مستمسك العروة الوثقى - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١١

______________________________________________________

أبيه عنه. وفي المختلف طعن في سند الرواية : : بأن محمد بن موسى ، إن كان ابن عيسى السمان فقد طعن فيه القميون ، وتكلموا فأكثروا فيه قاله ابن الغضائري. انتهى. لكن طريق الشيخ [ ره ] ليس فيه محمد بن موسى. وروى الكليني عن أبي علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن محمد بن إسماعيل ، عن علي بن النعمان ، عن سعيد الأعرج قال : « سألت أبا عبد الله (ع) : عن قدر فيها جزور وقع فيها قدر أوقية من دم أيؤكل؟ قال (ع) : نعم ، فان النار تأكل الدم » ورواه الصدوق بإسناده عن سعيد الأعرج (١). وفي المختلف : « إن سعيد الأعرج لا أعرف حاله ، والاحتجاج يتوقف على معرفة عدالته ». وكأنه إلى ذاك أشار في الدروس قال : « ولو وقع دم نجس في قدر تغلي على النار غسل الجامد وحرم المائع عند الحليين. وقال الشيخان بحل المائع إذا علم زوال عينه بالنار ، وشرط الشيخ قلة الدم. وبذلك روايتان لم يثبت صحة سندهما مع مخالفتهما للأصل ».

أقول : قد نص النجاشي والروضة على وثاقة سعيد بن عبد الرحمن الأعرج ، والذي يظهر من جملة من القرائن أنهما واحد ، فان الفهرست اقتصر على ذكر سعيد الأعرج ، ورجال الشيخ على ذكر سعيد بن عبد الرحمن ولو كانا متغايرين لزم ذكرهما معا في كل من الكتابين. مضافا إلى وحدة الراوي عنهما ، وهو صفوان ، والمروي عنه ، وهو أبو عبد الله (ع) وإلى أن الصدوق روى هذه الرواية عن سعيد الأعرج ، ولم يذكر طريقه اليه وإنما ذكر طريقه الى سعيد بن عبد الله الأعرج ، وهو ابن عبد الرحمن ، كما ذكره النجاشي والعلامة وابن داود وغيرهم. ولأجل ذلك صحح الرواية المذكورة جمع كثير من الأعاظم ، بل من ذلك تظهر صحة حديث سعيد‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٤٤ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث : ٢.

٣٦١

[ مسألة ١٢ ] : إذا غرز إبرة أو أدخل سكينا ، في بدنه أو بدن حيوان فان لم يعلم ملاقاته للدم في الباطن فطاهر وان علم ملاقاته لكنه خرج نظيفا فالأحوط الاجتناب عنه [١].

[ مسألة ١٣ ] : إذا استهلك الدم الخارج من بين‌

______________________________________________________

الأعرج. وفي كتاب علي بن جعفر (ع) عن أخيه (ع) قال : « سألته عن قدر فيها ألف رطل ماء يطبخ فيها لحم وقع فيها أوقية دم. هل يصلح أكله؟ فقال (ع) : إذا طبخ فكل فلا بأس » (١). فالرواية الدالة على هذا القول ليست ضعيفة.

نعم يمكن المناقشة في دلالة الصحيح المذكور بعدم ظهوره في كون السؤال عن الدم النجس ، وأنه ينجس ما في القدر إذا كان يغلي ، بل من الجائز أن يكون السؤال من حيث حرمة أكل الدم الطاهر ، ومثلها رواية ابن جعفر. نعم لا مجال لهذه المناقشة في رواية زكريا بن آدم ، لأن قرينة السياق فيها تأبى ذلك. كما أن الظاهر أنها هي المعتمد للشيخ والقاضي ، لا الصحيح ، بقرينة تقييد الحكم بالدم القليل المفهوم من قول السائل : « قطرة فيه الدم » الذي لا يصدق على الأوقية.

وكيف كان فالروايات المذكورة ـ لو صح سندها وتمت دلالتها ـ لا مجال للعمل بها ، لأن مضمونها من المستنكرات الواضحة عند المتشرعة وهذا هو العمدة في سقوطها عن الحجية ، لا إعراض المتأخرين عنها ، لأن عمل القدماء أولى بالعناية من إعراض المتأخرين ، ولا سيما مع بيان وجه الاعراض من ضعف السند ، وظهور الخطأ فيه ، كما عرفت.

[١] تقدم الكلام فيه في المسألة الأولى من نجاسة البول. وكذا الكلام في المسألة الآتية. ولو قلنا بعدم نجاسة الدم في الداخل فلا إشكال.

__________________

(١) الوسائل باب : ٤٤ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث : ٣.

٣٦٢

الأسنان في ماء الفم فالظاهر طهارته ، بل جواز بلعه. نعم لو دخل من الخارج دم في الفم فاستهلك فالأحوط الاجتناب عنه. والاولى غسل الفم بالمضمضة أو نحوها.

[ مسألة ١٤ ] : الدم المنجمد تحت الأظفار أو تحت الجلد من البدن ان لم يستحل وصدق عليه الدم ، نجس ، فلو انخرق الجلد ووصل الماء اليه تنجس. ويشكل معه الوضوء أو الغسل [١] ، فيجب إخراجه إن لم يكن حرج ، ومعه يجب أن يجعل عليه شيئا مثل الجبيرة [٢] فيتوضأ أو يغتسل. هذا إذا علم أنه دم منجمد ، وان احتمل كونه لحماً صار كالدم من جهة الرض ـ كما يكون كذلك غالباً ـ فهو طاهر [٣].

[ السادس ، والسابع ] : الكلب والخنزير البريان [٤] ،

______________________________________________________

[١] لاحتمال وجوب غسل ما تحته وهو حائل.

[٢] يأتي ـ إن شاء الله ـ في وضوء الجبائر الإشكال في الاجتزاء بذلك إذا كانت الخرقة الموضوعة لا تعد جزءاً من الحاجب الذي لا تمكن إزالته.

[٣] لكن إذا بني على ما تقدم من وجوب وضع شي‌ء عليه إذا كان دما يجب عليه الجمع بين غسله في الوضوء أو الغسل ، وبين وضع شي‌ء عليه والمسح على الجبيرة ، للعلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين.

[٤] إجماعا ، كما عن الغنية ، والمعتبر ، والمنتهى ، والتذكرة ، والذكرى والدلائل ، وكشف اللثام ، وغيرها. والنصوص به مستفيضة ، بل لعلها في الأول متواترة ، ففي بعضها : الأمر بغسل الثوب الملاقي له برطوبة‌. وفي آخر : أنه رجس نجس‌. وفي ثالث : « هو نجس » يقولها ثلاثا‌ ـ وفي رابع : الأمر بغسل الإناء الذي يشرب منه‌. وفي خامس : « لا والله‌

٣٦٣

دون البحري منهما [١]. وكذا رطوباتهما ، وأجزاؤهما [٢] ،

______________________________________________________

إنه نجس لا والله إنه نجس ». وفي سادس : النهي عن الشرب من سؤره‌ وفي سابع : الأمر بغسل اليد عند مسه‌ ... الى غير ذلك (١). وفي الثاني ورد الأمر بغسل الإناء الذي يشرب منه سبع مرات‌. والأمر بغسل الثوب الذي يصيبه فيكون فيه أثر‌. والأمر بغسل اليد عند مس شعره‌ ... إلى غير ذلك (٢) وما يظهر من بعض النصوص (٣) من طهارتهما مؤل أو مطروح ، لمخالفته للإجماعات السابقة.

وما عن الصدوق [ ره ] : من التفصيل بين كلب الصيد وغيره ، فيجب غسل الملاقي للثاني برطوبة ، ويجب رشه بالماء في الأول. ضعيف ، فإنه ـ مع كونه خلاف إطلاق الأدلة ـ خلاف‌ حسنة ابن مسلم : « عن الكلب السلوقي. قال (ع) : إذا مسسته فاغسل يدك » (٤).

[١] عن المشهور. إما لكونهما حقيقة في خصوص البري منهما ـ كما عن جماعة ـ وهو الأظهر ، فيجب حمل النصوص عليه. وإما للانصراف اليه دون البحري وان كان حقيقة فيهما على الاشتراك اللفظي ـ كما في المنتهى في الكلب ـ أو على الاشتراك المعنوي ، كما هو المنسوب إلى المشهور فيهما وما عن الحلي من عموم النجاسة للبحري ضعيف.

[٢] لدخولهما في معاقد الإجماعات ، وظاهر النصوص.

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ١٢ من أبواب النجاسات تجد جميع ذلك.

(٢) راجع الوسائل باب : ١٣ من أبواب النجاسات تجد جميع ذلك.

(٣) الوسائل باب : ١٤ من أبواب الماء المطلق حديث : ٢ ، ٣ ، ١٦. وفي باب : ٢ من أبواب الأسئار حديث : ٦.

(٤) الوسائل باب : ١٢ من أبواب الماء المطلق حديث : ٩.

٣٦٤

وان كانت مما لا تحله الحياة [١] كالشعر ، والعظم ، ونحوهما. ولو اجتمع أحدهما مع الآخر أو مع آخر ، فتولد منهما ولد ، فان صدق عليه اسم أحدهما تبعه [٢] ، وان صدق عليه اسم أحد الحيوانات الأخر ، أو كان مما ليس له مثل في الخارج كان طاهراً [٣] ، وان كان الأحوط الاجتناب عن المتولد منهما ، إذا لم يصدق عليه اسم أحد الحيوانات الطاهرة [٤].

______________________________________________________

[١] على المشهور. بل لم يعرف الخلاف فيه إلا عن السيد. وجده الناصر فذهبا إلى طهارتهما ، وعن البحار متابعتهما في ذلك. لصحيح زرارة : « عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر أيتوضأ من ذلك الماء؟ قال (ع) : لا بأس » (١) ، وقريب منه موثق ابنه‌ (٢) ولعمومات طهارتها من الميتة الشاملة لها منهما. ولما عن الأول من حكاية الإجماع على الطهارة. ومن دعوى نفي الجزئية [ وفيه ] : أن الصحيح والموثق ـ مع أنهما غير ظاهرين في المدعى ـ أخص منه. وعمومات طهارتها من الميتة ظاهرة في نفي نجاسة الموت لا مطلقاً. ونفي الجزئية والإجماع ممنوعان. (٢) لإطلاق دليل نجاسة المتبوع منهما.

[٣] لإطلاق دليل طهارة المتبوع لو كان ، ولأصالة الطهارة لو لم يكن أو لم يكن له مثل أصلا.

[٤] لإمكان دعوى كون المرجع فيه استصحاب النجاسة الثابتة له قبل ولوج الروح فيه ، باعتبار كونه جزءاً من الأم وهو مقدم على أصالة الطهارة ، ومجرد ولوج الروح فيه لا يوجب تعدد الموضوع ـ عرفا ـ كما تقدم نظيره. ومنه يظهر الاكتفاء في نجاسة الولد بنجاسة الأم. كما يظهر‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٤ من أبواب الماء المطلق حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ١٤ من أبواب الماء المطلق حديث : ٣.

٣٦٥

بل الأحوط الاجتناب عن المتولد من أحدهما مع طاهر إذا لم يصدق عليه اسم ذلك الطاهر [١] ، فلو نزى كلب على شاة ،

______________________________________________________

أيضاً اطراد الحكم فيما لو صدق عليه أحد الحيوانات الطاهرة ، إذا لم يكن لدليل طهارته إطلاق يشمل الولد المذكور. هذا ولكن عرفت الإشكال في جزئية الجنين للأم ، فدليل نجاستها لا يقتضي نجاسته ، فلا مجال للاستصحاب ليحكم على أصالة الطهارة.

وعن جماعة ـ منهم الشهيدان والمحقق الثاني ـ نجاسة المتولد منهما معا مطلقاً ، ومال اليه شيخنا الأعظم [ ره ] ، لعدم خروجه عن حقيقتهما وإن كان مباينا لهما في الصورة ، أو للعلم بوجود مناط النجاسة فيه. وفيه : أن الأول ـ لو سلم ـ لا يقتضي ثبوت النجاسة ، لأنها ليست تابعة للحقيقة في نظر العقل ، ولذا بني على الفرق بين البول والبخار المتصاعد منه مع اتحادهما في الحقيقة ، كما لا يظن أيضاً الالتزام بطهارة الكلب المتولد من طاهرين. والعلم بوجود مناط النجاسة ممنوع جداً.

[١] وجه الاحتياط ظاهر لو كان أحدهما الأم ، لاحتمال الجزئية منها كما تقدم ، بل بالنسبة إلى السطح الظاهر قد يجري استصحاب النجاسة ـ بناء على نجاسة بدن الحيوان ـ لأنه يخرج متلوثاً برطوبة الأم ، ويشك في طهارته بزوال عين النجاسة ، فيرجع الى استصحاب النجاسة. لكنه بناء على ثبوت النجاسة العرضية للنجس بالذات يكون من استصحاب الكلي من القسم الثالث ، وبناء على عدمها ، يكون من القسم الثاني ، ويتوقف جريانه على ثبوت الحكم للكلي لا للفرد ، وإلا كان من استصحاب الفرد المردد. فتأمل جيدا. أما لو كان الأب فالاحتياط غير ظاهر ، إلا من جهة احتمال جريان استصحاب النجاسة الثابتة له حين كان علقة. لكنه لو تمَّ لم يفرق بين أن يصدق عليه الطاهر وعدمه.

٣٦٦

أو خروف على كلبة ، ولم يصدق على المتولد منهما اسم الشاة ، فالأحوط الاجتناب عنه ، وان لم يصدق عليه اسم الكلب.

الثامن : الكافر بأقسامه [١] ،

______________________________________________________

نعم يمكن الفرق بين أن يكون الطاهر الصادق عليه مما ثبتت طهارته بدليل مطلق وغيره ، ففي الأول يرجع الى إطلاق الطهارة ، وفي الثاني إلى استصحاب النجاسة. وكيف كان يشكل الاستصحاب المذكور بتعدد الموضوع عرفا ، للاستحالة.

[١] إجماعا محكيا في جملة من كتب الأعيان ، كالناصريات ، والانتصار والغنية ، والسرائر ، والمعتبر ، والمنتهى ، والبحار ، والدلائل ، وكشف اللثام وظاهر التذكرة ، ونهاية الاحكام ـ على ما حكي عنها ـ بل عن التهذيب إجماع المسلمين ـ لكن القول بالطهارة هو المعروف عند المخالفين.

وكيف كان فاستدل للنجاسة بقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ... ) (١). لكن استشكل فيه [ تارة ] : بأن النجس مصدر ، ولا يصح حمله على العين إلا بتقدير [ ذو ] ويكفي في الإضافة التي تحكيها [ ذو ] أدنى ملابسة ، ولو من جهة النجاسة العرضية الحاصلة لهم من مباشرتهم للأعيان النجسة. فلا تدل على النجاسة الذاتية. وفيه ـ كما في المعتبر وغيره ـ : أنه يصح حمل المصدر على العين للمبالغة نحو : « زيد عدل » وهو وان كان مجازاً ، لكنه أقرب من التقدير مضافا الى أن المحكي عن جماعة من أهل اللغة ـ كما صرح به في القاموس ـ أن النجس ـ بالفتح ـ وصف كالنجس ـ بالكسر ـ وهو ضد الطاهر ، فيصح حمله على العين على الحقيقة ، بدون شائبة تجوز ، ولو سلم أن المراد « ذو نجاسة » أمكن الاستدلال بإطلاقه على النجاسة الذاتية ، إذ النجاسة‌

__________________

(١) التوبة : ٢٨.

٣٦٧

______________________________________________________

العرضية إنما تكون بملاقاة الأعيان النجسة مع عدم استعمال المطهر ، فإطلاق كونهم ذا نجاسة ـ حتى مع عدم ملاقاة الأعيان النجسة ، ومع استعمال المطهر ـ يدل على كون النجاسة ذاتية بالالتزام.

وأخرى : بأن لفظ النجس ـ بالفتح ـ لم يثبت كون المراد منه النجس بالمعنى الذي هو محل الكلام ، لعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، فمن الجائز أن يكون المراد منه معنى آخر غيره ، بل ذكر بعض أهل اللغة : أن النجس المستقذر ، وبعضهم : أنه ضد الطاهر. ومرادهم من الطهارة المعنى اللغوي ، وهو غير الطهارة الشرعية.

وهذا الاشكال ذكره جماعة منهم الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وتلميذه في المدارك ، وتلميذه في الذخيرة ، وغيرهم. وأجيب عنه : بأن الحمل على النجس العرفي ـ مع أنه خلاف وظيفة الشارع ، وأنه مخالف للواقع في كثير من المشركين ، وأنه لا يختص بهم بل يشاركهم فيه غيرهم من المسلمين ـ لا يناسب الحكم المفرع عليه. ومثله حمله على الخباثة النفسانية ـ كالحدث ـ فإنها وان صح التعبير عنها بالقذارة وعبر عن ضدها بالطهارة ، لكنها قائمة بالنفس ، فإنها منقصة في النفس ، وظاهر الآية الشريفة نجاسة البدن ـ أعني : الهيكل الخاص ـ فيتعين حملها على ثبوت القذارة في البدن على نحو ما ورد في الكلب وغيره من النجاسات العينية الجعلية.

واحتمال إرادة معنى آخر غير ما ذكر ، فيراد منه نوع خاص من الخباثة قائم بالبدن غير النجاسة ، وغير الخباثة المرادة من قوله تعالى : ( وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) (١) ـ مع أنه خلاف أصالة وجوب حمل اللفظ على أقرب المعاني المجازية بعد تعذر الحقيقة ـ [ بعيد جداً ] لعدم معهودية ذلك ، ولو جاز التشكيك المذكور في الآية لجاز مثله فيما ورد في الكلب‌

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

٣٦٨

______________________________________________________

من أنه نجس ، لعين ما ذكر في تقريب الاشكال ، ولم يحتمله أحد ، بل عد التعبير المذكور من أصرح التعبيرات عن النجاسة. والعمدة في ذلك : أن الحقيقة الشرعية وان لم تثبت ، لكن الاستعمال الشرعي في تلك المفاهيم ثابت ، ولأجله جرت الاستعمالات عند المتشرعة عليه حتى صارت حقيقة عند المتشرعة ، فيكون المفهوم عند المتشرعة هو المراد من اللفظ. وكذا الكلام في أمثال المقام من الألفاظ المستعملة في لسان الشارع ، إذا تعذر حملها على المعنى العرفي ، فإنها تحمل على المفهوم عند المتشرعة ، وان كان في الأزمنة المتأخرة. ولو لا ذلك كان الحمل على الخباثة النفسانية أقرب.

واستشكل فيه ثالثا : بأن مفاد الآية أخص من المدعى ، لاختصاصه بالمشرك. وأجيب : بأن الدليل يتم بضميمة عدم القول بالفصل. لكنه خروج عن التمسك بالآية. أو بضميمة ما دل على كون اليهود والنصارى مشركين ، من قوله تعالى : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ... [ إلى قوله تعالى ] : سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (١).

ويشكل : بأن نسبة الإشراك إليهم ليست على الحقيقة ، فإن ذلك خلاف الآيات ، والروايات ، وخلاف المفهوم منها عند المتشرعة والعرف فيتعين حمله على التجوز في الاسناد ، وليس الكلام واردا في مقام جعل الحكم ، ليؤخذ بإطلاق التنزيل كي يثبت حكم المشركين لهم. مع أنه لا يطرد في من لا يقول منهم بذلك ، ولا في المجوس ، ولا في غيرهم من الكفار غير المشركين.

واستدل أيضاً على النجاسة بالنصوص الظاهرة في ذلك ، وهي جملة وافرة. منها‌ مصحح سعيد الأعرج : « سألت أبا عبد الله (ع) عن سؤر‌

__________________

(١) التوبة : ٣٠ ، ٣١.

٣٦٩

______________________________________________________

اليهودي والنصراني. فقال (ع) : لا » (١). وخبر أبي بصير عن أحدهما (ع) : في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني. فقال (ع) : « من وراء الثوب ، فان صافحك بيده فاغسل يدك » (٢). وصحيح ابن جعفر (ع) عن أخيه (ع) : « عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد وأصافحه. قال (ع) : لا » (٣). ورواية هارون بن خارجة : « قلت لأبي عبد الله (ع) : إني أخالط المجوس فآكل من طعامهم؟ قال (ع) : لا » (٤) ... إلى غير ذلك. وهي وإن كانت واردة في المجوسي واليهودي والنصراني ، لكن يمكن إثبات الحكم في غيرهم بعدم القول بالفصل ، أو بالأولوية. وإن كانت قد تشكل في المحكوم بكفره من فرق المسلمين.

هذا ولكن يعارض النصوص المذكورة نصوص أخرى [ منها ] : ما ورد في جواز الصلاة في الثياب التي يعملها المجوس ، وأهل الكتاب ، كصحيح معاوية « سألت أبا عبد الله (ع) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال ، ألبسها ولا أغسلها وأصلي فيها؟ قال (ع) : نعم. قال معاوية : فقطعت له قميصا وخطته وفتلت له أزرارا ورداء من السابري ، ثمَّ بعثت بها إليه في يوم الجمعة حين ارتفع النهار ، فكأنه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة » ونحوه غيره. وقد عقد لها في الوسائل بابا في كتاب الطهارة (٥) لكن حملها [ قده ]

__________________

(١) الوسائل باب : ٣ من أبواب الأسئار حديث : ١ ، وباب : ١٤ من أبواب النجاسات حديث : ٨.

(٢) الوسائل باب : ١٤ من أبواب النجاسات حديث : ٥.

(٣) الوسائل باب : ١٤ من أبواب النجاسات حديث : ٦.

(٤) الوسائل باب : ١٤ من أبواب النجاسات حديث : ٧.

(٥) وهي الباب : ٧٣ من أبواب النجاسات.

٣٧٠

______________________________________________________

على صورة عدم العلم بتنجيسهم لها. وهو غير بعيد ، كما يشهد به ما ذكر في جملة منها من أنهم يشربون الخمر ، ويأكلون الميتة ولا إشكال في نجاستهما فلو كانت شاملة لصورة العلم بالملاقاة برطوبة كانت دالة على طهارة الميتة والخمر أيضاً. ويشير الى ذلك ما‌ في صحيح ابن سنان : « سأل أبي أبا عبد الله (ع) وأنا حاضر : إني أعير الذمي ثوبا ، وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيرده علي فاغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (ع) صل فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجسه ، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه » (١). ومن ذلك يظهر عدم دلالة ما تضمن جواز الصلاة في الثوب الذي يشترى من اليهود والنصارى والمجوس قبل أن يغسل (٢) على طهارتهم.

ومنها : ما تضمن جواز مؤاكلتهم مثل‌ صحيح العيص : « سألت أبا عبد الله (ع) عن مؤاكلة اليهود والنصارى والمجوس. فقال (ع) : إذا كان من طعامك وتوضأ فلا بأس » (٣) ، ونحوه غيره. ودلالتها على الطهارة أيضاً غير ظاهرة ، لقرب احتمال كون الملحوظ في جهة السؤال مجرد المؤاكلة ، لا المساورة. ولا ينافيه ما ذكر من غسل اليد ، لاحتمال كونه دخيلا في ذلك بما أنه من آداب الجلوس على المائدة ، لا من حيث كونه دخيلا في طهارة السؤر.

ومنها : ما دل على جواز الأكل من طعام أهل الكتاب ، وآنيتهم والوضوء من سؤرهم ، كصحيح إسماعيل بن جابر : « قلت لأبي عبد الله (ع) : ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال (ع) : لا تأكله. ثمَّ سكت هنيئة ،

__________________

(١) الوسائل باب : ٧٤ من أبواب النجاسات حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٧٤ من أبواب النجاسات حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ٥٤ من أبواب النجاسات حديث : ١.

٣٧١

______________________________________________________

ثمَّ قال : لا تأكله. ثمَّ سكت هنيئة ، ثمَّ قال : لا تأكله ولا تتركه تقول إنه حرام ، ولكن تتركه تنزهاً عنه ، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير » (١) وخبر زكريا بن إبراهيم : « دخلت على أبي عبد الله (ع) فقلت : إني رجل من أهل الكتاب ، وإني أسلمت وبقي أهلي كلهم على النصرانية ، وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعد ، فآكل من طعامهم؟ فقال (ع) لي يأكلون الخنزير؟ فقلت : لا ولكنهم يشربون الخمر. فقال (ع) لي : كل معهم واشرب » (٢). وصحيح ابن مسلم عن أحدهما (ع) : « سألته عن آنية أهل الكتاب فقال (ع) : لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير » (٣). وموثق عمار عن أبي عبد الله (ع) : « عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي؟ فقال (ع) : نعم. فقلت : من ذلك الماء الذي شرب منه؟ قال (ع) : نعم » (٤). وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود : « قلت للرضا (ع) : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية ، لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة. قال (ع) : لا بأس تغسل يديها » (٥). وصحيحته الأخرى : « قلت للرضا (ع) : الخياط أو القصار يكون يهوديا أو نصرانياً وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ ، ما تقول في عمله؟ قال (ع) : لا بأس » (٦). وصحيحة‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث : ٤.

(٢) الوسائل باب : ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث : ٥.

(٣) الوسائل باب : ٥٤ من أبواب الأطعمة المحرمة حديث : ٦.

(٤) الوسائل باب : ٣ من أبواب الأسئار حديث : ٣.

(٥) الوسائل باب : ١٤ من أبواب النجاسات حديث : ١١.

(٦) الوافي باب التطهير من مس الحيوانات حديث : ٢١ من كتاب الطهارة ، والتهذيب باب المكاسب الجزء : ٦ حديث : ٢٦٣.

٣٧٢

______________________________________________________

علي بن جعفر (ع) عن أخيه موسى (ع) وفيها : « وسألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء ، أيتوضأ منه للصلاة؟ قال (ع) : لا ، إلا أن يضطر اليه » (١).

ولكن يمكن أن يناقش في صحيح إسماعيل‌ : بأن تكرار النهي عن الأكل الدال على مزيد الاهتمام به ، لا يناسبه كونه تنزيهياً ، فبيانه (ع) أن النهي تنزيهي مما يوجب الارتياب في وجه الحكم ، ومعه يشكل العمل به. وفي خبر زكريا بضعف السند وعدم الجابر. وفي صحيح ابن مسلم : بأن الشرطية فيه ليست لها مفهوم. وفي موثق عمار : بأن الحكم فيه يمكن أن يكون مبنيا على عدم انفعال الماء القليل ، فيكون كغيره مما ورد في سائر النجاسات ـ كما تقدم في ذلك المبحث ـ فتأمل. وفي صحيحة إبراهيم الأولى : بأن الظاهر أن مورد السؤال فيها قضية خارجية ، لأن الظاهر من قول السائل‌ « الجارية النصرانية تخدمك » ، خصوص الجارية المعينة التي كانت تخدم الرضا (ع) ولم يعلم أن هذا الاستخدام كان باختياره ، أو باختيار سلطان الجور بأن كان ـ سلام الله عليه ـ مجبوراً على ذلك ، فيكون السؤال عن حاله مع هذه الجارية في ظرف اضطراره الى خدمتها ، ولو كان المراد السؤال عن القضية الكلية لكان المناسب التعبير بقوله : الجارية تخدم الإنسان ، أو تخدمني كما لعله ظاهر. وحينئذ يشكل الاستدلال بها على ما نحن فيه ، لإجمال الواقعة التي هي موضوع السؤال. وفي الصحيحة الثانية : أنه لا يظهر منها أن السؤال من حيث النجاسة أو من حيث جواز العمل. وصحيح ابن جعفر (ع) قد تقدم نظيره منه في مبحث انفعال القليل ، ومورده اليد المتنجسة بالجنابة ، ولعل المراد من الضرورة فيهما خصوص التقية التي ترفع الوضع كما ترفع التكليف ، فيكون اليهودي والنصراني طاهرين في حال التقية ، ولا بأس بالالتزام به.

__________________

(١) الوسائل باب : ١٤ من أبواب النجاسات حديث : ٩.

٣٧٣

______________________________________________________

نعم تشكل موثقة عمار المتضمنة تغسيل النصراني للمسلم إذا لم يوجد مسلم أو مسلمة ذات رحم ، وتغسيل النصرانية للمسلمة كذلك ، فان البناء على وجوب التغسيل بالماء النجس بعيد جداً ، لأنه يزيد الميت نجاسة ، وحمله على التغسيل بالكثير أبعد. ولأجل ذلك رد الموثقة المذكورة بعضهم لمخالفتها للقواعد. لكن المشهور بين القدماء والمتأخرين العمل بها ، وان كان الاشكال فيها لا يختص بهذه الجهة ، لأن عبادة الكافر أيضاً باطلة بالإجماع.

وكيف كان نقول : إن أمكن البناء على المناقشات المذكورة في هذه النصوص ـ ولو للجمع بينها وبين ما دل على النجاسة ـ فهو المتعين ، وإن لم يمكن ذلك ـ لبعد المحامل المذكورة ، وإباء أكثر النصوص عنها ـ فالعمل بنصوص الطهارة غير ممكن ، لمخالفتها للإجماعات المستفيضة النقل ـ كما عرفت ـ بل للإجماع المحقق ـ كما قيل ـ فإن مخالفة ابن الجنيد ـ لو تمت ـ لا تقدح في الإجماع ، فكم لها منه [ ره ] من نظير محكي عنه؟! وما عن ابن أبي عقيل من طهارة سؤر الذمي لعله مبني على مذهبه من عدم انفعال الماء القليل وما عن المفيد [ ره ] من التعبير بكراهة سؤري اليهودي والنصراني لعل مراده منه الحرمة ، كما يشهد به ـ كما قيل ـ عدم نسبة الخلاف اليه من أحد أتباعه الذين هم أعرف بمذهبه من غيرهم. وما عن الشيخ [ ره ] في النهاية من أنه يكره للإنسان أن يدعو أحداً من الكفار الى طعامه فيأكل معه فان دعاه فليأمره بغسل يده ، لعل المراد منه مجرد المؤاكلة ، لا مع المساورة ، كما تقدم احتماله في النصوص. ويشهد لذلك ـ مضافا إلى ما هو المعروف من أن النهاية مؤلفة من متون الاخبار لا كتاب فتوى ـ أنه حكي عنه أنه ذكر قبل ذلك بقليل : أنه لا تجوز مؤاكلة الكفار ... الى أن قال : « لأنهم أنجاس ينجسون الطعام بمباشرتهم إياه ».

ودعوى : أن مخالفة الإجماع إنما تقدح في نصوص الطهارة إذا كانت‌

٣٧٤

______________________________________________________

كاشفة عن خلل فيها ، من جهة السند ، أو جهة الصدور ، وهو غير ظاهر في المقام ، فان المذكور في كلام غير واحد أن الوجه في إعراضهم عنها ترجيح نصوص النجاسة عليها ، لموافقتها للاحتياط وللكتاب ومخالفتها العامة فإذا تبين الخطأ في ذلك لأن الرجوع الى المرجحات يكون مع تعذر الجمع العرفي مع أنه ممكن هنا ، بحمل نصوص النجاسة على الكراهة ، كما تقدم في صحيح إسماعيل بن جابر‌.

مندفعة : بأن ذلك الخطأ لو جاز على بعضهم فلا يجوز على جميعهم كيف؟ ولم يزل بناؤهم على الجمع العرفي في أمثال المقام ، كما يظهر بأدنى تتبع في المسائل الفقهية. فالأشبه أن يكون التعليل بما ذكر من قبيل التعليل بعد الورود. والعمدة في الحكم عندهم الإجماع. واحتمال ان هذا الإجماع حدث في العصر المتأخر عن عصر المعصومين (ع) ، فلا يقدح بالعمل بنصوص الطهارة. بعيد جداً ، فإن كثرة الابتلاء بموضوع الحكم مما يمنع التفكيك بين الأزمنة في وضوحه وخفائه ، بحيث يكون بناء أصحاب الأئمة (ع) على الطهارة ، وخفي ذلك على من تأخر عنهم فتوهموا بناءهم على النجاسة فبنوا عليها تبعا لهم. [ وبالجملة ] : الوثوق النوعي المعتبر في حجية الخبر لا يحصل في أخبار الطهارة بعد هذا الإجماع.

وأما آية حل طعام أهل الكتاب (١) فلا مجال للاستدلال بها على الطهارة ، بعد ورود النصوص الصحيحة المفسرة له بالحبوب‌ (٢). مع أن ظهورها في الطهارة غير ظاهر ، لأن الظاهر من الحل فيها الحل التكليفي بقرينة السياق مع قوله تعالى ( وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) وهذا الحل كما لا يعارض ما دل على حرمة المغصوب لا يعارض ما دل على حرمة النجس. والظاهر‌

__________________

(١) وهي قوله تعالى ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) المائدة : ٥.

(٢) راجع الوسائل باب : ٥١ من أبواب الأطعمة المحرمة.

٣٧٥

______________________________________________________

من الإضافة إضافة الملك لا اضافة العمل والمباشرة المؤدية إلى سراية النجاسة ولعل الوجه في إنشاء التحليل المذكور دفع توهم الحرمة من جهة عدم حجية أيديهم على الملكية ، لأنهم يستحلون الأموال بالمعاملات الفاسدة التي لم يشرعها الإسلام ، أو لعدم مبالاتهم في الأسباب المملكة فالتحليل المذكور ظاهري ، لحجية اليد ، لا واقعي ، فمع العلم بالبطلان وعدم صحة اليد لا تحليل بل يجب العمل على العلم.

اللهم الا أن يقال : إن الحل وان كان تكليفا الا أن إطلاق الحل الظاهر في الفعلية يقتضي الطهارة ، بل الظاهر منه كون النظر فيه الى ذلك. إذ لا فرق في حجية اليد بين الكتابيين وغيرهم. فتخصيص الحل بهم لا بد أن يكون من هذه الجهة. وأما الرواية المفسرة للطعام بالحبوب فالظاهر من الحبوب فيها ما يقابل اللحوم لا خصوص الحبوب الجافة. فإن ذلك بعيد جدا ، إذ لا خصوصية لأهل الكتاب في ذلك وملاحظة التبيان ومجمع البيان في تفسير الآية شاهد بما ذكرنا. فلاحظ.

هذا وقد يستشكل في القول بالنجاسة : بأن كثرة اختلاط الكتابيين مع المخالفين مع اعتقاد أكثرهم طهارتهم ، الموجب ذلك لمساورتهم ، يوجب سراية النجاسة ، وذلك حرج عظيم. وفيه : أن حال الكتابيين حال سائر الأعيان النجسة التي كان بناؤهم على طهارتها ، ولا حرج يلزم من البناء على نجاستها. ولا سيما مع البناء على مطهرية غيبة المسلم ظاهراً ـ مطلقا ـ كما سيأتي.

ومن ذلك تعرف أن الأقوى ما عليه الأصحاب من النجاسة ، لو لا ما يقتضيه النظر في روايات نكاح الكتابية متعة‌ أو مطلقا‌ (١) ، فإنها على كثرتها واشتهارها وعمل الأصحاب بها لم تتعرض للتنبيه على نجاستها ، فان‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ الى ٨ من أبواب ما يحرم بالكفر من كتاب النكاح وباب : ١٣ من أبواب المتعة.

٣٧٦

حتى المرتد [١] بقسميه ، واليهود ، والنصارى ، والمجوس. وكذا رطوباته وأجزاؤه ، سواء كانت مما تحله الحياة أو لا [٢].

______________________________________________________

الملابسات والملامسات التي تكون بين الزوج والزوجة لا تمكن مع نجاسة الزوجة ولم يتعرض في تلك النصوص للإشارة إلى ذلك فلاحظها وتدبر. بل الذي يظهر من مجمع البيان المفروغية عن حل طعام الكتابي إذا لم يكن محتاجا إلى التذكية ، وأن الخلاف في طهارة ما هو محتاج إلى التذكية من اللحوم والشحوم فراجع. والله سبحانه ولي التوفيق.

[١] قال شيخنا الأعظم [ ره ] في طهارته : « ربما يتأمل في تحقق الإجماع على نجاسة كل كافر ، بناء على انصراف معاقد الإجماع إلى غير المرتد ، فتقوى لذلك طهارته. وهو ضعيف ». لكن الأدلة اللفظية التي قد عرفت دلالتها على النجاسة شاملة له أيضاً كغيره.

[٢] كما هو المعروف ، بل لم يعرف الخلاف من أحد فيه صريحاً. نعم لازم خلاف السيد [ ره ] المتقدم فيما لا تحله الحياة من أجزاء الكلب والخنزير الخلاف هنا أيضاً ، لاطراد دليله في المقامين. لكن عرفت ضعفه نعم عن المعالم الاستشكال في تعميم الحكم لها في المقام ، للاستشكال في دلالة الآية ، وقصور النصوص عن إثباته في مثل الشعر ، لأن موردها السؤر ، والمؤاكلة والمصافحة ونحو ذلك مما لا يشمل المقام. لكن يكفي في عموم الحكم إطلاق معاقد الإجماع. مضافا إلى أن التفكيك في النجاسة الذاتية بين أجزاء الإنسان خلاف المرتكز العرفي ، ولذا تعرضت نصوص طهارة الأجزاء المذكورة من الميتة‌ (١) لبيان وجه التفكيك بينها وبين غيرها من الاجزاء في النجاسة. فلاحظ.

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرمة.

٣٧٧

والمراد بالكافر من كان منكرا للألوهية ، أو التوحيد ، أو الرسالة [١] ، أو ضروريا من ضروريات الدين [٢] مع الالتفات الى كونه ضروريا ، بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار‌

______________________________________________________

[١] بلا خلاف ولا إشكال ، فإن الجميع داخل في معاقد الإجماعات ولكون الثاني هو المشرك ، والأول أسوأ منه ، وأكثر أفراد الثالث موضوع نصوص النجاسة.

[٢] بلا خلاف ظاهر فيه ـ في الجملة ـ بل ظاهر جماعة من الأعيان كونه من المسلمات ، وظاهر مفتاح الكرامة حكاية الإجماع عليه في كثير من كتب القدماء والمتأخرين ، بل عن التحرير : « الكافر كل من جحد ما يعلمه من الدين ضرورة ، سواء كانوا حربيين أو أهل كتاب أو مرتدين وكذا النواصب والغلاة والخوارج ».

نعم الإشكال في أنه سبب مستقل للكفر تعبدا ، أو أنه راجع إلى إنكار النبوة في الجملة. ظاهر الأصحاب ـ كما في مفتاح الكرامة ـ الأول ، وتبعه في الجواهر ، لعطفه في كلامهم على من خرج عن الإسلام ، وظاهر العطف المغايرة ولعدم تقييده بالعلم. ولتقييدهم إياه بالضروري ، إذ لو كان راجعا إلى إنكار الرسالة لجرى في كل ما علم أنه من الدين وان لم يكن ضروريا. ولتمثيلهم له بالخوارج والنواصب مع عدم علم أكثرهم بمخالفتهم في ذلك للدين ، بل يعتقدون أنه من الدين ، فيتقربون به إلى الله سبحانه. واستشهد له بجملة من النصوص‌ كمكاتبة عبد الرحيم القصير : « قال (ع) : ولا يخرجه إلى الكفر إلا الجحود والاستحلال ، بأن يقول للحلال : هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال » (١). ونحوها‌ صحيح الكناني عن أبي

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب حد المرتد حديث : ٥٠ ، وباب : ٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١٨. لكن مع اختلاف المتن.

٣٧٨

______________________________________________________

جعفر (ع) قال (ع) فيه : « فما بال من جحد الفرائض كان كافراً؟ » (١).

وصحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) « قال (ع) : من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال أخرجه ذلك عن الإسلام » (٢). وصحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر (ع) : « سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركا. قال (ع) : من قال للنواة انها حصاة ، وللحصاة إنها نواة ، ثمَّ دان به » (٣) ونحوها غيرها.

ويمكن أن يخدش في جميع ذلك : بأن الظاهر من الخارج عن الإسلام في كلامهم الخارج عنه بالكلية ، وبذلك تحصل المغايرة التي يقتضيها العطف وعدم التقييد بالعلم في كلامهم ، لعله للاكتفاء منهم بتقييده بالضروري ، لأن المراد به المعلوم. ومنه يظهر احتمال أن ذكر الضرورة باعتبار كونها سبباً للعلم ، لا لخصوصية فيها. والتمثيل والاستدلال إنما كانا من بعض ، فيجوز أن يكون ناشئاً عن اعتقاده السببية المستقلة ، أو بالإضافة إلى بعض كل من الفرقتين ، لا جميعهم.

وأما النصوص فهي ما بين مشتمل على الجحود المحتمل الاختصاص بصورة العلم ، ومطلق لا يمكن الأخذ بإطلاقه ، لعمومه للضروري وغيره ، وتخصيصه بالضروري ليس بأولى من تخصيصه بصورة العلم ، بل لعل الثاني أولى بقرينة ما اشتمل منها على التعبير بالجحود المختص بالعلم. ولو فرض التساوي فالمتيقن الثاني. هذا مع إمكان معارضة ذلك كله ـ على تقدير تماميته ـ بالتعبير بالجحود في كلام كثير أو الأكثر ، المختص بصورة العلم. ومثله التعبير بالإنكار ، بناء على ارادة الجحود منه ، كما استظهره في الجواهر.

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١٣.

(٢) الوسائل باب : ٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١٠.

(٣) الكافي باب الشرك من كتاب الايمان والكفر حديث : ١.

٣٧٩

الرسالة ، والأحوط الاجتناب عن منكر الضروري مطلقا ، وان لم يكن ملتفتاً الى كونه ضروريا. وولد الكافر يتبعه في‌

______________________________________________________

وبما اشتهر ـ كما قيل ـ من استثناء صورة الشبهة. وبعدم التعرض له من كثير من القدماء الظاهر في اكتفائهم عنه بذكر الكفر. وكأنه لذلك قال المحقق الأردبيلي [ قده ] : « الضروري الذي يكفر منكره الذي ثبت عنده يقيناً كونه من الدين ولو بالبرهان ، ولو لم يكن مجمعاً عليه ، إذ الظاهر أن دليل كفره هو إنكار الشريعة. وإنكار صدق النبي (ص) في ذلك ... » ، ونحوه ما عن جماعة ممن تأخر عنه.

هذا وشيخنا الأعظم [ قده ] فصل بين المقصر والقاصر ، فبنى على الكفر في المقصر إذا أنكر بعض الأحكام الضرورية ، عملا بإطلاق النصوص والفتاوى في كفر منكر الضروري ، وعلى عدمه في القاصر ، لعدم الدليل على سببيته للكفر ، مع فرض عدم التكليف بالتدين بذلك الحكم ، ولا بالعمل بمقتضاه ـ كما هو المفروض ـ ويبعد أن لا يحرم على الشخص شرب الخمر ويكفر بترك التدين بحرمته. لكن عرفت الإشكال في إطلاق النصوص والفتاوى في ذلك. ولو سلم فعدم التكليف به ـ عقلا ـ لا يمنع من سببية ترك التدين به للكفر ، ولو لم يكن فرق ظاهر بين الأمور الاعتقادية والعملية من حيث التكليف.

هذا كله في الأحكام العملية التي يجب فيها العمل ولا يجب فيها الاعتقاد. وأما الأمور الاعتقادية التي يجب فيها الاعتقاد لا غير فالحكم بكفر منكرها ـ ضرورية كانت أو نظرية ـ يتوقف على قيام دليل على وجوب الاعتقاد بها تفصيلا ، على نحو يكون تركه كفراً. ومجرد كونه ضروريا لا يوجب كفر منكره ، إلا بناء على كون إنكار الضروري سبباً مستقلا للكفر ، وقد عرفت عدم ثبوته ، فالمتبع الدليل الوارد فيه بالخصوص.

٣٨٠