مستمسك العروة الوثقى - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١١

مقبلا على الدنيا وطالبا لها مكبا عليها مجداً في تحصيلها ، ففي الخبر : « من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه ».

______________________________________________________

ـ في الجملة ـ إلى الاجتهاد. ومستند هذا الاجتهاد بناء العقلاء عليه مع الغفلة عن احتمال الردع أو القطع بعدمه ولو بالإضافة إلى شخص معين بخصوصه ، لاجتماع جميع ما يحتمل اعتباره شرعا فيه ، مثل كونه بالغاً ، عاقلا ، عادلا ، حياً ، أفضل ... الى غير ذلك. فهذا البناء المرتكز في نفس العامي هو المسوغ له الرجوع الى غيره في الخصوصيات المعتبرة في المفتي ، فإذا رجع الى غيره أفتى له بما يقتضيه نظره الحاصل له من مراجعة الأدلة المستفاد منها شرائط التقليد ، ويكون عمله حينئذ على ما تقتضيه فتواه عموماً أو خصوصاً. وهذا ولأجل أن من أدلة جواز التقليد بناء العقلاء عليه في الجملة ، فهذا البناء محكم مهما تحقق في مورد من الموارد والعمل عليه متعين ، إلا مع ثبوت الردع عنه.

وحينئذ نقول : لا ينبغي التأمل في عدم الفرق في بناء العقلاء بين البالغ وغيره إذا كان غير البالغ قد حاز مراتب الفضل حتى صار كالبالغ ، فاعتبار البلوغ في المفتي لا بد أن يكون بدليل شرعي يكون رادعاً عن إطلاق بناء العقلاء ، وليس هو إلا الإجماع إن تمَّ. ومجرد كونه محجوراً عن التصرف ومرفوعا عنه القلم ، ومولى عليه وعمده خطأ ، ونحو ذلك. لا يصلح رادعاً لأنه لا يوجب إلا الاستبعاد المحض كيف؟! وربما كان غير البالغ حائزاً مرتبة النبوة أو الإمامة ، فكيف لا يصلح أن يجوز منصب الفتوى؟! اللهم إلا أن يقوم الدليل على كون منصب الفتوى مختصاً بالمعصوم وبمن يجعله له ، فالشك في الجعل كاف في المنع. لكنه خلاف إطلاق الأدلة ، ولا سيما بناء العقلاء.

٤١

______________________________________________________

وأما اعتبار العقل : فأمره ظاهر عند العقلاء ، فضلا عن المتشرعة ، فقد قيل : إنه مما أجمع عليه الخلف والسلف. نعم المجنون الأدواري في حال إفاقته لا مانع عند العقلاء من الرجوع اليه ، وحكي القول به عن بعض متأخري المتأخرين كصاحبي المفاتيح والإشارات ، ولا بأس به إن لم ينعقد الإجماع على خلافه. لعموم الأدلة أيضاً.

وأما اعتبار الايمان : فغير ظاهر عند العقلاء. نعم حكي عليه إجماع السلف الصالح والخلف. وهو العمدة فيه ، دون مثل‌ قول أبي الحسن (ع) فيما كتبه لعلي بن سويد : « لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا ، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله (ص) وخانوا أماناتهم ، إنهم ائتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه ... » (١) وقول أبي الحسن الثالث (ع) فيما كتبه لأحمد بن حاتم بن ماهويه وأخيه : « فاصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنهما كافوكما إن شاء الله ». (٢) إذ الظاهر من الأول كون المانع عدم الايتمان لا مجرد اعتقاد الخلاف. مع أن منصرفه القضاة الذين كانوا يعتمدون على القياس ونحوه من الحجج الظنية في مقابل فتوى المعصومين (ع) وليس مثلهم محل الكلام. والثاني محمول على الاستحباب للإجماع القطعي على خلاف ظاهره.

وأما اعتبار العدالة : فهو كسابقه عند العقلاء. لكنه المعروف بين الأصحاب بل هو إجماع كما قيل. وهو العمدة ـ لو تمَّ ـ دون مثل آية النبإ إذ هي في الخبر لا في الفتوى. مع أن مقتضى الجمع بينها وبين ما دل على اعتبار الوثوق وكفايته في حجية الخبر ، حمل التبين فيها على الوثوق. وكذا‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٣.

(٢) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٤٦.

٤٢

______________________________________________________

خبر الاحتجاج المروي عن تفسير العسكري (ع) [١] الآتي ذكره‌ ، [٢] فإنه ـ مع ضعفه في نفسه ـ ظاهر في اعتبار الامانة والوثوق ، كما يظهر من ملاحظته بتمامه. مع أن مورده أصول الدين التي لا يجوز فيها التقليد ولا يقبل فيها الخبر تعبداً ، فلا بد من حمله على غير التقليد الذي هو محل الكلام. وكأنه لأجل ذلك ونحوه جوز بعض تقليد الفاسق المأمون عملا بإطلاق الأدلة وان كان هو مما لا ينبغي ، لأنه خلاف المتسالم عليه بين الأصحاب ، ومخالف للمرتكز في أذهان المتشرعة ، بل المرتكز عندهم قدح المعصية في هذا المنصب على نحو لا تجدي عندهم التوبة والندم ، فالعدالة المعتبرة عندهم مرتبة عالية لا تزاحم ولا تغلب. والانصاف أنه يصعب جداً بقاء العدالة للمرجع العام في الفتوى ـ كما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو جماعة ـ إذا لم تكن مرتبة قوية عالية ذات مراقبة ومحاسبة ، فإن ذلك مزلة الاقدام ومخطرة الرجال العظام. ومنه سبحانه نستمد الاعتصام.

وأما اعتبار الرجولة : فهو أيضاً كسابقه عند العقلاء. وليس عليه دليل ظاهر غير دعوى انصراف إطلاقات الأدلة الى الرجل واختصاص بعضها به. لكن لو سلم فليس بحيث يصلح رادعا عن بناء العقلاء. وكأنه لذلك أفتى بعض المحققين بجواز تقليد الأنثى والخنثى.

وأما اعتبار الحرية : فهو المحكي عن جماعة ـ منهم ثاني الشهيدين ـ بل قيل : انه مشهور. لكن مقتضى بناء العقلاء وغيره من المطلقات عدمه. وبعض الاستحسانات المقتضية لاعتبارها ، مثل كونه مملوكا لا يقدر على شي‌ء وكونه مولى عليه ، لا تصلح للاعتماد عليها في الردع وتقييد المطلق.

وأما كونه مجتهداً مطلقاً : فاعتباره هو المعروف المدعى عليه الوفاق‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٠ من أبواب صفات القاضي حديث : ٢٠.

(٢) في كلام الماتن في هذه المسألة.

٤٣

______________________________________________________

أو الإجماع فلا يصح تقليد المتجزئ. لكنه غير ظاهر الدليل. لعموم بناء العقلاء له. وكذا‌ مشهورة أبي خديجة عن الصادق (ع) : « إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً الى أهل الجور ، ولكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا [ قضايانا خ ل ] فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا اليه » [١]. وسندها لا يخلو من اعتبار. وكونها في القضاء لا يمنع من الاستدلال بها في المقام ، لأن منصب القضاء منصب للفتوى ولا عكس ، فما دل على عدم اعتبار شي‌ء في القاضي يدل على عدم اعتباره في المفتي. ودعوى : أن ما يعلم من المعصوم ليس من الاجتهاد ، ولم يكونوا يحتاجون في تلك الأزمنة إلى الاجتهاد. كما ترى! ولا سيما وان ذلك يمنع من التمسك بالنصوص على نفوذ القضاء ، لاشتراك الجميع في الاشكال المذكور.

ومثلها في الاشكال دعوى معارضتها‌ بمقبولة عمر بن حنظلة : « سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث‌ ... [ الى أن قال ] : قال (ع) ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكماً ... » (٢). لظهور قوله (ع) : « حلالنا وحرامنا ... وأحكامنا » في العموم. وجه الاشكال : أن قوله (ع) : « روى حديثنا » ليس المراد منه كل حديث لهم (ع) فان ذلك مقطوع بخلافه ، لتعذر ذلك ، ولا سيما في زمان صدور الرواية ، فيمتنع أخذه شرطاً في القضاء ، فيتعين أن يكون المراد أحاديثهم عليهم‌السلام في الجملة ، فيكون المراد من قوله (ع) : « ونظر في حلالنا وحرامنا » أنه نظر في الحلال والحرام اللذين تضمنتهما الأحاديث التي رواها ، لا عموم الحلال والحرام ، وكذلك المراد من أحكامهم (ع)

__________________

(١) الوسائل باب : ١ من أبواب صفات القاضي حديث : ٥.

(٢) الوسائل باب : ١١ من أبواب صفات القاضي حديث : ١ وقد تقدم قسم منه في مسألة : ١٢.

٤٤

______________________________________________________

يعني : الاحكام التي عرفها بعد النظر في الحلال والحرام اللذين تضمنتهما الأحاديث ، فيتعين أن يكون المراد بعض الاحكام لا جميعها. مضافا الى الإجماع على عدم اعتبار رواية جميع أحاديثهم ولا النظر في جميع حلالهم وحرامهم ، حتى من القائلين باعتبار الاجتهاد المطلق لاجتزائهم بالنظر في الجملة. فيتعين حمل الحديث والحلال والحرام على الجنس الصادق على البعض وهكذا الحال في معرفة أحكامهم. وحمل المعرفة على الملكة ـ كما يدعيه القائلون باعتبار الاجتهاد المطلق ـ مع أنه خلاف ظاهر المعرفة ـ تفكيك بين فقرات الرواية ، يأباه سياقها. فلاحظ وتأمل. ولو أغمضنا النظر عن ذلك كله فلا أقل من عدم صلاحية المقبولة لمعارضة رواية أبي خديجة ، لإمكان حملها على ما لا ينافيها عرفا ، فيتعين في مقام الجمع العرفي بينهما ، ويكون العمل على ظاهر رواية أبي خديجة بلا مانع.

نعم لو فرض ملازمة الأفضلية للاجتهاد المطلق تعين تقليد المجتهد المطلق عند الدوران بينه وبين المتجزئ. لكن الفرض المذكور غير ظاهر مع أن الكلام في الشرطية مطلق ولو مع عدم وجود المجتهد المطلق.

هذا كله بناء على إمكان التجزي في الاجتهاد ـ كما لعله المشهور والمنصور ـ لاختلاف مراتب الملكة قوة وضعفاً ، كاختلاف المسائل وضوحا وخفاء. أما بناء على امتناعه فلا ثمرة عملية للنزاع المذكور.

وأما اعتبار الحياة : فقد تقدم الكلام فيه ، وأن العمدة فيه الإجماع المفقود في الاستمراري منه على ما عرفت.

وأما اعتبار الأعلمية : فقد تقدم الكلام فيه أيضاً وأنه الذي يقتضيه الأصل وبناء العقلاء.

وأما طهارة المولد : فهي داخلة في الايمان بناء على كفر المتولد من الزنا ، أما بناء على خلافه فلا دليل على اعتبارها غير الأصل المحكوم ببناء‌

٤٥

[ مسألة ٢٣ ] : العدالة عبارة عن ملكة إتيان الواجبات وترك المحرمات [١].

______________________________________________________

العقلاء. نعم عن الروضة دعوى الإجماع عليه. وعليه فهو المعتمد.

وأما اعتبار أن لا يكون مقبلا على الدنيا : فإن أريد من الإقبال على الدنيا ما ينافي العدالة أغنى عن اعتباره اعتبارها ، وان أريد غير ذلك فدليله غير ظاهر. ولذا لم أقف على من ذكره بخصوصه. وأما الخبر الذي ذكره المصنف‌ (١) فقد عرفت أنه المروي عن تفسير العسكري (ع) ، وقد ذكره شيخنا الأعظم [ ره ] في أدلة حجية الخبر. وقد عرفت الإشكال في سنده ، وفي كونه فيما نحن فيه من التقليد في الفروع. وفي دلالته على أكثر من اعتبار الامانة والوثوق ، كما يظهر ذلك من ملاحظة مجموع الفقرات ، وان كان الجمود على الفقرة الأخيرة يقتضي ظهوره في اعتبار العدالة. فلاحظ وتأمل. والله سبحانه هو الموفق.

[١] كما نسب الى المشهور بين المتأخرين ، بل الى المشهور مطلقاً ، بل الى العلماء ، أو الفقهاء ، أو المخالف والمؤالف. وعن ظاهر الحلي وغيره : أنها مجرد ترك المعاصي ، أو خصوص الكبائر. وعن ظاهر المقنعة وغيرها : أنها الاجتناب عن المعاصي عن ملكة. ومقتضى الجمود على عبارة الأول أنه بحسب المورد أعم من وجه من الثاني ، وأعم مطلقاً من الثالث. إلا أن الاتفاق ظاهراً على ثبوت الفسق بارتكاب الكبيرة يقتضي أن يكون المراد من الأول الملكة الباعثة فعلا على الطاعات وترك المعاصي ، فيكون أخص مورداً من الثاني ومساوياً للثالث. وهناك أقوال أخر ـ على تقدير ثبوتها ـ نادرة تأتي الإشارة إلى بعضها.

وكيف كان فقد استدل على الأول‌ بصحيح عبد الله بن أبي يعفور

__________________

(١) تقدمت الإشارة إلى مصدره قريباً.

٤٦

______________________________________________________

« قلت لأبي عبد الله (ع) : بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال (ع) : أن تعرفوه بالستر والعفاف ، وكف البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك. والدلالة على ذلك كله أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ... » (١). وتقريب الاستدلال به : أن ظاهر السؤال فيه وان كان السؤال عن الطريق إلى العدالة بعد معرفة مفهومها ، لكن يتعين حمله على السؤال عن مفهومها بقرينة ما في الجواب ، فان الستر والعفاف المذكورين فيه من سنخ الملكات ، وكف البطن وما بعده من سنخ الافعال ، فلو كان ذلك طريقاً إلى العدالة لزم كونها أمراً آخر وراء ما ذكر ، وهو مما لم يقل به أحد ، ولا يمكن الالتزام به ، فيتعين لذلك حمل السؤال على السؤال عن مفهومها ، لجهل السائل به الموجب للجهل بوجودها. ويشهد لذلك أيضاً قوله (ع) : « والدلالة على ... » ‌فإنه كالصريح في كونه وارداً لبيان الطريق. فان كان المراد منه بيان الطريق إلى العدالة ، فحمل الأول على بيان الطريق أيضاً يلزم منه أن يكون المقصود جعل طريقين إلى العدالة ، ولأجل أن الأول أخص يكون لغواً. وان كان المراد منه الطريق إلى الأول فيكون طريقاً الى الطريق فهو ـ مع بعده في نفسه ـ ينافيه قوله (ع) بعده : « ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته » فإنه ظاهر في كونه طريقاً إلى العدالة لا طريقا الى الطريق إليها. ويناسب ما ذكرنا جداً اختلاف التعبير ، فإنه عبر في الصدر بالمعرفة المشاكلة للتعبير في السؤال وفي الذيل بالدلالة المخالفة له ، فيدل ذلك كله على أن المعرفة في السؤال وفي الصدر بمعنى معرفة المفهوم ، وان الدلالة في الذيل بمعنى معرفة وجود‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٤١ من كتاب الشهادات حديث : ١.

٤٧

______________________________________________________

المفهوم. وبذلك تعرف أن قوله (ع) : « ويعرف باجتناب ... » متمم للتعريف الأول ، لا طريق اليه. ولا سيما بملاحظة ما بينهما من الاشتراك ، فان كف البطن ... راجع الى اجتناب جملة من الكبائر. ولأجل ذلك أيضا يمتنع أن يكون طريقاً إلى العدالة لو حمل الأول على بيان المفهوم.

والمتحصل مما ذكرنا : أن الرواية الشريفة صدر الجواب فيها ظاهر في بيان مفهوم العدالة ، وما بعده ظاهر في بيان الطريق الى المصداق ، فان حمل السؤال على السؤال عن المفهوم ـ بقرينة صدر الجواب ، لما بينه وبين السؤال من المشاكلة في التعبير ـ كان بيان الطريق في الذيل تفضلا من الامام (ع) ، وإن حمل على السؤال عن الطريق الى المصداق كان ما في الصدر من بيان المفهوم تفضلا أو تمهيداً للجواب.

ومن ذلك يظهر ضعف ما تقدم عن الحلي وغيره ، بل صريح الكفاية أنه الأشهر ، قال [ ره ] : « والأقرب الأشهر في معنى العدالة أن لا يكون مرتكباً للكبائر ولا مصراً على الصغائر » ، ونحوه في النسبة إلى الأشهر ما في البحار ومال اليه شيخنا الأعظم [ ره ] في صلاة الجماعة ، عملا بظاهر السؤال في كونه سؤالا عن الطريق إلى العدالة ، فيكون الستر والعفاف المذكوران في الجواب طريقاً إليها لا نفسها. ولا ينافيه قوله (ع) في الجواب : « ويعرف باجتناب ... » لأن المراد به الاجتناب الظاهر للناس عند معاشرته ، فيختص بالمعاصي الظاهرة مثل قتل المسلم ، وإهانة المؤمنين وشتمهم ونحو ذلك ، فيكون المقصود جعل الاجتناب عن هذه المعاصي طريقاً الى الاجتناب عن جميع المعاصي حتى الخفية ، مثل الإفطار في الخلوات ونكاح الحائض والسرقة عند الفرصة وبغض المؤمنين.

وتوضيح الاشكال عليه : أن كف البطن وما عطف عليه راجع الى الاجتناب عن جملة من الكبائر ، فإذا كان الستر والعفاف طريقاً إلى العدالة‌

٤٨

______________________________________________________

تعين أن يكون اجتناب المعاصي كذلك ، فكيف يمكن أن تكون نفس الاجتناب؟! مضافاً الى أن حمل الاجتناب في قوله (ع) : « ويعرف باجتناب ... » على الاجتناب الظاهر للناس عند المعاشرة خلاف الظاهر ، وخلاف ظاهر الكبائر في العموم للكبائر الخفية. مع أنه يلزم رجوعه الى قوله (ع) : « والدلالة على ... » لأن المراد منه الاجتناب في الظاهر وظاهر الرواية مخالفته له ، فان الدال غير المدلول عليه ، وجعل المدلول عليه نفس العدالة لا الاجتناب ـ فيكون الطريق إلى العدالة كلا من الأمرين ـ خلاف الظاهر جداً. مع أنه يلزم منه لغوية الثاني لكونه أخص.

نعم يبقى الإشكال في الرواية من جهة الاقتصار فيها على الستر والعفاف وعدم التعرض فيها لبقية الملكات الباعثة على التقوى. ومن جهة عدم التعرض فيها لفعل الواجبات. لكن لا يبعد ـ ولو بقرينة النصوص الأخر التي تشير الى بعضها ـ أن يكون المراد من الستر الاستحياء من فعل المعصية مطلقاً ، ومن العفاف التعفف عن عامة المعاصي. كما أنه لا يبعد أن يكون ترك ذكر الواجبات لأن ترك الواجبات من الكبائر ، كما في صحيح عبد العظيم [ ره ] (١) فيكون قد اكتفى عنه بذكر الكبائر. مع أن الإجماع على اعتبارها ، وما يظهر من مثل رواية علقمة (٢) الآتية‌ ، بل من ذيل الصحيح المذكور ـ فتأمل ـ كاف في إثبات اعتبارها فيها.

ومثل الصحيح المذكور‌ موثقة ابن أبي يعفور عن أخيه عن أبي جعفر (ع) : « تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر والعفاف مطيعات للأزواج تاركات البذاء والتبرج‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٤٦ من أبواب جهاد النفس حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٣.

٤٩

______________________________________________________

الى الرجال في أنديتهم » (١). ويعضدهما في الدلالة على اعتبار الملكة كثير من النصوص ، مثل ما دل على قبول شهادة الرجل لولده أو والده أو امرأته إذا كان خيراً‌ (٢) ، وما دل على قبول شهادة المكاري والجمال والملاح إذا كانوا صلحاء‌ (٣) ، وما دل على قبول شهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً‌ (٤) ، وما ورد في تفسير قوله تعالى ( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) : أنه ممن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته (٥) ... الى غير ذلك. وحمل هذه النصوص على كون الملكات المذكورة ملازمة لموضوع الحكم لا نفسه ، خلاف الظاهر ولا موجب له.

ومن ذلك كله يظهر لك أيضاً ضعف القول بكونها حسن الظاهر ـ كما نسب إلى جماعة ـ أو الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، كما عن ابن الجنيد وكتاب الاشراف للمفيد ، وان استدل لذلك‌ بصحيح حريز : « إذا كان أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعاً » (٦) وما‌ في صحيح ابن المغيرة : « كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته » (٧) ‌، ونحوه ما في غيره ، ومرسل يونس : « إذا كان ظاهره ظاهراً مأمونا جازت شهادته ، ولا يسأل عن باطنه » (٨) ‌، وما‌ في رواية علقمة : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٩.

(٢) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ٩.

(٣) الوسائل باب : ٣٤ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١.

(٤) الوسائل باب : ٢٩ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ٣.

(٥) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ٢٢.

(٦) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٧.

(٧) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ٥.

(٨) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ٣.

٥٠

______________________________________________________

أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر وشهادته مقبولة وان كان في نفسه مذنباً » (١) ... الى غير ذلك. فإنه مع إمكان المناقشة في دلالة بعضها يتعين حملها ـ بعد تقييد بعضها ببعض ـ على كون حسن الظاهر طريقاً إلى العدالة شرعياً ، جمعاً بينها وبين ما تقدم. كما يشهد به أيضاً ما‌ في رواية أحمد بن عامر الطائي قال رسول الله (ص) « من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته وظهرت عدالته » (٢) ونحوها رواية ابن سنان‌ (٣) ، فهذه النصوص واردة في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت. فلاحظ وتأمل. والله سبحانه ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثمَّ إن ملكة العدالة من الستر والعفاف والصلاح ونحوها مما ذكر في النصوص ذات مراتب متفاوتة جداً تفاوت سائر الملكات بالقوة والضعف ، يكفي في ثبوتها أدنى مراتبها ، ولا ينافي وجودها ارتكاب المعصية ولو كانت كبيرة لجواز غلبة المزاحم من قوتي الشهوة والغضب عليها ، كما لا ينافي وجود سائر الملكات ـ كملكتي الشجاعة والكرم ـ تخلف مقتضاها أحياناً ، ولذا قيل : « إن الجواد قد يكبو والسيف قد ينبو ». وليس المراد منها خصوص المرتبة العالية التي لا يتخلف مقتضاها ، ولا يغلبها المزاحم. فان ذلك خلاف إطلاق الأدلة ، ويستوجب ندرة وجودها جداً بل يمتنع إحراز وجود هذه المرتبة في أكثر الأعصار ، فيلزم منه تعطيل الاحكام واختلال النظام ، ولذا‌ قال الصادق (ع) في رواية علقمة : « لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء (ع)

__________________

(١) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٣.

(٢) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٤.

(٣) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٥.

٥١

______________________________________________________

لأنهم المعصومون دون سائر الخلق » (١). وقد ورد في جملة من النصوص قبول شهادة المحدود بعد توبته (٢) ، وجملة منها واردة في خصوص القاذف بعد التوبة (٣). وبالجملة : عدم اعتبار المرتبة العالية في ترتب أحكام العدالة مما لا ريب فيه إجماعا ونصاً وسيرة.

نعم لا يكفي أقل مراتب وجودها إذا كان بنحو لا يصدق الستر ، والعفاف والصلاح ، ونحو ذلك من العناوين المذكورة في النصوص التي تقدم بعضها. لظهور النصوص المذكورة في اعتبار الأوصاف المذكورة في العدالة مفهوما ـ كما عرفت ـ بحيث لا تصدق مع فقدها وان كان للمكلف حالة تبعثه على فعل الطاعة ، كما هو الحال في كثير من الفساق ، فان التدين بالدين الإسلامي. واعتقاد المعاد ، والثواب ، والعقاب ، والجزاء على الأعمال ـ إن خيراً فخير وان شراً فشر ـ يستوجب حدوث حالة مقتضية لفعل الطاعات ، والانزجار عن المعاصي ، لكنها فيهم مغلوبة للقوى المزاحمة ، فكلما عرضت لهم المعصية وقعوا فيها ، لقوة الشهوة أو الغضب فيهم على نحو تغلب تلك الحال الخاصة المقتضية للطاعة ، ومع سكون القوة المزاحمة من الشهوة والغضب يحصل لهم حالة الندم مع الالتفات الى تقصيرهم. لكن لما كان ذلك غالبياً لهم لا يصدق في حقهم الستر والعفاف والصلاح ونحو ذلك ، بل يصدق خلافها.

نعم لو كان ذلك ـ أعني الوقوع في المعصية ـ نادراً لقلة الابتلاء ، أو لقصور الفاعل عن الفعل الحرام ، أو لضعف الشهوة المزاحمة ـ لمرض أو هرم أو تشويش بال أو نحو ذلك ـ كفى ذلك في صدق الستر ونحوه‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٤١ من أبواب كتاب الشهادات حديث : ١٣.

(٢) الوسائل باب : ٣٧ من كتاب الشهادات.

(٣) الوسائل باب : ٣٦ من كتاب الشهادات.

٥٢

______________________________________________________

عرفا ، وتحققت العدالة ، وجاز ترتيب أحكامها ، كما يوجد في كثير من النساء والفقراء ، فان سترهم وعفافهم لا يكون لقوة الملكة الباعثة على التقوى ، بل لفقد المزاحم. ومن ذلك تعرف أن العدالة في الملوك ونحوهم من أهل الحول والطول إنما تكون ـ غالباً ـ لقوة الحال الباعثة ، وفي غيرهم من الضعفاء قد تكون لذلك ، وقد تكون لعدم المزاحم للحال الباعثة على التقوى مع كونها ضعيفة جداً.

والمتحصل مما ذكرنا أمور : [ الأول ] : اعتبار الملكة في العدالة. [ الثاني ] : عدم اعتبار كونها بمرتبة لا يغلبها المزاحم بنحو يستوجب العصمة. [ الثالث ] : أنه لا يكفي أدنى مراتبها إذا كان بنحو لا يصدق الستر والصلاح. [ الرابع ] : أن من لوازم الملكة المذكورة حصول الندم بعد فعل المعصية والالتفات الى ذلك ، وان كانت الملكة بمرتبة دانية ضعيفة جداً ، فاذا لم يحصل الندم بعد الالتفات الى فعل المعصية كشف ذلك عن عدم الملكة كما يتفق ذلك نادراً من بعض الفساق المتمردين.

هذا والمراد باجتناب المعاصي المعتبر في العدالة نصاً وإجماعاً ـ كما عرفت ـ أن لا يكون مطالباً بالمعصية حال الابتلاء ببعض آثار العدالة وأحكامها ـ كالايتمام والشهادة والولاية وغيرها ـ اما بأن لا يكون عاصياً أصلا ، أو يكون عاصياً فيتوب. للإجماع والنصوص على عدم جواز ترتيب آثار العدالة على العصاة قبل التوبة وجواز ترتيبها بعدها‌ (١). ويشهد به أيضاً قوله تعالى ( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ) (٢) وبمضمونها جملة من النصوص أشرنا إلى بعضها آنفاً ،

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، ومن باب : ٣٠ الى : ٣٧ ، وباب : ٤١ من كتاب الشهادات.

(٢) النور : ٤ ـ ٥.

٥٣

وتعرف بحسن الظاهر الكاشف [١] عنها علماً أو ظناً ، وتثبت بشهادة العدلين وبالشياع المفيد للعلم.

______________________________________________________

وهي مذكورة في بعض أبواب شهادات الوسائل فراجعها. مضافا الى ما دل على قبول التوبة ، وأنها ماحية للذنوب ، من الآيات (١) والروايات‌ (٢). فلاحظ وتأمل.

هذا وفي المقام مباحث شريفة ، منها البحث عن اعتبار الاجتناب عن منافيات المروءة في العدالة ، والبحث عن انقسام المعصية إلى كبيرة وصغيرة ، والميزان الفارق بينهما ، وطريق إثبات كون المعصية كبيرة ، وغير ذلك. تركنا التعرض لها اعتماداً على التعرض لها عند تعرض المصنف [ ره ] في شرائط الإمام من مباحث صلاة الجماعة. والله سبحانه ولي التوفيق.

[١] اعلم أن الطريق إلى إثبات العدالة أمور : الأول : العلم الوجداني ، سواء أحصل من حسن الظاهر ، أم من الشياع ، أم من غيرهما. ولا إشكال في كونه طريقاً إليها ، لكونه حجة بالذات في نظر العقل ، كما هو محرر في محله.

الثاني : البينة بلا إشكال ظاهر ، وهو واضح بناء على عموم حجيتها ، كما سيأتي تقريبه في مباحث المياه (٣) إن شاء الله. أما بناء على عدمه فقد تستفاد حجيتها في المقام ـ مما في ذيل صحيح ابن أبي يعفور المتقدم (٤) من‌ قوله (ع) : « فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا ما رأينا منه إلا‌

__________________

(١) وهي كثيرة يسهل الاطلاع عليها بالاستعانة بمعاجم الآيات.

(٢) الوسائل باب : ٤٧ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٨٩ ، ٩٢ من أبواب جهاد النفس ويوجد في أبواب أخر أيضاً.

(٣) في مسألة : ٦ من الفصل المتعرض لأحكام البشر.

(٤) راجع أوائل شرح المسألة السابقة.

٥٤

______________________________________________________

خيراً » بضميمة الإجماع على عدم اعتبار أكثر من البينة ، ومما‌ في خبر جابر عن أبي جعفر (ع) : « شهادة القابلة جائزة على أنه استهل أو برز ميتاً إذا سئل عنها فعدلت » (١) ‌، وما‌ في رواية علقمة « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر » (٢) ـ بالفحوى ، أو بضميمة عدم الفصل بين الفسق والعدالة. هذا وفي اعتبار حصول الوثوق بصدقها ، أو الظن به ، أو عدم الظن بالخلاف ، أو عدم اعتبار شي‌ء من ذلك ، وجوه مبنية على ثبوت إطلاق يعتمد عليه في إثبات الحجية وعدم انصرافه إلى شي‌ء من ذلك ، وعدمه. والظاهر عدم الفرق بين الشهادة الفعلية والقولية.

الثالث : حسن الظاهر. ويشهد له كثير من النصوص المتقدم بعضها (٣) مثل ما في صحيح ابن أبي يعفور من‌ قوله (ع) : « والدلالة على ذلك ... » وما في رواية علقمة‌، وما في رواية أحمد بن عامر الطائي‌ وما في رواية ابن سنان‌، وغيرها. ومقتضى إطلاقها حجية حسن الظاهر وان لم يفد الظن بل وان كان الظن على خلافه. لكن يجب تقييدها بما‌ في مرسل يونس من قول الصادق (ع) : « فاذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه » (٤). وإرساله لا يقدح بعد كون المرسل من أصحاب الإجماع ، ورواية المشايخ الثلاثة ـ قدس‌سرهم ـ له في كتبهم بأسانيد مختلفة ، وفيهم جماعة من الأعاظم ، كأحمد بن محمد ابن عيسى ، وعلي بن إبراهيم وغيرهما ، واعتماد المشهور عليه في بعض‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢٤ من كتاب الشهادات حديث : ٣٩.

(٢) الوسائل باب : ٤١ من كتاب الشهادات حديث : ١٣.

(٣) في شرح المسألة السابقة.

(٤) الوسائل باب : ٤١ من كتاب الشهادات حديث : ٣.

٥٥

______________________________________________________

مضمونه ، فان مجموع ذلك مما يستوجب الوثوق المدخل له تحت دليل الحجية. وأما التقييد بالظن ـ كما في المتن ـ فليس عليه دليل ظاهر. وأما‌ خبر إبراهيم الكرخي « من صلى خمس صلوات في اليوم والليلة في جماعة فظنوا به خيراً وأجيزوا شهادته » (١). فالأمر فيه بالظن وان كان ظاهراً في لزوم ترتيب أثر الظن ، لكنه لا يقتضي تقييد حجية الظاهر بالظن ، وإنما يدل على حجية الظاهر كالظن ، فهو بإطلاقه من أدلة حجية الظاهر مطلقاً كالظن ، ولا يصلح لتقييد حجيته بالظن. ولا يبعد أن يكون المراد من كونه مأموناً كونه موجباً للأمن فعلا ، والحمل على الأمن النوعي محتاج إلى قرينة مفقودة.

الرابع : الوثوق بها وان لم يكن مستنداً الى ظاهر حسن. وقد يشهد له‌ رواية أبي علي بن راشد : « لا تصل إلى خلف من تثق بدينه » (٢) ونحوها رواية يزيد بن حماد‌ (٣). لكن مع أن المنصرف اليه من الدين الأصول لا الفروع ، محمول على ذلك بقرينة السؤال. نعم‌ رواها الشيخ [ قده ] بزيادة « وأمانته » ولا يجري فيها الاشكال المذكور. لكن التعدي عن الايتمام إلى سائر الاحكام لا يخلو من تأمل. وان كان هو الأقرب ، ولا سيما بملاحظة مرسل يونس المتقدم‌، فان الارتكاز العقلائي يناسب كون الوجه في الحجية هو الأمن لا الخصوصية في حسن الظاهر. فلاحظ.

وعن بعض : حجية مطلق الظن. وكأنه لرواية إبراهيم الكرخي‌. وقريب منه مرسل الفقيه : « من صلى الصلوات الخمس في جماعة فظنوا به كل خير » (٤). وفيه : أنه لو تمَّ حمل الظن على ما هو محل الكلام‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٤١ من كتاب الشهادات حديث : ١٢.

(٢) الوسائل باب : ١١ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ٨.

(٣) الوسائل باب : ١٢ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ١.

(٤) الوسائل باب : ١ من أبواب صلاة الجماعة حديث : ٦.

٥٦

[ مسألة ٢٤ ] : إذا عرض للمجتهد ما يوجب فقده للشرائط يجب على المقلد العدول الى غيره [١].

[ مسألة ٢٥ ] : إذا قلد من لم يكن جامعاً ومضى عليه برهة من الزمان كان كمن لم يقلد أصلا [٢].

______________________________________________________

يتعين تقييده بخبر ابن راشد بل ومرسل يونس بالأولوية ، فيحمل على الظن الاطمئناني.

وأما الشياع الموجب للعلم : فليس بحجة ، وانما الحجة هو العلم لا غير كما تقدم في نظيره.

والمتحصل مما ذكر : أن طرق العدالة ثلاثة : العلم ، والبينة ، والوثوق ، سواء أحصل من حسن الظاهر أم من غيره. ومنه تعرف الاشكال فيما ذكره المصنف [ قده ] عبارة ومؤدى. والله سبحانه الهادي.

[١] قال في الفصول : « ولو تسافل المجتهد عن الاجتهاد ، أو صار مجنونا مطبقاً ، ففي إلحاقه بالميت في الحكم السابق وجهان أظهرهما ذلك ... » ‌ولكن الذي يظهر من بعض أدلة وجوب العدول عن الميت : أن وجوب العدول هنا من المسلمات. والذي تقتضيه القواعد ما ذكره في الفصول ، وكذا في بقية موارد طروء فقد الشرائط ، إذ أكثر ما تقدم في جواز البقاء على تقليد الميت جار بعينه هنا. نعم لا يطرد بعضه في المقام ، ولكن ذلك لا يهم بعد اطراد غيره. فما لم ينعقد إجماع معتبر على وجوب العدول ينبغي الرجوع الى ما تقدم في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت (١) ، فإن المسألتين من باب واحد.

[٢] لبطلان التقليد بفقد شرطه.

__________________

(١) راجع المسألة : ٩.

٥٧

فحاله حال الجاهل القاصر أو [١] المقصر.

[ مسألة ٢٦ ] : إذا قلد من يحرّم البقاء على تقليد الميت فمات ، وقلد من يجوّز البقاء ، له أن يبقى على تقليد الأول في جميع المسائل إلا مسألة حرمة البقاء [٢].

[ مسألة ٢٧ ] : يجب على المكلف العلم بأجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ومقدماتها [٣] ، ولو لم يعلمها لكن علم إجمالا أن عمله واجد لجميع الاجزاء والشرائط وفاقد للموانع صح [٤] وان لم يعلمها تفصيلا.

[ مسألة ٢٨ ] : يجب تعلم مسائل الشك والسهو بالمقدار الذي هو محل الابتلاء غالباً [٥]. نعم لو اطمأن من نفسه أنه لا يبتلي بالشك والسهو صح عمله [٦] وان لم يحصل العلم بأحكامهما.

______________________________________________________

[١] حرف العطف للتقسيم لا للترديد.

[٢] كما تقدم في المسألة الخامسة عشرة.

[٣] هذا الوجوب عقلي أو فطري ، لتوقف العلم بالفراغ عليه ، وهو واجب عقلا أو فطرة ، كما تقدم في أول الكتاب.

[٤] لحصول العلم بالفراغ ولو إجمالا ، وهو كاف في نظر العقل. نعم بناء على اعتبار التمييز في حصول الامتثال في العبادات وجب العلم التفصيلي بإجزاء العبادة وشرائطها وموانعها. لكن التحقيق عدم اعتبار ذلك في العبادية عند العقلاء. مع أن الشك كاف في عدم الاعتبار بناء على التحقيق من الرجوع إلى البراءة في مثله.

[٥] هذا الوجوب كسابقه.

[٦] وكذا لو لم يطمئن فاتفق عدم الابتلاء بها ، أو ابتلي بها فعمل‌

٥٨

[ مسألة ٢٩ ] : كما يجب التقليد في الواجبات والمحرمات يجب في المستحبات ، والمكروهات والمباحات [١]. بل يجب تعلم حكم كل فعل يصدر منه سواء كان من العبادات أو المعاملات أو العاديات.

______________________________________________________

على أحد الاحتمالات فاتفق كونه مطابقاً للواقع أو للحجة. لما عرفت من الاجتزاء عقلا بالعمل المعلوم كونه مطابقاً للواقع أو قامت الحجة على ذلك. وأما الاطمئنان بعدم الابتلاء فلا أثر له في الصحة ، كما تقدم في المسألة السادسة عشرة. نعم له دخل في نفي العقاب ، فلو احتمل الابتلاء فلما ابتلي بالواقعة احتمل التكليف بأحد الوجوه مثل حرمة قطع الفريضة ، فإنه لو قطعها حينئذ كان آثماً في نظر العقل ، لأنه مقدم على مخالفة التكليف المحتمل المنجز على تقدير ثبوته. نعم مع الاطمئنان بعدم الابتلاء لو اتفق الابتلاء فعمل على أحد الوجوه في موارد الدوران بين المحذورين كان معذوراً في نظر العقلاء ، كما هو كذلك في سائر موارد الدوران بين المحذورين بعد الفحص واليأس. فحكم العمل قبل الفحص مع الاطمئنان بعدم الابتلاء حكم العمل بعد الفحص واليأس عن الدليل في عدم استحقاق العقاب.

[١] لا يخفى أن الفتوى [ تارة ] : تكون حجة للمكلف لا غير ، كما لو كان مفادها حكما غير لزومي. كالإباحة أو الاستحباب أو الكراهة فإنها حينئذ تكون حجة للعبد على نفي الحكم اللزومي كالحرمة والوجوب. [ وأخرى ] : تكون حجة عليه لا غير ، كما لو كان مفادها حكما لزومياً مع عدم احتمال حكم لزومي على خلافه ، كما لو كان مفادها وجوب فعل مع عدم احتمال الحرمة أو بالعكس. [ وثالثة ] : تكون حجة له وعليه كما لو كان مفادها حكما لزومياً مع احتمال حكم لزومي على خلافه ، كما لو أفتي بالوجوب مع احتمال الحرمة ، فإن الفتوى تكون للمولى حجة على‌

٥٩

[ مسألة ٣٠ ] : إذا علم أن الفعل الفلاني ليس حراما ولم يعلم أنه واجب أو مباح أو مستحب أو مكروه ، يجوز له أن يأتي به لاحتمال كونه مطلوبا وبرجاء الثواب [١]. وإذا علم أنه ليس بواجب ، ولم يعلم أنه حرام أو مكروه أو مباح ، له أن يتركه لاحتمال كونه مبغوضاً.

______________________________________________________

الوجوب ، وللعبد حجة على نفي الحرمة. ولو أفتى بالحرمة مع احتمال الوجوب كان الأمر بالعكس. وربما لا تكون الفتوى حجة للمكلف ولا عليه ، كما لو أفتى بالإباحة مع العلم بانتفاء الوجوب والحرمة ، فإن مثل هذه الفتوى لا يصح اعتبار الحجية لها لا للمولى ولا للعبد. هذا كله بلحاظ العمل ، وأما بلحاظ التشريع فيصح اعتبار الحجية لها على أن تكون حجة للعبد في جواز اعتقاد الإباحة ، إذ لولاها كان اعتقاد الإباحة تشريعاً محرما.

وحينئذ نقول : يجب التقليد في جميع الأحكام ـ إلزامية كانت أم غيرها ـ من حيث جواز الالتزام بها ونفي التشريع. وأما من حيث العمل فان لم تكن الفتوى حجة على العبد ولا له لم يجب التقليد ، وان كانت حجة له ـ سواء أكانت حجة عليه أم لا ـ يجب التقليد ، سواء اكان هو الالتزام أم العمل ، اعتماداً على الفتوى ، لتوقف الأمن من العقاب عليه. وان كانت الفتوى حجة عليه لا غير لم يجب التقليد ، إذ لا أثر له في الأمن من العقاب ، لكون المفروض عدم كون الفتوى حجة له. وان شئت قلت : إذا كان مفاد الفتوى مطابقاً للاحتياط المطلق لا يجب التقليد لأنه لغو. وان كان مفادها مخالفا للاحتياط المطلق أو للاحتياط من وجه يجب التقليد. وان لم يكن المورد من موارد الاحتياط لا يجب التقليد ، لأنه لغو أيضا. فلاحظ وتأمل.

[١] الحكم المذكور مبني على جواز الامتثال الإجمالي مع التمكن من‌

٦٠