا لنظائرها وللأخبار وأجود فهما للأخبار ، والحاصل أن يكون أجود استنباطاً. والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط.

[ مسألة ١٨ ] : الأحوط عدم تقليد [١] المفضول حتى في المسألة التي توافق فتواه فتوى الأفضل.

[ مسألة ١٩ ] : لا يجوز تقليد غير المجتهد وان كان من أهل العلم [٢].

______________________________________________________

ولا يلزم فيه أن يكون أقرب إلى الواقع. كما لا يكفي ذلك إذا كان سالكاً ما لا يجوز سلوكه من الطرق في مقام الاستنباط غفلة منه وقصوراً ، كما يوجد عند كثير من البسطاء ولو كان معذوراً لقصوره. وأما حمل الأعلم على معنى أكثر علما وأوسع إحاطة بالمعلومات. فهو وان كان أقرب إلى معنى التفضيل المدلول لهيئة [ أفعل ] إلا أن الظاهر كونه غير مراد القائلين بوجوب تقليد الأعلم ، ولا يقتضيه الدليل المتقدم عليه. فلاحظ.

[١] قد تقدم (١) أنه مع اتفاق الآراء فالجميع حجة ، والعمل المطابق لواحد منها مطابق للجميع ، فكما يجوز العمل اعتماداً على رأي الأفضل ، يجوز اعتماداً على رأي المفضول أيضاً ، وكما يجوز الالتزام بالعمل بالأول ، يجوز الالتزام بالعمل بالثاني أيضاً. فاحتمال المنع عن الثاني غير ظاهر الوجه ، إلا إطلاق قولهم : لا يجوز تقليد المفضول. لكن لو تمَّ الإطلاق ، فليس معقداً لإجماع واجب العمل.

[٢] إجماعاً. لعدم الدليل على حجية فتواه.

__________________

(١) في المسألة : ٨ من هذا الفصل.

٣٧

كما أنه يجب على غير المجتهد التقليد [١] وان كان من أهل العلم.

[ مسألة ٢٠ ] : يعرف اجتهاد المجتهد بالعلم الوجداني كما إذا كان المقلد من أهل الخبرة وعلم باجتهاد شخص. وكذا يعرف بشهادة عدلين [٢] من أهل الخبرة إذا لم تكن معارضة بشهادة آخرين من أهل الخبرة ينفيان عنه الاجتهاد. وكذا يعرف بالشياع المفيد للعلم [٣]. وكذا الأعلمية تعرف بالعلم أو البينة غير المعارضة ، أو الشياع المفيد للعلم.

______________________________________________________

[١] يعني : إذا لم يكن محتاطاً ، كما عرفت فيما سبق.

[٢] سيأتي (١) ـ إن شاء الله ـ في مبحث المياه تقريب العموم الدال على حجية البينة في المقام وغيره.

[٣] الفرق بينه وبين الأول من حيث السبب لا غير ، وإلا فهما مشتركان في كون العلم هو الحجة وإن كانت عبارة المتن توهم غير ذلك. هذا وربما يقال بثبوته بخبر الثقة ، لعموم ما دل على حجيته في الأحكام الكلية ، إذ المراد منه ما يؤدي إلى الحكم الكلي ، سواء كان بمدلوله المطابقي أم الالتزامي ، والمقام من الثاني ، فإن مدلول الخبر المطابقي هو وجود الاجتهاد ، وهو من هذه الجهة يكون إخباراً عن الموضوع ، لكن مدلوله الالتزامي هو ثبوت الحكم الواقعي الكلي الذي يؤدي إليه نظر المجتهد.

فان قلت : أدلة حجية خبر الثقة مختصة بالأخبار عن حس ، ولا تشمل الاخبار عن حدس ، ولذا لم تكن تلك الأدلة دالة على حجية فتوى المجتهد مع أنها اخبار عن الحكم الكلي إلا أن مستنده الحدس. [ قلت ] : الاخبار عن الاجتهاد من قبيل الاخبار عن الحس. نعم المدلول الالتزامي ـ وهو‌

__________________

(١) في المسألة : ٦ من الفصل المتعرض لأحكام ماء البئر.

٣٨

[ مسألة ٢١ ] : إذا كان مجتهدان لا يمكن تحصيل العلم بأعلمية أحدهما ولا البينة [١] ، فإن حصل الظن بأعلمية أحدهما تعين تقليده ، بل لو كان في أحدهما احتمال الأعلمية يقدم ، كما إذا علم أنهما إما متساويان أو هذا المعين أعلم ولا يحتمل أعلمية الآخر ، فالأحوط تقديم من يحتمل أعلميته.

______________________________________________________

الحكم الكلي ـ إنما كان بتوسط الحدس. لكن هذا المقدار لا يقدح في الحجية ، لأن الحس إنما يعتبر في المدلول المطابقي ، لا في الملازمة التي يتوقف عليها ثبوت المدلول الالتزامي ، وإلا فأخبار زرارة ـ مثلا ـ عن قول الإمام الذي هو إخبار عن موضوع يكون أيضاً إخباراً عن الحكم الكلي ويكون حجة على المجتهد ، وربما يكون بتوسط حدس المجتهد الذي هو حجة عليه أيضاً.

وبالجملة : الاخبار عن الاجتهاد كالاخبار عن قول الامام ، ودلالتهما على الحكم الكلي بالالتزام إنما يكون بتوسط الحدس ، غاية الأمر أن الحدس في الثاني من المجتهد وحجة عليه ، والحدس في الأول من المجتهد وحجة على العامي المقلد له. وعلى هذا المبنى يكفي توثيق رجال السند بخبر الثقة. وكذا في إثبات المعنى بأخبار اللغوي الثقة ، كما حررنا ذلك في مبحث حجية قول اللغوي. ولو قلنا بحجية خبر الثقة في الموضوعات ـ كما عليه بناء العقلاء ـ فالحكم أظهر. لكنه محل تأمل ، لإمكان دعوى تحقق الردع عنه. وسيأتي (١) ـ إن شاء الله ـ التعرض لذلك في بعض المباحث.

[١] هذه المسألة ، تارة : تكون ثلاثية الاحتمالات ، وأخرى : ثنائية. فالأولى : أن يحتمل كونهما متساويين ، ويحتمل أعلمية زيد من عمرو مثلا ، ويحتمل العكس. والثانية صورتان : الأولى : أن يعلم أعلمية أحدهما ويحتمل‌

__________________

(١) في المسألة : ٦ من الفصل المتعرض لأحكام البئر.

٣٩

[ مسألة ٢٢ ] : يشترط في المجتهد أمور [١] : البلوغ والعقل ، والايمان والعدالة ، والرجولية ، والحرية ـ على قول ـ وكونه مجتهداً مطلقاً ، فلا يجوز تقليد المتجزئ ، والحياة ، فلا يجوز تقليد الميت ابتداء. نعم يجوز البقاء كما مر ، وان يكون أعلم فلا يجوز ـ على الأحوط ـ تقليد المفضول مع التمكن من الأفضل ، وأن لا يكون متولداً من الزنا ، وأن لا يكون‌

______________________________________________________

كونه زيداً ويحتمل كونه عمراً أيضاً. والثانية : أن يحتمل تساويهما ويحتمل أعلمية زيد لا غير.

والحكم في الأولى التخيير مع تساوي الاحتمالات. وإن كان مقتضى القاعدة الأخذ بأحوط القولين ، لأن الاعتماد على كل واحد من القولين اعتماد على مشكوك الحجية ، إلا أن الظاهر الاتفاق على عدم وجوب الاحتياط المذكور وعلى جواز الرجوع إلى أيهما شاء. ولو ظن أن أحدهما بعينه أعلم ففي الترجيح بالظن إشكال ، لعدم الدليل عليه بعد ما لم يكن معتبراً في نفسه. اللهم إلا أن يكون احتمال الترجيح به موجباً لكون رأي مظنون الأعلمية معلوم الحجية ، ورأي الآخر مشكوك الحجية ، فيتعين الأول ، كما في جميع موارد الدوران بين التعيين والتخيير في الحجية. ومنه يظهر الحكم في الصورة الثانية ، فإنه ـ لعدم المرجح ، وعدم محتمل المرجحية ـ يتعين التخيير ، بناء على ما عرفت آنفاً من الاتفاق فتوى على جواز رجوع الجاهل إلى العالم وإن أمكن الاحتياط ، حتى في مثل المقام. وأما الصورة الثالثة : فلا ينبغي التأمل في تعين محتمل الأعلمية للمرجعية للدوران بين التعيين والتخيير الذي يجب فيه عقلا الأخذ بمحتمل التعيين.

[١] قد أشرنا سابقاً إلى أن جواز التقليد في الجملة لا بد أن يكون بغير التقليد ، وإلا لزم الدور أو التسلسل ، فاذاً لا بد أن يستند جواز التقليد‌

٤٠