مستمسك العروة الوثقى - ج ١

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم

مستمسك العروة الوثقى - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محسن الطباطبائي الحكيم


الموضوع : الفقه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١١

______________________________________________________

الى غير ذلك.

نعم يدل على الطهارة جملة أخرى قيل : تزيد على عشرين حديثا. كصحيح علي بن رئاب : « سألت أبا عبد الله (ع) عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي أغسله أو أصلي فيه؟ قال (ع) : صل فيه ، إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر إن الله تعالى إنما حرم شربها » (١) ، ونحوه مرسل الصدوق في الفقيه ، ومسنده في العلل ـ بطريق صحيح ـ عن بكير عن أبي جعفر (ع) ، وعن أبي الصباح وأبي سعيد ، والحسن النبال ، عن أبي عبد الله (ع) (٢). وكذا مصحح الحسن ابن أبي سارة ، معللا : بأن الثوب لا يسكر‌ (٣). وصحيح الحسن بن موسى الحناط : « عن الرجل يشرب الخمر ، ثمَّ يمجه من فيه ، فيصيب ثوبي. قال (ع) : لا بأس » (٤) وموثق الحسن بن أبي سارة : « قلت لأبي عبد الله (ع) : إنا نخالط اليهود والنصارى ، والمجوس ، وهم يأكلون ويشربون فيمر ساقيهم فينصب على ثيابي الخمر. فقال (ع) : لا بأس به ، إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره » (٥) ... إلى غير ذلك.

والجمع العرفي يقتضي حمل الأولى على الاستحباب. ولو فرض تعذره فالترجيح مع نصوص الطهارة ، لمخالفتها للمشهور بين العامة ، كما قيل ، وقد تقدم عن البهائي [ ره ].

وأما معارضة ذلك بموافقة نصوص النجاسة للكتاب العزيز لقوله تعالى فيه ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) (٦)

__________________

(١) الوسائل باب : ٣٨ من أبواب النجاسات حديث : ١٤.

(٢) الوسائل باب : ٣٨ من أبواب النجاسات حديث : ١٣.

(٣) الوسائل باب : ٣٨ من أبواب النجاسات حديث : ١٠.

(٤) الوسائل باب : ٣٩ من أبواب النجاسات حديث : ٢.

(٥) الوسائل باب : ٣٨ من أبواب النجاسات حديث : ١٢.

(٦) المائدة : ٩٠.

٤٠١

______________________________________________________

فمندفعة. بأنه لو تمَّ كون الرجس بمعنى النجاسة العينية ، فلا يناسبه السياق ولا قوله تعالى ( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ). والشهرة الفتوائية وإن كانت مع نصوص النجاسة لكنها ليست من المرجحات. وحمل نصوص الطهارة على التقية من سلاطين ذلك الوقت غير ظاهر إذا كان القول بالنجاسة مشهوراً عند المخالفين ، لأن مخالفة العامة ـ التي هي من المرجحات ـ يراد منها المخالفة للمذهب ، لا للعمل ـ ولو كان عمل السلطان ـ بل للمذهب العام لا الخاص ، وإن كان الخاص يسوغ التقية في القول والعمل ، لكنه لا يكفي في كون المخالفة له مرجحاً تعبداً. ومن ذلك يظهر وهن ترجيح أخبار الطهارة بمخالفتها لمذهب ربيعة الرأي ، كما قيل.

نعم تشكل نصوص الطهارة باشتمال مصحح ابن أبي سارة على التعليل : بأن الثوب لا يسكر ، الظاهر في نجاسة الخمر المسكر وحينئذ يكون دالا على نجاسة الخمر لا على طهارته. نعم يدل على طهارة الثوب الملاقي له ، وهو مما لم يقل به أحد ، وليس محلا للكلام هنا ، فان الكلام هنا في نجاسة الخمر لا في سراية نجاسته إلى الملاقي.

وبكون مورد موثقه الخمر الواقع على الثوب من الكأس الذي شرب منه اليهودي والنصراني والمجوسي ، فيدل على طهارة الخمر وطهارة الأصناف المذكورة من الكفار.

وباشتمال مرسل الفقيه ومسنده في العلل على طهارة ودك الخنزير ، وجواز الصلاة فيه ، مع الاتفاق على نجاسته وعلى عدم جواز الصلاة فيه وإن قلنا بطهارته ، لأنه غير مأكول اللحم.

وبأن‌ الكليني روى في الصحيح عن علي ابن مهزيار : « قال : قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (ع) : جعلت فداك ، روى زرارة عن أبي جعفر (ع) وأبي عبد الله (ع) في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما‌

٤٠٢

______________________________________________________

قالا : لا بأس بأن يصلي فيه إنما حرم شربها. وروى [ غير. خ ل ] زرارة عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ ـ يعني المسكر ـ فاغسله إن عرفت موضعه ، وان لم تعرف موضعه فاغسله كله ، وان صليت فيه فأعد صلاتك. فأعلمني ما آخذ به. فوقع (ع) : بخطه وقرأته : خذ بقول أبي عبد الله (ع) » (١). وروى أيضا عن خيران الخادم : « قال كتبت إلى الرجل أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه. فقال بعضهم : صل فيه فان الله تعالى إنما حرم شربها ، وقال بعضهم : لا تصل فيه. فكتب (ع) : لا تصل فيه ، فإنه رجس » (٢). ولا ريب في دلالة الروايتين المذكورتين على أن التعارض بين روايتي الطهارة والنجاسة مستحكم على نحو لا مجال للجمع العرفي بينهما ، وان الترجيح لرواية النجاسة ، فلو اقتضت عمومات الترجيح ترجيح رواية الطهارة كانت الروايتان المذكورتان إما مخصصتين لها أو حاكمتين عليها. ومن ذلك يظهر وهن الجمع العرفي المتقدم ، كوهن الترجيح لأخبار الطهارة [ ومعارضة ] ذلك باحتمال كون ترجيح رواية النجاسة في هاتين الروايتين لأجل التقية [ مندفعة ] : بأن ذلك خلاف الأصل. مضافا الى ما قيل من اشتهار العفو عن قليلها عندهم ، الذي هو مورد أكثر نصوص النجاسة. فلاحظ.

هذا ومورد نصوص النجاسة وان كان هو الخمر والنبيذ ، لكن يتعدى منهما إلى كل مسكر ، للتنصيص على العموم في معاقد الإجماعات الصريحة والظاهرة. فعن الناصريات : « كل من قال : بأنه محرم الشرب ذهب الى أنه نجس كالخمر ... [ الى أن قال ] : لا خلاف في نجاسته تابعة لتحريم‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٣٨ من أبواب النجاسات حديث : ٢.

(٢) الوسائل باب : ٣٨ من أبواب النجاسات حديث : ٤.

٤٠٣

وان صار جامداً بالعرض [١] لا الجامد كالبنج [٢] وان صار مائعا بالعرض.

______________________________________________________

شربه ». ونحوه كلام غيره. مضافا الى بعض النصوص الواردة في مطلق المسكر ، كموثق عمار ، وصحيحة ابن حنظلة المتقدمين ، أو في خصوص النبيذ (١) الذي قيل : انه يعمل من عامة الأشربة. وما ورد من أن الخمر كل مسكر من الشراب‌. وان كل مسكر خمر‌ (٢). ويساعده كلام جماعة من اللغويين. وصحيح ابن الحجاج قال رسول الله (ص) : « الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، والبتع من العسل ، والمرز من الشعير ، والنبيذ من التمر » (٣) ونحوه غيره. فاذا لا فرق بين الخمر وسائر المسكرات في الحكم ، ولا في الخلاف والوفاق. والله سبحانه العالم.

[١] كما نص عليه العلامة والشهيد وغيرهما. بل الظاهر التسالم عليه كما يظهر من عدم عد الجمود من المطهرات. ويقتضيه إطلاق أدلة النجاسة ولو فرض الشك في صدق الموضوع مع الجمود ، أو انصراف الأدلة عنه فالاستصحاب كاف في إثبات النجاسة.

[٢] إجماعا صريحا وظاهرا عن جماعة. قيل : للأصل بعد اختصاص أدلة النجاسة بالمائع. ولكن يشكل : بأن بعض تلك الأدلة شامل للجامد كموثق عمار‌ وخبر ابن حنظلة‌ المشتملين على التعبير بالمسكر. مضافا الى مثل‌ قوله (ع) : « كل مسكر خمر ». [ ودعوى ] : انصراف مثل الأولين الى غير الجامد ، والأخير إلى التنزيل بلحاظ حرمة الشرب. [ غير ظاهرة ] فالعمدة في الطهارة الإجماع ، كما اعترف به في محكي شرح الدروس.

__________________

(١) الوسائل باب : ٣٨ من أبواب النجاسات حديث : ٢ ، ٣ ، ٥ ، ٦ ، ٨ ، ١٥.

(٢) راجع الوسائل باب : ١ ، ١٩ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٣) الوسائل باب : ١٥ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٥.

٤٠٤

[ مسألة ١ ] ألحق المشهور بالخمر العصير العنبي [١]

______________________________________________________

[١] حكى الشهرة المذكورة جماعة. بل عن كنز العرفان دعوى الإجماع وفي مجمع البحرين : « هو نجس حرام. نقل عليه الإجماع ». وعن أطعمة التنقيح الاتفاق على أنه بحكم المسكر ، وكيف كان فمستند النجاسة. إما الإجماعات المذكورة. أو ما دل على نجاسة المسكر (١) ـ بناء على أنه منه ـ كما عن العلامة الطباطبائي وغيره. أو الاخبار الدالة على أن الخمر من خمسة أو ستة (٢) ـ وعد منها العصير من الكرم ـ بضميمة ما دل على نجاسة الخمر. أو الأخبار المتضمنة لنزاع آدم ونوح عليهما‌السلام : مع إبليس لعنه الله تعالى (٣) ـ كما عن التنقيح الاستدلال بها على النجاسة ـ وقد تضمنت هذه أن الثلث لآدم ونوح عليهما‌السلام : والثلاثين لإبليس لعنه الله أو مصححة معاوية بن عمار المروية في التهذيب. قال : « سألت أبا عبد الله (ع) : عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول : قد طبخ على الثلث. وأنا أعرف أنه يشربه على النصف أفاشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال (ع) : خمر لا تشربه ... » (٤).

لكن الجميع لا يخلو من اشكال. أما الإجماعات ، فهي معارضة بما عن الذكرى ، فإنه ـ بعد ما حكى القول بالنجاسة عن ابن حمزة والمحقق ، وحكى توقف العلامة في النهاية ـ قال [ ره ] : « ولم نقف لغيرهم على قول بالنجاسة » وفي مفتاح الكرامة فإنه ـ بعد ما حكى عن المختلف نسبة‌

__________________

(١) راجع الوسائل باب : ٣٨ من أبواب النجاسات فإن أكثر أحاديثها دالة على نجاسته.

(٢) راجع الوسائل باب : ١ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٣) راجع الوسائل باب : ٢ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٤) الوسائل باب : ٧ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٤ فقد رواه عن الكافي خال عن كلمة : « خمر » وعن التهذيب مشتملا عليها ، كما سيصرح به الشارح قدس‌سره.

٤٠٥

______________________________________________________

النجاسة الى أكثر علمائنا ، كالمفيد ، والشيخ ، والسيد ، وأبي الصلاح ، وسلار ، وابن إدريس ـ قال [ ره ] : « ولعله ظفر به في كتبهم ، ولم نظفر به » ، وفي المستند قال : « الذي يظهر لي أن المشهور بين الطبقة الثالثة ـ يعني : طبقة متأخري المتأخرين ـ الطهارة ، وبين الثانية ـ أي : المتأخرين ـ النجاسة. وأما الأولى ـ يعني : القدماء ـ فالمصرح منهم بالنجاسة أما قليل أو معدوم.

وكيف كان فلا مجال للاعتماد على دعوى الإجماع مع شهرة الخلاف. ولا سيما وأن المحكي عن كنز العرفان : دعوى الإجماع على النجاسة بعد غليانه واشتداده ، وأما بعد غليانه وقبل اشتداده فحرام ، إجماعا منا. وأما النجاسة فعند بعضنا : أنه نجس ، وعند آخرين : أنه طاهر. انتهى. ومن المحتمل أن المراد بالاشتداد ما يساوق الإسكار ، كما يظهر من محكي كلامه في تفسير الخمر ، قال [ ره ] : « الخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره ، سمي به عصير العنب والتمر إذا غلى واشتد ، لأنه يخمر العقل ـ أي يستره ـ كما سمي مسكراً ، لأنه يسكره أي يحجزه ». فحينئذ لا يكون مدعيا للإجماع فيما نحن فيه.

وأما كونه مسكراً ، فهو خلاف ظاهر القائلين بالطهارة والنجاسة حيث جعلوه مقابلا للخمر وسائر المسكرات ، ومع الشك في الإسكار به لا مجال للرجوع إلى عموم نجاسة المسكر.

وأما عد العصير من أنواع الخمر فلا يجدي ، لإجمال المراد به ، وليس المراد به مطلق المفهوم اللغوي ، ولذا لا يتوهم التمسك بإطلاقه من حيث الغليان وعدمه ، فالمقصود بهذه الروايات الإشارة إلى أصول الأنواع في الجملة.

وأما الاخبار المتضمنة لنزاع آدم ونوح عليهما‌السلام مع إبليس ، فهي أجنبية عن الدلالة على النجاسة ، وليس فيها أقل إشارة الى ذلك ، وإنما‌

٤٠٦

______________________________________________________

تدل على الحرمة التكليفية ـ في الجملة ـ وليست في مقام بيان حدود الموضوع وقيوده فلاحظها.

وأما مصححة معاوية فهي مروية في الكافي خالية عن ذكر الخمر ، وهو أضبط كما اشتهر ، والتحقيق لزوم إجراء حكم تعارض الخبرين في أمثال المقام فيؤخذ برواية الأوثق. وليس المقام من باب معارضة أصالة عدم الزيادة بأصالة عدم النقيصة ، ليبنى على ترجيح الأولى على الثانية ـ كما هو كذلك عند العقلاء حيث يتعين الترجيح ـ ولا من باب اشتباه الحجة بغير الحجة ـ كي يسقط الخبران معا عن الحجية ـ وان كان البناء عليه في المقام أيضاً يكفي في البناء على الطهارة ، للأصل. لكنه خلاف التحقيق ، فيتعين البناء على ثبوت رواية الكليني وسقوط لفظ الخمر. ولا سيما بملاحظة ما في الوسائل والوافي عن التهذيب حيث رويا عنه سقوط لفظ الخمر ، الدال على أن بعض نسخ التهذيب يوافق نسخة الكافي ، وحينئذ كيف يجوز الاستدلال ببعض نسخ التهذيب في مقابل بعضها الآخر ، ونسخة الكافي؟ ولا سيما بملاحظة كون المناسب للسؤال تركه في الجواب ، كما يظهر بأدنى ملاحظة.

هذا مضافا الى أنه لو سلم وجود لفظ الخمر في الرواية ، فلا مجال للتمسك بإطلاق التنزيل فيه لأنه ليس وارداً في مقام بيان الحكم الواقعي. بل في مقام بيان الحكم الظاهري بعد فراغ السائل عن معرفة حكمه لو كان بحيث لم يذهب ثلثاه ، فقوله (ع) : « خمر » ليس المراد أنه بمنزلة الخمر ـ كي يكون إطلاقه مقتضيا لثبوت النجاسة ـ بل المراد أنه لما كان قبل أن يذهب ثلثاه بمنزلة الخمر ، فاذا شك في ذهاب ثلثيه كان مقتضى الاستصحاب بقاءه على حكمه قبل ذهاب ثلثيه من أنه خمر تنزيلا فهو خمر تعبدا ظاهرا ، وكونه كذلك أعم من النجاسة ، لأن الكلام ليس في مقام البيان من هذه الجهة ـ كي يؤخذ بإطلاقه ـ بل في مقام إثبات الخمرية التنزيلية الواقعية له‌

٤٠٧

إذا غلى [١] قبل أن يذهب ثلثاه ، وهو الأحوط ، وان كان‌

______________________________________________________

ظاهراً تعبدا. وثبوت الخمرية التنزيلية الواقعية لم يعلم انه كان على أي نحو هل كان على نحو عموم الاحكام ، أو على نحو خصوصها؟ فلاحظ وتأمل ، فإنه دقيق.

مضافا الى أن إطلاق التنزيل منزلة الخمر وإن كان يقتضي النجاسة ، إلا أنه كذلك لو لم يكن مقرونا بما يصلح للقرينية ، وقوله (ع) : « لا تشربه » صالح للقرينية ، فيكون المتيقن هو الحرمة لا غير فتأمل وأيضاً فإن لفظ « البختج » لم يعلم أنه مطلق العصير المطبوخ ، فمن الجائز أن يكون نوعا خاصا منه بحيث يسكر بمجرد غليانه. وقول بعضهم : أنه العصير المطبوخ. غير ظاهر في التعريف المساوي.

وأما‌ مرسل محمد بن الهيثم عن رجل عن أبي عبد الله (ع) قال : « سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته ، أيشربه صاحبه؟ فقال : إذا تغير عن حاله وغلى فلا خير فيه ، حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (١). وموثق أبي بصير قال : « سمعت أبا عبد الله (ع) ـ وسئل عن الطلا ـ فقال (ع) : إن طبخ حتى يذهب منه اثنان ويبقى واحد فهو حلال ، وما كان دون ذلك فليس فيه خير » (٢). فلا دلالة فيه على النجاسة. والمتحصل من جميع ذلك : عدم ثبوت ما يوجب الخروج عن استصحاب الطهارة.

[١] كما عن التحرير ، والمختلف ، والنزهة وغيرها ، أو إذا غلى أو اشتد ، كما في القواعد ، والإرشاد ، وغيرهما. ويرجع أحدهما إلى الآخر ، بناء على كون المراد من الاشتداد الغليان ـ كما في محكي شرح الإرشاد للفخر ـ بل ظاهر قوله : « وعندنا أن يصير أسفله أعلاه بالغليان » الإجماع‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٧.

(٢) الوسائل باب : ٢ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٦.

٤٠٨

الأقوى طهارته. نعم لا إشكال في حرمته ، سواء غلى بالنار أو بالشمس ، أو بنفسه [١]. وإذا ذهب ثلثاه صار حلالا.

______________________________________________________

عليه. لكن عن روض الجنان وغيره : تفسيره بالقوام ، أو الثخانة. وكيف كان فاعتبار أمر زائد على الغليان في النجاسة تابع لدليلها ، فان كان هو الإجماع ، أو مثل مصححة معاوية ، اعتبر ذلك ، لإجمالها من هذه الجهة. وان كان مثل خبري ابن الهيثم وأبي بصير لم يعتبر لاطلاقهما. وان كان دليل نجاسة المسكر ، توقف اعتباره على دخله في الإسكار.

هذا وأما الاكتفاء بمجرد الغليان في التحريم فالظاهر أنه لا إشكال فيه ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه. والنصوص به مستفيضة ، كمصحح حماد عن أبي عبد الله (ع) : « لا يحرم العصير حتى يغلي » (١) وفي خبره عنه (ع) : « تشرب ما لم يغل فاذا غلى فلا تشربه » (٢) ... إلى غير ذلك.

[١] لإطلاق النص والفتوى ـ كما قيل ـ بل لم يحك الخلاف فيه صريحاً ، واختلاف بعض العبارات في ذلك غير ظاهر في الخلاف. نعم عن ابن حمزة في الوسيلة : تخصيص النجاسة بالغليان بنفسه لا بالنار. وكأن الوجه فيه بناؤه على صيرورته خمرا في الأول ، كما يشهد به قوله [ ره ] : « إلا أن يصير خلا ». لكن عهدة ذلك عليه ، وان كان يشهد له الرضوي : « فإن نش من غير أن تصيبه النار فدعه حتى يصير خلا » (٣). لكنه لم تثبت حجيته. ويشير اليه موثق عمار الوارد في العصير المطبوخ (٤) ،

__________________

(١) الوسائل باب : ٣ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٣ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٣.

(٣) مستدرك الوسائل باب : ٣ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٥‌

(٤) الوسائل باب : ٥ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٢.

٤٠٩

سواء كان بالنار ، أو بالشمس ، أو بالهواء [١] ، بل الأقوى حرمته بمجرد النشيش [٢] وان لم يصل الى حد الغليان.

______________________________________________________

الظاهر في قدح نشيش عصير الزبيب ولو كان من جهة أنه يقتضي الحرمة ـ فقط ـ لم يضر في المقصود للأمر بإذهاب ثلثيه بعد ذلك ، فلا بد أن يكون من جهة النجاسة ، التي لا يجدي في رفعها ذهاب الثلاثين ، كما سيأتي. نعم يحتمل أن يكون الوجه في الخشية من النشيش عدم حصول المقصود منه ـ أعني العلاج به ـ وقوله في السؤال : « كيف يطبخ حتى يصير حلالا؟ » وان كان ظاهراً في السؤال عما يعتبر في الحل لا غير ، لكن الخصوصيات المذكورة في الجواب لما لم يمكن البناء على اعتبار أكثرها في الحل ، يتعين البناء على كون الامام (ع) في مقام بيان ما يعتبر في الحل وما يعتبر في حصول المقصود. فتأمل جيدا.

[١] للإطلاق أيضاً.

[٢] كما تقتضيه‌ موثقة ذريح : « سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : إذا نش العصير أو غلى حرم » (١). والظاهر من النشيش الأثر الحاصل قبل الغليان ـ كما يقتضيه العطف بـ [ أو ] ـ وكأنه المراد لمن فسره بصوت الغليان كما يظهر من القاموس وغيره ، يعني : الصوت الذي يكون قبل الغليان. نعم تشكل الرواية : بأن التحريم بالنشيش قبل الغليان يوجب استدراك عطف الغليان عليه ، لحصول التحريم قبله دائما ، بل يكون تعليق التحريم على الغليان في سائر الاخبار في غير محله ، فاللازم حمل النشيش على ما يكون بغير مورد الغليان ، ولا يبعد حمله على النشيش بغير النار بقرينة مرسل محمد بن الهيثم المتقدم في الحاشية الأولى ، لاختصاصه بالغليان بالنار. ولعله الظاهر أيضاً من‌ خبر حماد عن أبي عبد الله (ع) : « سألته عن شرب العصير. قال (ع) : تشرب ما لم يغل ، فاذا غلى فلا تشربه‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٣ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٤.

٤١٠

ولا فرق بين العصير ونفس العنب ، فاذا غلى نفس العنب من غير أن يعصر كان حراما [١]. وأما التمر والزبيب وعصيرهما ،

______________________________________________________

قلت : أي شي‌ء الغليان؟ قال (ع) : القلب » (١) فان الظاهر ادارة الغليان بالنار ، لعدم حصول القلب بغيرها ـ غالبا ـ فالروايتان المذكورتان تدلان على الحل قبل الغليان بالنار ، ولو مع النشيش ، فتحمل رواية الحرمة بالنشيش على النشيش بغيرها. ويشهد بذلك الرضوي والموثق المتقدمان في كلام ابن حمزة. لكن عرفت أن مقتضاهما النجاسة ، لا مجرد الحرمة.

[١] قال المحقق الأردبيلي [ ره ] في محكي شرح الإرشاد : « وظاهر النصوص اشتراط كونه معصورا ، فلو غلى ماء العنب في حبه لم يصدق عليه أنه عصير غلى ، ففي تحريمه تأمل. ولكن صرحوا به. فتأمل. والأصل والعمومات وحصر المحرمات دليل الحل حتى يعلم الناقل ». وأشكل عليه جماعة ممن تأخر عنه ـ منهم شيخنا الأعظم [ ره ]ـ : بأن التعبير بالعصير من باب التعبير بالغالب ، وإلا فلا بد أن لا يحكم بالحرمة إذا استخرج ماء العنب لا بالعصر ، بل بالغليان وهو واضح الفساد. انتهى. وفيه : أن التعدي من الخارج بالعصر الى الخارج بغيره لا يقتضي التعدي في المقام ، للفرق بينهما بالوضوح والخفاء ، فما لم تكن قرينة على العموم لا مجال للتعميم ، والارتكاز العرفي لا يساعد على الإلحاق لاختلاف الخارج والداخل في طروء الفساد وعدمه ، اختلافا واضحا. وهذا بخلاف التعدي من الخارج بالعصر الى الخارج بغيره ، فان العرف يأبى عن دخل العصر ، فالتعدي يكون في محله. ثمَّ الظاهر أن محل الكلام فيما إذا كان داخل حبة العنب ماء ، أما إذا كان رطوبة كرطوبة الخيار والبطيخ ، فغليان مثلها لا إشكال فيه ، لعدم كونها ماء عنب فتأمل جيداً.

__________________

(١) الوسائل باب : ٣ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٣.

٤١١

فالأقوى عدم حرمتهما أيضاً بالغليان [١].

______________________________________________________

[١] على المشهور شهرة عظيمة في الأول ، وفي الحدائق : « كاد أن يكون إجماعا ، بل هو إجماع في الحقيقة » ، وعن غير واحد حكاية نفي الخلاف فيه عن بعضهم. نعم في حدود الشرائع : « وأما التمر إذا غلى ولم يبلغ حد الإسكار ففي تحريمه تردد ، والأشبه بقاؤه على التحليل حتى يبلغ » ، ونحوه عن القواعد ، وهذا قد يشعر بوجود الخلاف. وفي الدروس « أما عصير التمر فقد أحله بعض الأصحاب ما لم يسكر ، وفي رواية عمار ... » ثمَّ ذكر رواية عمار الآتية ، وظاهره الميل إلى الحرمة. وفي الحدائق : أنه حدث القول بالحرمة في الأعصار المتأخرة. انتهى. وهو ظاهر الوسائل ، وحكي عن ظاهر التهذيب والشيخ سليمان البحراني ، والسيد الجزائري ، والشيخ أبي الحسن ، والأستاذ الأكبر ، فإنهم اعتبروا في حله ذهاب الثلاثين.

وقد يستدل له بمثل‌ صحيح ابن سنان عن الصادق (ع) : « كل عصير أصابته النار فهو حرام ، حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه » (١). وموثقة عمار عن أبي عبد الله (ع) : « أنه سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل؟ قال (ع) : خذ ماء التمر فأغله حتى يذهب ثلثا ماء التمر » (٢). وموثقته الأخرى المروية عن الدروس رواها عن الدروس في الحدائق ج ٥ ص ١٤٩ : الطبعة الحديثة. والموجود في الدروس قريب من الموثقة الأولى. فراجع الأمر الخامس من كتاب الأطعمة والأشربة. عن أبي عبد الله (ع) : « سألته عن النضوح. قال (ع) : يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، ثمَّ يمتشطن » (٣).

ولكنه يشكل : بأن الصحيح لم يثبت عمومه لما نحن فيه ، لاختصاص العصير بماء العنب ، كما يظهر من النصوص ، وكلمات أهل اللغة ، وأوضحه‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٢ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٣٢ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٢.

(٣) الوسائل باب : ٣٧ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ١.

٤١٢

______________________________________________________

في الحدائق ـ شكر الله سعيه ـ فراجعه. مع أنه لو فرض عمومه في نفسه فليس بمراد في المقام ، للزوم تخصيص الأكثر المستهجن ، فلا بد من حمله على عصير العنب. ويكون المقصود من كلمة : « كل » التعميم بلحاظ الافراد أو الأحوال. وأما موثقة عمار الأولى فهي مجملة بإجمال النضوح إذ من المحتمل أن يكون فيه من الاجزاء ما يوجب صيرورة النبيذ مسكرا لو لم يذهب ثلثاه ، كما قد يشهد به‌ خبر عيثمة قال : « دخلت على أبي عبد الله (ع) ، وعنده نساؤه ، فشم رائحة النضوح فقال (ع) : ما هذا؟ قالوا : نضوح يجعل فيه الضياح. قال : فأمر به فأهريق في البالوعة » (١) ‌مع أن وصفه بالمعتق كاف في إجماله ، إذ من المحتمل أن يصير خمراً بمرور مدة طويلة عليه لو لم يذهب ثلثاه.

ومن هنا يشكل الاستدلال أيضاً بما ورد في حرمة النبيذ الذي فيه القعوة‌ (٢) أو العكر‌ (٣). ولا سيما وفي بعضها (٤) الاستدلال‌ بقول النبي (ص) : « كل مسكر حرام ». مضافا إلى أن ظاهرها اعتبار الغليان في حل ماء التمر ، وأنه لا يحل بدونه ، وهذا خلاف الضرورة ، فضلا عن أنه خلاف الإجماع والنصوص. فتعين توجيهها بالحمل على ما يصير مسكرا لو لم يغل حتى يذهب ثلثاه ، وليس هو محل الكلام.

ومن ذلك يظهر الإشكال في الاستدلال بالموثقة الثانية ، وان خلت عن التوصيف بالمعتق ، وسلمت من الاشكال اللازم من التوصيف به ، كما تقدم. نعم قد تشكل أيضاً : بأن الأخذ بحاق العبارة يقتضي كون السؤال‌

__________________

(١) الوسائل باب : ٣٢ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ١.

(٢) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٣.

(٣) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٥.

(٤) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٦.

٤١٣

______________________________________________________

فيها عن مفهوم النضوح ، فلا تكون في مقام بيان الحكم. وان شئت قلت : إن كان السؤال فيها عن الموضوع ، فهي أجنبية عما نحن فيه. وإن كان عن الحكم ـ كما هو الظاهر منها وصريح الموثقة الأولى ـ فالموضوع فيها مجمل ، والحكم المذكور فيها من لزوم بقاء الثلث ، لا أقل ، مما لم يقل به أحد ، إلا أن يكون اعتبار بقاء الثلث للتبعية لذهاب الثلاثين ، فالمدار يكون على ذهاب الثلاثين مطلقاً. لكن لو تمَّ ذلك فإجمال الموضوع كاف في سقوط الحجية. هذا مضافا إلى أن المسؤول عنه في الرواية حل التمشط بالنضوح وحرمته ، فان دلت الروايات على حرمته قبل ذهاب الثلاثين فذلك مما لم يقل به أحد ، سواء أكانت حرمة التمشط تعبدية أم من جهة النجاسة ، للإجماع على الطهارة ، وعلى جواز الانتفاع به بالتمشط ونحوه ، والمدعى إنما هو حرمة شربه ، وهو مما لا تدل عليه ولا تشعر به. فالمدعى لا تدل عليه الرواية ، وما تدل عليه الرواية لم يقل به أحد ، كما لا يخفى.

ويشهد للحل روايات. منها‌ صحيح صفوان : « كنت مبتلى بالنبيذ معجبا به ، فقلت لأبي عبد الله (ع) : أصف لك النبيذ. فقال (ع) : بل أنا أصفه لك قال رسول الله (ص) : كل مسكر حرام » (١). ونحوه صحيح معاوية بن وهب‌ (٢). ودلالتهما على كون المدار في الحل والحرمة الإسكار وعدمه ظاهرة. وفي خبر محمد بن جعفر الوارد في وفد من اليمن : « سألوا النبي (ص) عن النبيذ فقال (ص) لهم : وما النبيذ؟ صفوه لي. قال : يؤخذ التمر فينبذ في الماء‌ ... [ إلى أن قال :] فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا هذا قد أكثرت علي أفيسكر؟ قال : نعم. فقال : كل مسكر حرام » (٣). ودلالته على حلية النبيذ مع عدم الإسكار واضحة‌

__________________

(١) الوسائل باب : ١٧ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٣.

(٢) الوسائل باب : ١٧ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ١.

(٣) الوسائل باب : ٢٤ من أبواب الأشربة المحرمة حديث : ٦.

٤١٤

______________________________________________________

ونحوها في ذلك غيرها. فلاحظ باب ما أسكر كثيره فقليله حرام (١) ، وباب تحريم النبيذ (٢) من الوسائل.

وأما عصير الزبيب فالمعروف فيه الحل ، وفي الحدائق : « الظاهر أنه لا خلاف فيه ، وعن جماعة حكاية الشهرة على ذلك ، بل قيل : لم نعثر على قائل بالتحريم. وإن نسبه الشهيد إلى بعض مشايخه ، وإلى بعض فضلائنا المتقدمين. لكنه غير معروف. وعن جماعة من المتأخرين الحرمة قبل ذهاب الثلاثين ، واختاره العلامة الطباطبائي [ قده ] في مصابيحه ، ناسبا ذلك إلى الشهرة بين الأصحاب ، وأنها بين القدماء كشهرة الحل بين المتأخرين. ولكن في الجواهر : « فيه نظر وتأمل ».

واستدل له بالاستصحاب ، لأنه ـ حين كان عنباً ـ كان يحرم على تقدير الغليان ، فهو ـ حين صار زبيباً ـ باق على ما كان. واستشكل فيه [ تارة ] : بأن موضوع الحرمة ـ حال العنبية ـ الماء المتكون فيه ، وهو معدوم حال صيرورته زبيباً ، وانما يقصد إثبات الحرمة للماء المختلط باجزائه ومع تعدد الموضوع لا يجري الاستصحاب [ وأخرى ] : بأنه من الاستصحاب التعليقي وليس هو بحجة.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض الجهات الموجبة لصحة جريان الاستصحاب المذكور وعدمها ، [ فنقول ] إذا ورد في لسان الشارع الأقدس : « العنب إذا غلى ينجس » ـ مثلا ـ فهناك أمور. [ أحدها ] : سببية الغليان للنجاسة ولزوال الطهارة الثابتة للعنب قبل الغليان [ وثانيها ] : الملازمة بين الغليان والنجاسة. [ وثالثها ] : نفس النجاسة المعلقة على الغليان.

فان كان مرجع الاستصحاب التعليقي في المقام ـ مثلا ـ الى استصحاب‌

__________________

(١) وهو الباب : ١٧ من أبواب الأشربة المحرمة.

(٢) وهو الباب : ٢٤ من أبواب الأشربة المحرمة.

٤١٥

______________________________________________________

نفس سببية الغليان للنجاسة ، فهو من الاستصحاب التنجيزي. وتوقفت صحته على كون السببية من المجعولات الشرعية المتأصلة ذوات الآثار ، مثل الطهارة ، والنجاسة ، والملكية ، ونحوها. ولكنه خلاف التحقيق ، كما حرر في محله. وكذا الكلام لو كان مرجعه الى استصحاب الملازمة ، فإنه من الاستصحاب التنجيزي أيضاً ، كما أن الملازمة غير مجعولة شرعا ، وإنما هي منتزعة من جعل الحكم الشرعي على تقدير وجود الشرط.

وان كان مرجعه الى استصحاب نفس الحكم الشرعي ، المعلق على الغليان ـ كما هو الظاهر ـ فان قلنا بأن المنوط به الحكم وجود الشرط خارجا ، فلا حكم قبل وجوده ، فلا مجال للاستصحاب ، لعدم اليقين بالمستصحب ، بل المتيقن عدمه. أما إذا كان الحكم منوطا بوجود الشرط اللحاظي ـ كما هو التحقيق ـ لئلا يلزم التفكيك بين الجعل والمجعول ، الذي هو أوضح فساداً من التفكيك بين العلة والمعلول ، لأن الجعل عين المجعول حقيقة ، وانما يختلف معه اعتبارا فيلزم من وجود الجعل بدون المجعول التناقض ، واجتماع الوجود والعدم ، فعليه لا مانع من الاستصحاب ، لليقين بثبوت الحكم ، والشك في ارتفاعه ، وكون المجعول حكما منوطا بشي‌ء لا يقدح في جواز استصحابه بعد ما كان حكما شرعياً ومجعولا مولويا ، وان كان منوطا.

نعم استشكل فيه بعض الأعاظم من مشايخنا : بأن الشرط المنوط به الحكم ـ كالغليان في المثال المذكور ـ راجع في الحقيقة إلى قيد الموضوع ، ومرجع قولنا : « العنب إذا غلى ينجس » الى قولنا : « العنب الغالي ينجس » فاذا وجد العنب ، ولم يغل فلا وجود للحكم لانتفاء موضوعه بانتفاء قيده فلا مجال لاستصحابه. نعم يمكن فرض قضية تعليقية ـ حينئذ ـ فيقال : « العنب لو انضم اليه قيده ـ وهو الغليان ـ تنجس » لكن ذلك ـ مع أنه لازم عقلي ـ مقطوع البقاء ، في كل مركب وجد أحد جزئية ، لا أنه مشكوك‌

٤١٦

______________________________________________________

كي يجري فيه الاستصحاب.

وقد يشكل ما ذكره. بأن إرجاع القضايا الشرطية إلى القضايا الحملية ، للبرهان القائم على أن موضوعات الاحكام علل تامة لها ـ لو تمَّ في نفسه ـ لا يتضح ارتباطه بما نحن فيه ، ضرورة أن المدار في صحة جريان الاستصحاب على المفاهيم التي هي مفاد القضايا الشرعية ، سواء أكانت نفس الأمر الواقعي ، أم لازمه ، أم ملازمه ، أم ملزومه ، ولذلك يختلف الحال في جريان الاستصحاب وعدمه ، باختلاف ذلك الأمر المتحصل. مثلا : لو كان الدليل قد تضمن أنه إذا وجد شهر رمضان وجب الصوم ، جرى استصحاب رمضان عند الشك في هلال شوال ، وكفى في وجوب الصوم يوم الشك. ولو كان الدليل تضمن وجوب الصوم في رمضان ، لم يجد استصحاب شهر رمضان في وجوب صوم يوم الشك ، لأنه لا يثبت كون الزمان المعين من شهر رمضان ، فهذا المقدار من الاختلاف في مفهوم الدليل كاف في تحقق الفرق في جريان الاستصحاب وعدمه ، مع أنه ـ في لب الواقع ونفس الأمر ـ لا بد أن يرجع المفاد الأول الى الثاني لأنه مع وجود شهر رمضان لا يكون الصوم في غيره ، ولا بد أن يكون فيه. وكذلك مثل : « إذا وجد كر في الحوض » و: « إذا كان ما في الحوض كراً » فإن الأول راجع الى الثاني ، ومع ذلك يختلف الحكم في جريان الاستصحاب باختلاف كون أحدهما مفاد الدليل دون الآخر. فالمدار في صحة الاستصحاب على ما هو مفاد القضية الشرعية ، سواء اكان هو الموافق للقضية النفس الأمرية أم اللازم لها أم الملازم.

نعم لو كان المراد من الإرجاع إلى القضية الحملية ، كون المراد من القضية الشرطية هو القضية الحملية ـ مجازاً أو كناية ـ على نحو لا يكون المراد من الكلام إلا مفاد القضية الحملية ، كان لما ذكر وجه. لكن هذا خلاف‌

٤١٧

______________________________________________________

الظاهر. وكيف تمكن دعوى أن معنى قولنا : « العنب إذا غلى ينجس » هو معنى قولنا : « العنب الغالي ينجس »؟! مع وضوح الفرق بين العبارتين مفهوما.

وبالجملة : إن كان المدعى أن معنى القضية الشرطية هو معنى القضية الحملية فذلك خلاف الظاهر. وان كان المدعى أن مفاد القضية اللبية هو المطابق لمفاد القضية الحملية ، وان مفاد القضية الشرطية لازم له ـ كما يظهر من بعض عبارات تقرير الاشكال ـ فالمدار في جريان الاستصحاب على مفاد القضية الشرعية ، وان كان لازماً للقضية اللبية ، أو ملازما له. ولو كان المدار على ما في لب الواقع لأشكل الأمر في جريان الأصول في موضوعات الأحكام ، وقيودها ـ غالباً ـ للعلم بأنها ليست موضوعا للقضية اللبية. مثلا : المذكور في لسان الأدلة الشرعية أن النجاسة منوطة بالغليان ، ولكن إذا تدبرنا قليلا علمنا أن الغليان ليس هو المنوط به النجاسة ، بل الإسكار ـ ولو الاستعدادي ـ ثمَّ إذا تدبرنا قليلا علمنا أن مناط النجاسة شي‌ء وراء الإسكار الاستعدادي ، مثل الخباثة النفسانية ، وربما نتدبر قليلا فنعلم أن المناط شي‌ء وراء ذلك ، ومع ذلك لا يصح رفع اليد عن ظاهر الدليل في قضية جريان الأصل ، بل يكون هو المدار في جريانه ، لأن أدلة الاستصحاب ناظرة إلى تنقيح مفاد الأدلة الشرعية لا غير. وبذلك افترق الأصل المثبت عن غيره ، فإن الأصل المثبت هو الذي يتعرض لغير مفاد الدليل الشرعي ، وغير المثبت ما يتعرض لمفاد الدليل الشرعي ، من حكمه ، وموضوعه ، وقيودهما ، وقيود قيودهما ، وسائر ما يتعلق بهما ، مما كان مذكوراً في الدليل.

وأما عدم جريان الأصل التعليقي فيما لو حدث في أثناء المركب ما يحتمل قطعه ، أو رفعه ، أو منعه ، فيقال : كان المقدار المأتي به من الاجزاء بحيث لو انضم إليه الباقي لأجزأ. فلأن القضية التعليقية المذكورة ، وان‌

٤١٨

______________________________________________________

كانت مستفادة من الدليل بنحو الدلالة الالتزامية ، فهي قضية شرعية ، إلا أن الملازمة لما كانت عقلية ، والعقل لا يحكم بها مطلقاً ، وإنما يحكم بها بشرط أن لا يحدث ما يحتمل قدحه ، فإن أريد استصحاب هذا المعنى ، فلا مجال له ، للعلم ببقائه ، وان أريد استصحاب مضمون القضية التعليقية من دون الشرط المذكور ، فلا حالة له سابقة إذ لا يحكم به العقل ، ولا طريق اليه غيره.

هذا كله مضافا إلى أن إرجاع شرط الحكم الى شرط الموضوع غير ظاهر ، فان شرط الحكم دخله في الحكم من قبيل دخل المقتضي في الأثر ، ودخل شرط الموضوع فيه من قبيل دخل المعروض في العارض ، والفرق بينهما نظير الفرق في باب الحكم التكليفي بين شرط الوجوب ، وشرط الواجب فان شرط الوجوب دخيل في كون الواجب مصلحة ، وشرط الواجب دخيل في وجود تلك المصلحة خارجا. نظير الفرق بين المرض وشرب المنضج ، بالإضافة إلى شرب المسهل ، فان المرض دخيل في كون شرب المسهل مصلحة ـ بمعنى أنه لو لا المرض كان شرب المسهل بلا مصلحة ـ بخلاف شرب المنضج قبل المسهل ، فإنه دخيل في ترتب المصلحة المقصودة من شرب المسهل. فما ذكره بعض الأعاظم من مشايخنا في درسه : من رجوع شرط الحكم إلى شرط الموضوع غير واضح. وهو نظير ما صدر من شيخنا الأعظم [ قده ] حيث التزم برجوع الواجب المشروط إلى الواجب المعلق ، وان قيد الهيئة راجع إلى قيد المادة. وتحقيق ذلك يطلب من مباحث الواجب المشروط من الأصول. فراجع.

هذا وقد يشكل الاستصحاب التعليقي بمعارضته بالاستصحاب التنجيزي ، فإنه كما يجري استصحاب النجاسة للزبيب على تقدير الغليان ، لثبوتها حال العنبية ، كذلك يجري استصحاب الطهارة الثابتة قبل الغليان ، فيقال : الزبيب‌

٤١٩

______________________________________________________

قبل أن يغلي كان حلالا طاهراً ، فهو كذلك بعد أن يغلي. وبعد ابتلائه بالمعارض دائما يسقط عن الحجية.

وأجاب عنه شيخنا الأعظم [ ره ] في رسائله ، بحكومته على الاستصحاب التنجيزي. ولم يتضح وجه الحكومة المذكورة ، فإن الشك في الحرمة على تقدير الغليان عين الشك في الحلية على تقدير الغليان ، لأن الشك يتقوم بطرفين هما الحرمة والحل ، فالشك في الحرمة معناه الشك في الحل ، كما أن الشك في الحركة عين الشك في السكون ، فيمتنع أن يكون الاستصحاب الجاري لإثبات أحد طرفي الشك حاكما على الاستصحاب الجاري لإثبات الطرف الآخر. وهذا معنى التعارض بين استصحاب الحل التنجيزي ، واستصحاب الحرمة التعليقية.

فإن قلت : إن من القطعيات أصالة عدم النسخ ، الذي لا فرق فيه بين الحكم التنجيزي والتعليقي ، ولو تمت المعارضة المذكورة ، كان استصحاب عدم النسخ في الأحكام التعليقية معارضا باستصحاب الحكم التنجيزي ، الذي هو خلاف الحكم التعليقي ، ويسقط حينئذ عن الحجية. قلت : أصالة عدم النسخ ليست من قبيل الاستصحاب ، بل هي أصل لنفسه حجيته لبناء العقلاء عليه. ولو كان من باب الاستصحاب لم يجر لو شك في نسخ الاستصحاب ، ولجاء فيه الخلاف الجاري في حجية الاستصحاب ، كما لا يخفى.

وربما يظهر من بعض عبارات شيخنا الأعظم [ ره ] في رسائله : أن الوجه في الحكومة هو أن الشك في الحل والحرمة ناشئ من الشك في بقاء الملازمة بين الغليان والنجاسة والحرمة ، فالاستصحاب المثبت لبقاء الملازمة حاكم على استصحاب الحل. وفيه : ما عرفت من أن الملازمة ليست مجعولا شرعيا ، وإنما هي متفرعة من الحكم بالحرمة والنجاسة ـ على تقدير الغليان ـ

٤٢٠