مستمسك العروة الوثقى - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١١

[ مسألة ٧ ] : إذا انحصر الماء في المشتبهين تعين التيمم [١]

______________________________________________________

له في باب الانحلال ما لم يكن ترتب بين أفراد العلم المتعلق بالأحكام ، وأن التنجز إنما يستند عقلا اليه لا الى العلم بالموضوع ، فإنه علم بالصغرى وهو لا ينجز ، كما أن العلم بالكبرى كذلك ، وانما المنجز العلم بالنتيجة. [ الخامس ] : أن سبق زمان المعلوم على زمان العلم إنما يقتضي سبق أثر المعلوم لا سبق أثر العلم ، فإن أثر العلم مقارن له زماناً وان كان بينهما ترتب طبعي كما هو الحال في الموضوع وحكمه [ السادس ] : أن الانحلال في جميع موارده حكمي ، لا حقيقي [ السابع ] : أن هذا الانحلال الحكمي عقلائي ولا يساعده برهان عقلي [ الثامن ] : أن المدار في انحلال أحد العلمين بالآخر السبق واللحوق الرتبيان ، فان لم يكونا فالزمانيان ، وأن السابق يوجب انحلال اللاحق ، وأن مسألة الملاقاة لأحد أطراف العلم الإجمالي من موارد الثاني لا الأول.

هذا وظاهر عبارة المتن التوقف في المسألة ، لأن الاحتياط الذي ذكره لم يكن مسبوقا بالفتوى بالجواز ، لأن عدم الحكم بالنجاسة لا يقتضي الطهارة. نعم لو كانت العبارة : أنه محكوم بالطهارة ، كان الاحتياط استحبابيا.

وقد خرجنا في هذا الباب عن وضع الكتاب ، لما رأيناه من رغبة بعض إخواننا الحاضرين في مجلس الدرس في ذلك. ومنه سبحانه نستمد العناية والعصمة وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيت.

[١] لموثق سماعة عن أبي عبد الله (ع) : « في رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيهما هو؟ وليس يقدر على ماء غيرهما. قال (ع) : يهريقهما جميعا ويتيمم » (١). ونحوه رواية عمار عنه (ع) (٢). المعمول بهما عند الأصحاب ـ كما عن المعتبر ـ المقبولان‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٨ من أبواب الماء المطلق حديث : ١٤.

٢٦١

وهل يجب إراقتهما [١] أولا؟ الأحوط ذلك ، وإن كان الأقوى العدم [٢].

[ مسألة ٨ ] : إذا كان إناءان أحدهما المعين نجس ، والآخر طاهر ، فأريق أحدهما ، ولم يعلم أنه أيهما ، فالباقي محكوم بالطهارة. وهذا بخلاف ما لو كانا مشتبهين وأريق أحدهما ، فإنه يجب الاجتناب عن الباقي. والفرق : أن الشبهة في هذه الصورة بالنسبة إلى الباقي بدوية [٣] ، بخلاف الصورة الثانية. فإن الماء الباقي كان طرفا للشبهة من الأول ، وقد حكم عليه بوجوب الاجتناب [٤].

______________________________________________________

عندهم ـ كما عن المنتهى ـ بل ظاهر جماعة الإجماع على العمل بهما. قال شيخنا الأعظم [ ره ] في طهارته : « لا إشكال في وجوب التيمم مع انحصار الماء في المشتبهين ، لأجل النص والإجماع المتقدمين ».

[١] كما عن القواعد.

[٢] لأن الظاهر من الأمر بالإراقة الإرشاد إلى عدم الانتفاع بهما ، كما هو كذلك في أمثاله من الموارد.

[٣] لأن العلم الإجمالي حدث بعد الإراقة وانعدام أحد الطرفين ، فالشك في الطرف الباقي شبهة بدوية ، والمرجع في الشبهة البدوية أصالة الطهارة.

[٤] فإنه طرف للعلم الإجمالي القائم بين التدريجيين ، وهما الباقي بالإضافة الى كل واحد من الأزمنة اللاحقة ، والمراق قبل زمان إراقته ، فيكون الحال كما لو علم بوجوب صوم أحد اليومين ، فإنه يجب الاحتياط بالصوم في اليوم الثاني ولو بعد انتهاء اليوم الأول وخروجه عن محل الابتلاء ، كما أشرنا إليه آنفاً.

٢٦٢

[ مسألة ٩ ] : إذا كان هناك إناء لا يعلم أنه لزيد أو لعمرو ، والمفروض أنه مأذون من قبل زيد فقط في التصرف في ماله ، لا يجوز له استعماله [١]. وكذا إذا علم أنه لزيد ـ مثلا ـ لكن لا يعلم أنه مأذون من قبله أو من قبل عمرو.

[ مسألة ١٠ ] : في الماءين المشتبهين إذا توضأ بأحدهما أو اغتسل ، وغسل بدنه من الآخر ، ثمَّ توضأ به أو اغتسل صح وضوؤه أو غسله على الأقوى [٢] لكن الأحوط ترك هذا النحو مع وجدان ماء معلوم الطهارة ، ومع الانحصار الأحوط ضم التيمم أيضاً.

______________________________________________________

[١] لاستصحاب حرمة التصرف فيه. وأما أصالة عدم إذن المالك فهو من الأصل الجاري في الفرد المردد الذي هو محل الاشكال ، كما أوضحناه في « حقائق الأصول » ، وليس كذلك في الفرع الآتي ، فإن المرجع فيه أصالة عدم إذن زيد.

[٢] قد عرفت النص والإجماع على خلافه. مع أنه خلاف ما تقدم منه في المسألة السابعة. نعم يقع الإشكال في أن النص على طبق القواعد فيتعدى من مورده إلى غيره ، أولا ، فيقتصر عليه ويرجع في غيره إليها.

ربما قيل بالأول : إما لأنه لو بني على العمل بما في المتن ابتلي باستصحاب النجاسة ، للعلم بنجاسة أعضائه والشك في ارتفاعها ، ولأجل ذلك أمر بالتيمم ، لأن الطهارة من النجاسة الخبثية ـ ولو ظاهرية ـ أهم من الطهارة المائية. ولا يعارضه استصحاب الطهارة ، لأن الطهارة المستصحبة إن كان المراد بها الطهارة قبل الاستعمال ، فهي زائلة قطعاً ، وان كان غيرها ، فهي مشكوكة الثبوت لاحتمال كون الإناء النجس هو المستعمل ثانياً. ولذا كان‌

٢٦٣

______________________________________________________

المشهور بين المتأخرين الأخذ بضد الحالة السابقة فيمن تيقن الطهارة والحدث وشك في المتقدم منهما ، وفيه : أن الطهارة المستصحبة هي الطهارة الثابتة حال استعمال الطاهر المرددة بين بقاء الأولى وحدوث غيرها ، وهي معلومة الثبوت مشكوكة البقاء. مضافا إلى أن جريان الاستصحاب ذاتاً مع الجهل بالتقدم والتأخر محل إشكال محرر في محله. ولعله يأتي في أواخر مبحث الوضوء ، فكيف يكون مثل ذلك مانعاً من الطهارة المائية؟.

وإما لأنه بعد تطهير بعض الأعضاء يعلم إجمالا بنجاسة أحد العضوين ، إما العضو المطهر لنجاسة الإناء الثاني ، أو العضو الذي لم يطهر لنجاسة الإناء الأول ، فتستصحب النجاسة إلى ما بعد تطهير الباقي. وفيه : أنه يتوقف على كون المانعية من آثار الكلي ليجري استصحابه ، أما لو كانت من آثار الفرد ، فقد عرفت أن استصحاب الفرد المردد محل إشكال.

وإما لأن ملاقاة الثاني للأعضاء عند تطهيرها به قبل حصول شرائط التطهير من الغلبة ، والانفصال ، والتعدد. توجب العلم بالنجاسة حينئذ إما لملاقاتها للماء الأول ، أو للماء الثاني قبل أن تحصل شرائط التطهير ، فتستصحب النجاسة الى ما بعد حصول الشرائط. ولا يعارضه استصحاب الطهارة. للجهل بتاريخها بخلاف النجاسة ، فإن تاريخها معلوم ، وهو أول أزمنة مماسة الماء الثاني للأعضاء. ولا فرق في صحة الاستصحاب المذكور بين كون الأثر للفرد والكلي ، لصحة جريان استصحاب كل منهما.

نعم يشكل هذا التوجيه وما قبله أيضاً ـ مع الغض عما تقدم ـ : بأن غاية مقتضاهما ثبوت النجاسة ظاهراً بعد التطهير بالثاني ، وهو إنما يمنع من الاجتزاء بالصلاة بعد ذلك ، لكن لو كرر الصلاة عقيب كل من الوضوءين فقد أحرز الصلاة الصحيحة الواجدة لشرط الطهارة من الحدث والخبث ، فيكون الأمر بالإراقة والتيمم خلاف مقتضى القواعد.

٢٦٤

______________________________________________________

هذا ولعل الوجه فيه أن تطهير الأعضاء وتطهير ما يترشح عليه ماء الوضوء من مواضع بدنه وثيابه مما يتعسر غالبا. وتكرار الصلاة عقيب كل من الوضوءين وان كان يوجب العلم بصحة الصلاة إجمالا ، إلا أنه يبتلي بالنجاسة الظاهرية لأعضائه ، ولكل ما يترشح عليه ماء الوضوء ، المؤدي ذلك الى نجاسة ما يلاقيها ، والى عدم جواز الدخول فيما يعتبر فيه الطهارة من الخبث ، وذلك ضيق ومشقة غالبا. فلا يبعد إذاً حمل الأمر على الرخصة ، ولا سيما وكون المورد مظنة الحظر ، والا فمن المستبعد جداً أن يكون مثل هذا الاشتباه مانعا من صحة الوضوء ، أو من صحة التقرب به تعبدا ، بحيث لو توضأ بأحدهما برجاء كونه طاهرا ثمَّ انكشف طهارة ما توضأ به كان وضوؤه باطلا. وعليه يكون المقام من قبيل الموارد التي يكون الوضوء فيها حرجيا ، فان التحقيق ـ كما سيأتي في محله إن شاء الله ـ جواز التيمم فيها. لكن لو توضأ صح وضوؤه واجتزأ به ، وكذا في المقام يجوز التيمم. ولو توضأ على النحو المذكور في المتن ، وكرر الصلاة عقيب كل من الوضوءين صحت صلاته ، وان كان محكوما عليه بالخبث ظاهراً ، عملا بالاستصحاب.

وكذا الحال لو كان كل من الماءين كرا ، وان كان التوجيه الأخير لا يتأتى فيه ، لأن الطهارة من الأول تحصل بمجرد ملاقاة الثاني بلا شرط فلا تكون النجاسة معلومة التاريخ كي يصح استصحابها. ومن هنا يشكل التعدي الى هذا الفرض ، فان لفظ الإناء في الموثقين لو سلم عمومه لمثل الكر فقول السائل : « معه إناءان » غير واضح الشمول له. ولا سيما بملاحظة قوله : « وقع في أحدهما قذر » ‌الذي هو كناية عن النجاسة بملاقاة القذر ، فان ذلك لا يشمل الكر. ولو سلم فلا يشمل النص ماء الغدير ونحوه مما لا يسمى إناء قطعاً ، فالبناء في مثله علي وجوب تكرار‌

٢٦٥

[ مسألة ١١ ] : إذا كان هناك ماءان توضأ بأحدهما أو اغتسل. وبعد الفراغ حصل له العلم بأن أحدهما كان نجساً ولا يدري أنه هو الذي توضأ به أو غيره ، ففي صحة وضوئه أو غسله إشكال ، إذ جريان قاعدة الفراغ هنا محل اشكال [١] وأما إذا علم بنجاسة أحدهما المعين ، وطهارة الأخر فتوضأ ، وبعد الفراغ شك في أنه توضأ من الطاهر أو من النجس ، فالظاهر صحة وضوئه لقاعدة الفراغ. نعم لو علم أنه كان حين التوضؤ غافلا عن نجاسة أحدهما يشكل جريانها.

______________________________________________________

الصلاة بعد كل من الوضوءين مع تطهير جميع ما أصابه بالثاني متعين إذا لم يكن حرجياً ، وإطلاق معاقد الإجماع على لزوم التيمم على نحو يشمل ذلك كله غير ثابت.

[١] ينشأ من ظهور بعض نصوص القاعدة في اعتبار الالتفات حال العمل مثل ما‌

في موثق بكير : « قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ. قال (ع) : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (١). ومن أن النصوص الباقية‌ (٢) مطلقة والارتكازيات العقلائية تساعد إطلاقها ، فإن الظاهر بناؤهم على عدم الاعتناء مطلقا ، بل ظاهر حسن الحسين بن أبي العلاء جواز المضي ولو مع النسيان‌ قال : « سألت أبا عبد الله (ع) عن الخاتم إذا اغتسلت. قال (ع) : حوله من مكانه. وقال في الوضوء : تدره ، فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة » (٣)

__________________

(١) الوسائل باب : ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ٧ وبقية النصوص في الباب نفسه.

(٢) ذكرها في الوسائل باب : ٤٢ من أبواب الوضوء ، وباب : ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٣) الوسائل باب : ٤١ من أبواب الوضوء حديث : ٢.

٢٦٦

[ مسألة ١٢ ] : إذا استعمل أحد المشتبهين بالغصبية لا يحكم عليه بالضمان إلا بعد تبين أن المستعمل هو المغصوب [١].

______________________________________________________

ولأجل ذلك يتعين حمل ما في الموثق على الحكمة ، لا العلة التي يطرد معها الحكم وجودا وعدما.

نعم يتم ما ذكر لو فقد الطرف الآخر ، أما لو كان موجودا فالعلم الإجمالي بنجاسته أو وجوب الوضوء ثانيا يقتضي الاحتياط بإعادة الوضوء بالماء الطاهر ، فان الوضوء بمنزلة الملاقي ـ بالكسر ـ الذي يمتنع جريان الأصل المرخص فيه إذا كان العلم الإجمالي القائم بينه وبين طرف الملاقي ـ بالفتح ـ حاصلا بعد العلم بالملاقاة. ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين أن يكون الماء المتوضأ به قد جمع في إناء ، وبين أن يكون مفقوداً.

نعم ـ بناء على تفصيل شيخنا الأعظم [ ره ] المتقدم بيانه في المسألة السادسة ـ يجوز الرجوع الى قاعدة الفراغ في صورة جمع الماء ، دون صورة فقده. كما أنه ـ بناء على أن ترتب العلمين القائمين بالموضوع ، دون الحكم كاف في انحلال اللاحق بالسابق المتقدم بيانه في تلك المسألة ـ يكون التفصيل المذكور بين الصورتين أيضا في محله.

وأما التفصيل بين وجود بقية من الإناء المتوضأ منه ، وعدمها ، فلا وجه له ، إذ لا سببية بين نجاسة تلك البقية وبطلان الوضوء ، وإنما السببية بين نجاسة المقدار المتوضأ به وبطلان الوضوء. ولذلك أمكن التفصيلان المذكوران آنفا. لكن عرفت الإشكال في جميع ذلك فراجع.

ثمَّ إنه كما لا مجال لجريان قاعدة الفراغ في الوضوء في صورة وجدان الطرف الآخر ، لا مجال أيضا لجريان أصالة الطهارة الخبثية في أعضاء الوضوء وجميع ما يترشح عليه ماؤه ، لعين الوجه المتقدم.

[١] هذا إذا كان العلم قبل التصرف ، أما لو كان بعده حكم عليه

٢٦٧

فصل

سؤر نجس العين كالكلب والخنزير.

______________________________________________________

بالضمان للعلم الإجمالي إما بالضمان أو بعدم جواز التصرف في الآخر. فهذه المسألة من قبيل مسألة الملاقاة ، والضمان بالتصرف حكمه حكم الملاقي في وجوب الاحتياط فيه إذا لم ينحل العلم الإجمالي القائم به ، وعدمه إذا كان منحلا بعلم سابق عليه زماناً ـ أعني : العلم بالغصبية ـ فلاحظ. والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ( وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ).

فصل في الأسئار‌

جمع السؤر ، وهو بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو الحوض ـ كما عن [ المغرب ] وغيره ـ أو البقية بعد الشرب ـ كما عن الجوهري ـ أو البقية من كل شي‌ء ـ كما عن القاموس ـ بل عن الأزهري : اتفاق أهل اللغة على أن سائر الشي‌ء باقيه قليلا كان أو كثيراً. انتهى. وعن الشهيد ومن تأخر عنه : أنه ماء قليل لاقى جسم حيوان. ونسب في كلام غير واحد الى ظاهر الفقهاء. وكأن الوجه في ذلك ذكرهم له في باب المياه وحكمهم بنجاسة السؤر مع نجاسة ذي السؤر. لكنه لا يصلح قرينة على عموم الحكم لمطلق الملاقي لجسم الحيوان. وان كان يشهد به بعض النصوص ، كرواية العيص عن الصادق (ع) عن سؤر الحائض : « قال (ع) : لا تتوضأ منه ، وتوضأ من سؤر الجنب ، إذا كانت مأمونة ، وتغسل يديها ، قبل‌

٢٦٨

والكافر نجس [١] ، وسؤر طاهر العين طاهر ، وان كان حرام اللحم [٢] ،

______________________________________________________

أن تدخلهما الإناء » (١).كما يشهد بعضها بعمومه للطعام ، مثل ما‌ في صحيح زرارة عن أبي عبد الله (ع) : « قال (ع) : في كتاب علي (ع) : إن الهر سبع ، ولا بأس بسؤره ، واني لأستحي من الله أن أدع طعاما لأن الهر أكل منه » (٢). وفي حديث المناهي‌ (٣) : النهي عن أكل سؤر الفأرة.

[١] لما يأتي مما دل على نجاسة المذكورات ، بضميمة عدم الخلاف في سراية النجاسة إلى الملاقي إلا في الماء القليل ، وتقدم ضعفه ، وأن الأقوى انفعاله بملاقاة النجاسة. وفي رواية معاوية بن شريح : « سأل عذافر أبا عبد الله (ع) ـ وأنا عنده ـ عن سؤر السنور ، والشاة ، والبقرة والبعير ، والحمار والفرس ، والبغل ، والسباع ، يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال (ع) : نعم اشرب منه وتوضأ منه. قلت له : الكلب. قال (ع) : لا. قلت : أليس هو سبع؟ قال (ع) : لا والله ، إنه نجس. لا والله إنه نجس (٤) ، ونحوه صحيح أبي العباس الآتي‌ (٥).

[٢] كما هو المشهور. ويقتضيه الأصل ، والنصوص في جملة من الموارد وكذا رواية معاوية المتقدمة‌ بناء على ظهورها ـ كما هو غير بعيد ـ

__________________

(١) الوسائل باب : ٧ من أبواب الأسئار حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٢ من أبواب الأسئار حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ٩ من أبواب الأسئار حديث : ٧ ولم يذكر منه الا مورد الاستشهاد.

(٤) الوسائل باب : ١ من أبواب الأسئار حديث : ٦ وباب : ١٢ من أبواب النجاسات حديث : ٦.

(٥) يأتي قريباً في سؤر طاهر العين.

٢٦٩

______________________________________________________

في دوران نجاسة السؤر مدار نجاسة ذي السؤر ، ونحوها صحيح البقباق‌ (١) فيدلان على الكلية المذكورة. وعن السرائر ، نجاسة سؤر ما يمكن التحرز عنه من حيوان الحضر غير المأكول اللحم والطير. وعن المبسوط : المنع من الاستعمال. ولا وجه له ظاهر عدا ما‌ في موثق عمار عن الصادق (ع) : « سئل عما تشرب منه الحمامة ، فقال (ع) : كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب. وعن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب ، فقال (ع) : كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه ... » (١) ومرسل الوشاء عنه (ع) : « أنه كان يكره سؤر كل شي‌ء لا يؤكل لحمه » (٢) وموثق سماعة : « هل يشرب سؤر شي‌ء من الدواب ويتوضأ منه؟ قال (ع) : أما الإبل والبقر والغنم فلا بأس » (٣). لكن الجميع معارض بمثل خبر معاوية المتقدم‌. وصحيح أبي العباس : « سألت أبا عبد الله (ع) عن فضل الهرة والشاة والبقرة ، والإبل ، والحمار ، والخيل ، والبغال ، والوحش ، والسباع فلم أترك شيئاً إلا سألته عنه ، فقال (ع) : لا بأس به. حتى انتهيت الى الكلب ، فقال : رجس نجس ، لا يتوضأ بفضله ، واصبب ذلك الماء ، واغسله بالتراب أول مرة ثمَّ بالماء » (٤). مضافا الى قصور دلالته. إذ الأول جملة خبرية ليس لها مفهوم. واشتمال الخبر على الفاء لا يلقحها بالشرطية ، فإن الظاهر أن الفاء في الجملة الخبرية إنما تدل على ترتب الخبر‌

__________________

(١) وهو صحيح ابي العباس المتقدمة إليه الإشارة ، وسيأتي قريباً.

(٢) الوسائل باب : ٤ من أبواب الأسئار حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ٥ من أبواب الأسئار حديث : ٢.

(٤) الوسائل باب : ٥ من أبواب الأسئار حديث : ٣.

(٥) الوسائل باب : ١ من أبواب الأسئار حديث : ٤ ، وباب : ١١ من أبواب النجاسات حديث : ١.

٢٧٠

أو كان من المسوخ [١] ، أو كان جلالا [٢]. نعم يكره سؤر حرام اللحم [٣] ما عدا المؤمن [٤] ، والهرة على قول [٥].

______________________________________________________

على المبتدأ نحو ترتب المعلول على علته ، في مقابل مفاد جميع الجمل الحملية الخالية عن الفاء ، فإنها تدل على ترتب الخبر على المبتدأ ترتب العارض على معروضه ، ولا تدل الفاء على انحصار العلة بالمبتدإ ليدل على المفهوم كالجملة الشرطية ، ولفظ : « يكره » في الثاني أعم من الحرمة. والحصر في الأخير لما لم يمكن الأخذ به ، لوجوب تخصيصه بكثير من الافراد ، كان الاولى عرفا حمله على الحصر الإضافي ، أو حمل البأس المنفي فيه على ما يعم الكراهة.

[١] بلا إشكال ظاهر ، بناء على طهارتها كما يأتي إن شاء الله. وإنما تعرض له المصنف [ ره ] لأجل الخلاف في طهارته ونجاسته ، وإلا فعلى القول بالطهارة لا خلاف في طهارة سورة.

[٢] على المشهور. لإطلاق نصوص الطهارة المتقدمة ونحوها ، الشامل لحال الجلل وغيره. وعن السيد والشيخ وابن الجنيد المنع من سؤره. واستدل لهم بعدم خلو لعابه عن النجاسة. وهو ـ كما ترى ـ ممنوع. مع أنه يختص بملاقي الفم ولا يطرد فيما يلاقي بقية أجزاء الجسم.

[٣] لما تقدم دليلا لما في السرائر.

[٤] فقد ورد في النصوص (١) : أن سؤره شفاء‌ ، وفي بعضها : أنه شفاء من سبعين داء‌ ، وفي آخر استحباب التبرك به‌.

[٥] اختاره في الوسائل ويشهد له جملة من النصوص‌ كصحيح زرارة عن أبي عبد الله (ع) : « قال في كتاب علي (ع) : إن الهر سبع ، ولا بأس بسؤره واني لأستحي من الله تعالى أن أدع طعاما لأن الهر أكل‌

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ١٨ من أبواب الأشربة المباحة.

٢٧١

وكذا يكره سؤر مكروه اللحم [١] ، كالخيل ، والبغال ، والحمير. وكذا سؤر الحائض المتهمة [٢] ، بل مطلق المتهم.

______________________________________________________

منه » (١). وبه ترفع اليد عن إطلاق ما دل على كراهة سؤر ما لا يؤكل لحمه ، [١] الموافق له إطلاق الفتاوى.

[١] على المشهور. وليس عليه دليل ظاهر. نعم تقدم ما في موثق سماعة. لكنه على تقدير حمله على الكراهة شامل لغير مكروه الأكل. ولذا أنكر هذا الحكم غير واحد. اللهم إلا أن يبنى على قاعدة التسامح في أمثال المقام.

[٢] وهي غير المأمونة ، لموثق ابن يقطين عن أبي الحسن (ع) : « في الرجل يتوضأ بفضل الحائض؟ قال (ع) : إذا كانت مأمونة فلا بأس » (٣) ونحوه غيره. وبها يقيد إطلاق ما دل على المنع من سؤرها‌ (٤) نعم‌ في صحيح العيص : « سألت أبا عبد الله (ع) عن سؤر الحائض ، فقال (ع) : لا تتوضأ منه وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة » (٥) ومقتضاه عموم الكراهة. نعم عن التهذيب روايته بإسقاط كلمة : « لا » من صدر الجواب ، فيكون قيد الامانة راجعاً الى الحائض والجنب معاً.

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب الأسئار حديث : ٢.

(٢) تقدم هنا قريباً عند الكلام في طهارة سؤر طاهر العين وان حرم لحمه.

(٣) الوسائل باب : ٨ من أبواب الأسئار حديث : ٥. وقد اشتمل الباب على أحاديث أخر قد تدل على ذلك.

(٤) راجع الوسائل باب : ٨ من أبواب الأسئار. فإن فيه جملة من الروايات التي أطلق فيها النهي عن الوضوء بسؤر الحائض. لكنها مصرحة بالترخيص في الشرب منه. وسيأتي منه ـ قدس‌سره ـ الإشارة الى ذلك.

(٥) الوسائل باب : ٧ من أبواب الأسئار حديث : ١.

٢٧٢

فصل

النجاسات اثنتا عشرة : [ الأول والثاني ] : البول ، والغائط ، من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه [١] ، إنسانا أو

______________________________________________________

لكن ـ مع أن الكليني أضبط ـ لا يناسب أفراد قيد المأمونة. فلاحظ. وعليه يتعين الجمع بخفة الكراهة مع الأمانة.

ثمَّ إن‌ في خبر عنبسة عن أبي عبد الله (ع) : « اشرب من سؤر الحائض ، ولا تتوضأ منه » (١) ونحوه غيره. فتعميم الكراهة لغير الوضوء لا بد أن يكون مبنياً على قاعدة التسامح ، أو على الإجماع ـ كما قيل ـ وإلا فلا دليل عليه ظاهراً. اللهم إلا أن يستفاد من تعليق الحكم على الأمانة عمومه لغير الوضوء ، بل عمومه لكل متهم. ولعل من ذلك يستفاد أن في الحائض كراهتين. إحداهما خاصة بالوضوء ناشئة من حدث الحيض ، والأخرى عامة له وللشرب ، مختصة بالاتهام والله سبحانه العالم.

فصل في النجاسات‌

[١] إجماعا في الجملة حكاه جماعة كثيرة ، وفي بعض الكلمات : أنه إجماع علماء الإسلام. ويدل عليه جملة وافرة من النصوص ، كصحيح ابن مسلم عن أحدهما (ع) : « سألته عن البول يصيب الثوب قال (ع) : اغسله مرتين » (٢) ، ونحوه صحاح كثيرة‌ (٣) ، وصحيح عبد الله بن سنان :

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب الأسئار حديث : ١. وقد اشتمل الباب على جملة أحاديث تتضمن ذلك.

(٢) الوسائل باب : ١ من أبواب النجاسات حديث : ١.

(٣) راجع الوسائل باب : ٢٦ من أبواب أحكام الخلوة ، وباب : ١ من أبواب النجاسات وغيرهما من الأبواب المتفرقة.

٢٧٣

______________________________________________________

« قال أبو عبد الله (ع) : اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) ، وفي خبره : « اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه » (٢). ويتم الحكم في الغائط بالإجماع على عدم الفصل بينه وبين البول ، كما عن الناصريات. وروض الجنان ، والمدارك ، والذخيرة. مضافا الى الإجماع عليه بالخصوص. والى النصوص الواردة في الموارد الخاصة ، مثل ما ورد في الاستنجاء من الغائط (٣) ، وفي العذرة يطؤها الرجل ، من الأمر بمسحها حتى يذهب أثرها (٤) ، أو بغسل ما أصابه (٥) ، وفي خرء الفأر يصيب الدقيق ، من الأمر بإلقائه (٦) ، وغير ذلك من الموارد مما هو كثير. والمنع : من دلالة الأمر بالغسل على النجاسة ـ كما ترى ـ خلاف المنصرف اليه عرفا.

هذا ومقتضى إطلاق النصوص ، ومعاقد الإجماع ، عدم الفرق بين أنواع ما لا يؤكل لحمه مما ذكر في المتن وغيره. نعم عن الإسكافي القول بطهارة بول الرضيع أو الصبي الذكر قبل اكله اللحم أو الطعام ـ على اختلاف النقل عنه ـ لما‌ في رواية السكوني عن أبي عبد الله (ع) : « ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل أن يطعم » (٧). وفيه ـ مع إمكان الجمع بينها وبين غيرها ، بالحمل على عدم احتياج تطهيره الى الغسل المعتبر فيه‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٨ من أبواب النجاسات حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٨ من أبواب النجاسات حديث : ٣.

(٣) راجع الوسائل باب : ٩ ، ٢٤ ، ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠ من أبواب أحكام الخلوة.

(٤) الوسائل باب : ١٠ من أبواب نواقض الوضوء حديث : ١ ، وباب : ٣٢ من أبواب النجاسات حديث : ٧ وباب : ٢٦ من أبواب النجاسات حديث : ١٥.

(٥) الوسائل باب : ١٠ من أبواب نواقض الوضوء حديث : ٢.

(٦) الوسائل باب : ٨ من أبواب النجاسات حديث : ٦.

(٧) الوسائل باب : ٣ من أبواب النجاسات حديث : ٤.

٢٧٤

غيره ، بريا أو بحريا ، صغيراً أو كبيراً. بشرط أن يكون له دم سائل حين الذبح [١]. نعم في الطيور المحرمة الأقوى عدم النجاسة [٢]. لكن الأحوط فيها أيضاً الاجتناب ،

______________________________________________________

العصر أو نحوه ، كما تضمنه غيرها من النصوص‌ (١) ـ : أنها مهجورة عند الأصحاب ، فلا مجال للاعتماد عليها ، ولا سيما مع اشتمالها على نجاسة لبن الجارية.

[١] سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ وجهه.

[٢] كما هو المحكي عن الجعفي. والعماني ، والصدوق في الفقيه ، والشيخ في المبسوط ، مستثنيا بول الخشاف ، وعليه جماعة من المتأخرين. ومستندهم‌ مصحح أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) : « كل شي‌ء يطير فلا بأس ببوله وخرئه » (٢). وعن خط محمد بن علي الجبعي نقلا عن جامع البزنطي عن أبي بصير عنه (ع) : « قال : خرء كل شي‌ء يطير وبوله لا بأس به » (٣). وعن المقنع ـ مرسلا ـ : أنه لا بأس بخرء ما طار وبوله (٤).

ودعوى : كون التعارض بينها وبين روايتي ابن سنان‌ بالعموم من وجه ، اللازم في مثله الرجوع في مورد المعارضة الى حجة أخرى ، وهي في المقام الأخبار الآمرة بغسل الثوب من البول مرتين ، الدالة على نجاسته مطلقا مضافا الى ما‌ عن المختلف عن كتاب عمار من قول الصادق (ع) : « خرء الخطاف لا بأس به ، هو مما يؤكل لحمه ، ولكنه كره أكله ... » (٥).

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ١ ، ٢ ، ٣ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل باب : ١٠ من أبواب النجاسات حديث : ١.

(٣) مستدرك الوسائل باب : ٦ من أبواب النجاسات حديث : ٢.

(٤) مستدرك الوسائل باب : ٦ من أبواب النجاسات حديث : ٤.

(٥) الوسائل باب : ٩ من أبواب النجاسات حديث : ٢٠ ، وباب : ٣٩ من أبواب الصيد حديث : ٥.

٢٧٥

______________________________________________________

بناء على ظهوره في كون العلة في نفي البأس في خرء الخطاف كونه مما يؤكل لحمه ، لا الطيران ، إذ لو كان الطيران دخيلا في الطهارة كان اللازم التعليل به.

مندفعة : بأن الرجوع في مورد تعارض العامين من وجه إلى حجة أخرى موقوف على عدم إمكان الجمع العرفي بينهما ، بأن لا يكون أحدهما أقوى دلالة من الآخر في مورد المعارضة ، وليس كذلك في المقام ، فإن رواية أبي بصير‌ أقوى فيه ، لندرة الابتلاء ببول الطير المأكول اللحم لو فرض وجوده ، ولاشعارها بكون وصف الطيران دخيلا في الحكم ، فيكون حملها على الطير المأكول حملا على فرد نادر ، أو غير معلوم التحقق ، وموجباً لإلغاء خصوصية الطيران عن الدخل في الحكم بالمرة. بل ادعى السيد المحقق البغدادي [ قده ] العلم بعدم البول لغير الخفاش. وعليه فالرواية نص في الطير غير المأكول اللحم ، وروايتا ابن سنان‌ ظاهرتان فيه ، فلا مجال لإعمال المعارضة بينهما فيه ، بل لا بد من تخصيص الثانية بالأولى. وأما رواية الخطاف‌ ـ فمع أنها معارضة برواية الشيخ [ ره ] لها بإسقاط لفظ الخرء‌ (١) ـ انها لم يظهر منها التعليل بمأكولية اللحم بنحو يصح الاعتماد عليه. ولو سلم فيمكن أن يكون تحريم الأكل مقتضيا للنجاسة ، والطيران مانعا عنها ، والتعليل بعدم المقتضي في ظرف وجود المانع شائع في لسان العرف. بل ادعى بعض الأعاظم من مشايخنا ، أن اعتبار المانعية إنما يكون في ظرف وجود المقتضي ، فعدم المعلول يستند عقلا إلى عدم المقتضي لا الى وجود المانع. فتأمل.

وقد يخدش في رواية أبي بصير‌ بما يوجب خروجها عن موضوع الحجية ، فعن السرائر : « رويت رواية شاذة لا يعول عليها : أن ذرق الطائر‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٣٩ من أبواب الصيد حديث : ٥.

٢٧٦

خصوصا الخفاش [١] ،

______________________________________________________

طاهر ، سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكوله‌. والمعول عند محققي أصحابنا والمحصلين منهم خلاف هذه الرواية ، لأنه هو الذي تقتضيه أخبارهم المجمع عليها » ، وفي التذكرة : « وقول الشيخ [ ره ] في المبسوط بطهارة ذرق ما لا يؤكل لحمه من الطيور لرواية أبي بصير‌ ضعيف ، لأن أحداً لم يعمل بها ». لكن صحة الرواية في نفسها واعتماد الصدوق والشيخ عليها ، يمنع من وهنها بمثل ذلك. وما ذكره في التذكرة ينافيه ما ذكره في المنتهى من نسبة القول بالطهارة إلى الشيخ والصدوق ، اعتماداً منهما على مصححة أبي بصير‌ ، وأنها حسنة ، ومال الى العمل بها ، لأنها وان كانت معارضة برواية ابن سنان‌ ، إلا أنها أظهر ، لأن دلالتها على الطهارة بالمنطوق ، ودلالة رواية ابن سنان‌ على النجاسة بالمفهوم ، ودلالة المنطوق أقوى. وما في المعتبر : « إن الرواية حسنة والعامل بها قليل ».

نعم مخالفة الرواية للمشهور محققة ، ولكنه لا يقدح في حجيتها ، لاحتمال كون الوجه في عدم اعتمادهم عليها ترجيح غيرها عليها سنداً أو دلالة أو نحو ذلك. فلاحظ كلماتهم. قال في روض الجنان : « أخرج جماعة من الأصحاب الطير ، وابن الجنيد بول الرضيع قبل اكله اللحم ، استناداً الى روايات ، معارضة بأشهر منها ، أو قابلة للجمع ». [ وبالجملة ] : لا يظهر من المشهور أن الرواية المذكورة قامت القرينة القطعية عندهم على خلافها فوجب طرحها والاعراض عنها ، كي تسقط بذلك عن موضوع الحجية.

[١] فإنه قال بنجاسة بوله من لا يقول بنجاسة غير المأكول من الطير وقد ورد فيه بالخصوص‌ رواية داود الرقي : « سألت أبا عبد الله (ع) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فاطلبه ولا أجده. قال (ع) : اغسل‌

٢٧٧

______________________________________________________

ثوبك » (١). ويظهر من المختلف الإجماع على نجاسته ، فإنه أجاب عن رواية أبي بصير المتقدمة‌ ، بأنها مخصصة بالخفاش إجماعا ، فتخصص بما يشاركه في العلة. نعم يعارضها‌ رواية غياث : « لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف » (٢) ، وقريب منها ما عن الجعفريات ونوادر الراوندي عن موسى (ع) (٣). لكن رماها الشيخ بالشذوذ ، وكأنه لمخالفتها لما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه. ولأجل ذلك حملها على التقية. نعم هي معتضدة بمصححة أبي بصير المتقدمة‌ ، بل لو ثبتت دعوى عدم البول للطير غير الخفاش كان التعارض محكماً بين رواية أبي بصير‌ ورواية الرقي‌ ، والجمع العرفي يقتضي حمل الثانية على الكراهة ، ورواية الرقي‌ في نفسها ضعيفة السند فلا تصلح لإثبات المنع لو سلمت عن المعارض. وجبرها بالعمل غير ظاهر ، إذ بناء المشهور على نجاسة فضلة الخشاشيف كان عملا منهم بروايات نجاسة ما لا يؤكل لحمه‌ ، التي عرفت معارضتها في الطير ، والإجماع في المختلف على تخصيص رواية الطير بالخفاش لا يبعد أن يكون المراد منه الإجماع من الشيخ وخصمه ، بقرينة أنه كان في مقام رد استدلال الشيخ على ما ذهب إليه في المبسوط ، وليس المراد إجماع العلماء على نجاسته بالخصوص ، وإلا فلم يعرف مأخذ هذا الإجماع ، إذ أن المشهور إنما ذهبوا الى النجاسة في الخشاف ، لكونهم يرون النجاسة في كل ما لا يؤكل لحمه ولو كان طيرا ، وأما غيرهم فلم ينص على النجاسة فيه إلا الشيخ ، فالإجماع على خصوصية الخشاف غير ظاهر. هذا كله مضافا الى ما يأتي من الإجماع على طهارة الفضلتين مما لا نفس له سائلة ، فإن منه الخشاف حسب ما اختبرناه واختبره جماعة.

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب النجاسات حديث : ٤.

(٢) الوسائل باب : ١٠ من أبواب النجاسات حديث : ٥.

(٣) مستدرك الوسائل باب : ٦ من أبواب النجاسات حديث : ١.

٢٧٨

وخصوصاً بوله [١]. ولا فرق في غير المأكول بين أن يكون أصلياً كالسباع ونحوها أو عارضياً [٢]

______________________________________________________

[١] فإنه مورد نص النجاسة ، وان عرفت حكاية الإجماع عن جماعة على عدم الفرق بينه وبين الخرء.

[٢] إجماعا ، كما عن جماعة ، على اختلاف منهم في معقده ، فمنهم من حكاه على النجاسة في الجلال ، وآخر : في الموطوء ، وثالث : فيهما ، ورابع : في الدجاج الجلال ، وخامس : فيما هو حرام بالعارض. وذلك كله مما يقتضيه إطلاق مصححة ابن سنان‌ المتقدمة ، إذ ما لا يؤكل لحمه أعم مما كان بالعارض قطعاً.

ودعوى : معارضته بما دل على طهارة بول الغنم والبقر ونحوهما‌ (١) ، لشموله لحال الجلل أو الموطوئية ، والمرجع في مورد المعارضة أصالة الطهارة. مندفعة أولا : بأن موضوع دليل النجاسة من قبيل العنوان الثانوي ، وموضوع دليل الطهارة من قبيل العنوان الأولي ، وفي مثل ذلك يكون دليل الأول ـ عرفا ـ مقدما على دليل الثاني ، فيحمل الثاني في المقام على كون الطهارة لعدم المقتضي في العنوان الأولي ، فلا ينافيه ثبوت النجاسة لوجود المقتضي في العنوان الثانوي ، فيكون التصرف في دليل حكم العنوان الأولي في الحكم. ويحتمل أن لا يكون التصرف في الموضوع ، لأن منافاته لدليل حكم العنوان الثانوي إنما هو بالإطلاق الاحوالي ، أعني : إطلاق الغنم ـ مثلا ـ الشامل للمحلل والمحرم ، فيحمل على خصوص المحلل والتصرف في هذا الإطلاق بالحمل على خصوص المحلل أهون من التصرف في الإطلاق الأفرادي لما لا يؤكل لحمه ، بالحمل على ما كان محرم الأكل بالعنوان الأولي لأن نسبة الحكم إلى أفراد الإطلاق الثاني نسبة واحدة في مرتكز العرف ،

__________________

(١) الوسائل باب : ٩ من أبواب النجاسات حديث : ٥ ويستفاد من كثير من اخبار الباب المذكور.

٢٧٩

كالجلال [١].

______________________________________________________

بخلاف نسبة الحكم إلى الأحوال التي يشملها الإطلاق الاحوالي ، فإنها مختلفة في ارتكاز العرف ، فإن النجاسة للغنم الحلال ليست كالنجاسة للغنم الحرام ، فإن الأولى على خلاف الارتكاز والثانية على طبقه ، كما يظهر بأقل تأمل ، ولأجل ذلك يكون التصرف في الإطلاق الاحوالي عند العرف أقرب من التصرف في الإطلاق الأفرادي عندهم.

وثانيا : بأنه لو بني على تحقق التعارض بين الدليلين فالمرجع عموم ما دل على نجاسة البول مطلقاً ، المقدم على أصل الطهارة.

فإن قلت : لو بني على العمل بإطلاق ما يحرم أكله ولو للعنوان الطارئ لأشكل الأمر فيما حرم للضرر أو الغصب أو النذر أو نحو ذلك من العناوين الثانوية ، إذ لا مجال لتوهم النجاسة في أمثال ذلك. ولو ادعي أن الظاهر من حرمة الأكل النوعية اختص الاشكال بما كان حراما كذلك كالمضر نوعا ، وغير المأذون فيه كذلك [ قلت ] : الظاهر مما لا يؤكل ما يحرم اكله بما هو حيوان ، على أن تكون الحيوانية دخيلة في الموضوعية للحكم ، كالموطوء والجلال ، فلا يشمل ما يحرم لأنه مغصوب ، أو مضر ، أو منذور ترك أكله ، لا من حيث كونه حيواناً ، فلا مجال لهذا الإشكال.

[١] فإن المشهور حرمة لحمه. وعن الإسكافي والشيخ الكراهة ، بل ظاهر عبارة الثاني نسبته إلى أصحابنا ، إلا أن مورد كلامه ما كان أكثر علفه العذرة ، والظاهر أنه غير مورد كلام الأصحاب من الجلال الذي يكون تمام علفه العذرة. ومن ذلك تشكل نسبة الخلاف اليه. نعم الظاهر تحقق الخلاف من الأول. وان كان ظاهر النصوص الحرمة ، من دون ظهور معارض يوجب حملها على الكراهة. ففي صحيح هشام عن أبي عبد الله (ع) :

٢٨٠