منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الإثبات. وإنّما يكون التعارض بحسب السند فيها إذا كان كل واحد منها قطعيا دلالة وجهة ، أو ظنيا (١) فيما (٢) إذا لم يكن (٣) التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكل (٤) ، فإنّه (٥)

______________________________________________________

في أصالتي الصدور ـ ويكون موضوع حكم العقل بالتخيير أو التساقط وموضوع أخبار العلاج ـ ينحصر في الدليلين الظنيين سواء أكان كل واحد منهما قطعيا جهة ودلالة أم ظنيا كذلك ، فإنّ التعارض يقع في سنديهما ، للعلم الإجمالي بعدم صدور أحدهما بعد وضوح عدم إمكان الجمع بينهما بالتصرف فيهما ، لفرض قطعيّة دلالتهما ، فلا محالة يقع التعارض بين أصالتي الصدور فيهما ، إذ لا معنى للتعبد بصدورهما مع العلم الإجمالي بكذب أحدهما. هذا في صورة القطع بالدلالة والجهة.

وأمّا في صورة ظنّيّتهما ـ كظنية السند ـ فلأنّهما وإن كانا قابلين للتصرف في أحدهما أو الأخذ بظاهر الآخر وحمله على التقية مثلا ، إلّا أنّه لعدم قرينة على ذلك يصير المراد فيهما مجملا ، وإن لم يكن هذا الإجمال منافيا لأصل الصدور واقعا ، لكنه مخلّ بالتعبد بالسند ، إذ لا معنى للتعبد بسند رواية مجملة.

وبالجملة : فأصالة الصدور لا تجري في الصورة الأولى ، للعلم الإجمالي بعدم صدور أحدهما ، وفي الصورة الثانية ، لعدم الأثر في التعبد بالصدور.

(١) أي : في الدلالة والجهة كالسند ، فيتعارض الأصول الثلاثة فيهما بناء على عرضيّتها.

وأمّا بناء على طوليّتها ـ وكون الظهور والجهة في طول الصدور ـ فالتعارض يكون بين أصالتي الصدور فقط.

(٢) هذا قيد لقوله : «ظنيا» لأن القطعي غير قابل للتوفيق جزما وبلا تعليق.

(٣) بمعنى «يوجد» فـ «يكن» هنا تامة ، و «بالتصرف» متعلق بـ «التوفيق».

(٤) إذ مع إمكان التوفيق بينهما بالتصرف في البعض أو الكل تندرج في موارد الجمع العرفي وتخرج موضوعا عن باب التعارض.

(٥) الضمير للشأن ، وهذا تعليل للتعارض بحسب السند ، وحاصله : أنّ دليل التعبد بالصدور لا يشملهما ، إمّا للعلم الإجمالي بكذب أحدهما كما في صورة القطع بالدلالة والجهة ، إذ مع قطعيّتهما وعدم إمكان التصرف فيهما يحصل العلم بعدم صدور أحدهما.

٦١

حينئذ (١) لا معنى للتعبد بالسند في الكل إمّا للعلم بكذب أحدهما ، أو لأجل (٢) أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها (٣) ، فيقع (٤) التعارض بين أدلة السند كما لا يخفى.

______________________________________________________

وإمّا لأجل عدم معنى للتعبد بصدورهما كما في صورة الظن بكل من الصدور والدلالة والجهة ، حيث إنّ نتيجة التعبد حينئذ ليست إلّا الرفض ، لإجمالهما ، إذ المفروض أنهما لظنيّتهما وإن كانا قابلين للحمل والتصرف ـ بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما أو البناء على صدور أحدهما لبيان غير الواقع ـ ولذا لا يحصل العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، إلّا أنّه لعدم قرينة على تعين أحد الأمرين يصير كل منهما مجملا ، ولا معنى للتعبد بالمجمل.

(١) يعني : حين عدم التوفيق بين الأدلة بالتصرف في الكل أو البعض.

(٢) معطوف على «إما» وكلاهما علة لعدم معنى للتعبد بصدورهما ، غاية الأمر أن الأوّل راجع إلى عدم المقتضي للحجية ، والثاني إلى وجود المانع وهو لغويّتها.

(٣) هذا الضمير وضمير «بصدورها» راجعان إلى «الأدلة» ووحدة السياق تقتضي إفراد ضمير «أحدهما» كغيره من الضمائر ، لا تثنيته.

(٤) هذه نتيجة العلم بكذب أحد الدليلين أو لغوية التعبد بصدورهما ، فإنّهما يمنعان شمول أدلة اعتبار السند لهما ، وهذا معنى التعارض.

٦٢

فصل

التعارض (١) وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد

______________________________________________________

الأصل الأوّلي في تعارض الدليلين بناء على الطريقية

(١) الغرض من عقد هذا الفصل بيان ما يقتضيه حكم العقل في تعارض الأمارتين بملاحظة الأدلة الأوّلية الدالة على اعتبار تلك الأمارة ، وأما بالنظر إلى القاعدة الثانوية الشرعية ـ المدلول عليها بأخبار العلاج في خصوص تعارض الخبرين ـ فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في الفصل الآتي.

وليعلم أنه لا ثمرة في تأسيس الأصل العقلي بالنسبة إلى تعارض أخبار الآحاد ، لتكفل الأخبار العلاجية لبيان حكم تعارض الروايات ، ولا أثر للأصل مع وجود الدليل. نعم تترتب الثمرة على تعارض غير الأخبار ، كما إذا وقع التعارض بين ظاهري آيتين أو ظاهري خبرين متواترين. وكذا في تعارض الأمارات في الشبهات الموضوعية كتعارض بيِّنتين أو بين فردين من قاعدة اليد كالعين المملوكة التي استولى عليها كلا المدعيين. ونحو ذلك.

وحيث اختلف حكم العقل بالتساقط والتخيير باختلاف المباني في حجية الأمارات

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

غير العلمية من حيث الطريقية والموضوعية فلا بد من البحث في مقامين : الأوّل في حكم العقل بناء على الطريقية ، والثاني في حكمه بناء على السببية. وقبل الخوض في المقامين ينبغي تقديم أمور :

الأوّل : أن حجية الأخبار ـ وسائر الأمارات ـ إما أن تكون من باب الطريقية والكشف عن الواقع ، وإما أن تكون من باب السببية والموضوعية. والمراد من جعل الحجية على وجه الطريقية هو كونها مجعولة بلحاظ لزوم حفظ الأحكام الواقعية ، وكون اعتبار الشارع لأمارة خاصة ـ تأسيسا أو إمضاء ـ لأجل أقربيتها إلى إحراز الواقع ، بحيث تنحصر مصلحة جعل الحجية لتلك الأمارة في الاستطراق بها للوصول إلى المصالح النّفس الأمرية والأحكام الفعلية التي اشتغلت الذّمّة بها وتنجّزت بالعلم الإجمالي أو الاحتمال المنجز ، ولذا يكون تمام المناط للحكم بحجِّيّة الطريق هو نفس الواقع ، وقد يكون مناطه المصلحة التي هي في الأمارة ، وهي في طول مصلحة الواقع بناء على القول بالمصلحة السلوكية.

والمراد بحجية الأمارة على السببية هو وجود مصلحة أخرى غير مصلحة الإيصال إلى الواقع ، سواء أكانت المصلحة في الأمر بالعمل بالأمارة أم في نفس سلوكها أم في المؤدّى. وهذه الاحتمالات الثلاثة وإن كانت متفاوتة بحسب الآثار ، كما تتفاوت محتملات الطريقية من كون المجعول نفس الحجية أو الحكم الطريقي أو تنزيل المؤدى منزلة الواقع أو تنزيل الظن ـ بتتميم الكشف ـ منزلة العلم أو غير ذلك ، إلّا أن المهم في مسألة تعارض الخبرين هو ملاحظة أصل مبنى الطريقية والموضوعية ، وأنّ الملحوظ هو الواقع أم ما أدّت إليه الأمارة ، ولا أثر لملاحظة محتملات كل من الطريقية والسببية.

ثمّ إنّ الحق ـ كما عليه أهله ـ حجية الأمارة على الطريقية ، وأنّ غرض الشارع من نصب أمارة مخصوصة هو إحراز الواقع بها غالبا ، لا حدوث مصلحة في المؤدى بعنوان ما قامت الأمارة عليه. والشاهد على هذه الدعوى اعتبار الصفات الدخيلة في جهة الكشف عن الواقع وإيصاله إلى المكلف كعدالة الراوي أو وثاقته ، وضبطه وتحرزه عن الكذب ، دون الأوصاف التي لا تؤثِّر في هذه الحيثية وإن كانت دخيلة في شرافة الراوي مثل كونه هاشميا أو أكثر صحبة مع الإمام عليه‌السلام أو كونه متشرِّفا بمعاصرة ثلاثة منهم عليهم‌السلام أو أكثر ، وغير ذلك.

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا المعنى يستفاد من الأدلة الأوّلية على حجية خبر الواحد ومن الأدلة الثانوية أعني أخبار العلاج من حيث الترجيح بالصفات وبعض التعليلات الواردة فيها ، فمن الأدلة الأوّلية جوابه عليه‌السلام «نعم» لعبد العزيز بن المهتدي السائل عن وثاقة يونس بن عبد الرحمن وأهليته لأن يأخذ منه معالم الدين ، لظهوره ـ بل صراحته ـ في أنّ حجية خبر الثقة تكون من جهة كشفه عن الواقع ، إذ لا يراد بمعالم الدين ومعارفه سوى الأحكام الواقعية.

ومن الأدلة الثانوية ترجيح أحد الخبرين المتعارضين بصفات الراوي كالأعدلية والأفقهية والأصدقية ، وبالشهرة معلّلا بـ «أن المجمع عليه لا ريب فيه» ونحو ذلك مما يدل على أن الغرض من العمل بخبر الثقة هو تحصيل المطلوب الأقصى أعني الوصول إلى الأحكام الواقعية المنجزة على المكلفين بالعلم الإجمالي أو الاحتمال.

وعليه فالبحث عن حكم المتعارضين على السببية إنما هو لاستيفاء جهات البحث ، لا للمصير إليها.

الثاني : أن الملاك في حجية الأمارة على الطريقية هو غلبة الإيصال نوعا واحتمال الإصابة شخصا ، ولا تدور الحجية مدار مطابقة كل واحد من المصاديق للواقع ، كما لا يناط عدم الحجية بعدم المطابقة ، فالإيصال إلى الواقع ليس علة لحجية الأمارة بل هو حكمة لها. فإذا اعتبر الشارع خبر العدل أو الثقة حجة على الطريقية فمعناه كشف خبره عن الواقع غالبا ، ولا يعتبر إصابة كل واحد من أفراد طبيعي خبر العدل بالواقع ، إذ لا معنى لدوران الحجية مدار صدق كل خبر عدل أو ثقة ، فإنّه لو أحرز صدقه ومطابقته للواقع كان جعل الحجية له لغوا ، لأنه من إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد. ولو لم يحرز صدقه كان الخبر المشكوك الصدق شبهة موضوعية لعموم دليل الاعتبار ، وقد تقرّر عدم حجية الدليل في الشبهة المصداقية.

وعليه يكون تمام الموضوع لدليل الاعتبار هو خبر العدل أو الثقة ، فإن كان مصيبا فقد تنجز الواقع به ، وإن كان مخطئا فقد أعذر المكلف في مخالفة الواقع. ولمّا لم يكن للخبر الموصل علامة تميزه عن غير الموصل أمر الشارع بمتابعة خبر العدل مطلقا حتى إذا ترتب عليه فوت الواقع أحيانا.

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الثالث : أن البحث في هذا الفصل على الطريقية ـ من تساقط المتعارضين أو حجية أحدهما بلا عنوان ـ مبني على أن يكون مفاد أدلة الاعتبار حجية الخبر عينا من غير تقييد بحال التعارض ، ولا بملاحظة هذه الحالة ، إذ لو كان مفاد الأدلة حجية كل خبر مقيد بعدم وجود معارض له لم تصل النوبة إلى ملاحظة حكم العقل في حال التعارض ، بل كان كل منهما ساقطا عن الحجية من جهة عدم وجود المقتضي فيه ، لفرض دخل عدم التعارض في موضوع دليل الاعتبار. وعلى هذا فاللازم أن يكون مفاد الأدلة حجية ذات الخبر من دون ملاحظة الطواري ـ كالتعارض ـ عليه ، فتدل على حجية كل خبر في نفسه اقتضاء وإن لم يكن حجة فعلا لمكان التعارض ، كما هو الحال في المباحات الذاتيّة التي طرأ عليها العنوان المحرّم. هذا ما أفاده المصنف في حاشية الرسائل عند بيان محتملات أربعة في أدلة اعتبار الخبر الواحد (١).

إذا تمهّد هذا فنقول في توضيح المقام الأوّل : إن محتملات تعارض الخبرين بناء على الطريقية أمور كثيرة :

الأوّل : سقوطهما عن الحجية رأسا أي سواء في المدلول المطابقي والالتزامي ، وجواز الرجوع إلى الأصل ولو كان مخالفا لهما ، فالتعارض يوجب فرض كليهما كالعدم ، وكون المورد مما لا نصّ فيه.

الثاني : الحكم بالتوقف بمعنى سقوطهما في المدلول المطابقي دون الالتزامي ، وجواز الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما دون الأصل المخالف لهما.

الثالث : حجيتهما معا.

الرابع : حجية أحدهما تخييرا.

الخامس : حجية الموافق للواقع منهما.

السادس : حجية أحدهما لا بعينه.

وهذا الاحتمال الأخير هو مختار المصنف «قده» هنا وفي حاشية الرسائل ، ومحصل ما أفاده في وجهه : أن التعارض لمّا لم يكن موجبا لسقوط كلا المتعارضين عن الطريقية ، لعدم كونه موجبا للعلم بكذبهما معا حتى يسقط كلاهما عن الطريقية ، بل لا يوجب إلّا

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٦٤

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

العلم بكذب أحدهما ، كان اعتبار الآخر الّذي فيه مناط الحجية وهو احتمال المطابقة للواقع بلا مانع. إلّا أنّه لما كان ذلك غير متميز عمّا علم إجمالا كذبه مع احتمال انطباقه على كل واحد من المتعارضين فلا يشملهما دليل الاعتبار ، لأجل العلم بعدم صغروية كليهما له ، ولا يشمل أحدهما المعيّن ، لكونه ترجيحا بلا مرجح ، ولا أحدهما المخيّر ، لعدم فرديته للعام.

وببيان آخر : الوجه في حجية أحد المتعارضين بلا عنوان هو وجود المقتضي وفقد المانع. أمّا وجود المقتضي فلأنّ المقتضي لجعل الحجية للخبر الواحد دون سائر الأمارات هو غلبة الإصابة نوعا ، واحتمال الإصابة شخصا ، وحيث إنّ كل واحد من المتعارضين جامع لشرائط الحجية ـ لو لا التعارض ـ كان احتمال الإصابة موجودا في كل منهما ، إذ لا علم بكذب أحدهما المعيّن حتى يكون الساقط عن دليل الاعتبار خصوص معلوم الكذب. وعليه فالمقوّم لحجية كل واحد ـ أعني احتمال الإصابة بالواقع ـ موجود ، ولا بدّ من ملاحظة مقدار مانعية المانع ، وأنّه يمنع عن حجية أحدهما أو كليهما.

وأمّا فقد المانع عن حجية أحدهما فلانحصار المانع في العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، وهو لا يوجب سقوط كليهما عن الحجية ، بل يوجب سقوط أحدهما بلا عنوان ، وذلك لتساوي نسبة هذا العلم الإجمالي إلى كلا الخبرين ، إذ لا تعيّن لواحد منهما بحسب هذا العلم.

وحيث كان المقتضي ـ أعني به احتمال الإصابة ـ موجودا في كلا الخبرين ، وكان المانع متساوي النسبة إليهما ، ولم يكن مانعا عنهما معا ولا عن أحدهما المعين كان أحد المقتضيين وهو محتمل الصدق منهما مؤثرا ـ بلا عنوان ـ في مقتضاه ، والآخر بلا عنوان أيضا ساقطا عن التأثير ، ونتيجة حجية أحدهما ، وسقوط أحدهما كذلك.

ويترتب على هذا البيان أمران :

أحدهما : سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي ، فإنّ أحد الخبرين وإن كان حجة ـ كما عرفت ـ إلّا أنه لا علامة له تميزه عن الخبر الساقط عن الحجية ، لكونه بلا لون ولا عنوان أيضا ، لاحتمال انطباق الخبر الكاذب على كل منهما ، فلأجله يسقطان عن الاعتبار في المؤدى.

٦٧

المتعارضين عن الحجية رأسا (١) ، حيث (٢) لا يوجب إلّا العلم بكذب أحدهما ، فلا يكون هناك مانع (*) عن حجية الآخر ، إلّا أنه (٣) حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا (٤) ،

______________________________________________________

ثانيهما : نفي الثالث بالحجة الواقعية المعلومة إجمالا ، ولا يتوقف هذا النفي على العلم التفصيليّ بالحجة ، فأيّ واحد من الخبرين كان حجة واقعا كان نافيا للثالث ، وذلك لأن الغرض المترقّب من الحجة ـ وهو تحريك المكلف وبعثه نحو الفعل أو زجره عنه ـ وإن لم يترتب على الحجة التي لا تعيّن لها بوجه أصلا ، إلّا أنه لا مانع من جعل الحجية لذلك اللامتعين بلحاظ نفي الثالث الّذي هو أثر حجية الخبر واقعا ، لوجود المقتضي لنفي الثالث في أحدهما وفقد المانع منه.

هذا توضيح ما أفاده المصنف بناء على الطريقية.

(١) أي : في كل من الدلالة المطابقية والالتزامية ، لأنّ معلوم الكذب ليس فيه مقتضي الحجية والطريقية.

(٢) تعليل لعدم إيجاب التعارض إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية ، فلا وجه لسقوط كليهما عنها ، إذ المانع عن الحجية ـ وهو العلم بالكذب ـ مختص بأحدهما.

(٣) أي : إلّا أن معلوم الكذب ، حيث إنه لم يكن له عنوان وعلامة يميّز انه عن معارضه ، إذ المفروض واجدية كل منهما لشرائط الحجية ، وعدم محذور في حجية كل منهما إلّا العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، واحتمال انطباق «معلوم الكذب» على كل منهما ، امتنع شمول دليل الاعتبار لهما ، للزوم التناقض ، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيءٍ والآخر على عدم وجوبه. أو التضاد ، كما إذا دلّ أحدهما على طهارة الغسالة مثلا ، والآخر على نجاستها ، فيسقط كلا المتعارضين عن الحجية في خصوص مدلولهما المطابقي.

(٤) لما مرّ من فرض واجدية كل منهما لشرائط الحجية ، وليسا كاشتباه خبر ضعيف

__________________

(*) الأولى أن يقال : «رافع لمقتضي حجية الآخر» أو «لما يقتضي حجية الآخر» ضرورة أنه «قده» يذكر بعد ذلك مانع الحجية في المدلول المطابقي لكل من المتعارضين ، فالعلم الإجمالي مانع عن حجية الآخر ، وليس رافعا لمقتضيها.

٦٨

فإنّه (١) لم يعلم كذبه إلّا كذلك ـ واحتمال (٢) كون كل منهما كاذبا ـ

______________________________________________________

بخبر صحيح ، فإن الصحيح متميز عن الضعيف بماله من العنوان واقعا.

وتوضيح الفرق بين حجية أحدهما بلا عنوان وبين اشتباه الحجة باللاحجة ـ بعد اشتراكهما في صلاحية كل من البابين لنفي الثالث ـ هو : أن النافي للثالث في مسألة اشتباه الحجة باللاحجة هو الحجة الواقعية التي لها تعين واقعا وإن كانت مجهولة ظاهرا ، والنافي للثالث في مسألة حجية أحدهما بلا عنوان هو الحجة المبهمة التي لا تعيُّن لها لا واقعا ولا ظاهرا ، على ما صرّح به المصنف في حاشية الرسائل.

ويمكن تقريب الفرق بين البابين ببيان مثال ، وهو ما إذا علم إجمالا بوقوع القذر في أحد الكأسين الطاهرين ، فتارة يكون للكأس الطاهر علامة وعنوان مثل كونه كأس زيد ، وأصابت النجاسة بكأس عمرو ، لكن اشتبه الكأسان. وأخرى لا يكون الكأس الطاهر متميِّزاً عن الكأس النجس بعلامة وعنوان ، بل كان هنا كأسان أصاب القذر أحدهما.

ففي الفرض الأوّل يكون المعلوم بالإجمال متميزاً بكونه كأس عمرو ، بحيث لو كان كأس زيد متنجساً أيضا لم يكن مستنداً إلى هذا العلم الإجمالي ، بل ثبتت نجاسته بحجة أخرى ، ولو تميّز كأس عمرو عن كأس زيد صار متعلق العلم الإجمالي معلوما تفصيلا. ومسألة اشتباه الخبر الصحيح بالخبر الضعيف من هذا القبيل.

وفي الفرض الثاني حيث لا علامة للكأس الطاهر بوجه من الوجوه فلذلك يكون المعلوم بالإجمال صالحا للانطباق على كل منهما ، بحيث لو فرض نجاستهما معا لكان كل واحد قابلا لانطباق المعلوم بالإجمال عليه. والمقام من هذا القبيل ، لاستواء الخبرين في جميع ما يعتبر في الحجية ، ولا علامة تميّزا الحجة منهما عن غيرها ، فكل منهما خبر يحتمل الصدق والكذب ، بل يحتمل كذب كلا الخبرين وعدم صدور شيء واقعا ، لكن مناط الحجية ـ وهو احتمال إصابة الواقع ـ موجود في كليهما.

(١) أي : فإن معلوم الكذب لم يعلم كذبه إلّا كذلك أي بلا تعيين ولا عنوان.

(٢) معطوف على «كذلك» يعني : لم يعلم كذبه إلّا باحتمال كون كل منهما كاذبا. ويمكن عطفه على «بلا تعيين» يعني : كان بلا تعيين وكان باحتمال كون ... إلخ. كما يمكن كون الواو بمعنى «مع». وعلى كل فهذه الجملة مستغنى عنها ، فإنّ احتمال كذب كل منهما كان مستفادا من نفس التعارض ، وكون الخبر الكاذب فاقدا لعلامة تميِّزه عن الخبر الآخر.

٦٩

لم يكن (١) واحد منهما بحجة في خصوص مؤدّاه ، لعدم (٢) (*) التعيين في الحجية أصلا كما لا يخفى.

نعم (٣) يكون نفي الثالث بأحدهما ، لبقائه

______________________________________________________

(١) جواب «حيث كان» وقد عرفت وجه عدم حجيتهما وهو التناقض أو التضاد الّذي هو منشأ أصالة التساقط الحاكم به العقل في المتعارضين ـ بناء على الطريقية ـ في خصوص المؤدى أعني به المدلول المطابقي الّذي هو مورد التكاذب.

(٢) تعليل لعدم حجية كل منهما ، وحاصله : أنه لمّا كان الدليل الأوّلي للحجية قاصرا عن شمول أحدهما بعينه ، لما مرّ آنفا من لزوم التناقض أو التضاد ، فلا دليل على حجية أحدهما في مدلوله المطابقي ، إذ ما لم تحرز الحجة لم يكن مؤدّاها حجة.

حجية أحد المتعارضين في نفي الثالث

(٣) استدراك على عدم حجية كل منهما في مدلوله المطابقي ، وحاصله : أن التعارض يختص بمورد التكاذب وهو المدلول المطابقي للمتعارضين كما مرّ ، وأمّا ما لا تكاذب فيه كنفي الثالث ـ وهو المدلول الالتزامي ـ فلا مانع من حجيته فيه ، فإذا دلّ أحد المتعارضين على وجوب شيء والآخر على حرمته فهما وإن كانا ساقطين في مدلوليهما المطابقيين أعني الوجوب والحرمة ، إلّا أن حجية أحدهما لا بعينه صالحة لنفي الثالث.

فإن قلت : قد اعترف المصنف بعدم حجية شيء منهما في المؤدى بقوله : «لم يكن واحد منهما بحجية في خصوص مؤداه» ومعه كيف يمكن نفي الثالث بأحدهما؟ فإنّ الخبر إذا لم يكن حجة في مدلوله المطابقي لأجل التعارض لم يكن حجة في المدلول الالتزامي ، لكونه متفرعا عليه وتابعا له.

قلت : التفكيك في الحجية بين المدلول المطابقي والالتزامي أمر ممكن ، وذلك لأنّ

__________________

(*) لعل الأولى أن يقال : «لعدم شمول دليل الاعتبار لهما مع العلم بكذب أحدهما إجمالا الموجب لعدم شمول دليل حجية الخبر لكليهما» إذ هو المناسب لعدم حجية كل واحد منهما ، دون تعليل المتن ، فإنه يناسب حجية أحدهما لا بعينه ، دون عدم حجية كل منهما كما هو مفاد «لم يكن واحد منهما بحجة ... إلخ» وقد عرفت أن أحدهما المردد ليس فردا لعموم دليل الاعتبار حتى يكون مشمولا له.

٧٠

على الحجية (١) وصلاحيته (٢) على ما هو عليه من عدم التعيين لذلك (٣)، لا بهما (٤) (*)

______________________________________________________

عدم حجية المبهم والمردد من جهة عدم ترتب الغرض المترقب من الحجّة عليه ـ وهو الحركة على طبقها ـ لا ينافي حجية هذا المبهم بلحاظ الأثر المترقب من الحجة عليه من جهة أخرى ، فدليل اعتبار الخبر كما يدل على حجية المدلول المطابقي كذلك يدل على حجية لوازمه البيّنة ، ومن المعلوم استلزام الإخبار عن الوجوب للإخبار عن عدم إباحته ، فإذا سقطت حجية حكايته عن الوجوب بالتعارض لم يسقط اعتبار حكايته عن عدم الإباحة. وسيأتي في التعليقة تحقيق المسألة ، فلاحظها.

(١) لما عرفت من وجود المقتضي وفقد المانع ، فذاك الواحد مع عدم تعينه صالح لنفي الثالث.

(٢) معطوف على «بقائه» ومفسِّر له ، وضميره وضمير «لبقائه» راجعان إلى «أحدهما» وقوله : «من عدم» بيان للموصول في «ما هو».

(٣) أي : لنفي الثالث ، وهو متعلق بـ «صلاحيته».

(٤) معطوف على «بأحدهما» يعني : يكون نفي الثالث مستندا إلى أحدهما لا إلى كلا المتعارضين ، إذ مع العلم إجمالا بكذب أحدهما لا وجه لحجيتهما معا ، لمنافاته لحجيتهما ، من دون منافاة لحجية أحدهما لا بعينه.

والظاهر أنّ قوله : «لا بهما» تعريض بمن جعل نفي الثالث مدلول كلا الخبرين لا مدلول أحدهما لا بعينه ، وقد أفاد هذا في حاشية الرسائل بقوله : «ربما يقال» وحاصله : أن مقتضى الأصل العقلي هو سقوط كلا المتعارضين في المؤدى خاصة من جهة العلم بكذب أحدهما ، وحجية كليهما في المدلول الالتزامي ، لعدم التنافي والتكاذب بالنسبة إليه. قال في الحاشية : «وبالجملة : لا بدّ أن يقتصر في رفع اليد عن الحجية مع وجود المقتضي على قدر المانع ، ولا مانع منهما إلّا بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي ، دون الالتزامي ، فيكون نفي الثالث مستندا إلى كل واحد ...».

__________________

(*) ما أفاده «قده» في حجية أحدهما بلا عنوان وما رتّبه عليه من نفي الثالث به لا يخلو من غموض. أما حجية أحدهما بلا عنوان فظاهر قوله : «فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر» وقوله :

٧١

هذا (١) بناء على حجية الأمارات من باب الطريقيّة كما هو (٢) كذلك ،

______________________________________________________

وقد عرفت وجه التعريض ، لأن الباقي على الحجية هو أحدهما بلا عنوان ، وهذا ينفى الثالث ، وليس الحجة كلا المدلولين الالتزاميين كي يستند نفي الثالث إلى كلا المتعارضين.

(١) يعني : ما ذكرناه ـ من عدم حجيتهما في المدلول المطابقي ، وحجية أحدهما في نفي الثالث ـ مبني على حجية الأمارات من باب الكشف والطريقية.

(٢) أي : كما أن التساقط المزبور ـ بناء على حجية الأمارات بنحو الكشف والطريقية ـ

__________________

«لبقائه على الحجية» كصريحه في حاشية الرسائل حجية أحدهما في كلا مدلوليه المطابقي والالتزامي ، قال فيها : «وليس ما علم كذبه إلّا أحدهما كذلك ، فلا وجه لسقوط غيره عن الحجية بالنسبة إلى كلا مدلوليه المطابقي والالتزامي ، كما لا وجه لبقائه ـ أي لبقاء أحدهما بلا عنوان ـ على الحجية بالإضافة إلى مدلوله الالتزامي ...» (١). ومن المعلوم أن حجية أحدهما في كلا المدلولين تنافي قوله : «لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه» فسقوط كلا المؤديين عن الاعتبار لمكان التعارض واحتمال انطباق معلوم الكذب على كل واحد من الخبرين ـ كما هو الصحيح ـ لا يلتئم مع بقاء أحدهما بلا عنوان على الحجية مطلقا

ولو كان مقصوده من إبقاء أحد المتعارضين على الحجية نفي الثالث به ـ في قبال من نفي الثالث بهما ـ مع فرض تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية فلا بدّ من تقريب آخر ، وهو الّذي استفادة المحقق الأصفهانيّ من هامش المصنف «قدهما» على بحث الوجوب التخييري ، ومحصله : أن عدم ترتب الغرض المترقب من جعل الحجية لأحدهما بلا ـ عنوان وهو الحركة على طبقها ـ لا ينافي صحة جعلها لغرض آخر وهو نفي الثالث بها. وهذا بيان آخر لنفي الثالث سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

ومع الغض عن التهافت الظاهر من كلاميه ـ من حجية أحدهما في المدلول المطابقي والالتزامي معا تارة ، وسقوط المدلول المطابقي فيه عن الاعتبار أخرى ـ لا وجه للالتزام بما أفاده «قده» وذلك لما أورده عليه المحقق الأصفهانيّ من وجوه ثلاثة :

أوّلها : أن تعلق الحجية ـ بما هي صفة من الصفات ـ بالمردد محال ، إذ المردد بالحمل الشائع محال ، لا ثبوت له ذاتا ووجودا ، ماهيّة وهويّة ، وما لا ثبوت له بوجه يستحيل أن يكون مقوّما ومشخّصا لصفة حقيقية أو اعتبارية ، فإن الصفة التعلقية متقومة بطرفها. وحيث استحال الطرف لم يعقل تحقق تلك الصفة المتقومة به. مضافا إلى : أن تعلق الصفة بالمردد يلزمه أمر محال وهو تردد المعيّن أو تعين المردد ، وكلاهما خلف.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٦٦

٧٢

حيث (١) لا يكون حجة طريقا إلّا ما احتمل إصابته ، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعا عن حجيته (٢).

______________________________________________________

هو الحق كما اختاره في مواضع من الكتاب ، منها أوائل بحث الأمارات غير العلمية ، حيث قال : «ولا يكاد يكون الاتصاف بها ـ أي بالحجية ـ إلّا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقا متبعا ...»

(١) تعليل للتساقط المذكور ، وحاصله : أن حجيّة شيء من باب الطريقية منوطة باحتمال إصابته للواقع ، فمع العلم بالكذب وعدم الإصابة لا معنى لحجيته في خصوص مؤداه. هذا بالنسبة إلى ما علم كذبه. وأما غيره فهو على إبهامه حجة فيما لا معارض له من نفي الثالث ، وهذا هو ما تقدّم من التساقط في الجملة.

(٢) لكونه رافعا لمناط حجيته وهو احتمال طريقيته وإصابته للواقع ، فلعل الأولى إبدال العبارة بـ «كان العلم بكذب أحدهما رافعا لمقتضي حجيته».

__________________

ثانيها : أن حقيقة الحجية ـ سواء كانت بمعنى تنجيز الواقع أو جعل الحكم المماثل إيصالا للحكم الواقعي بعنوان آخر ـ سنخ معنى لا يتعلق بالمردد ، بداهة أن الواقع الّذي له تعيّن واقعا هو الّذي يتنجز بالخبر ، وهو الّذي يصل به بعنوان آخر ، فكيف يعقل أن يكون المنجز هو المردد والمبهم؟ أو الواصل هو المردد والمبهم؟

ثالثها : أن الأثر المترقب من الحجية ـ بأيّ معنى من المعنيين ـ هو لزوم الحركة على طبق ما أدت إليه الحجة ، والحركة نحو المبهم والمردد واللامتعين غير معقولة ، فإن البعث المطلق لا يتحقق ، وإنما هو أمر انتزاعي يتشخص بمتعلقه ، فلا معنى لتعلق البعث بالمردد (١).

وبهذه الوجوه الثلاثة ـ الناظرة إلى كون الحجية صفة من الصفات ، وإلى معنى الحجية ، وإلى الأثر المترقب منها ـ يناقش في تصوير المصنف «قده» حجية أحد المتعارضين بلا عنوان.

ولو كان المحذور منحصرا في الإشكال الثالث كان التفكيك في الحجية بين المدلول المطابقي والالتزامي ممكنا بلحاظ ما يستفاد من كلام الماتن في هامش الوجوب التخييري من أن المحذور في حجية المؤدى لا يمنع جعل الحجية لنفي الثالث ، لما أفاده هناك من إمكان اعتبار الوجوب لعنوان «أحدهما» لكون الوجوب أمرا اعتباريا مجعولا لأمر اعتباري ، إلّا أن البعث والتحريك ـ المترتب على إيجاب شيء ـ نحو المردد غير معقول.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٤٨

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مع أن أصل هذا البيان ممنوع أيضا بما أفاده المحقق الأصفهانيّ هناك ، فراجع كلامه متنا وهامشا (١).

ومنه تعرف الإشكال في كلام المحقق المشكيني «قده» من «أن الاعتبارات الوضعيّة على قسمين ، فمنها ما يتعلق بالمعيّن كالزوجية ، ومنها ما يتعلق به وبأحدهما لا بعينه كالملكية ، والظاهر أن الحجية من قبيل القسم الثاني» لما عرفت من أن الغرض من الحجية بعث المكلف نحو المتعلق ، ولا يعقل البعث نحو المبهم. وهذا المقدار اعترف المصنف به في هامش بحث الوجوب التخييري ، وإنّما ادّعى إمكان إيجاب أحد الفردين لكون الوجوب أمرا اعتباريا.

وأما بيع صاع من صبرة والوقف على أحد المسجدين ونحوهما مما ظاهره تعلق الأمر الاعتباري الوضعي بالمردد فهو أجنبي عن المقام ، وتحقيقه موكول إلى الفقه الشريف.

ومع الغض عن جميع ما تقدّم يرد عليه إشكال آخر أفاده شيخنا المحقق العراقي ووافقه سيدنا الأستاذ في حقائقه ، ومحصله : أن العلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين لا يمنع شمول دليل الاعتبار لكل واحد من المتعارضين إلّا على مبنى سراية العلم إلى الخارج ، وهو ممنوع ، فان متعلق العلم هو الصورة الإجمالية ، وهذا لا يسري إلى صورة أخرى ولا إلى الخارج ، وكل منهما مشكوك الكذب ، ولا مانع من شمول دليل الاعتبار لكل خبر محتمل الصدق والكذب ، والخارج عن الحجية هو معلوم الكذب ، إذ العلم بالكذب هادم للمقتضي وهو احتمال الصدق.

فإن قلت : العلم الإجمالي بالكذب وإن كان لا يسري إلى الخارج ، إلا أنه ينجز متعلقه ، فيجب الاحتياط في أطرافه.

قلت : الكذب الواقعي لا يمنع عن شمول دليل الحجية حتى يكون العلم به علما بالمانع ، وإلّا لزم اختصاص الحجية بما هو معلوم الصدق ، وهو خلف ، بل لا معنى لجعل الحجية لما هو معلوم الصدق ، فإن موضوع دليل الاعتبار ما فيه احتمال الإصابة ، فلا دخل للصدق والكذب الواقعيين في اعتبار الحجية للخبر. وحيث لا علم بكذب أحدهما بالخصوص ولم يكن الكذب الواقعي مانعا فلا يمنع العلم الإجمالي بكذب أحدهما عن شمول دليل الاعتبار لهما.

وينحصر الوجه في أصالة التساقط في امتناع التعبد بالمتناقضين أو المتضادين ، ودخول أحدهما بعينه تحت دليل الحجية دون الآخر بلا مرجح ممتنع ، وأحدهما لا بعينه ليس فردا للعام ، فلا بدّ من خروجهما معا عن دليل الاعتبار (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٢ ـ ٦٩ من الطبعة الثانية بقم المقدسة عام ١٣٧٩

(٢) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٤٢٠ ، حقائق الأصول ، ٢ ـ ٥٥٨

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما حجية أحدهما تخييرا ـ وهي أحد محتملات المسألة ـ فتقريبه : أن مفاد أدلة اعتبار الأمارة وإن كان حجية كل فرد تعيينا لا تخييرا بينه وبين غيره ، ومقتضاه سقوط كليهما حال التعارض ، لامتناع التعبد بالمتناقضين أو المتضادين ، إلّا أنه لا مانع من تقييد إطلاق حجية كل واحد منهما بترك الأخذ بالآخر ، بدعوى : أن العقل إذا لاحظ امتناع وجوب الأخذ بهما عينا مع كون المتكلم حكيما لا يكلف بما ليس بمقدور ولا بالتطرق إلى الواقع بما علم كذبه ، استكشف عن الخطاب الظاهر شموله لصورة التعارض أن الحكم فيهما هو الوجوب التخييري.

ولكنه ممنوع أيضا بأن لازمه حجية كل منهما عند ترك الأخذ بهما معا ، فيعود محذور التعبد بالمتناقضين ، فكيف يستكشف العقل خطابا تخييريا؟ فإيكال حجية كل منهما إلى ترك الأخذ بالآخر غير مفيد ، إذ لازمه حجية كليهما عند ترك الأخذ بهما.

مضافا إلى : أن لازمه حجية معلوم الكذب ، وهو مخالف للعلم بعدم حجيته.

ولا تقاس الحجية التخييرية المستفادة من تقييد دليل الاعتبار على التخيير الثابت بأخبار التخيير بين الخبرين المتعارضين ، وذلك لأن المقصود إثبات التخيير بنفس الأدلة الأوّلية بتقييد إطلاقها الظاهر في الحجية التعيينية. وأمّا أخبار التخيير فهي دليل ثانوي يدل على لزوم الأخذ بأحدهما ، والمؤاخذة بمخالفة الواقع لو ترك العمل بهما ، كالمخالفة على ترك الواقع في الشبهة البدوية قبل الفحص. ومن المعلوم الفرق بين وجوب الأخذ بأحدهما بدليل ثانوي وبين ما يدل على حجية أحدهما عند الأخذ به ، فالأخذ واجب بمقتضى الأخبار ، وشرط الحجية بمقتضى التقييد ، فلا وجه للقياس المزبور.

وأما سائر المحتملات من حجية أحدهما تعيينا وهو الموافق للواقع ، وحجية كليهما وغيرهما فقد عرفت من مطاوي ما تقدّم بطلانها ، ولا جدوى في التعرض لها تفصيلا ، وإن شئت الوقوف عليها ، فراجع حاشية الرسائل وحاشية المحقق الأصفهانيّ «قده».

وأما نفي الثالث ـ ومورده ما إذا لم يعلم من الخارج موافقة أحد المتعارضين للواقع وقد اشتبه بالآخر ظاهرا ، فإنه يصلح الموافق الواقعي لنفي الثالث قطعا ـ فاستدل له بوجوه :

منها : نفيه بأحدهما لا بعينه كما تقدّم من المصنف.

ومنها : نفيه بكليهما ، وقد تقدّم نقله عن حاشية الرسائل في التوضيح.

ومنها : نفيه بكليهما بتقريب آخر ، مذكور في تقرير بحث سيدنا الفقيه الأعظم الأصفهانيّ «قده» ، ومحصله : أن لكل واحد من المتعارضين مدلولا مطابقيّا ومدلولين التزاميين ، والتعارض يوجب

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

سقوطهما في المؤدى وفي إحدى الدلالتين الالتزاميتين ، وتبقى الدلالة الالتزامية الأخرى في كليهما سليمة عن المعارض ، فتصلح لنفي الثالث ، مثلا إذا دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الاستحباب ، فالدال على الوجوب يدل عليه بالمطابقة وعلى نفي الاستحباب تارة وعلى نفي الكراهة أُخرى ، وكاد الدال على الاستحباب يثبت الاستحباب بالمطابقة ، وينفي الوجوب أوّلا والكراهة ثانيا ، والتعارض بين المدلولين المطابقيين بالتضاد ، وبين مؤدى أحدهما والمدلول الالتزامي الأوّل بالتناقض من جهة أنه ينفي ما يثبته الآخر ، وأما الدلالة الالتزامية الثانية فلا يتعارض الخبران فيها لا بالتضاد ولا بالتناقض ، لدلالة كليهما على عدم جعل الكراهة (١) ..

ومنها : نفيه بكليهما بتقريب آخر أفاده المحقق النائيني «قده» ، توضيحه : أن الدليلين إن كانا متعارضين في المؤدى بأنفسهما فهما يشتركان في نفي الثالث الخارج عن المؤدّيين ، كدلالة أحدهما على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال والآخر على حرمته عندها ، وذلك لأن اللازم وإن كان تابعا للملزوم ثبوتا وإثباتا ، إلّا أنه ليس تابعا له في الحجية ، لأن الإخبار عن الملزوم ينحل إلى إخبارين أحدهما إخبار عن الملزوم ، والثاني إخبار عن اللازم ، ودليل الحجية شامل لكليهما ، وبعد سقوط الإخبار عن الملزوم عن الحجية بالمعارضة لا وجه لرفع اليد عن الإخبار عن اللازم ، لتوافقهما على نفي الثالث.

وإن كانا متعارضين لأمر خارج فلا يشتركان في نفي الثالث ، ويجوز الرجوع إلى الأصل الجاري في المسألة من البراءة أو الاحتياط ، كما إذا دل أحدهما على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة والآخر على وجوب صلاة الجمعة ، وثبت عدم وجوب صلاتين في يوم واحد قبل صلاة العصر ، فإن التعارض بينهما ليس في نفس المدلولين ، بل لقيام دليل من الخارج ، فهما لا يشتركان في نفي الثالث (٢).

ومنها : نفيه بذات الخبرين لا بما هما حجتان ، لفرض سقوطهما عن الحجية ، ولكنهما بما لهما من الدلالة والكشف عن الواقع ينفيان الثالث (٣).

هذا ما استدل به على نفي الثالث بالمتعارضين.

أما نفيه بأحدهما فقد تقدم توقفه على إمكان جعل الحجية للمبهم والمردد ، ومع امتناعه لا معنى لنفي الثالث به.

وأما نفيه بكليهما سواء قلنا بتعدد الدلالة الالتزامية أم بوحدتها ، فقد ناقش فيه سيدنا الفقيه الأصفهانيّ «قده» فيه تارة : بانتفاء الدلالة الالتزامية رأسا ، فلا إخبار بالنسبة إلى اللازم حتى يشمله دليل الاعتبار ، فإذا أخبر زرارة بأن الإمام عليه‌السلام قال بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فأدلة

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ٢٧٣

(٢) فوائد الأصول ، ٤ ـ ٢٨٢

(٣) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٥٠

٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حجية الخبر تقتضي تصديق زرارة فيما أخبر به ، فيثبت مدلوله المطابقي وهو صدور الحكم بالوجوب ، ولازم وجوبه عدم كراهته ، وليس صدور الحكم بالوجوب من الإمام عليه‌السلام مستلزما لنفي الكراهة ما لم يثبت نفس المضمون أعني الوجوب ، والمفروض عدم ثبوت المؤدى ، لسقوطه بالتعارض.

والحاصل : أن الإخبار عن اللازم كالإخبار عن الملزوم أمر قصدي منوط بالالتفات إليه حتى يصح إسناد اللازم إلى المخبر كإسناد الملزوم إليه ، وحيث إنه لم يثبت نفس الإخبار عن الملزوم فلا إخبار عن اللازم أيضا.

وأخرى : بأنه لو سلِّمت دلالة الإخبار عن الملزوم على الإخبار عن اللازم بالالتفات إليه ولو إجمالا فبمنع حجيته ، لكونه دلالة عقلية ، والموضوع لدليل اعتبار الظواهر هو الدلالة اللفظية.

وثالثة : بأنه لو سلّمت حجية الدلالة الالتزامية فبمنع حجيتها في المقام بعد فرض عدم حجية الدلالة المطابقية. والقول برفع اليد عن خصوص حجية الدلالة المطابقية في حال التعارض لا عن أصل الدلالة ، لأن التبعية تكون في الوجود دون الحجية ممنوع ، لأن الدلالة الالتزامية إمّا أن تكون بنفسها مشمولة لدليل الاعتبار في قبال حجية الدليل في المدلول المطابقي بلا تبعية في البين ، فتخرج حينئذٍ عن الدلالة الالتزامية ، وهو خلف ، وإمّا أن تكون حجيتها ناشئة عن حجية الدلالة المطابقية ولازمة لحجيتها ، فما لم يثبت حجية المطابقية لم يثبت حجية الالتزامية ، والمفروض سقوط الخبرين عن الحجية في الدلالة المطابقية ، فاللازم سقوطهما في الالتزامية أيضا ، لأن سقوط الأصل مستلزم لسقوط الفرع.

أقول : ما أفاده «قدّس الله نفسه الزكية» من الوجهين الأوّلين لا يخلو من غموض. أما إنكار أصل الدلالة الالتزامية في بعض موارد الإخبارات والحكايات فلا كلام فيه. وأما إنكاره في موارد الإخبار بالأحكام الشرعية فممنوع ، فإن إخبار مثل زرارة بصدور الحكم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال إخبار عن انتفاء سائر الأحكام التكليفية عن الدعاء عندها قطعا ، إذ مع وضوح تضاد الأحكام بأنفسها أو بالنسبة إلى ما يترتب عليها في مرحلة الامتثال فالإخبار بواحد منها يستلزم انتفاء غيرها عن صفحة التشريع ، لتحقق كل من القصد والالتفات بالنسبة إليها كتحقق الالتفات الإجمالي في الإخبار عن طلوع الشمس بالنسبة إلى وجود النهار.

نعم قد لا يلتفت المخبر إلى لازمه كلامه تفصيلا. لكن الظهار كفاية الالتفات الإجمالي الارتكازي في باب الحكايات والأقارير ، ولذا يؤخذ المقرّ بلازم كلامه إذا كان مما يلتفت إليه نوعا وان ادعى المقر غفلته عنه.

٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والحاصل : أن استلزام الإخبار بالوجوب لانتفاء الكراهة والإباحة ونحوهما يعدّ من استلزام الملزوم للازمه البيّن بالمعنى الأخص الّذي لا مجال لإنكار الملازمة أو الغفلة عنها.

وأما الوجه الثاني ـ وهو إنكار حجية الدلالة الالتزامية لكونها دلالة عقلية ـ فهو كسابقه في الغموض ، فإنّ دليل اعتبار ظواهر الكلام ليس لفظيا حتى يقال باختصاص دلالته على حجية المدلول اللفظي بالمطابقي والتضمني فحسب ، وبقاء حجية المدلول الالتزامي تحت أصالة عدم الحجية. وإنّما الدليل على اعتبار ظواهر الألفاظ هو السيرة العقلائية الممضاة ، ومن المعلوم صحة مؤاخذتهم على كلّ من ظاهر اللفظ ولازمه البيِّن الملتفت إليه نوعا ، ويكون عدم ترتيب أثر اللازم بمنزلة عدم ترتيب أثر الملزوم في كونه طرحا لظاهر الكلام.

وليس المدعى جواز الاحتجاج بمطلق اللوازم حتى اللازم البيِّن بالمعنى الأعم الّذي يتوقف الالتفات إليه على تمهيد مقدمات ، بل المدعى حجية اللازم البيِّن الّذي يلتفت إليه نوع العقلاء.

وحيث إن نفي الثالث مدلول التزامي بيِّن وكانت الدلالة العقلية حجة كالدلالة اللفظية فلا سبيل لطرح الدلالة الالتزامية ـ بعد تسليم أصل الاستلزام ـ بدعوى اختصاص حجية الظواهر بالدلالة اللفظية المطابقية.

وأما الوجه الثالث ـ وهو مركز النزاع في حجية المتعارضين في نفي الثالث وعدمها ـ فالحق ما أفاده سيدنا الفقيه الأصفهانيّ «قدس‌سره» ، وبه يشكل استدلال المحقق النائيني «قده» وغيره من تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الوجود دون الحجية.

وتوضيحه أزيد مما تقدم في كلامه هو : أن الإخبار عن الملزوم وإن كان إخبارا عن اللازم ، وكل منهما قد شملته عناية الجعل ، إلّا أن الإخبار بالملزوم ليس إخبارا عن اللازم بوجوده السّعي ، بل هو إخبار عن حصة خاصة هي لازمة له ، وهذه الحصة الخاصة بما أنها لازمة للملزوم ، فهي تتبعها في الوجود ، وبانتفاء الملزوم ينتفي لازمه ، ولا موضوع للحجية.

مثلا إخبار الراوي بوجوب شيءٍ يستتبع الإخبار بعدم إباحته ، لكن هذه الإباحة المنفية ليست مطلقة بمعنى كونها مدلول دليل الوجوب أو الكراهة أو الاستحباب أو الحرمة ، بل هي إباحة خاصة لازمة للوجوب ، بحيث لو تردّد الراوي وشك في صدور الوجوب من الشارع لما أخبر عن عدم الإباحة قطعا ، بل توقف عن الإخبار به.

وكذا لو أخبرت البيّنة بإصابة الدم للإناء ، فإنه ليس إخبارا عن النجاسة المطلقة المسببة عن إصابة عين النجس مهما كان ، بل هو إخبار عن النجاسة الحاصلة بوقوع الدم فيه ، فإذا علمنا بكذب

٧٨

وأمّا (١) بناء على حجيتها من باب السببية ،

______________________________________________________

مقتضى الأصل في تعارض الدليلين بناء على السببية

(١) هذا شروع في المقام الثاني أعني بيان حكم تعارض الأمارتين بناء على حجية الأمارات من باب السببية والموضوعية أي كون قيام الأمارة على وجوب شيء أو حرمته سببا لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى غالبة على ما هو عليه واقعا مقتضية لجعل ما يناسبها من الوجوب أو الحرمة للمؤدى ـ على ما ينسب إلى المعتزلة ـ نظير سببية النذر

__________________

البيِّنة في إخبارها بوقوع الدم علمنا بكذبها في الإخبار عن نجاسة الإناء. وأما النجاسة بسبب آخر فهي وإن كانت محتملة ، إلّا أنها خارجة عن مفاد البينة.

مع أنه قد تقرر عدم التسبب بين وجود الضد وعدم الضد الآخر حتى يقال ببقاء المسبب عند انتفاء سببه ، بل هما متلازمان.

هذا مضافا إلى النقض على هذه المقالة بموارد نبّه عليها بعض أعاظم العصر «مد ظله».

منها : ما لو قامت بينة على وقوع قطرة من البول على ثوب ، وعلمنا بكذب البيِّنة ، ولكن احتملنا نجاسة الثوب بشيءٍ آخر كوقوع الدم عليه مثلا ، فهل يمكن الحكم بنجاسة الثوب ، لأجل البيّنة المذكورة؟ باعتبار أن الإخبار عن وقوع البول إخبار عن نجاسته ، لكونها لازمة لوقوع البول عليه ، وبعد سقوط البيّنة عن الحجية في الملزوم ـ للعلم بالخلاف ـ لا مانع من الرجوع إليها. ولا يظن أن يلتزم به فقيه.

ومنها : ما لو كانت دار تحت يد زيد وادّعاها عمرو وبكر ، فقامت بيّنة على كونها لعمرو ، وبينة أخرى على كونها لبكر ، فبعد تساقطهما في مدلولهما المطابقي للمعارضة هل يمكن الأخذ بهما في مدلولهما الالتزامي والحكم بعدم كون الدار لزيد وأنها من المال المجهول المالك.

ومنها : غير ذلك ، فراجع (١).

ومما تقدّم ظهر عدم إمكان نفي الثالث بذات الخبرين ، لتوقف نفي الحكم الشرعي كإثباته على الحجة ، فمع الاعتراف بعدم حجية المتعارضين وفرضهما كالعدم يندرج نفي الثالث بما هما خبران في القول بغير العلم.

وقد تحصل من جميع ما ذكرناه : أن الأصل الأوّلي في تعارض الأمارات على الطريقية هو التساقط مطلقا من غير فرق بين المؤدى ونفي الثالث.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٣٦٩

٧٩

فكذلك (١) لو كان الحجة هو خصوص ما لم يعلم كذبه ، بأن لا يكون

______________________________________________________

والشرط وغيرهما من العناوين الثانوية المقتضية لتشريع أحكام مناسبة لها.

وقد ذكر المصنف «قده» صورا لتعارض الأمارتين على السببيّة هنا وفي حاشية الرسائل وجعل أحكامها مختلفة من التساقط والتخيير بينهما مطلقا والأخذ بمقتضى الحكم الإلزاميّ إذا كان أحد المؤديين حكما إلزاميا والآخر غير إلزامي ، وغير ذلك مما سيظهر. ومبنى هذه الصور هو محتملات حجية الأمارة على السببية من كون الحجة خصوص ما لم يعلم كذبه ، أو الأعم منه ومما علم كذبه ، وعلى الثاني فإما أن يكون معنى الحجية إثبات المؤدّى بدون التدين به ، وإما أن يكون معناها لزوم الالتزام والتدين به وإن كان المؤدى إباحة ، وسيأتي إن شاء الله بيان كل صورة وحكمها عند توضيح المتن.

(١) يعني : فكما ذكرناه على الطريقية من سقوطهما في المدلول المطابقي ، ونفى الثالث بأحدهما. وأما تقريب هذا الاحتمال على القول بالسببية واشتراكه مع مبنى الطريقية فهو : أن حجية كل أمارة ـ على ما تقدّم في الفصل السابق ـ منوطة بتمامية جهات ثلاث وهي الصدور والدلالة والجهة. والدليل على اعتبار أصالتي الظهور والجهة هو بناء العقلاء على الأخذ بظاهر الكلام وحمله على بيان المراد الجدّي ، ومن المعلوم أن السيرة العقلائية دليل لبيّ ، وليس لها لسان حتى يؤخذ بإطلاقه ، فلا بد من الأخذ بالقدر المتيقن منها عند الشك في تحقق البناء العقلائي ، والقدر المتيقن منه هو ما إذا لم يعلم كذبه ، فإنّهم إذا علموا عدم إرادة المتكلم ظاهر الكلام وعدم كونه كاشفا عن مراده الجدِّي لم يعملوا به ولم يرتبوا عليه آثاره. وعليه فدائرة حجية أصالتي الظهور والجهة مضيّقة ، لاختصاصها بالظاهر المحتمل الصدق ، وعدم كون معلوم الكذب مورد عملهم.

وأما أصالة السند فكذلك ، إذ الدليل عليها إما السيرة العقلائية على العمل بخبر الثقة ، وإمّا إطلاق الآيات والأخبار المتواترة إجمالا ، وشيء منهما لا يصلح لإثبات حجية الخبر المعلوم كذبه. أما السيرة العقلائية فحالها حال السيرة على أصالتي الظهور والجهة من أن المتيقن من عمل العقلاء هو عملهم بخبر الثقة المحتمل للصدق والكذب ، وإن لم يكن العمل به لأجل طريقيته إلى الواقع بل لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى.

وأما الأدلة اللفظية ـ كمفهوم آية النبأ وجملة من الأخبار الإرجاعية ـ فمقتضى إطلاقها

٨٠