مستمسك العروة الوثقى - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١١

فصل

الراكد بلا مادة إن كان دون الكر ينجس بالملاقاة [١] من غير فرق بين النجاسات ، حتى برأس إبرة.

______________________________________________________

على اعتصام المتصل بالمادة ـ يندفع بانصراف الإطلاق إلى صورة اتصال الأثر ، لا بنحو يكون منفصلا كالطفرة. فان ذلك خلاف المرتكز العرفي المنزل عليه التعليل.

ومن ذلك يظهر لك الاشكال فيما ذكره في الجواهر ، فإنه ـ بعد ما جزم بأن الحكم بالطهارة في غاية الضعف ـ قال « والمسألة لا تخلو من تأمل ، لأنه يمكن أن يقال : إن تغير بعض الجاري لا يخرج البعض الآخر عن هذا الإطلاق. وأيضاً احتمال الدخول تحت الجاري معارض باحتمال الخروج ، فيبقى أصل الطهارة سالماً ، فيحكم عليه بالطهارة ». إذ فيه : أن الانصراف موجب للخروج عن الإطلاق. وأن معارضة احتمال الدخول باحتمال الخروج مرجعها إلى إجمال دليل اعتصام الجاري ، والمتعين الرجوع حينئذ إلى عموم انفعال القليل ، لا أصالة الطهارة.

فصل في الراكد بلا مادة

[١] إجماعاً صريحا وظاهراً ، حكاه جماعة كثيرة من القدماء والمتأخرين ومتأخريهم ، وبعضهم استثنى ابن أبي عقيل ، وكأن إطلاق غيرهم لعدم اعتنائهم بخلافه. وعن صاحب المعالم والعلامة المجلسي والمحقق البهبهاني : ان الأخبار بذلك متواترة ، وفي الرياض : « جمع منها بعض الأصحاب‌

١٤١

______________________________________________________

مائتي حديث » وعن العلامة الطباطبائي قدس‌سره ـ في أثناء تدريسه في الوافي ـ إنها تزيد على ثلاثمائة رواية. منها الطائفة المتضمنة‌ قولهم (ع) : « إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء » (١) الوارد بعضها ابتداء ، وبعضها جوابا عن السؤال عن الماء الذي تبول فيه الدواب ، وتلغ فيه الكلاب ، ويغتسل فيه الجنب ، وتدخله الدجاجة وقد وطئت العذرة. والمناقشة فيها بعدم عموم الشي‌ء في المفهوم ، لأن نقيض السلب الكلي هو الإيجاب الجزئي ، لو سلمت ، فلا تقدح في الاستدلال فيما نحن فيه ، لأن المقصود هو الإيجاب الجزئي في مقابل مذهب ابن أبي عقيل من السلب الكلي. وما ورد في سؤر الكلب والخنزير ، مثل‌ صحيح ابن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال : « سألته عن الكلب يشرب من الإناء. قال (ع) : اغسل الإناء (٢) وصحيح ابن جعفر (ع) عن أخيه موسى (ع) قال : « سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال (ع) : يغسل سبع مرات » (٣) وما ورد في الإناءين المشتبهين ، كموثق سماعة عن أبي عبد الله (ع) : « عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيره. قال (ع) : يهريقهما جميعا ويتيمم » (٤) ونحوه موثق عمار‌ (٥) ، وموثق أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال (ع) : « إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس ، إلا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة ، فإن أدخلت يدك في الماء وفيها شي‌ء من ذلك فأهرق‌

__________________

(١) راجع أحاديث باب : ٩ من أبواب الماء المطلق من الوسائل.

(٢) الوسائل باب : ١ من أبواب الأسئار حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ١ من أبواب الأسئار حديث : ٢.

(٤) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ٢.

(٥) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ١٤.

١٤٢

______________________________________________________

ذلك الماء » (١) ونحوه غيره مما ورد في الجنب وغيره ... إلى غير ذلك من النصوص الواردة في أبواب الماء المحقون ، والجاري ، والحمام ، والبئر ، ومباحث النجاسات ، وغير ذلك.

هذا ولم يعرف الخلاف في ذلك إلا من ابن أبي عقيل ، وتبعه عليه الكاشاني والفتوني. واستدل لهم بروايات هي ما بين مطلق قابل للتقييد بما سبق كالنبوي ‌(٢) ونحوه. أو ظاهر في الكثير ، كالروايات الواردة في الغدير الواقع فيه جيفة ، وأنه لا بأس به إذا غلب الماء ريح الجيفة‌ (٣) أو مجمل ، مثل‌ صحيح زرارة عن أبي عبد الله (ع) قال : « سألته عن الحبل من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر أيتوضأ من ذلك الماء؟ قال (ع) : لا بأس » (٤) إذ لا يعلم أن السؤال كان لأجل تقاطر الماء من شعر الخنزير في ماء الدلو ، أو من جهة الشك في التقاطر ، أو من جهة انفعال ماء البئر ، أو من جهة استعمال شعر الخنزير في الوضوء العبادي فعلى الاحتمالات الثلاثة الأخيرة يكون أجنبيا عما نحن فيه.

وأما‌ خبر محمد بن ميسر : « عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، ويريد أن يغتسل منه ، وليس معه إناء يغرف به ، ويداه قذرتان. قال (ع) : يضع يده ويتوضأ ثمَّ يغتسل. هذا مما قال الله‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من الماء المطلق حديث : ٤.

(٢) الوسائل باب : ١ من أبواب الماء المطلق حديث : ٩ وأكثر أحاديث هذا الباب يدل على إطلاق طهورية الماء.

(٣) الوسائل باب : ٣ من أبواب الماء المطلق حديث : ١١ ، ١٣ ، وباب : ٩ من أبواب الماء المطلق حديث : ١١.

(٤) الوسائل باب : ١٤ من أبواب الماء المطلق حديث : ٢.

١٤٣

______________________________________________________

عز وجل ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) » (٢) فغير ظاهر في القليل بمعنى ما لم يكن كراً ، بل من الجائز أن يكون المراد منه ما لا يمكن الاغتسال بنحو الارتماس فيه. ولا سيما بملاحظة الاستدلال بآية نفي الحرج فان اقتضاءه لاعتصام ما دون الكر خفي ، بخلاف اقتضائه اعتصام مراتب الكر ، فان لزوم الحرج من عدم اعتصامها ظاهر ، كما لا يخفى مع أن ذكر الوضوء مع الغسل خلاف المذهب.

نعم‌ خبر زرارة عن أبي جعفر (ع) : « قلت له : راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة. قال (ع) : إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها ، وإذا كان غير متفسخ فاشرب منه وتوضأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية. وكذلك الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء. وقال أبو جعفر (ع) : إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء تفسخ فيه أو لم يتفسخ. إلا أن يجي‌ء له ريح تغلب على ريح الماء » (٣) لا مجال للإشكال في دلالته على الاعتصام لكن التفصيل فيه بين التفسخ وعدمه مما لم يقل به أحد. وكذلك التفصيل بين الراوية وما زاد عليها. وحمل التفسخ على التغير يأباه ما في ذيله. كما أن حمل ما زاد على الراوية على الكر غريب ، لأنه خلاف المعهود من مقدار الراوية ، ولا يناسبه التعبير المذكور ، كما يظهر بأقل تأمل.

ومثله في الدلالة‌ خبر أبي مريم الأنصاري : « كنت مع أبي عبد الله (ع) في حائط له فحضرت الصلاة فنزح دلواً للوضوء من ركي له فخرجت عليه قطعة عذرة يابسة فأكفأ رأسه وتوضأ بالباقي » (٤) بناء على أن المراد‌

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ٥.

(٣) الوسائل باب : ٣ من أبواب الماء المطلق حديث : ٨ ـ ٩.

(٤) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ١٢.

١٤٤

______________________________________________________

بالعذرة عذرة الإنسان ، كما هو الظاهر. لكن قال شيخنا الأعظم [ ره ] : « إن أحداً لا يرضى أن يتوضأ الإمام (ع) من هذا. بل لا يرضى أحد أن يستعمل الامام (ع) هذا الماء في مطلق الانتفاع فضلا عن الوضوء. بل قد ورد الأمر بالإراقة لمثله في جملة من النصوص‌ (١) ، فلا بد من توجيه الرواية قلنا بالنجاسة أو الطهارة. فلا يبعد إذاً حمل العذرة فيه على الروث الطاهر ، أو الحمل على خطأ الراوي في اعتقاده أنها عذرة. وليس ذلك بأبعد من حمل الفعل على إرادة بيان الجواز على تقدير القول بالطهارة.

ومثلهما في الدلالة‌ خبر علي بن جعفر (ع) : « عن جنب أصابت يده جنابة فمسحها بخرقة ، ثمَّ أدخل يده في غسله هل يجزؤه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال (ع) : إن وجد ماء غيره فلا يجزؤه أن يغتسل ، وان لم يجد غيره أجزأه » (٢). لكن التفصيل المذكور فيه مما لم يقل به أحد. مع أن مورده المتنجس.

ولو أغمض النظر عن هذه المناقشات في الروايات المذكورة لم يجز الاعتماد عليها ـ بعد إعراض جماهير الأصحاب عنها ، وصيرورة الحكم بالانفعال من الواضحات المتسالم عليها عند الإمامية ـ فضلا عن معارضتها لما عرفت ليلتزم بالجمع العرفي ، بحمل نصوص الانفعال على الكراهة ، أو اختلاف مراتب النجاسة والطهارة ، فإنه تأباه نصوص الانفعال باختلاف مواردها وأحكامها وألسنتها ، كما لعله ظاهر بالتأمل فيها. وليس ورود مثل هذه النصوص الا كورود غيرها في كثير من المسائل المعلوم حكمها نصا وفتوى مما علم وقوع الخطأ فيه ، إما في أصالة الجهة ، أو في أصالة صحة النقل ،

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ٢ ، ٤ ، ٧ ، ١٠ ، ١١ ، ١٤ وباب : ١ من أبواب الأسئار حديث : ٤ ، ٥.

(٢) لم نعثر عليه في الوسائل ، راجع قرب الاسناد المطبوع في إيران سنة ١٣٧٠ ه‍ صفحة : ٤٨.

١٤٥

______________________________________________________

أو غير ذلك ، ولو بني على إعمال قواعد التعارض في مثله لزم تأسيس فقه جديد. ومنه سبحانه نستمد التأييد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

هذا وقد فصل استاذنا الأعظم قدس‌سره (١) بين النجس والمتنجس فبنى على طهارة الماء بملاقاة الثاني. إذ لا إجماع على الانفعال بملاقاته ، ولا خبر دل عليه ، خصوصا أو عموماً ، منطوقا أو مفهوماً ، لاختصاص الأخبار الخاصة بعين النجاسة وانسباقها من الشي‌ء في الاخبار العامة ـ كما ادعي‌ في خبر : « خلق الله الماء ... » (٢) ـ ولا أقل من أنه القدر المتيقن. ولو سلم شمول المنطوق له فلا عموم في المفهوم ، فان الظاهر أن يكون مثل : « إذا كان الماء قدر كر ... » (٣) لتعليق العموم لا لتعليق كل فرد من أفراد العام ، فيكون مفهومه إيجابا جزئياً والمتيقن عين النجاسة. ولو سلم عدم ظهوره في تعليق العموم فلا ظهور له في تعليق أفراد العام ، وعموم : « خلق الله ... » يكون مرجعاً ، مضافا الى استصحاب الطهارة أو قاعدتها.

أقول : أما نفي الإجماع ، فهو خلاف إطلاق معاقد الإجماعات المدعاة على انفعال الماء القليل. وستأتي أيضاً حكاية الإجماع على تنجيس المتنجس ـ مطلقا ـ من جماعة كثيرة. وفي المحكي في جملة من عباراتهم دعوى الضرورة عليه.

وأما أنه لا خبر يدل عليه ، ففيه : أنه ظاهر جملة من النصوص‌ كصحيح شهاب عن أبي عبد الله (ع) : « في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في‌

__________________

(١) المحقق الخراساني ( ره ).

(٢) الوسائل باب : ١ من أبواب الماء المطلق حديث : ٩.

(٣) الوسائل باب : ٩ من أبواب الماء المطلق حديث : ١ ، ٢ ، ٥ ، ٦.

١٤٦

______________________________________________________

الإناء قبل أن يغسلها أنه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء » (١) وقوية أبي بصير عنه (ع) : « سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه قال (ع) : إن كانت يده قذرة فأهرقه وان كان لم يصبها قذر فليغتسل منه. هذا مما قال الله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢). ونحوهما حسنة زرارة‌ (٣) ، وموثقة سماعة‌ (٤) وخبر علي بن جعفر (ع) (٥). وفي صحيح البزنطي : « سألت أبا الحسن (ع) عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة. قال (ع) : يكفئ الإناء » (٦) نعم قد يعارضها موثق أبي بصير المتقدم في أخبار الانفعال ، فان صدره وان كان موافقا لما سبق ، إلا أن التقييد في ذيله بقوله (ع) : « وفيها شي‌ء من ذلك » يقتضي اشتراط الانفعال بملاقاة عين النجاسة. وكذا خبر ابن جعفر المتقدم في أخبار الاعتصام. لكن لا يبعد أن يكون المراد من الأول : « وقد كان فيها » ولو بقرينة ظهور كون الذيل تصريحاً بمفهوم الشرط السابق في الصدر ، أو بقرينة ظهور الإجماع على الانفعال بالمتنجس وأما الثاني فلو لم يدل على النجاسة لم يدل على الطهارة أيضاً ، إذ التفصيل لا يقول به أحد كما عرفت.

وأما أن الشرط في أخبار الكر لتعليق العموم. [ ففيه ] : أنه لو سلم كونه مقتضى التركيب في نفسه ، فالظاهر منه في المقام كونه لتعليق‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ٣.

(٢) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ١١.

(٣) الوسائل باب : ٢٦ من أبواب الجناية حديث : ٢.

(٤) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ٩.

(٥) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ١٣.

(٦) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ٧.

١٤٧

من الدم الذي لا يدركه الطرف [١]

______________________________________________________

الافراد ، بقرينة وروده مورد بيان حكم النجاسات المختلفة من بول الدواب وولوغ الكلاب ، واغتسال الجنب ، ودخول الدجاجة ، والحمامة ، وقد وطئت العذرة ، التي قصد السؤال عن انفعال الماء بها ، وبأمثالها من النجاسات والمتنجسات التي من شأنها التنجيس وليس وارداً في خصوص النفي في مقابل الإثبات في الجملة ، ولا في خصوص الأعيان المذكورة ، كما يظهر بالتأمل. وعلى هذا فلا مجال للرجوع الى عموم : « خلق الله الماء ... » ‌، ولا الى استصحاب الطهارة ، أو قاعدتها.

[١] عن الشيخ في الاستبصار طهارة الماء القليل عند ملاقاة ما لا يدركه الطرف من الدم ، كرؤوس الأبر ، وعن غاية المراد نسبته الى كثير من الناس. لصحيح ابن جعفر (ع) عن أخيه (ع) : « عن رجل رعف فامتخط فصار ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إناءه هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال (ع) : إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس وان كان شيئا بينا فلا تتوضأ منه » (١). والطعن في سنده بأن فيه محمد بن أحمد العلوي المجهول غير ظاهر ـ لو سلم ـ فإنه مروي في الكافي بطريق صحيح ليس فيه العلوي الموجود في طريق الشيخ. ومثله الطعن في دلالته بأن إصابة الإناء لا تقتضي إصابة الماء. فان الظاهر منه إصابة نفس الماء ، كما قد يشهد به لسان الجواب. نعم مورده أخص من المدعى ، ومعرض عنه عند المشهور ، فيسقط بذلك عن الحجية.

إلا أن يقال : إن ظاهره عدم الانفعال بما لا يكون مرئيا من أجزاء الدم ، وهذا هو مقتضى الأصل ، إذ لا دليل على نجاسة الذرات الدموية التي لا يدركها الطرف ، لعدم ثبوت كونها دما عرفا ، نظير الأجزاء المائية‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ١.

١٤٨

سواء كان مجتمعا أم متفرقا مع اتصالها بالسواقي [١]. فلو كان هناك حفر متعددة فيها الماء واتصلت بالسواقي ، ولم يكن المجموع كراً ، إذا لاقى النجس واحدة منها تنجس الجميع ، وان كان بقدر الكر لا ينجس ، وان كان متفرقا على الوجه المذكور ، فلو كان ما في كل حفرة دون الكر وكان المجموع كراً ، ولاقى واحدة منها النجس ، لم تنجس ، لاتصالها بالبقية.

[ مسألة ١ ] : لا فرق في تنجس القليل بين أن يكون وارداً على النجاسة [٢] أو موروداً.

______________________________________________________

المنتشرة في البخار. لا أقل من انصراف دليل النجاسة عنها ، أو دليل انفعال الماء بملاقاة النجاسة. وعلى هذا فان كان هذا هو مراد الشيخ [ ره ] فلا بأس به. وفي المبسوط جزم بعدم انفعاله بما لا يمكن التحرز منه ، مثل رؤوس الابر من الدم وغيره ، لأنه لا يمكن التحرز عنه. انتهى. فإن أراد ما ذكرنا ففي محله أيضاً. وان أراد غيره فهو خلاف إطلاقات الانفعال والتعليل الذي ذكره غير ظاهر صغرى وكبرى.

[١] لإطلاق الأدلة. خلافا للمحكي عن المعالم من اعتبار الاجتماع وكأنه لدعوى الانصراف. لكنه ـ على تقدير ثبوته ـ بدوي لا يرفع الإطلاق هذا مع تساوي السطوح ، أما مع الاختلاف فسيأتي.

[٢] خلافا للسيد المرتضى [ ره ] في الناصريات ، والحلي في السرائر بل جعله الصحيح المستمر على أصل المذهب وفتاوى الأصحاب. قال السيد [ ره ] : « والوجه فيه : إنا لو حكمنا بنجاسة القليل الوارد على النجاسة لأدى ذلك الى أن الثوب لا يطهر إلا بإيراد كر من الماء عليه ، وذلك يشق ، فدل على أن الماء الوارد على النجاسة لا يعتبر فيه القلة والكثرة‌

١٤٩

[ مسألة ٢ ] : الكر بحسب الوزن ألف ومائتا رطل بالعراقي [١]

______________________________________________________

كما يعتبر في ما يرد عليه النجاسة ». لكنه ليس في الحقيقة تفصيلا بين الوارد والمورود ، بل هو قول بطهارة خصوص المستعمل في التطهير ، ولو كان موروداً ، بناء على عدم اعتبار الورود فيه. وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في حكم ماء الغسالة التعرض للوجه الذي ذكره.

[١] على المشهور. لمرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) : « الكر من الماء الذي لا ينجسه شي‌ء ألف ومائتا رطل » (١) بحمل الرطل فيها على العراقي ، بقرينة‌ صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) : « قال : والكر ستمائة رطل » (٢) بحمل الرطل فيها على المكي ـ الذي هو ضعف العراقي ـ بقرينة المرسلة الأولى ، حيث يدور الأمر بين الجمع بينهما بذلك وبين طرح إحداهما ، والأول متعين عرفا ، فإن الأخذ بالتعيين حيث يدور الأمر بينه وبين الطرح أولى من الأخذ بالتخصيص حيث يدور الأمر بينه وبينه ، إذ التخصيص لا يخلو من ارتكاب خلاف الظاهر ، بخلاف تعيين المشترك في أحد معانيه.

فان قلت : كل واحدة من الروايتين ليس لها ظاهر حجة ، كي يدور الأمر بين طرحه وبين التعيين. [ قلت ] : بلى كل واحدة منهما نص في أحد المعاني على البدل ، وانما لا يكون لها ظاهر في واحد بعينه ، فلو حملت المرسلة على غير الرطل العراقي كانت الصحيحة منافية لها على أى معنى حمل الرطل فيها ، فيتعين حمل الرطل فيها على العراقي. وكذا القول في الصحيحة فإنها لو حملت على غير المكي لنافتها المرسلة على أي معنى حمل الرطل فيها : فيتعين حمل الرطل فيها على المكي. فيكون تعيين أحد المحتملات في كل‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب الماء المطلق حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ١١ من أبواب الماء المطلق حديث : ٣.

١٥٠

______________________________________________________

واحدة منهما لئلا يلزم طرح النص من الأخرى.

هذا مضافا الى ما قيل من دعوى الإجماع على عدم كون الكر ستمائة رطل بالعراقي والمدني ، وهو قرينة على حمل رواية الستمائة على المكي ، فتكون هي قرينة على حمل المرسلة على العراقي. بل لا حاجة الى الحمل المذكور ، لأن الستمائة بعد حملها على المكي تكون ألفاً ومائتين بالعراقي ، وان بقيت المرسلة على إجمالها.

نعم رواية ابن جعفر (ع) (١) الواردة في ألف رطل وقع فيها أوقية من بول ، المتضمنة أنه لا يصلح شربه ولا الوضوء منه‌، بناء على ظهورها في الرطل المدني ـ بقرينة كونه مدنيا ـ تنافي حمل المرسلة على العراقي. وكأنه لذلك ذهب الصدوقان والمرتضى قدس‌سرهم ـ على ما حكي ـ الى كون الكر ألفاً ومائتين بالمدني. لكن هذه القرينة غير ظاهرة ، إذ من المحتمل استعمال الرطل شائعاً في المدينة في العراقي ، كما يستعمل في المدني. بل قد يظهر من رواية الكلبي النسابة‌ (٢) أن الاستعمال في العراقي أشيع. فتأمل.

وأشكل من ذلك دعوى تعين حمل المرسلة على الرطل العراقي ، بقرينة أن ابن أبي عمير كوفي ، ومشايخه من أهل الكوفة ، وحمل الصحيحة على الرطل المكي ، بقرينة أن ابن مسلم من أهل الطائف. وجه الإشكال [ أولا ] : ما عرفت من احتمال استعمال الرطل شائعا في كل من المقادير الثلاثة [ وثانيا ] : أنه لم يثبت وجوب حمل الكلام على عرف السامع في قبال عرف المتكلم. مع أن ابن مسلم من أهل الكوفة ، كما يظهر بمراجعة ترجمته في كتب الرجال. وكون المراد من بعض أصحابنا في كلام ابن أبي عمير‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ١٦.

(٢) الوسائل باب : ٢ من أبواب الماء المضاف حديث : ٢.

١٥١

وبالمساحة ثلاثة وأربعون شبراً إلا ثمن شبر [١]

______________________________________________________

بعض الكوفيين غير واضح.

[١] على الأشهر أو المشهور. لموثق أبي بصير أو صحيحه : « سألت أبا عبد الله (ع) عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال (ع) : إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا [ ونصف خ ل ] ، في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض ، فذلك الكر من الماء » (١). والمناقشة في السند لا تهم بعد كون الحديث موثقا ولا سيما بعد اعتماد المشهور عليه.

نعم تشكل دلالته بعدم التعرض فيه للبعد الثالث. ودعوى : حذفه من العمق لدلالة ما قبله عليه ، غير ظاهرة. كدعوى أن قوله (ع) ثانيا : « ثلاثة أشبار » ليس بدلا من قوله : « مثله » بل هو معطوف على : « مثله » والتقدير : « وفي ثلاثة أشبار ... » فيكون بيانا لتقدير العمق. بل في الجواهر : أنه عثر على نسخة مقروءة على المجلسي الكبير مصححة هكذا : « في ثلاثة أشبار ونصف في عمقه ». إذ تشكل : بأن تقدير العاطف خلاف الأصل. والنسخة التي عثر عليها في الجواهر لا يعتمد عليها في قبال النسخ المعروفة ، حتى أن المجلسي الكبير [ ره ] صار في مقام توجيه الدلالة بجعل : « ثلاثة أشبار » ‌الثانية خبراً ثانيا ل‌ « كان » لا بدلا من : « مثله » ‌، على ما حكاه عنه ولده الأعظم [ قده ] في مرآة العقول : ولو كانت هذه النسخة صحيحة لما احتاج إلى هذا التوجيه الذي هو خلاف الظاهر كغيره من التوجيهات التي اعترف في مرآة العقول :بأن ارتكابها إنما يسوغ بعد البناء على كون المراد بيان تحديد الجهات الثلاث ، إذ تحديد البعض وإهمال الباقي لا معنى له. والحمل على القطر ـ المبني على فرض نادر الوقوع وهو الحوض المدور ـ بعيد غاية البعد ، وأنه لو لا‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب الماء المطلق حديث : ٦.

١٥٢

______________________________________________________

ذلك لكان من الاستدلال المبني على الاحتمال. انتهى. [ أقول ] : بل هو من الاستدلال بخلاف الظاهر.

وأما ندرة الشكل المدور في الماء فغير ظاهرة. ولا سيما بملاحظة أن المدور مقتضى طبع الماء فتأمل. مع أن تساوي خطوط السطح لا تختص بالمربع بل تكون في المسدس ، والمثمن ، وغيرهما من الاشكال. فالحمل على المربع بخصوصه غير ظاهر ، ولا قرينة عليه. ومقتضى إطلاق الكلام الحمل على المدور ، فإنه الذي تستوي فيه الخطوط من جميع النقاط ، بخلاف غيره من المضلعات ، فان الخطوط فيه لا تستوي إذ هي بين الزوايا أطول منها بين الأضلاع. فإطلاق الاقتصار على بيان بعد واحد يقتضي الحمل على الأول. مع أن المدور ليس له ـ عرفا ـ إلا بعد واحد ، لأن تمايز أبعاده بمجرد الفرض العقلي بخلاف المضلع ، فان تمايز أضلاعه يستوجب تمايز ابعاده ، سواء أتساوت ـ كالمربع والمسدس ونحوهما ـ أم اختلفت كالمستطيل. وهذه جهة أخرى تستوجب حمل الكلام على المدور دون غيره من الاشكال. [ وبالجملة ] : تساوي الخطوط في المدور من جميع النقاط مع كونه عرفا له بعد واحد يستوجبان حمل الكلام غير المتعرض إلا لبعد واحد عليه دون غيره لفقد كل من الأمرين المذكورين فيه ، كما لعله ظاهر بالتأمل.

وأما ما ذكره في الجواهر ، من أن الحمل على المدور حمل على ما لا يعرفه إلا الخواص من علماء الهيئة ، فيمتنع. ففيه : أنه إنما يتم لو كان المقصود بيان نتيجة ضرب الابعاد بعضها ببعض ، لكنه غير ظاهر ، بل المراد ذكر علامة على الكر ، وهي أن يكون قطره ثلاثة ونصفا وعمقه كذلك ، وهو شي‌ء يعرفه أجهل العوام. ولو كان المراد بيان حاصل ضرب الابعاد كان المناسب ـ بل المتعين ـ أن يقول (ع) : « ثلاثة وأربعون شبراً إلا ثمن شبر » فإنه أصرح ، وأخصر ، وأفيد.

١٥٣

______________________________________________________

هذا وقد يستدل على المشهور أيضاً‌ برواية الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله (ع) : « إذا كان الماء في الركي كراً لم ينجسه شي‌ء. قلت : وكم الكر؟ قال (ع) : ثلاثة أشبار ونصف عمقها ، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها » (١) بناء على ما تقدم في تقريب الأول من الاكتفاء بذكر أحد البعدين عن ذكر الآخر ، الذي عرفت ما فيه من أنه خلاف الظاهر. أو لأن الطول إما مساو أو أكثر ، والمتيقن الأول.

وفيه : أن هذا لا يقتضي الظهور في الأقل. مع أن الطول لا يكون مساويا للعرض ، واستعماله فيه مبني على المسامحة ، فالعرض في الرواية الشريفة بمعنى السعة ، نظير قوله تعالى ( وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) وقد عرفت أن إطلاق كون سعة السطح ثلاثة ونصفا منزل على المدور ، ولا سيما في الرواية التي موردها الركية التي هي غالبا من المدور ، كما قيل ، وان كان لا يخلو من تأمل.

وعلى هذا يكون ظاهر الروايتين حصول الكر في ثلاثة وثلاثين شبراً وخمسة أثمان الشبر ونصف ثمنه ، بمقتضى ما ذكر في معرفة مقدار المدور من أنه ينقص عن المربع بسبع ونصف سبع ، فان التفاوت بين ما ذكرناه وما هو المشهور سبع ونصفه. لا ما ذكر في الجواهر من أن تنزيلها على المدور يقتضي كون‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٩ من أبواب الماء المطلق حديث : ٨ هكذا رواه في الوسائل القديمة ، وهو كذلك في الكافي والتهذيب والوافي وزاد في الوسائل الحديثة ذكر الطول ، فقال : « ثلاثة أشبار ونصف طولها في ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها ». ولعله تبع فيه الاستبصار المطبوع في النجف الأشرف أخيراً ، فيكون دليلا صريحاً للمشهور ولا يتم ما ذكره قدس‌سره في رد الاستدلال به. لكن في الوسائل في باب : ١٠ من أبواب الماء المطلق حديث : ٥ قال بعد ذكر ذيل الحديث : « ذكر العرض يغني عن ذكر الطول لأنه لا بد أن يساويه أو يزيد عليه » وهو صريح في عدم اشتمال الحديث على بعد الطول.

١٥٤

______________________________________________________

الكر اثنين وثلاثين شبرا وثمنا وربع ثمن. وكأنه لتوهم كون قطر الدائرة ثلث محيطها ، مع أن المذكور في محله أن المحيط ثلاثة أمثال القطر وسبع فيكون محيط الدائرة التي يكون قطرها [ ثمانية ] خمسة وعشرين وسبعاً ، لا أربعة وعشرين. فاذا كان قطر سطح الماء المدور الشكل ثلاثة أشبار ونصفا ، فضرب نصفه في نصف المحيط الذي هو أحد عشر شبراً ، ثمَّ ضرب الحاصل في العمق الذي هو ثلاثة ونصف ، كان الحاصل ما ذكرنا ـ الذي ذكره الوحيد [ ره ] ـ لا ما في الجواهر.

هذا وفي المدارك استوجه العمل‌ بصحيحة إسماعيل بن جابر : « قلت لأبي عبد الله (ع) : الماء الذي لا ينجسه شي‌ء؟ قال (ع) : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » (١) مستظهراً من اعتبار الذراع والشبر في السعة اعتبارهما في كل من البعدين. ولم يتعرض لمقدار الذراع. فان كان شبرين ـ كما يظهر من بعض أخبار المواقيت (٢) ، ويساعده الاختبار ـ يكون الكر ستة وثلاثين شبراً حاصلة من ضرب ثلاثة في ثلاثة ، والحاصل في أربعة العمق. وان كان الذراع قدمين ـ كما يظهر من جملة من أخبار ذلك الباب (٣) ـ يكون الكر اثنين وخمسين شبراً تقريباً ، لأن القدم يزيد على الشبر بسدس تقريباً.

هذا ولما عرفت ظهور مثل هذا التحديد في تحديد بعدين لا غير ، وأنه منزل على الشكل المدور ، تعرف أن مقتضاها كون الكر ثمانية وعشرين شبراً وسبعين بناء على أن الذراع شبران وأربعين شبرا تقريباً ، بناء على أنه قدمان.

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب الماء المطلق حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٨ من أبواب مواقيت الصلاة حديث : ١٨.

(٣) الوسائل باب : ٨ من أبواب مواقيت الصلاة حديث : ٣ وقد يستفاد من غيره من اخبار الباب وغيرها.

١٥٥

______________________________________________________

والمحكي عن القميين وجماعة من المتأخرين ـ كالعلامة في المختلف ، والشهيد الثاني في روض الجنان والروضة. والأردبيلي في مجمع البرهان ، والسيد بحر العلوم في سياق أخبار القلتين في المصابيح (١) وغيرهم ـ : أنه سبعة وعشرون شبراً‌ لرواية إسماعيل بن جابر : « سألت أبا عبد الله (ع) عن قدر الماء الذي لا ينجسه شي‌ء. فقال (ع) : كر. قلت : وكم الكر؟ قال (ع) : ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار » (٢).

وقد وصفت هذه الرواية بالصحة في كلام جماعة ، بل عن البهائي أنها موصوفة بالصحة من زمن العلامة ـ رحمه‌الله ـ الى زماننا. انتهى. والظاهر أن الوجه في ذلك أن الشيخ [ ره ] رواها في الاستبصار وموضع من التهذيب. عن عبد الله بن سنان. لكن في الكافي رواها عن ابن سنان وقد استظهر غير واحد أنه محمد. وعن موضع من التهذيب ، أنه رواها عن محمد بن سنان. ومن المستبعد كونهما معاً روياها. ولأجل ذلك يشكل الحكم بصحة الرواية ، كما يشكل انجبارها بعمل الجماعة بعد ظهور خطئهم في اعتقادهم صحة سندها. كما يشكل انجبارها بعمل القميين. لعدم ثبوته ، فان مضمونها وان نسب الى القميين في كلام جماعة ـ كالحلي والعلامة والشهيدين ، وغيرهم ـ على ما حكي ، لكنه في المنتهى خصه بابن بابويه ، وفي الخلاف نسبة الأول إلى جميع القميين وأصحاب الحديث. فالعمدة : أن الظاهر جواز العمل بأخبار محمد بن سنان لثبوت وثاقته. فلا ينبغي التوقف عن العمل بها من جهة السند.

وأما الطعن في دلالتها ، فيندفع بشيوع الاكتفاء بذكر البعدين عن‌

__________________

(١) لكن السيد في مفتاح الكرامة بعد أن قال : « وهو ( يعني تحديد الكر بسبعة وعشرين شبراً ) مختار الأستاذ الشريف أيده الله تعالى ، حيث قال : والانصاف ترك الانصاف » قال : « لكن عدل عنه في الهداية ». فراجع.

(٢) الوسائل باب : ٩ من أبواب الماء المطلق حديث : ٧.

١٥٦

______________________________________________________

ذكر البعد الثالث فيما لم ينص على بعد بعينه. وبذلك افترقت هذه الرواية عن السوابق للتنصيص فيها على العمق والعرض والسعة ، بخلاف هذه الرواية. مع تأيدها أو اعتضادها بالمرسل عن المجالس والأمالي : أنه ثلاثة طولا في ثلاثة عرضاً في ثلاثة عمقاً‌ (١). وبالإجماع على عدم كون الكر أقل من سبعة وعشرين ، فيمتنع حملها على المدور. واحتمال سقوط لفظ النصف منها ، لا يعتد به. لأنه خلاف الأصل كما أن إعراض المشهور عنها لا يصلح موهناً لها. لاحتمال أن يكون لبعض الوجوه المرجحة لغيرها عليها في نظرهم.

نعم لو بني على إعمال قواعد التعارض بين النصوص لتعذر الجمع العرفي بينها ، يتعين العمل بصحيحة إسماعيل بن جابر ، المتضمنة للذراع والشبر‌ ـ التي تقدم ظهورها في المستدير ـ لأنها أصح الاخبار ـ كما قيل ـ لو لا أن تسقط عن الحجية بإعراض الأصحاب عنها ، قال في المنتهى ـ بعد ذكر الصحيحة المذكورة ـ : « وتأولها الشيخ على احتمال بلوغ الأرطال وهو حسن ، لأنه لم يعتبر أحد من أصحابنا هذا المقدار ». فيبقى التعارض بين خبر أبي بصير المتقدم‌ في دليل المشهور ، وبين رواية إسماعيل‌ التي هي مستند ابن بابويه. ولا يبعد كون سند الأول أوثق فيترجح. وقد عرفت ظهوره في المدور. وأنه عليه يكون الكر أربعة وثلاثين شبراً إلا ثمنين ونصف ثمن. هذا بناء على تعذر الجمع العرفي بين النصوص ، لورودها في مقام التقدير ، الذي يمتنع فيه الاختلاف ، للزوم وحدة القدر ، فاختلافها فيه يستوجب التعارض.

لكن هذا المبنى غير ظاهر في المقام ، لتحقق الاختلاف بين نصوص الوزن ونصوص المساحة اختلافا واضحا. إذ المحكي عن الأمين الأسترابادي :

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب الماء المطلق حديث : ٢.

١٥٧

______________________________________________________

أنه وزن ماء المدينة فكان يساوي ستة وثلاثين شبراً تقريباً ، وظاهر مرآة العقول للمجلسي [ ره ] : أن وزنه يساوي ثلاثة وثلاثين شبراً تقريباً ، ووزن ماء النجف في هذه الأزمنة جماعة فكان وزنه يساوي ثمانية وعشرين شبراً تقريبا ، وبعض الأفاضل منهم ذكر أنه يساوي سبعة وعشرين شبرا. وهذه الأوزان لا توافق المشهور في المساحة. ومن العجيب أن المشهور ذهبوا الى أن الرطل في التقدير بالوزن عراقي ، وأن مساحة الكر ثلاثة وأربعون إلا ثمناً ، مع ما بينهما من التفاوت الظاهر. وأن الصدوقين ذهبا الى أن الرطل مدني. وأن مساحة الكر سبعة وعشرون ، مع ما بينهما أيضاً من التفاوت الظاهر. وقد كان الأنسب للمشهور في المساحة الرطل المدني والأنسب لمذهب القميين في المساحة الرطل العراقي ، فجمع كل من المشهور وغيرهم بين المذهبين في تقديري الوزن والمساحة جمع بين المتنافيين. ولا بد من علاج هذا التنافي كالتنافي بين نصوص التقديرين. والتنافي في الفتاوى أشكل وأبعد.

والظاهر انحصار العلاج بجعل الأكثر عندهم علامة على وجود الأقل ، نظير ما ذكرنا في تقدير حد الترخص بخفاء الجدران وخفاء الأذان ، حيث اخترنا أن الحد خفاء الأذان ، وأن خفاء الجدران علامة على تحقق الحد ولو قبله. فيكون مراد المشهور من تقدير الكر بالمساحة كونها علامة على وجود الكر ، وان قدره الحقيقي هو الوزن لا غير ، فيكونون قد تصرفوا بأخبار المساحة بحملها على كونها علامة على وجود المقدر. كما أن مراد القائلين بالقول الآخر من تقديري الكر بالوزن كونه علامة على وجود الكر ، وأن قدره الحقيقي ما كان بالمساحة فيكونون قد تصرفوا بأخبار الوزن بحملها على كونه علامة على وجود المقدر.

فاذا كان بناء الأصحاب على التصرف في نصوص التقدير على كل‌

١٥٨

______________________________________________________

حال ، لم تكن نصوص التقدير بالمساحة في نفسها متعارضة ، لإمكان أن يكون كل واحد من تلك التحديدات المشتملة عليها علامة. ولا يقدح في ذلك اختلافها بالقلة والكثرة ، بدعوى لغوية جعل الأكثر علامة في ظرف جعل الأقل. لأن ذلك الاختلاف في نتيجة ضرب الابعاد ، لا في نفس الاشكال المختلفة ، وإلا فهي متباينة ، والمجعول علامة ليس هو النتيجة.

ويؤيد ذلك أنك لا تجد رواية من روايات الباب تعرضت لذكر النتيجة. بل الجميع تضمن التقدير بخصوص المساحة الخاصة ، ولو كان المقصود التقدير بالنتيجة كان ذكرها هو المتعين ، فإنه أصرح وأخصر وأفيد كما عرفت. لكن لما كان تطبيق النتيجة من الأمور الصعبة على أكثر الناس أهمل التعرض لها ، فلم تجعل بياناً للمقدار ولا علامة على وجود المقدر أصلا. وانما ذكر في البيان الشكل الخاص لسهولة معرفته وترتب الفائدة على بيانه ، والاشكال كلها متباينات ، فلا مانع من أن يكون كل واحد منها علامة على وجود الكر المقدر حقيقة بالوزن ، لا أنه تقدير للكر. وعلى هذا لا مانع من العمل بجميع نصوص المساحة بعد ما كان كل واحد منها جامعا لشرائط الحجية.

نعم قد يشكل الأمر في رواية إسماعيل‌ التي هي معتمد القميين ، من جهة أن المساحة المذكورة فيها ، ربما تكون أقل من الوزن ، فلا تكون علامة عليه. وحينئذ لا يبعد الالتزام بأن الوزن المذكور أيضاً علامة ، فيكون مقدار الكر الأصلي ما يساوي سبعة وعشرين شبرا ، والوزن علامة عليه. كما تقدم في مذهب الصدوقين في التقديرين. ويؤيد ذلك أن المرتكز عند العرف أن الوزن الخاص لا يكون عاصما ، وانما العاصم كثرة الماء وسعة وجوده ، بحيث تكون الجهة العاصمة عندهم فيما يساوي السبعة والعشرين شبرا هو الكم الخاص ، سواء كان وزنه ألفا ومائتي رطل أم‌

١٥٩

______________________________________________________

ألفا وخمسمائة رطل ، وثقل الماء وخفته ليسا دخيلين في الاعتصام وعدمه.

نعم لو ثبت أن بعض المياه الثقيلة وزنها المساوي لألف ومائتي رطل أقل من سبعة وعشرين شبرا ، أشكل ما ذكرنا من كون الوزن علامة على بلوغ الأشبار المذكورة لتخلفه عنها. فلا بد إما من الالتزام بكونها علامة عند الشك ، فتكون امارة على قدر الأشبار المذكورة مع الجهل بوجوده لا مع العلم بعدم وجوده ، بل العمل حينئذ يكون على العلم ، لامتناع جعل الأمارة بخلافه. وإما من الالتزام بأن الكرية العاصمة عبارة عن الجامع بين بلوغ الأشبار السبعة والعشرين ، وبين بلوغ المقدار الخاص من الوزن. فالماء الواجد لأحدهما يكون كرا وان فقد الآخر. ولا يبعد البناء على الثاني ، فإن حمل الدليل عليه اولى من التصرف فيه بحمله على الحكم الظاهري ، أو تقييد كل منهما بالآخر.

والمتحصل مما ذكرنا أمور : [ الأول ] : أن تقدير الأصحاب للكر بالوزن يغاير تقديره بالمساحة [ الثاني ] : أن المقدر الواحد لا يقبل تقديرين فيتنافى الدليلان المشتملان على التقديرين [ الثالث ] : أنه لا بد من علاج هذا التنافي في الفتاوى ، وأن الأظهر فيه حمل التقدير المساحتي المشهوري على العلامة والتقدير الوزني على الحد الحقيقي الأصلي ، والعكس يكون الحمل على مذهب الصدوقين. [ الرابع ] : أن هذا التصرف بعينه جار في النصوص المتضمنة للمساحة التي هي أكثر من الوزن ، وفي الوزن الذي هو أكثر من المساحة. لكن لو ثبت أن بين أقل المساحات وبين الوزن عموما من وجه. كمساحة السبعة والعشرين شبرا ، فالمتعين كون القدر هو الجامع بين الوزن وبينه ، فاذا حصل أحدهما حصل الكر ، وان لم يحصل الآخر. ومما ذكرنا تعرف مواقع النظر في كثير من الكلمات في المقام. ومنه سبحانه نستمد الاعتصام ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٦٠