مستمسك العروة الوثقى - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١١

بل مطلق المسوخات [١]. وان كان الأقوى طهارة الجميع [٢]

______________________________________________________

وللنجاسة في العقرب‌ موثق سماعة الوارد في الخنفساء تقع في الماء. قال (ع) : « وان كان عقربا فارق الماء وتوضأ من ماء غيره » (١).

[١] فعن أطعمة الخلاف نجاستها كلها ، وكذا عن بيعه ، وبيع المبسوط وفي الجواهر : « لم نعرف له دليلا على النجاسة بالمعنى المعروف ».

[٢] كما هو المشهور ، بل الظاهر إجماع المتأخرين عليه. ويشهد له‌ صحيح أبي العباس البقباق عن الصادق (ع) : « سألت أبا عبد الله (ع) عن فضل الهرة والشاة ، والبقر ، والإبل ، والحمار ، والخيل ، والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلا سألته عنه. فقال (ع) : لا بأس. حتى انتهيت إلى الكلب فقال (ع) : رجس نجس ... » (٢). وغيره من النصوص ، المتقدم بعضها في الأسئار ، وخصوص ما ورد في الفأرة التي تقع في السمن والزيت‌ ، أو الدهن‌ أو الماء‌ (٣) ، مما دل على طهارة ما تقع فيه ، وما ورد في الوزغ يقع في الماء ، كصحيح ابن جعفر‌ ، والعقرب ، كخبر هارون بن حمزة الغنوي‌ ، وغيرهما مما ورد في كثير من المسوخات.

نعم لم أعثر عاجلا على ما يدل على طهارة الأولين صريحاً. وعموم صحيح البقباق المتقدم قابل للتخصيص بغيرهما قبوله للتخصيص بغير الخنزير. نعم يمكن استفادة طهارتهما مما دل على قبولهما للتذكية من النصوص الواردة في الصلاة في جلدهما منعاً وجوازاً ، لعدم وقوع التذكية على نجس العين قطعاً. إلا أن الذي يهون الخطب عدم حجية مرسل يونس ، لضعفه في نفسه ، واعراض الأصحاب عن العمل به. فالمرجع فيهما أصل الطهارة.

__________________

(١) الوسائل باب : ٩ من أبواب الأسئار حديث : ٦.

(٢) الوسائل باب : ١ من أبواب الأسئار حديث : ٤.

(٣) راجع الوسائل باب : ٩ من أبواب الأسئار.

٤٤١

[ مسألة ٢ ] : كل مشكوك طاهر [١] ، سواء كانت الشبهة لاحتمال كونه من الأعيان النجسة ، أو لاحتمال تنجسه‌

______________________________________________________

وكذا في عامة المسوخات. مع ورود النص بطهارة كثير منها ، وكون الطهارة في بعضها ضرورية. وقد وردت جملة من النصوص في تعدادها. فلاحظ أول أطعمة الوسائل.

[١] بلا خلاف ظاهر. لموثق عمار المروي في أبواب النجاسات من الوسائل عن التهذيب عن أبي عبد الله (ع) : « كل شي‌ء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فاذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك » (١). وفي خبر حفص بن غياث عن جعفر (ع) : عن أبيه (ع) : عن علي (ع) : « ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم » (٢). وفي موثق عمار فيمن رأى في إنائه فأرة ، وقد توضأ منه مراراً أو اغتسل أو غسل ثيابه ، فقال (ع) : « إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ، ثمَّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ، ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ، ويعيد الوضوء والصلاة. وإن كان إنما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله ، فلا يمس من الماء شيئاً ، وليس عليه شي‌ء ، لأنه لا يعلم متى سقط فيه. ثمَّ قال (ع) : لعله أن يكون إنما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها » (٣). فان المورد وان كان مورد قاعدة الفراغ ، لكن التعليل يشهد بأن احتمال الطهارة كاف في البناء عليها مع قطع النظر عن القاعدة. هذا ومقتضى إطلاق الأول عدم الفرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية ، وبين النجاسة الذاتية والعرضية ، كما أشار إليه في المتن.

__________________

(١) الوسائل باب : ٣٧ من أبواب النجاسات حديث : ٤.

(٢) الوسائل باب : ٣٧ من أبواب النجاسات حديث : ٥.

(٣) الوسائل باب : ٤ من أبواب الماء المطلق حديث : ١.

٤٤٢

مع كونه من الأعيان الطاهرة. والقول : بأن الدم المشكوك كونه من القسم الطاهر أو النجس محكوم بالنجاسة ، ضعيف [١] نعم يستثنى مما ذكرنا الرطوبة الخارجة بعد البول قبل الاستبراء بالخرطات ، أو بعد خروج المني قبل الاستبراء بالبول ، فإنها ـ مع الشك ـ محكومة بالنجاسة [٢].

[ مسألة ٣ ] : الأقوى طهارة غسالة الحمام ، وإن ظن نجاستها [٣]. لكن الأحوط الاجتناب عنها.

______________________________________________________

[١] كما تقدم هو ووجهه وضعفه في المسألة السابعة من بحث الدم.

[٢] لظهور النصوص الآتي ذكرها في محله ، في كونه بولا ، أو منياً تعبداً فيترتب عليه جميع آثاره ، وان كان مقتضى الأصل فيه الطهارة.

[٣] كما عن المنتهى ، وجامع المقاصد ، ومجمع البرهان ، والمعالم ، والدلائل ، بل عن روض الجنان ذلك ، إلا أنه قال : « إن لم يثبت إجماع على خلافه ». وعن الإرشاد النجاسة ، وعن حاشيته للكركي : أنه المشهور وكذا عن روض الجنان ، وفي الكفاية ، وعن الصدوقين : المنع من جواز التطهير بها ، وعن النهاية والسرائر : « لا يجوز استعمالها على حال » ، بل عن السرائر : أنه إجماع ، وقد وردت به عن الأئمة آثار معتمدة ، قد أجمع الأصحاب عليها لا أجد من خالف فيها انتهى. وقد استظهر من عبارتي النهاية والسرائر الطهارة. كما أن عبارات المعتبر لا تخلو من اضطراب ، فبعضها ظاهر في النجاسة ، إلا أن يعلم بخلوها عن النجاسة ، وبعضها ظاهر في الطهارة إلا أن يعلم بملاقاة النجاسة. وكيف كان فلا ينبغي التأمل في النجاسة إذا علم بملاقاتها للنجاسة ، كما لا ينبغي التأمل في الطهارة مع العلم بعدم ملاقاتها لها. وما في عبارة النهاية والسرائر من قولهما : « لا يجوز‌

٤٤٣

______________________________________________________

استعمالها على حال » غير ظاهر في المنع ، حتى مع العلم بعدم الملاقاة للنجاسة وان كان ظاهر المعتبر أنه فهم ذلك ، لكنه ينافيه تمسك السرائر بالرواية وليس في الروايات ما يدل على ذلك. فكأن المراد من قولهما : « على حال » يعني : حال الاختيار والضرورة ، أو نحو ذلك.

وكيف كان فالروايات الواردة في الباب ـ كرواية حمزة بن أحمد ، عن أبي الحسن الأول (ع) وفيها : « ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا ـ أهل البيت ـ وهو شرهم » ونحوها رواية محمد بن علي بن جعفر‌ ، ورواية علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن (ع) : ومرسلة الكافي عن ابن جمهور عن محمد بن القاسم عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع) : وموثقة ابن أبي يعفور عنه (ع) (١) ـ مع اشتمال بعضها على الجنب من الحرام ، أو من الزنا ، وبعضها على غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي ـ غير صالحة لإثبات النجاسة ، للاقتصار فيها على النهي عن الاغتسال. وهو أعم من النجاسة. ولا سيما بملاحظة أن ماء غسل الجنب ـ حتى من الحرام ـ طاهر. ولا سيما أيضاً بملاحظة اشتمالها على التعليل : بأن ولد الزنا لا يطهر إلى سبعة آباء ، فان ذلك كله شاهد على الخبث المعنوي لا النجاسة. ولا ينافي ذلك ذكر الناصب واليهودي والنصراني والمجوسي فيها لإمكان طهارة الماء المجتمع ، لاتصاله بما يجري عليه من أرض الحمام المتصل بما في الحياض المتصل بالمادة.

ولو بني على الغض عن ذلك ، كانت الروايات مختصة بصورة الملاقاة للنجاسة ، فالاستدلال بها على النجاسة في صورة الشك في ملاقاة النجاسة غير ظاهر ، فضلا عن صورة العلم بعدم الملاقاة لها. ولو فرض كون‌

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، تجدها بأجمعها هناك.

٤٤٤

______________________________________________________

موردها صورة مظنة الملاقاة ـ كما لا يبعد ـ اختصت الدلالة على النجاسة بالصورة المذكورة ، فلا تشمل صورة الاحتمال البعيد ، فضلا عن صورة العلم بالعدم.

هذا كله مضافا إلى معارضتها‌ بمرسلة أبي يحيى الواسطي ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن الماضي (ع) : « سئل عن مجتمع الماء في الحمام من غسالة الناس يصيب الثوب قال (ع) لا بأس » (١) اللهم إلا أن يشكل بضعف السند بالإرسال ، وعدم ثبوت الجابر. فالعمدة حينئذ مفاد النصوص المتقدمة.

والمتحصل مما ذكرنا : أن مقتضى الجمود على ما تحت عبارة النصوص أنها في مقام جعل حكم واقعي للماء الذي يغتسل به الجنب من الحرام وغيره من الموارد المذكورة فيها ، وهو النهي عن الاغتسال به ، ولو مزج بغيره واتصل بالمادة. لخباثته المعنوية. ونجاسة بعض الموارد المذكورة فيها لا تقدح لاحتمال طهارة الماء المجتمع منها ، لاتصاله بالمادة ، فإن الاحتمال كاف في ذلك ، لإجمال حال الحمامات الكائنة في زمان صدور النصوص الشريفة المذكورة ، التي هي الملحوظة ظاهراً في هذه النصوص ـ كما تقدم ذلك في مباحث ماء الحمام ـ ولا سيما مع جريان العادة بذلك ، فإنها قاضية باتصال ماء الغسالة بالمادة غالباً. وقد يظهر ذلك من بعض النصوص أيضاً. ويشهد بذلك أنه قد تقدم عدم جواز الاغتسال بما يغتسل به الجنب مطلقاً ، ولو كان من الأولياء الصالحين ، فتعليل النهى عن الاغتسال بما ذكر من الجهة العرضية ، يقتضي عدم وجود الجهة الذاتية ، لخلو مورد النصوص عنها.

وبالجملة : لو كان المانع هو النجاسة لم يكن وجه لذكر الجنب ولو من الحرام ، فان غسالته طاهرة إجماعا ، ولو كان من جهة أنه ماء غسل‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث : ٩.

٤٤٥

[ مسألة ٤ ] : يستحب رش الماء [١] إذا أراد أن يصلي في معابد اليهود والنصارى‌

______________________________________________________

الجنابة ، لم يكن وجه للتعليل بكونه غسالة الناصب واليهودي ونحوهما ، فلا بد أن يكون المنع لجهة أخرى ، ولا يكون ذلك إلا لخروجها عن مورد الحكمين المذكورين ـ أعنى : عدم جواز الاغتسال بالنجس ، وعدم جواز الاغتسال بغسالة الجنب ـ بأن تكون الغسالة متصلة بالمادة معتصمة ، فلا تكون مورداً للحكمين المذكورين. ولو بني على ملاحظة المناسبات الخارجية العرفية المقتضية لصرف الكلام عن صورة العلم ، وأن موردها صورة المعرضية لذلك ، فمفادها حكم ظاهري ، وهو أيضاً مجرد المنع عن الاغتسال ظاهراً فالاستدلال بها على النجاسة غير واضح.

ويحتمل ـ قويا ـ أن يكون المراد من الاغتسال مجرد غسل البدن ويكون المقصود من النهي الردع عما كان عليه بناء المخالفين ، من الاستشفاء بذلك الماء المجتمع ، كما ذكر في بعض الروايات (١). ويؤيد ذلك أن من البعيد جداً أن يحصل داع إلى الاغتسال العبادي بذلك الماء المجتمع ، مع ما هو عليه من الاستقذار والاستنفار مع تهيؤ الماء النزيه كما هو الغالب ، لو لم يكن دائما ، فليس الغسل بهذا الماء إلا لدواع أخرى من العلاج ، أو الاستشفاء. وقد شاهدنا كثيراً من الناس في الأيام القريبة يعتقدون أن في ماء خزانة الحمام علاج القروح والجروح ، فالمظنون ـ قويا ـ أن النصوص المذكورة واردة للزجر عن هذا التوهم ، وليست في مقام جعل حكم شرعي. فلاحظ.

[١] في صحيح ابن سنان عن الصادق (ع) : « سألته عن الصلاة في البيع ، والكنائس ، وبيوت المجوس. فقال (ع) : رش وصل » (٢)

__________________

(١) الوسائل باب : ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ١٣ من أبواب مكان المصلي حديث : ٤.

٤٤٦

يصلي في معابد اليهود والنصارى [١] مع الشك في نجاستها ، وان كانت محكومة بالطهارة.

[ مسألة ٥ ] : في الشك في الطهارة والنجاسة لا يجب الفحص [٢] ، بل يبنى على الطهارة إذا لم يكن مسبوقا بالنجاسة ولو أمكن حصول العلم بالحال في الحال.

فصل

طريق ثبوت النجاسة أو التنجس العلم الوجداني ، أو البينة العادلة [٣] وفي كفاية العدل الواحد إشكال [٤]. فلا‌

______________________________________________________

ونحوه غيره. والظاهر التسالم على استحباب الرش ، كاختصاصه بصورة توهم النجاسة.

[١] وبيوت المجوس ، كما في النص المتقدم.

[٢] الظاهر أنه إجماع لإطلاق موثق عمار المتقدم (١) ، ونحوه مما دل على قاعدة الطهارة ، من دون ما يوجب تخصيصه بما بعد الفحص كما ثبت في بعض الموارد.

فصل‌

[٣] بناء على عموم حجيتها للمقام ، كما تقدم تقريبه في مباحث المياه (٢).

[٤] تقدم وجهه هناك أيضاً.

__________________

(١) تقدم في المسألة الثانية من مبحث نجاسة عرق الإبل الجلالة.

(٢) تقدم الكلام في جميع الطرق في مسألة : ٦ من الفصل المتعرض فيه لأحكام البئر.

٤٤٧

يترك مراعاة الاحتياط. وتثبت أيضاً بقول صاحب اليد [١] ، بملك ، أو إجارة ، أو إعارة ، أو أمانة ، بل أو غصب ، ولا اعتبار بمطلق الظن [٢] ، وان كان قويا ، فالدهن ، واللبن والجبن المأخوذ من أهل البوادي ، محكوم بالطهارة [٣] ، وان حصل الظن بنجاستها. بل قد يقال بعدم رجحان الاحتياط بالاجتناب عنها [٤] ،

______________________________________________________

[١] تقدم في مباحث المياه الكلام في وجهه. وأن العمدة فيه السيرة. مضافا في بعض الموارد إلى بعض النصوص الواردة فيه ، كالنصوص الواردة في البختج‌ ، والواردة في إقرار ذي اليد ، بأن ما في يده لغيره فراجع.

[٢] لأصالة عدم الحجية. وقد تقدم في مباحث المياه نقل القول باعتباره عن النهاية والحلبي. وتقدم وجه ذلك وضعفه.

[٣] لاستصحاب الطهارة.

[٤] لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا ، لأنه انقياد الى المولى سبحانه. نعم قد يزاحم الاحتياط من جهة الاحتياط من جهة أخرى ، مساو له ، فلا يكون الاحتياط راجحاً عقلا ، أو أهم ، فيكون الأول مرجوحا عقلا. وقد ينطبق عليه عنوان مكروه أو يؤدي الاحتياط اليه ، فيكون مكروها شرعا. أو ينطبق عليه عنوان محرم ، أو يؤدي إليه ، فيكون حراما شرعا. ومنه أن يؤدي الى الوسواس المؤدي إلى العمل على طبقه ، فان الظاهر أنه لا إشكال في حرمة العمل على طبق الوسواس ، فيحرم الوسواس نفسه إذا كان يؤدي الى العمل على طبقه كما هو القاعدة في كل فعل يعلم بترتب الحرام عليه ولو بالاختيار. مثل ما إذا علم أنه إذا دخل مجلس الشراب يختار شرب المسكر ، فإنه يحرم الدخول إلى المجلس حينئذ. وكذلك في المقام إذا علم أنه إذا حصل له الوسواس عمل‌

٤٤٨

بل قد يكره ، أو يحرم إذا كان في معرض حصول الوسواس [١].

[ مسألة ١ ] : لا اعتبار بعلم الوسواسي في الطهارة والنجاسة [٢].

______________________________________________________

على طبقه فيحرم عليه حصول الوسواس ، فيحرم ما يؤدي إليه.

[١] مجرد المعرضية للمقدمية للحرام لا توجب حرمة المقدمة ، إلا أن يكون الحرام بالغا في الاهتمام حدا يستوجب الحذر من الوقوع فيه ، ومنه الضرر في النفس ، فان الظاهر التسالم على حرمة ما يظن ترتب الضرر عليه فلاحظ كلماتهم في كتاب الصوم. بل ظاهر‌ صحيحة حريز : « الصائم إذا خاف على عينه من الرمد أفطر » (١) وجوب الإفطار بمجرد احتمال الضرر ، احتمالا معتدا به ، بنحو يصدق معه الخوف. اللهم إلا أن يكون الأمر بالإفطار للرخصة ، لكون المورد من موارد توهم الحرمة ، فلا تدل الصحيحة على الوجوب. هذا وثبوت الأهمية لحرمة الوسواس على نحو يستوجب الحذر غير ظاهر. كما أن كون الوسواس من قبيل الضرر على النفس الذي يحرم الوقوع فيه لا يخلو من تأمل.

[٢] الوسواس من الحالات النفسانية ذات المراتب المختلفة. والظاهر أن أول مراتبه يمنع من إذعان النفس بالمعلومات مع حصول العلم بها ، وأعلى منه أن يمنع من حصول العلم من أسبابه الحاصل له في المتعارف ، وأعلى منه أن يوجب حصول العلم بالخلاف من أسباب خيالية غير حاصلة في الخارج ، مثل ما يحكى عن بعض أهل الوسواس من أنه يطهر يده من فوق السطح إلى أرض الدار ، فيعلم أن الماء النازل من يده الى الأرض قد نزى فأصاب بعض جسده. ومثل هذا العلم هو محل الكلام في هذه المسألة ، فنقول : قد تحقق في محله أن العلم بذاته حجة ـ عقلا ـ تستوجب مخالفته‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٩ من أبواب ما يصح منه الصوم حديث : ١.

٤٤٩

[ مسألة ٢ ] : العلم الإجمالي كالتفصيلي [١] ، فاذا علم‌

______________________________________________________

استحقاق العقاب في نظر العقل ، ويمتنع الردع عنه في نظر العالم ، وان كان مخالفاً للواقع في نظر الرادع ، فالردع عن العمل بعلم الوسواسي بالنسبة إلى عمل نفسه لا بد أن يكون من جهة طروء عنوان يستوجب تبدل الواقع عن حكمه إلى حكم آخر ، فيكون الواقع موضوعا للحكم إلا في حال الوسواس ، فيكون له حكم آخر ، نظير العناوين المأخوذة موضوعات للأحكام الثانوية. فشرب النجس ـ مثلا ـ في نفسه حرام ، لكن كما أنه إذا اضطر اليه يجب ، كذلك إذا كان المكلف وسواسيا ، فإنه يجب عليه أن يشرب النجس ، وان علم أنه نجس. وأما بالنسبة إلى عمل غيره فمرجع عدم اعتبار علمه الى عدم اعتبار شهادته ، فاذا شهد بالنجاسة ـ مثلا ـ لم تكن شهادته حجة. والعمدة في الأول ـ مضافا الى ظهور الإجماع ـ ما ورد من النصوص المتضمنة‌ لقولهم (ع) : « لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة » وهي مذكورة في حكم كثير الشك من مباحث الخلل (١) وفي صحيح ابن سنان : « ذكرت لأبي عبد الله (ع) : رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة ، وقلت : هو رجل عاقل. فقال أبو عبد الله (ع) : وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟! فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟! فقال (ع) : سله هذا الذي يأتيه من أي شي‌ء هو؟ فإنه يقول لك : من عمل الشيطان » (٢) والوجه في الثاني انصراف دليل حجية الشهادة عن مثل ذلك.

[١] يعني : في كونه طريقاً عند العقلاء لإثبات متعلقه ، بنحو تكون مخالفته معصية موجبة لاستحقاق العقاب عندهم ، والترخيص فيها ترخيصاً في المخالفة للواقع المنجز فيمتنع للزوم التناقض ، ونقض الغرض. بل الظاهر‌

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٢) الوسائل باب : ١٠ من أبواب مقدمة العبادات حديث : ١.

٤٥٠

بنجاسة أحد الشيئين يجب الاجتناب عنهما ، إلا إذا لم يكن أحدهما محلا لابتلائه ، فلا يجب الاجتناب عما هو محل الابتلاء أيضاً [١].

______________________________________________________

كونه علة تامة في وجوب الموافقة القطعية ، والتفكيك بينه وبين حرمة المخالفة القطعية في غير محله ، لأن الترخيص في أحد الأطراف ترخيص في محتمل الواقع المنجز وهو ممتنع ، كالترخيص في معلوم الواقع كذلك. غاية الأمر أن الثاني مناف لذات الخطاب ، والأول مناف لإطلاق الخطاب المعلوم كذات الخطاب ، كما هو موضح في محله من كتابنا حقائق الأصول فراجع.

[١] قد ذكر في محله أن من شرائط تنجيز العلم الإجمالي للتكليف أن يكون كل من الأطراف في محل الابتلاء ، فاذا كان أحدهما خارجا عن محل الابتلاء ، لا يكون المعلوم بالإجمال متنجزاً ، ولا يجب الاحتياط في الطرف الذي هو محل الابتلاء.

والوجه فيه : أن الموضوع الخارج عن محل الابتلاء مما لا يصح اعتبار التكليف والتحميل من الخطاب بالاجتناب عنه ، ولأجل ذلك لا يحسن أن يخاطب به لأن الغرض من الخطاب إحداث الداعي العقلي في نفس العبد ، على نحو يرى نفسه لأجل الخطاب بالاجتناب مكلفاً ومثقلا به ، ومشغول الذمة والعهدة ، وهذه الاعتبارات غير حاصلة بالنسبة إلى ما هو خارج عن الابتلاء. فهذا الشرط في الحقيقة راجع إلى كونه شرطا في اشتغال الذمة لا شرطا للتكليف.

وتوضيح ذلك : أن انتفاء التكليف [ تارة ] : لعدم المقتضي ، كما في المباحات الخالية عن المفسدة. [ واخرى ] : لوجود المانع ، كما إذا كان الشي‌ء فيه مفسدة ، ولكن فيه مصلحة مزاحمة لها وتشترك الجهتان في أن انتفاء التكليف لقصور فيه وفي ملاكه ، ولا فرق في المصلحة‌

٤٥١

______________________________________________________

المزاحمة بين أن تكون نفسية ، بأن كان ينطبق على الحرم عنوان واجب وأن تكون غيرية ، بأن كان الحرام مقدمة لواجب ، كما في موارد الاضطرار الى الحرام. أما إذا كانت المصلحة ليست موجودة في نفس الحرام ، بل كانت في ضده ، كان المورد من موارد التزاحم ، ودخل في حكم مسألة الضد التي لا قصور في حصول الملاك في كل من الطرفين فيها. [ وثالثة ] : لقصور في المكلف كما في موارد انتفاء القدرة ، فإن الموضوع وان كان مشتملا على مفسدة بلا مزاحم ، إلا أن العجز عنه مانع عن حدوث التكليف به وان كان التكليف واجدا لملاكه. [ ورابعة ] : يكون لقصور في المكلف به لخروجه عن محل الابتلاء. وتشترك هاتان الجهتان الأخيرتان في أن دخلهما في الحقيقة في باعثية التكليف لا في ذاته ، وبخلافهما الجهتان الأولتان ، فان دخلهما في ذاته. فالدخول في محل الابتلاء والقدرة ليس لهما دخل في ذات التكليف ، وإنما دخلهما في الاشتغال والثبوت في العهدة فينتفي ذلك عند انتفاء أحدهما ، وان كان التكليف بحاله. نظير وجود الحجة على التكليف ، فكما أنه لا يتوقف عليه التكليف نفسه ، وانما يتوقف عليه اشتغال الذمة به ، كذلك الدخول في محل الابتلاء والقدرة ، فالخطاب بالاجتناب عن النجس نسبته الى الداخل في الابتلاء وغيره والمقدور وغيره ، نسبة واحدة ، وكما أنه حاك عن الكراهة في الأول منهما حاك عنها في الثاني أيضاً ، فهما لا يختلفان من حيث تعلق التكليف ، وانما يختلفان من حيث أن العلم بالتكليف موجب في الأول منهما للاشتغال ، بحيث يرى المكلف نفسه في كلفة وعهدة مشغولة ، وليس كذلك في الثاني بل يكون حاله بعد العلم حاله قبل العلم.

فان قلت : الخارج عن الابتلاء خارج عن القدرة ، فشرطية عدم الخروج عن الابتلاء في تنجيز العلم الإجمالي راجع الى شرطية القدرة على كل‌

٤٥٢

______________________________________________________

من الطرفين ، فما الوجه في جعله مقابلا له؟ [ قلت ] : ما ذكر ممنوع فان البعد الموجب لخروج الشي‌ء عن محل الابتلاء للمكلف لا يوجب سلب قدرته عليه ، لأن المقدور بالواسطة مقدور. ولذا صح التكليف بالحج لأهل الصين ، ولا يصح نهيهم عن استعمال الإناء الذي في مكة ، إذا لم يكونوا في مقام السفر الى الحج. أما إذا كانوا في مقام السفر الى الحج كان الإناء الذي في مكة محل ابتلائهم ، فيصح نهيهم عنه.

هذا وإذا عرفت أن خروج بعض أطراف المعلوم بالإجمال عن محل الابتلاء مانع من تنجيز العلم لذلك المعلوم بالإجمال ، يكون الطرف الآخر المعلوم بالإجمال من قبيل الشبهة البدوية ، فيتعين الرجوع فيه الى الأصل الموضوعي أو الحكمي.

ثمَّ إنه إذا شك في حصول شرط القدرة أو كونه محل الابتلاء ، فإطلاق الخطاب لا يصلح لنفي الشك المذكور ، لأن منع العجز والخروج عن محل الابتلاء عن التكليف ليس شرعيا بل هو عقلي ، فالخطاب الشرعي لا ينفيه ولا يتعرض له بوجه ، فمع الشك في المانعين المذكورين ونحوهما ، لا مجال للرجوع إلى إطلاق الخطاب. نعم الأصل العقلائي يقتضي الاحتياط حينئذ.

فإن قلت : إذا خرج بعض أطراف الشبهة عن محل الابتلاء فقد شك في خروج المعلوم بالإجمال عن محل الابتلاء ، ويجب الاحتياط حينئذ في الفرد الذي هو محل الابتلاء [ قلت ] : الشك في مثل الفرض ليس موضوعا لأصالة الاحتياط العقلائية المتقدمة ، لاختصاصها بصورة الشك البدوي في الخروج عن محل الابتلاء ، فلا تشمل مثل الفرض فلاحظ. نعم بناء على أن المرجع الإطلاق يشكل الفرق بين الفرضين. ومثله الكلام مع خروج بعض الأطراف عن القدرة. اللهم إلا أن يقال : الإطلاق حجة عند الشك في أصل التخصيص بنحو الشبهة البدوية ، لا في مثل الفرض‌

٤٥٣

[ مسألة ٣ ] : لا يعتبر في البينة حصول الظن بصدقها [١]. نعم يعتبر عدم معارضتها بمثلها [٢].

[ مسألة ٤ ] : لا يعتبر في البينة ذكر مستند الشهادة [٣].

______________________________________________________

مما علم فيه بوجود الخاص وشك في انطباقه على المورد.

[١] لإطلاق دليل الحجية.

[٢] لامتناع عموم الدليل للمتعارضين ، لتكاذبهما ، فيكون جعل الحجية لهما موجبا للتعبد بالنقيضين ، وهو ممتنع. ولأجل ذلك كان الأصل في المتعارضين التساقط ، إلا أن يقوم دليل على خلافه ، كما ورد في الخبرين المتعارضين ، حيث دلت الأدلة الخاصة على الترجيح مع وجود المرجح ، وعلى التخيير مع عدمه.

[٣] كما هو ظاهر كل من أطلق اعتبار البينة. وفي التذكرة : « لا تقبل إلا بالسبب لجواز أن يعتقد أن سؤر المسوخ نجس » وعن أبي العباس والصيمري ذلك أيضاً. [ وفيه ] : أن احتمال الخطأ في المستند ملغى بأصالة عدم الخطأ المعول عليها عند العقلاء في مقام العمل بالخبر ، كما يشهد به استقرار سيرة العقلاء والمتشرعة على عدم الفحص والسؤال عن مستند الخبر ، بينة كان أو خبر واحد ، وموضوعا كان المخبر به أو حكما.

فان قلت : أصالة عدم الخطأ في الحدسيات لا يعول عليها عندهم إلا في موارد خاصة ، كباب رجوع العامي إلى المجتهد في الأحكام الكلية ، وباب الرجوع الى أهل الخبرة في التقويم. ونحو ذلك ، وليس منه المقام. [ قلت ] : أصالة عدم الخطأ في الحدس [ تارة ] : يرجع إليها لإثبات الواقع المجهول ، فتكون طريقاً اليه. [ وأخرى ] : يرجع إليها لإثبات أن ما يعتقده المخبر هو الواقع مع العلم بالواقع. [ فتارة ] : تكون طريقاً إلى معرفة الواقع المجهول مع العلم بالمعتقد. [ وأخرى ] : تكون طريقا‌

٤٥٤

نعم لو ذكرا مستندها ، وعلم عدم صحته ، لم يحكم بالنجاسة [١].

[ مسألة ٥ ] : إذا لم يشهدا بالنجاسة ، بل بموجبها كفى ، وان لم يكن موجباً عندهما أو عند أحدهما. فلو قالا : إن هذا الثوب لاقى عرق المجنب من حرام أو ماء الغسالة ، كفى عند من يقول بنجاستهما [٢] وان لم يكن مذهبهما النجاسة.

[ مسألة ٦ ] : إذا شهدا بالنجاسة واختلف مستندهما كفى في ثبوتها [٣] وان لم تثبت الخصوصية ، كما إذا قال‌

______________________________________________________

إلى معرفة المعتقد المجهول مع العلم بالواقع. والتي لا تكون حجة إلا في الموارد المخصوصة هي الأولى ، أما الثانية فهي حجة مطلقاً ، كما عرفت من سيرة العقلاء والمتشرعة.

[١] لأن العلم بالخطإ مانع من الرجوع إلى أصالة عدم الخطأ ، كما أنه مانع من عموم دليل الحجية لو كان متكفلا لإلغاء احتمال الخطأ. كما هو متكفل لإلغاء احتمال تعمد الكذب.

[٢] لأنه يكفي في وجوب العمل بالحجية كون مؤداها ذا أثر شرعي في نظر من قامت عنده الحجة. بل في الأمارات يكفي ثبوت مدلول التزامي يترتب عليه الأثر الشرعي وان كانت الدلالة الالتزامية بنظر من قامت عنده لا غير ، فعدم الأثر الشرعي للمشهود به في نظر الشاهد ، وعدم الدلالة الالتزامية في نظره لا يقدح في وجوب العمل بالشهادة ، إذا كان المشهود عنده يرى ذلك.

[٣] المراد من البينة التي هي موضوع الحجية شهادتا العدلين ، ويعتبر فيها أن تكون كل منهما حاكية عن الواقع الذي تحكيه الشهادة الأخرى ، فلا بد أن تكون قضية واقعية محكية بكل من الشهادتين ، فاذا تحقق ذلك‌

٤٥٥

______________________________________________________

وجب العمل بالشهادة. سواء اكان هناك اختلاف بين الشاهدين في بعض الخصوصيات الخارجية الزائدة على ما به الاتفاق بينهما أم لا. فاذا اتفقا على وقوع قطرة من الدم في الإناء ، واختلفا في كون ذلك الدم أسود أو أصفر أو أنه كان من الرعاف أو من الأسنان. أو في الليل كان وقوعه أو في النهار ، أو في غير ذلك من الخصوصيات. لم يضر هذا الاختلاف في وجوب العمل على ما به الاتفاق ، لكون القضية الخارجية الواقعية ـ أعنى ملاقاة الماء للدم ـ تحكيها كل من شهادة الشاهدين ، فتكون مؤدى البينة التي هي حجة.

وأما إذا كان الوقع الذي يحكيه أحدهما ويشهد به غير ما كان يحكيه الآخر ويشهد به ، فلم يكن الواقع محكيا بالبينة ، بل كان واقعان ، أحدهما يشهد به أحد الشاهدين ، وثانيهما يشهد به الشاهد الآخر ، فلا يجوز العمل بالشهادتين حينئذ ، لعدم قيام البينة على شي‌ء. ومجرد جواز انتزاع أمر واحد من ذينك الواقعين المحكيين غير كاف في تحقق البينة على شي‌ء ، لأن ذلك الأمر الانتزاعي ليس مشهودا به ، ولا مخبرا عنه. فلو شهد أحدهما بوقوع قطرة من رعافه في إناء ، وشهد الآخر بوقوع قطرة من رعاف نفسه أيضاً في ذلك الإناء لا يحكم بنجاسة الإناء ، لعدم حكاية الشهادتين عن أمر واحد ، إذ شخص النجاسة الذي يشهد به أحدهما غير الشخص الذي يشهد به الآخر ، والقضية الواقعية التي تحكيها إحدى الشهادتين غير القضية التي تحكيها الشهادة الأخرى ، والأمر الانتزاعي من القضيتين الخارجيتين غير مشهود به. فالشهادات المختلفة [ تارة ] : تنحل إلى قضيتين إحداهما متفق عليها بين الشهود ، وتحكيها الشهادتان جميعاً ، وثانيتهما مختلف فيها [ واخرى ] : لا تنحل إلى ذلك ، بل ليس المحكي بها إلا قضية واحدة وقع الاختلاف فيها فأحد الشاهدين يشهد بواقع لها ، والآخر يشهد بواقع آخر ، وكل واحد‌

٤٥٦

أحدهما : إن هذا الشي‌ء لاقى البول ، وقال الآخر : إنه لاقى الدم ، فيحكم بنجاسته. لكن لا تثبت النجاسة البولية ولا الدمية ، بل القدر المشترك بينهما. لكن هذا إذا لم ينف كل منهما قول الآخر [١] بأن اتفقا على أصل النجاسة. وأما إذا نفاه ـ كما إذا قال أحدهما انه لاقى البول ، وقال الآخر : لا بل لاقى الدم ـ ففي الحكم بالنجاسة إشكال.

______________________________________________________

من الواقعين ليس موردا لشهادتين ، بل هو مورد لشهادة واحدة لا غير. ومن ذلك تعرف تعين التفصيل في الفرض المذكور ، وانه إن كان الاختلاف على النحو الأول حكم بالنجاسة ، وإن كان على النحو الثاني لا يحكم بها.

[١] قد عرفت المعيار في القبول وعدمه ، ولا دخل للنفي وعدمه فيه نعم إذا كان الاختلاف على النحو الأول فلا بد أن يكون كل من الشاهدين نافيا لما يشهد به الآخر ، لأن الواقعة الواحدة لا تقبل اجتماع الخصوصيتين المتنافيتين ، فاذا شهدا بوقوع قطرة من دم زيد في الإناء ، واختلفا في أنها غليظة أو رقيقة ، فالشهادة بالأول شهادة بنفي الثاني بالالتزام ، كما أن الشهادة بالثاني كذلك. فنفي الأول [ تارة ] : يكون مصرحا به ، بأن يقول أحدهما : القطرة ليست غليظة بل رقيقة [ وأخرى ] : يكون مدلولا عليه بالالتزام لا غير ، فان لازم كونها غليظة أنها ليست رقيقة. وأما إذا كان الاختلاف على النحو الثاني ، فقد يكون أحدهما نافيا لقول الآخر بأن يحصل لأحد الشاهدين من باب الإنفاق العلم بخطإ صاحبه ، وقد لا يحصل بأن يحتمل صدقه وكذبه.

ومن ذلك يظهر أن قول المصنف [ ره ] : « هذا إذا لم ينف ... » قرينة على كون الاختلاف المفروض في هذه المسألة ما هو من النحو الثاني‌

٤٥٧

[ مسألة ٧ ] : الشهادة بالإجمال كافية أيضا [١] ، كما إذا قالا : أحد هذين نجس ، فيجب الاجتناب عنهما. وأما لو شهد أحدهما بالإجمال والآخر بالتعيين ـ كما إذا قال أحدهما : أحد هذين نجس ، وقال الآخر هذا معينا نجس ـ ففي المسألة وجوه : وجوب الاجتناب عنهما ، ووجوبه عن المعين فقط ، وعدم الوجوب أصلا [٢].

______________________________________________________

الذي لا تقبل فيه شهادة الشاهدين.

[١] مع اتحاد الواقعة ، كما إذا كانا حاضرين في مكان ـ مثلا ـ ووقعت قطرة بول في إناء مردد عندهما بين إناءين. أما مع تعدد الواقعة ، كما إذا كان أحد الشاهدين في مكان وعلم بوقوع قطرة من البول في أحدهما المردد ثمَّ حضر الآخر في ذلك المكان ، واعتقد وقوع قطرة من البول في أحدهما المردد أيضاً ، فالظاهر عدم قبول الشهادتين ، لعدم تصادقهما كما عرفت. وكذا لو علم أحدهما بنجاسة إناء زيد ، وعلم الآخر بنجاسة إناء عمرو ، واشتبه كل من الإناءين بالآخر في نظر كل منهما ، فشهادة كل منهما بأن أحد الإناءين نجس لا أثر لها لعدم الاتفاق بينهما.

[٢] كأن وجه الأول : أن خصوصية المعين لما لم تثبت بخبر الواحد اقتصر على غير المعين ، فيجب الاحتياط. ووجه الثاني : أن الطرف الآخر لم يقم ما يوجب تنجزه ، لأن الشهادة بالمعين لا تقتضيه ، والشهادة بالمردد واحدة ، لا بينة. ووجه الثالث : عدم قيام الحجة لا على المعين ولا على المردد ، وما تقدم من أن عدم ثبوت التعيين يقتضي الاقتصار على غير المعين غير ظاهر. لكن هذه الوجوه كلها ضعيفة ، والمتعين التفصيل بين أن تكون الشهادتان حاكيتين عن واقعة واحدة ـ بأن يكون الشاهدان في مكان واحد مثلا ، فتقع قطرة من الدم في أحد الإناءين ، ويكون أحد الشاهدين‌

٤٥٨

[ مسألة ٨ ] : لو شهد أحدهما بنجاسة الشي‌ء فعلا ، والآخر بنجاسته سابقاً مع الجهل بحاله فعلا ، فالظاهر وجوب الاجتناب [١].

______________________________________________________

جاهلا بالتعيين والآخر عالما به ـ فيجب الاحتياط حينئذ ، والاجتناب عن جميع الأطراف ، لرجوع شهادة الثاني إلى تعيين ما يشهد به الأول مع موافقته في الشهادة به ، فقد تحقق قيام البينة على الواحد المردد ولم يثبت تعيينه. وان كانتا حاكيتين عن واقعتين ـ بأن شهد أحدهما بأنه وقع من دم رعافه قطرة في إناء معين من دون علم الشاهد الآخر بذلك ، بل هو يشهد بأنه وقع من دم رعاف نفسه قطرة في أحد الإناءين المردد عنده بينهما ، والشاهد الأول لا يعلم بهذه الواقعة ـ فلا يجب الاحتياط ، لعدم قيام حجة على واقعة من إحدى الواقعتين.

[١] كأن وجهه : أن لازم شهادة الثاني نجاسته فعلا بالاستصحاب ومؤدى شهادة الأول نجاسته واقعاً فعلا ، فيكون مجموع الشهادتين حاكيا عن أحد الأمرين من النجاسة الفعلية الواقعية والظاهرية ، واللازم المشترك بينهما وجوب الاجتناب. هذا إذا لم يعلم ببقاء نجاسته فعلا على تقدير ثبوت نجاسته سابقاً ، وإلا كان لازم شهادة الثاني نجاسته فعلا ، فتكون النجاسة في الحال مشهوداً بها لهما ، لأحدهما بالمطابقة ، وللآخر بالالتزام.

وفيه : أن شهادة كل من الشاهدين لما كانت حاكية عن واقعة لا تحكيها شهادة الآخر لم تكن كل من الواقعتين محكية بالبينة ، بل كانت محكية بخبر الواحد ، فلم تقم عليها حجة. نعم لو كانت كل من الشهادتين منحلة إلى الشهادة بأمرين ، بأن اتفقا على نجاسة الإناء واختلفا في تعيين الزمان ، فأحدهما يشهد بأنها في الزمان السابق ، والآخر بأنها في الزمان الحالي ، فقد علم تعبداً بنجاسة الإناء سابقاً أو فعلا ، وحينئذ يجري الاستصحاب في إثباته فعلا. وإن كان‌

٤٥٩

وكذا إذا شهدا معاً بالنجاسة السابقة ، لجريان الاستصحاب [١]

______________________________________________________

يشكل ذلك بعدم اليقين بالثبوت سابقاً ، كي يستصحب. إلا أن يقال : يكفي اليقين الإجمالي به وفيه تأمل ظاهر ، لأن اليقين الإجمالي إنما يصحح الاستصحاب في الأمر الإجمالي إذا كان مشكوك البقاء على كل من احتمالاته ولا يصحح الاستصحاب بالنسبة إلى أحد الاحتمالات بعينه ، لعدم اليقين بالإضافة اليه. أما لو كان الشاهد بالنجاسة فعلا يشهد بالنجاسة سابقاً أيضاً كان المورد من قبيل الفرض الآتي. كما أنه في صورة العلم بالبقاء على تقدير الثبوت سابقاً التي ذكرناها آنفاً ، لا يبعد القبول من جهة انضمام الشهادة الالتزامية إلى الشهادة من الآخر بالمطابقة ، كما عرفت. وان كان لا يخلو من إشكال ، لاحتمال اختصاص الحجية في المدلول الالتزامي بصورة تحقق الحجية وهي مفقودة في شهادة الواحد.

[١] لأن البينة بمنزلة اليقين ، فيتحقق ركنا الاستصحاب ، أعني : اليقين بالثبوت ، والشك في البقاء. وكذا لو بني على أن مفاد أدلة الاستصحاب إثبات الملازمة بين الحدوث والبقاء ، وان لم يحصل اليقين بالحدوث ـ كما ذكره الأستاذ [ قده ] في الكفاية ـ فإذا قامت البينة على النجاسة سابقاً فقد دلت بالالتزام على النجاسة ظاهراً فعلا ، فتكون حجة في إثبات النجاسة الظاهرية فعلا. لكنه خلاف ظاهر أدلة الاستصحاب المستفاد منها اعتبار اليقين بالثبوت في جريانه ، فما لم يحصل اليقين لا تكون ملازمة بين الحدوث والبقاء

كما أنه لا إشكال في جريانه لو قيل : بأن مفاد أدلة الحجية ثبوت أحكام ظاهرية هي عين الواقع على تقدير المصادفة للواقع ، فان قيام البينة على النجاسة السابقة يستدعي ثبوت نجاسة ظاهرية هي عين الواقع على تقدير المصادفة وغيره على تقدير المخالفة ، فإن كانت غيره فهي مرتفعة ، لعدم قيام الحجة في الزمان اللاحق ، وإن كانت عينه فهي باقية قطعاً ، أو محتملة البقاء‌

٤٦٠