منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

فصل (١)

لا يخفى ان المزايا المرجّحة لأحد المتعارضين الموجبة للأخذ به

______________________________________________________

رجوع جميع المرجحات إلى الصدور

(١) الغرض من عقد هذا الفصل إرجاع جميع المرجحات ـ من المنصوصة وغير المنصوصة ـ إلى المرجح الصدوري ونفي الترتيب بينها ، وقبل توضيح المتن ينبغي بيان أمرين :

الأول : أن ثمرة البحث في هذا الفصل تظهر بناء على القول بوجوب الترجيح بالمرجحات المنصوصة أو مطلقا. وأما بناء على مختار المصنف من إنكار أصل الترجيح وتحكيم إطلاقات التخيير فلا تظهر ثمرة عملية للترتيب بين المرجحات أو رجوعها إلى مرجّح الصدور ، لفرض عدم وجوب أصل الترجيح.

الثاني : أنّه قد عرفت من مطاوي الأبحاث السابقة أن مرجحات أحد الخبرين المتعارضين على الآخر إمّا دلاليّة وإما روائيّة ، فالمرجّح الدلالي هو قوّة الدلالة كما في موارد حمل الظاهر على النص أو على الأظهر ، وهذا السنخ من المرجّح مقدّم رتبة على المرجحات الروائيّة ، لارتفاع التعارض بالجمع الدلالي والتوفيق العرفي بين الخبرين ، ولا يبقى معه موضوع لحكم تعارضهما من الترجيح أو التخيير.

وإن تعذّر الجمع العرفي بأن كانا متكافئين في الظهور والدلالة وصلت النوبة إلى

٣٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

الترجيح بمرجحات الرواية ـ بناء على وجوب الترجيح وعدم التمسك بإطلاق أدلة التخيير ـ وهي كما تقدمت في الفصل الثالث من هذا المقصد أمور وردت في مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها كالترجيح بصفات الراوي وبشهرة الرواية وبموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

وهذه المرجحات إمّا راجعة إلى السند ، بمعنى كونها موجبة لأقربية صدور الخبر الواجد للمزية من الشارع من صدور الخبر الفاقد لها ، وإمّا راجعة إلى تقوية مضمون الخبر ومدلوله كموافقة أحد المتعارضين للكتاب ، وإمّا راجعة إلى جهة الصدور كمخالفة العامة ، حيث إنّها تقوّي صدور الخبر المخالف لهم بداعي بيان الحكم الواقعي ، دون الخبر الموافق لهم.

وعلى هذا فإن كانت المزية في أحد الخبرين فلا كلام في وجوب ترجيح ذلك الخبر على الفاقد لها. وإن كانت المزية في كليهما ، كما إذا كان الخبران مشهورين ـ كما هو مفروض سؤال ابن حنظلة ـ فلا كلام أيضا في الترجيح بمزية أخرى إن وجدت. وإن كان كل منهما مشتملا على مزية غير ما اشتملت عليه الأخرى ، كما إذا كان أحد الخبرين مشهورا رواية وموافقا للعامة ، والخبر الآخر غير مشهور ومخالفا للعامة ، فهل اللازم تقديم الخبر المشهور ـ رعاية للترتيب بين المرجّح الصدوري والمضموني والجهتي ـ أم يعدّ هذان الخبران متكافئين ويتخير في العمل بهما؟ فيه أقوال :

منها : ما ذهب إليه الوحيد البهبهاني «قده» من الترتيب بين أقسام المرجّحات ، وتقديم المرجح الجهتي ـ وهو مخالفة العامة ـ على المرجح الصدوري والمضموني ، فلو كان راوي أحد الخبرين عدلا وكان الخبر مخالفا للعامّة ، وراوي الآخر أعدل وكان الخبر موافقا لهم قدّم الخبر المخالف على الموافق.

ومنها : ما أفاده شيخنا الأعظم «قده» من تقديم المرجّح الصّدوري على المرجح الجهتي والمضموني.

ومنها : ما ذهب إليه المصنف «قده» هنا وفي حاشية الرسائل من إنكار أصل الترتيب بين المرجحات وأنّها في عرض واحد ، لرجوع المرجّح المضموني والجهتي إلى ترجيح الصدور ، ومحصل ما أفاده لإثبات دعواه هو : أن الأخبار العلاجية ـ بعد سقوط أدلة حجية الخبر الواحد في كلا المتعارضين ـ تدلّ على اعتبار أحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا

٣٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وحجيته فعلا ، فعلى القول بعدم وجوب الترجيح يكون مقتضى الأخبار العلاجية حجية أحد الخبرين تخييرا ، ولا موضوع للبحث عن الترتيب بين أقسام المرجحات. وعلى القول بوجوب الترجيح يكون ذو المزية بمقتضى الأخبار العلاجية ـ التي هي دليل ثانوي على حجية أحد المتعارضين ـ محكوما بالصدور وحجة فعلية ، دون فاقد المزية ، فكل مزية مقترنة بأحد المتعارضين ترجع حقيقة إلى الصدور سواء أكانت في السند أم الجهة أم المتن أم المضمون ، فأخبار العلاج تشرّع حجية خصوص ذي المزيّة دون غيره.

فإن قلت : لا وجه لإرجاع جميع المرجحات إلى المرجح الصدوري مع فرض الترتيب الطبعي بينها ، لتأخير الترجيح بالجهة عن أمرين ، أحدهما : إحراز صدور الكلام من الإمام عليه‌السلام ، والآخر ظهوره في المعنى المقصود إفهامه ، فلو لم يحرز بحجة ـ من علم أو علمي ـ أنّ ما أخبر به الراوي كلام الإمام عليه‌السلام ، أو أحرز ذلك لكنه مجمل غير مفهوم المراد لم يكن مجال لإجراء أصالة الجد وإثبات صدوره بداعي بيان الواقع ، ومعه كيف تصير مخالفة العامة من مرجّحات السند مع تأخر موردها عنه؟

قلت : نعم وإن كان بين المرجحات ترتب ذاتي طبعي ، لكنه لا يكفي هذا المقدار للحكم بالترتيب بينها ، بل اللازم إرجاع الجميع إلى المرجح السندي ، وذلك لأنّ مورد الكلام هو الأخبار الظنية التي لا قطع بصدورها من الشارع ، بل هي حجة تعبدا ، ومعنى التعبد بالصدور هو العمل بالخبر وترتيب آثاره عليه. فكما أنّه لا معنى للتعبد بصدور خبر أحرز صدوره تقية ، لوضوح أن البناء على صدوره مساوق لطرحه ، فكذا في باب التعارض ، فإذا اشتمل أحد الخبرين على مرجّح الصدور كالشهرة وكان موافقا للعامة ، واشتمل الخبر الآخر على مرجح الجهة وهو مخالفة العامة ولم يكن فيه مرجح سندي ، لم يكن وجه للحكم بترجيح الخبر المشهور على غيره ، لأنّ التعبد بصدوره مساوق لطرحه من جهة موافقته للعامة وسقوط أصالة الجد فيه. ومن المعلوم أنّ الأمر بالمعاملة مع هذا الخبر معاملة الواقع ـ مع انحصار أثره في طرح مضمونه ، للعلم بصدوره تقية ـ لا يخلو من شبهة التناقض ، ولا مفرّ منه إلّا جعل المرجح الجهتي في رتبة المرجح الصدوري ، فتقع المزاحمة بين المرجحين ويتخير المكلف في العمل بأيهما شاء.

٣٠٣

وطرح الآخر بناء (١) على وجوب الترجيح وإن كانت (٢) على أنحاء مختلفة ، ومواردها (٣) متعددة من راوي الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه ، مثل الوثاقة والفقاهة (٤) والشهرة (٥) ومخالفة العامة (٦) والفصاحة (٧) وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى الأصحاب (٨) (*) إلى غير ذلك (٩)

______________________________________________________

(١) قيد لقوله : «الموجبة» حيث إنّ إيجاب المرجحات للأخذ بالخبر الواجد لتلك المرجحات مبني على القول بوجوب الترجيح بها ، إذ بدونه لا وجه للأخذ بذي المزيّة تعيينا.

(٢) هذه الجملة إلى قوله : «إلّا أنها موجبة» خبر قوله : «ان المزايا».

(٣) أي : معروضات المزايا متعددة ، فقد تعرض المزيّة نفس الخبر ، وقد تعرض راويه كالوثاقة والفقاهة ، فقوله : «من راوي ...» بيان لـ «مواردها».

(٤) هذان مرجّحان لراوي الخبر ، ومثلهما العدالة ونحوها مما ذكر في المقبولة.

(٥) أي : الشهرة من حيث الرواية ، وهي مثال لكون مورد المزية متن الخبر.

(٦) مثال للمرجح الّذي مورده جهة الصدور. لكن عدّها من عوارض جهة الصدور ـ بمعنى كون موردها جهة الصدور ـ لا يخلو من مسامحة ، لأنّ جهة الصدور ليست شيئا يعرضه مخالفة العامة ، إذ الجهة مما ينتزع من مضمون الخبر ، فينبغي عدّ مخالفة القوم من مرجحات مضمون الخبر ، لا من مرجحات الجهة.

(٧) مثال للمرجّح الّذي مورده متن الخبر.

(٨) هذا وموافقة الكتاب مثالان للمرجّح الّذي مورده مضمون الخبر.

(٩) كأضبطية الراوي ، وكون تحمّله للخبر بعد البلوغ ، والنقل باللفظ في أحد الخبرين

__________________

(*) كان الأولى ذكر الفصاحة والموافقة لفتوى الأصحاب بعد قوله : «خصوصا لو قيل بالتعدي» ، وذلك لعدم ذكرهما في الأخبار العلاجية ، وإنّما هما معدودان من المزايا بناء على التعدّي عن المزايا المنصوصة إلى غيرها ، بل وكذا الأعدليّة والأفقهية والأصدقية المذكورة في المقبولة ، وكذا الأوثقية المذكورة في المرفوعة ، لأنّها وإن كانت منصوصة ، لكنها من مرجحات الحكمين المتعارضين دون الخبرين المتعارضين ، كما لا يخفى.

٣٠٤

مما يوجب مزيّة في طرف من أطرافه (١) ، خصوصا (٢) لو قيل بالتعدي من المزايا المنصوصة ، إلّا أنها (٣) موجبة لتقديم أحد السندين وترجيحه (٤) وطرح الآخر ، فإنّ (٥) أخبار العلاج دلّت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها ونواحيها (٦) ، فجميع هذه من مرجّحات (٧) السند حتى (٨) موافقة (*)

______________________________________________________

والنقل بالمعنى في الآخر ، فإنّها غير شهرة الرواية مثلا نوعا وموردا.

(١) أي : من أطراف الخبر.

(٢) قيد لقوله : «وإن كانت على أنحاء مختلفة» يعني : أنّه بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها تصير المزايا ومواردها أكثر من المزايا المنصوصة ومواردها ، كقلّة الوسائط وقلة التكرار في بعض الأحاديث وكثرته كما في حديث تحف العقول ، وغير ذلك من المزايا المختلفة سنخا وموردا.

(٣) هذا راجع إلى قوله : «وان كانت على أنحاء مختلفة» يعني : أن المزايا وإن كانت على أنحاء مختلفة مع اختلاف مواردها ، إلّا أنّها ترجع إلى السند وتوجب قوّته ورجحانه ، وسقوط الآخر عن الحجية.

(٤) أي : وترجيح أحد السندين على الآخر.

(٥) هذا تقريب كون المزايا موجبة لتقديم أحد السندين على الآخر ، ومحصله : أنّ مفاد أخبار العلاج هو تقديم رواية ـ ذات مزية ـ على رواية فاقدة لها ، والمراد بالتقديم هو جعلها حجة وصادرة لبيان الحكم ، فالمرجحات كلها ترجع إلى ترجيح السند ومعاملة الصدور مع ذيها ، سواء أكان موردها راوي الخبر ومتنه وغيرهما.

(٦) هذا الضمير وضمير «أطرافها» راجعان إلى «رواية».

(٧) الظرف مستقرّ وخبر لـ «فجميع» والمراد بـ «هذه» جميع المرجحات.

(٨) يعني : حتى تعدّ موافقة الخبر للتقية ـ التي عدّت من المرجحات الجهتية المتأخرة رتبة عن أصل الصدور ـ من المرجحات السندية ، لأنّها توجب رجحان أحد السندين وحجيته فعلا وسقوط الآخر عن الحجية رأسا.

__________________

(*) الصواب «مخالفة الخبر للتقية» لأنّها من المرجحات ، لا موافقة الخبر للتقية ، كما لا يخفى.

٣٠٥

الخبر للتقية ، فإنّها أيضا (١) مما يوجب ترجيح أحد السندين وحجّيته فعلا وطرح الآخر رأسا. وكونها (٢) في مقطوعي الصدور متمحّضة في

______________________________________________________

(١) أي : فإنّ موافقة الخبر للتقية تكون كسائر المرجحات في كونها موجبة لرجحان أحد السندين وإن كان موردها الجهة.

(٢) هذا إشارة إلى توهم ودفعه. أمّا التوهم فتقريبه : مقايسة المقام ـ أعني الخبرين الظنيين سندا ـ بالخبرين القطعيين كذلك في كون مخالفة العامة مرجحة من حيث الجهة ، بأن يقال : ان مخالفة القوم كما تكون مرجحة جهتيّة في القطعيين ، كذلك تكون مرجحة جهتية في الظنيّين ، إذ لا فرق في مرجحيتها من حيث الجهة بين الظنيّين والقطعيّين ، لحجيتهما معا ، غاية الأمر أن الحجية في القطعيّين ذاتية وفي الظنيّين تعبدية ، فلا موجب لجعل مخالفة العامة مرجحة للصدور في الظنيين فقط ، بل لا بد أن تكون مرجحة لجهة الصدور في القطعيّين أيضا.

وأما دفع التوهم ، فمحصله : أن مقايسة الظنيين بالقطعيين غير صحيحة ، لأنّها مع الفارق ، ضرورة أن القطع الوجداني بالسند في القطعيّين يوجب حمل الموافق للعامة على التقية ، فتكون مخالفة العامة مرجحة لجهة الصدور لا لنفسه ، إذ لم يرد من الشارع تعبد في ناحية السند مثل «صدق العادل». وحيث كان الصدور قطعيا ولم يكن قابلا لإعمال التعبد الشرعي ، فلا معنى لجعل مخالفة العامة ـ التي هي من المرجحات التعبدية ـ مرجحة للسند ، بل يتعين كونها مرجحة للجهة.

وهذا بخلاف الظنيين ، فإنّ صدورهما تعبدي لا وجداني ، ومن المعلوم أنّ التعبد موقوف على الأثر الشرعي ، ولا أثر هنا إلّا الحمل على التقية الّذي هو عبارة أخرى عن الطرح ، فلا يصح التعبد بصدور الخبر الموافق للعامة ثم حمله على التقية ، بخلاف المخالف لهم ، فإنّ التعبد بصدوره مما له الأثر ، فيحكم بصدوره لمخالفته للعامة ، فهذه المخالفة مرجحة لصدوره بعد أن كان مقتضى أدلة حجية الخبر صدور كليهما ، لكن لأجل التعارض لا يمكن الحكم بصدورهما معا ، فيحكم بصدور المخالف لهم.

وبالجملة : فالمخالفة للعامّة مرجحة للسند في الخبر المخالف لهم ، لترتب الأثر عليه.

٣٠٦

ترجيح الجهة لا يوجب (١) كونها كذلك (٢) في غيرهما ، ضرورة (٣) أنّه لا معنى للتعبد بسند ما يتعيّن حمله على التقية ، فكيف (٤) يقاس على ما لا تعبّد فيه ، للقطع بصدوره؟

ثم (٥) إنه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات لو قيل بالتعدي وإناطة

______________________________________________________

(١) خبر لـ «وكونها» ودفع للتوهم المزبور ، وقد عرفته بقولنا : «وأما دفع التوهم ...».

(٢) يعني : مرجحة للجهة ، وضمير «كونها» راجع إلى المخالفة ، وضمير «غيرهما» راجع إلى «مقطوعي الصدور».

(٣) تعليل لقوله : «لا يوجب» وهذا إشارة إلى عدم أثر شرعي يترتب على التعبد بسنده حتى يصح التعبد بصدوره ، إذ لا أثر لهذا التعبد إلّا الحمل على التقية الّذي هو معنى الطرح ، وليس هذا أثرا شرعيّا يصحّح التعبد كما تقدم توضيحه آنفا.

(٤) يعني : فكيف يقاس ما فيه التعبد ـ الموجب لحمله على التقية ـ على ما لا تعبد فيه ، للقطع بصدوره الّذي لا يعقل معه التعبد؟

فالمتحصل : فساد قياس مظنوني الصدور ـ اللذين يتعبد بصدورهما ـ على مقطوعي الصدور.

عدم مراعاة الترتيب بين المرجحات

(٥) هذا إشارة إلى الخلاف الواقع بين الأعلام في الترتيب بين المرجحات على كلّ من المسلكين ، وهما : القول بالتعدي عن المزايا المنصوصة إلى غيرها كما هو مختار الشيخ «قده» والقول بعدم التعدي كما عليه المصنف. وليعلم أن مبنى التعدي عن المرجحات المنصوصة هو إفادة المزايا للظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع ، ومبنى عدم التعدي عدم فهم إفادة المزايا لذلك وكون الترجيح بها مجرد التعبد.

فعلى تقدير كون المناط في المرجحات إفادة الظن يسقط البحث عن الترتيب بين المرجحات ، إذ لا موضوعية لشيء من المرجحات ، بل المدار على الظن الحاصل منها. نعم

٣٠٧

الترجيح بالظن أو بالأقربيّة إلى الواقع ، ضرورة (١) أنّ قضية ذلك تقديم الخبر الّذي ظنّ (٢) صدقه أو كان (٣) أقرب إلى الواقع منهما ، والتخيير (٤) بينهما إذا تساويا ، فلا وجه (٥)

______________________________________________________

يتجه البحث حينئذ في أنّ أيّا منها يوجب الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع ، وأيّا منها لا يوجب ذلك. وهذا غير اعتبار الترتيب بينها.

وعلى تقدير عدم كون المناط في المرجحات إفادة الظن ـ لعدم القطع به حتى يكون من العلة المنصوصة ، بل اللازم كون الترجيح بها من باب التعبد ـ فللبحث عن اعتبار الترتيب بينها وعدمه مجال ، وسيأتي التفصيل عند شرح كلام المصنف «قده».

(١) تعليل لعدم الوجه لمراعاة الترتيب بناء على القول بالتعدي ، لما مرّ آنفا من عدم دخل شيء ـ من خصوصيات المزايا المنصوصة ـ في الترجيح ، إذ المناط فيه هو إفادة المرجحات للظن سواء أكانت من المنصوصة أم غيرها. والمراد بـ «ذلك» هو التعدي.

(٢) هذا إشارة إلى أنّ المناط في الترجيح بالمزايا هو الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع من دون دخل خصوصية شيء من المرجحات في الترجيح.

(٣) معطوف على «ظن» يعني : أن مقتضى التعدي تقديم الخبر الّذي ظنّ صدقه أو كان أقرب إلى الواقع من الخبر الآخر. وعلى فالأولى تبديل «منهما» بـ «من الآخر». وإرجاع ضمير التثنية إلى الخبرين وإن كان صحيحا أيضا ، لكنه ليس مذكورا في العبارة أوّلا ، ويوهم أن هذا الخبر المظنون الصدور أو المظنون المطابقة إلى الواقع غير هذين الخبرين ثانيا.

(٤) معطوف على «تقديم» يعني : أنّ مقتضى التعدي هو التخيير بين الخبرين مع تساويهما في المزايا الموجبة للظن الفعلي بصدورهما ، لإمكان ذلك مع الظن بخلل في دلالتهما أو جهتهما.

(٥) هذه نتيجة ما ذكره من التعدي إلى غير المزايا المنصوصة ، لكون المناط في الترجيح هو الظن بالصدور أو أقربية المضمون إلى الواقع ، ضرورة أنّ المرجح هو الظن من أيّ سبب حصل ، فلا وجه حينئذ لإتعاب النّفس في أنّ أيّها يقدّم أو يؤخّر ، إذ المرجح

٣٠٨

لإتعاب النّفس (١) في بيان أنّ أيّها يقدّم أو يؤخّر إلّا (٢) تعيين أنّ أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها (٣) مع الآخر.

وأما (٤) لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة

______________________________________________________

حقيقة هو الظن بالصدور أو الأقربية من دون دخل لخصوصية المزايا.

(١) من جماعة من المحققين كالوحيد البهبهاني وشيخنا الأعظم وبعض تلاميذه «قدس الله تعالى أرواحهم الطاهرة» ، فإنّهم أتعبوا أنفسهم في بيان الترتيب بين المرجحات بعد تقسيمها إلى المرجح الصّدوري والجهتي والمضموني ، بتقديم الصدوري على الجهتي ، لتأخر جهة الصدور رتبة عن أصل الصدور ، وبتقديم المرجح المضموني على الجهتي.

(٢) استثناء من قوله : «فلا وجه لإتعاب النّفس» غرضه : توجيه ما تعرّضوا له من ترتيب المرجحات بعد نفي الوجه في اعتبار ترتيبها بناء على التعدي عن المزايا المنصوصة بمناط الظن. ومحصل توجيهه : أنّ بيان ترتيب المرجحات لا وجه له إلّا تعيين المزية التي توجب الظن الّذي هو مناط التعدي في صورة تزاحم بعض المرجحات مع بعضها الآخر ، كموافقة أحد الخبرين للشهرة ومخالفة الآخر للعامّة وهكذا ، فيمكن أن يقال : إن مخالفة العامة في صورة المزاحمة للشهرة توجب الظن دون الموافقة للشهرة.

(٣) أي : مزاحمة بعض المرجحات مع البعض الآخر.

(٤) معطوف على «لو قيل» والأولى أن يقال : «بخلاف ما لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة ، فإنّ له وجها». وكيف كان فالغرض من هذه العبارة بيان حال ترتيب المرجحات ـ من حيث الاعتبار وعدمه ـ بناء على الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدم التعدي إلى غيرها.

وتوضيح ما أفاده هو : أنّه بناء على عدم التعدي يمكن الالتزام بالترتيب بين المرجحات ، استنادا إلى ذكرها بالترتيب في المقبولة والمرفوعة ، حيث إنّ المذكور في المقبولة ابتداء صفات الراوي من الأعدلية والأفقهية والأصدقية والأورعية ، ثم الشهرة ، ثم موافقة الكتاب والسّنة ، ثم مخالفة العامة ، وفي المرفوعة ابتداء الشهرة ، ثم صفات الراوي ، ثم مخالفة العامة ، ثم موافقة الاحتياط.

٣٠٩

فله (١) وجه ، لما يتراءى من ذكرها مرتّبا في المقبولة والمرفوعة.

مع إمكان (٢) أن يقال : إنّ الظاهر كونهما كسائر أخبار الترجيح بصدد بيان أنّ هذا مرجّح وذاك مرجّح (٣) ، ولذا (٤) اقتصر في غير واحد منها على

______________________________________________________

(١) أي : فلاعتبار الترتيب وجه. وقوله : «لما يتراءى» بيان للوجه ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «حيث إن المذكور في المقبولة ابتداء ... إلخ». وضمير «ذكرها» راجع إلى «المزايا».

(٢) غرضه المناقشة في الوجه الّذي أفاده سندا لاعتبار الترتيب ، بوجهين :

الأول : ما أفاده بقوله : «إنّ الظاهر كونهما ... إلخ» وتوضيحه : أنّه يمكن أن يقال : أنّ الظاهر كون المقبولة والمرفوعة كسائر أخبار الترجيح في مقام بيان المرجحات من دون نظر إلى ترتيب بينها ، فلا يكون ذكر المرجّحات مرتّبة في المقبولة والمرفوعة دليلا على اعتبار الترتيب شرعا بينها ، خصوصا مع اختلافهما في بيان ترتيب المرجّحات ، لتقديم صفات الراوي في المقبولة على سائر المرجحات ، وتقديم الشهرة في المرفوعة على غيرها من المزايا.

(٣) يعني : من دون نظر إلى اعتبار ترتيب بينها واقعا.

(٤) غرضه إقامة شاهد على ما ادّعاه من إمكان دعوى ظهور المقبولة والمرفوعة في مقام بيان تعداد المرجحات من دون نظر إلى ترتيب بينها ، وذلك الشاهد هو عدم تعرّض غير واحد من أخبار الترجيح إلّا لمرجح واحد ، كقول مولانا الرضا عليه‌السلام في خبر محمد بن عبد الله في الخبرين المختلفين : «إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه ، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه». وقول أبي عبد الله عليه‌السلام في خبر سماعة بن مهران : «خذ بما فيه خلاف العامة». وغير ذلك مما ذكر فيه مرجّح واحد وهو موافقة الكتاب كخبر الحسن بن الجهم عن العبد الصالح «عليه‌السلام» : «إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن أشبههما فهو حق ، وإن لم يشبههما فهو باطل». وقريب منه سائر أخبار الباب ، فإنّ الاقتصار على ذكر مرجّح واحد وعدم بيان الترتيب بين المرجحات في تلك الروايات يشهد بعدم اعتبار

٣١٠

ذكر مرجّح واحد ، وإلّا (١) لزم تقييد جميعها ـ على كثرتها ـ بما في المقبولة (*) ، وهو (٢) بعيد جدّاً (**)

______________________________________________________

الترتيب بينها.

(١) أي : وإن لم يكن ظاهر المقبولة والمرفوعة بيان تعداد المرجحات فقط من دون نظر إلى اعتبار الترتيب بينها ـ بل كانتا ظاهرتين في اعتبار الترتيب بينها أيضا ـ لزم ... وهذا إشارة إلى ثاني وجهي المناقشة ، ومحصله : أنّه إن كان ظاهر المقبولة والمرفوعة اعتبار الترتيب دون بيان تعداد المرجحات فقط لزم أن يقيّد بهما سائر أخبار الترجيح مما لم يذكر فيه إلّا بعض المرجحات من واحد كموافقة الكتاب ، أو أزيد كموافقة الكتاب والسنة ، فإطلاق مرجّحية موافقة الكتاب يقتضي الترجيح بها مطلقا سواء أكان الخبر الموافق له شاذّا أم لا ، وسواء كان الخبر المخالف له موافقا للشهرة أم لا ، وهذا الإطلاق يوجب اندراج صورة مزاحمة المرجّحين في الخبرين المتعارضين ـ وإن لم يكن المرجّحان من نوع واحد ـ في إطلاقات التخيير ، فإذا كان أحد الخبرين موافقا للكتاب والآخر مخالفا للعامة وقع التعارض بينهما ويرجع إلى إطلاقات التخيير ، مع أنّ موافقة الكتاب مقدّمة على مخالفة العامة في المقبولة ، فإنّ عدم اعتبار الترتيب وكون جميع المرجحات من حيث الترجيح في عرض واحد يقتضي مرجحية كلّ من المرجحات بلا قيد ، ومرجعية إطلاقات التخيير عند تزاحمها.

وهذا بخلاف اعتبار الترتيب ، فإنّه يقتضي اعتبار المرجح بشرط عدم مرجح في رتبة سابقة عليه ، ففي الفرض المزبور لا تصل النوبة إلى التعارض والرجوع إلى أدلة التخيير ، بل يقدم الخبر الموافق للكتاب على المخالف للعامة ، لتقدمه في المقبولة على المخالف للعامّة ، ولا يرجع إلى إطلاقات التخيير ، بل إلى أخبار الترجيح.

والحاصل : أنّه بناء على الترتيب يلزم كثرة تقييد إطلاق ما دلّ على الترجيح بمرجّح واحد أو أكثر ، وهذا التقييد الكثير بعيد.

(٢) أي : تقييد إطلاق الأخبار المتضمنة لمرجّح واحد أو أكثر بالمقبولة والمرفوعة

__________________

(*) ينبغي ذكر المرفوعة أيضا كما ذكرهما معا قبل ذلك ، وإن كان نظره في عدم ذكرها إلى عدم اعتبارها فهو يقتضي إهمالها قبل ذلك أيضا.

(**) بل ممتنع في بعضها مثل قولهم عليهم‌السلام : «ما خالف قول ربنا لم نقله» فإنّه لا يمكن

٣١١

وعليه (١) فمتى وجد في أحدهما مرجّح وفي الآخر آخر منها (٢) كان (٣) المرجع هو إطلاقات التخيير ، ولا كذلك (٤)

______________________________________________________

بعيد جدّاً ، لاستهجان كثرة التقييد كاستهجان كثرة التخصيص عند أبناء المحاورة ، إذ جميع أخبار الترجيح ـ عدا المقبولة والمرفوعة ـ لا تتضمّن تمام المرجحات بل بعضها ، فيلزم تقييد كلها.

(١) يعني : وبناء على كون المقبولة والمرفوعة بصدد بيان المرجحات ـ من دون نظر إلى اعتبار الترتيب والطولية بينها ـ فمتى وجد في أحد الخبرين مرجح كأوّل المرجحات المذكورة في المقبولة مثل الأفقهية وغيرها من صفات الراوي ، وفي الآخر مرجح آخر كمخالفة العامة ونحوها مما يتأخر عن صفات الراوي في المقبولة وقع التعارض بينهما ، لكون المرجّحين في عرض واحد ، فيرجع حينئذ إلى إطلاقات التخيير.

(٢) أي : من المرجحات.

(٣) جواب «فمتى» يعني : فالمرجع حين التعارض هو إطلاق ما دلّ على التخيير.

(٤) يعني : ولا يرجع إلى إطلاقات التخيير بناء على كون المقبولة والمرفوعة بصدد

__________________

تقييده بما إذا لم يكن فيه مزية من حيث السند ، وإلّا فيقدّم على معارضه الموافق للكتاب. ومن المعلوم إباء هذا الكلام عن التقييد ، لأنّه بمنزلة أن يقال : «لم نقله إلّا إذا كان ذا مزيّة سندية فحينئذ يقدم على ما يوافق الكتاب» وبشاعته غنيّة عن البيان ، إذ لازم ترتيب المرجحات وكون موافقة الكتاب مرجّحة بعد المرجح السندي هو هذا المحذور الّذي لا يمكن الالتزام به ، ولهذا ادعى المصنف في الأخبار العلاجية إباء بعض الأخبار عن التقييد ، قال : «ثم إنّه لو لا التوفيق بذلك للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات ، وهي آبية عنه».

ثم إنّه بناء على عرضيّة المرجحات وعدم الترتيب بينها يقع التعارض بين المرجحات إذا كان بعضها في خبر وبعضها الآخر في خبر آخر ، والمرجع حينئذ إطلاقات التخيير. وبناء على ترتيب المرجحات يرجع إلى أخبار الترجيح ، ولازمه كثرة تقييد إطلاقات التخيير.

وبالجملة : يلزم قلّة تقييد إطلاقات التخيير بناء على عدم ترتيب المرجحات ، وكثرة تقييدها بناء على الترتيب.

٣١٢

على الأوّل (١) ، بل لا بدّ من ملاحظة الترتيب إلّا (٢) إذا كانا في عرض واحد.

وانقدح بذلك (٣) : أنّ حال المرجّح الجهتي (٤) حال سائر المرجحات في أنّه (٥) لا بدّ في صورة مزاحمته مع بعضها (٦) من ملاحظة أنّ أيّهما فعلا (٧) موجب للظن بصدق ذيه

______________________________________________________

بيان الترتيب بين المرجحات ، بل يرجع إلى أخبار الترجيح.

(١) وهو البناء على الترتيب بين المرجحات ، فلا بد حينئذ من ملاحظة الترتيب بين المرجحات ، وتقديم الخبر ـ الّذي يكون مرجّحه مقدّما رتبة على مرجح الخبر الآخر ـ على الخبر المعارض له ، ولا تصل النوبة إلى إطلاقات التخيير.

(٢) استثناء من قوله : «ولا كذلك على الأول ... إلخ» يعني : يلاحظ الترتيب بين المرجحات إذا كان بينها ترتب ، وأمّا إذا كان المرجّحان في الخبرين من نوع واحد ـ ككون المرجّح في كلّ منهما من صفات الراوي مثلا ـ فإنّهما لعرضيّتهما لا ترتيب بينهما ، فيقع التعارض بينهما ، ويرجع إلى إطلاقات التخيير كما تقدم آنفا.

(٣) أي : بما ذكر في وجه عرضيّة المرجحات ـ وكون المقبولة والمرفوعة بصدد بيان تعداد المرجحات من دون نظر إلى اعتبار الترتيب بينها ـ يظهر حال المرجح الجهتي كمخالفة العامة وكونه كسائر المرجحات في أنّه إذا زوحم مع مرجّح آخر يلاحظ ما يكون منهما واجدا لملاك الترجيح من الظن بالصدور أو الأقربيّة إلى الواقع ، فيقدم ما فيه هذا المناط على غيره ، ومع التساوي وعدم هذا الملاك فيهما يرجع إلى إطلاقات التخيير. وهذا الكلام توطئة للإيراد على الوحيد البهبهاني والشيخ «قدهما».

(٤) كمخالفة العامة ، فإنّ حالها ـ بناء على مذهب المصنف «قده» من عدم الترتيب بين المرجحات ـ حال سائر المرجحات في المزاحمة مع غيره من المزايا كما مر آنفا.

(٥) الضمير للشأن ، وضمير «مزاحمته» راجع إلى «المرجح الجهتي».

(٦) أي : بعض المرجحات ، وضمير «أيّهما» راجع إلى المرجح الجهتي وسائر المرجحات.

(٧) قيد لـ «أيّهما» يعني : لا بدّ من ملاحظة أنّ أيّ واحد من المرجح الجهتي وغيره من

٣١٣

بمضمونه (١) أو الأقربية (٢) كذلك إلى الواقع ، فيوجب (٣) ترجيحه وطرح الآخر ، أو أنّه (٤) لا مزيّة لأحدهما على الآخر ، كما إذا كان الخبر الموافق للتقية بماله من المزية (٥) مساويا للخبر المخالف لها بحسب (٦) المناطين (٧) ، فلا بد حينئذ (٨)

______________________________________________________

المرجحات واجد للمناط وهو الظن الفعلي بالصدور أو الأقربية إلى الواقع ، فيقدّم منهما ما يوجب الظن المزبور على غيره. والأولى تقديم «موجب» على «فعلا».

(١) متعلق بـ «بصدق» وضمير «ذيه» راجع «المرجح» ، والأولى أن يقال : «للظن بصدق مضمون ذيه».

(٢) معطوف على «بصدق» أي : موجب للظن بالصدق أو للظن بأقربية مضمونه إلى الواقع.

والحاصل : أنّ الوظيفة في مزاحمة المرجحات بناء على عدم اعتبار الترتيب بينها هو الأخذ بذي المزية التي توجب فعلا الظنّ بالصدور أو أقربيّة المضمون إلى الواقع وطرح الآخر ، ومع التساوي وعدم كون إحدى المزيتين موجبة للظن المزبور لا بد من الرجوع إلى إطلاقات التخيير.

(٣) يعني : فيوجب المرجّح ـ الموجب فعلا للظن بالصدور أو الأقربية ـ ترجيح واجد هذا المرجح على فاقده ، وتقديمه عليه.

(٤) معطوف على «أنّ أيّهما» وضميره للشأن ، يعني : من ملاحظة أنّ أيّ واحد من المرجحين موجب فعلا للظن ... أو أنه لا مزية لأحد المرجحين من حيث إفادته للظن الفعلي بالصدور أو الأقربية ، كما إذا كان راوي أحد الخبرين أعدل أو أفقه أو غيرهما من مرجحات السند مع كونه موافقا للعامة ، وكان الخبر الآخر مخالفا للعامة ، ولم يكن شيء من مزايا الخبرين موجبا للظن الفعلي ، فيرجع حينئذ إلى إطلاقات التخيير.

(٥) كالمرجح السندي مثل الأفقهية والأعدلية ونحوهما كما تقدم آنفا.

(٦) متعلق بـ «مساويا» وضمير «لها» راجع إلى «التقية».

(٧) وهما الظن بالصدور والأقربية إلى الواقع.

(٨) أي : فلا بد حين عدم مزيّة ـ لأحد المرجّحين على الآخر ـ من التخيير بين الخبرين.

٣١٤

من التخيير بين الخبرين ، فلا وجه (١) لتقديمه على غيره (٢) كما عن الوحيد البهبهاني قدس‌سره ، وبالغ فيه (٣) بعض أعاظم المعاصرين أعلى الله درجته. ولا (٤) لتقديم غيره عليه كما يظهر من شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، قال : «أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة ما أفاده «قده» من عدم الترتيب بين المرجحات ، وأنّ المدار في تقديم أحد المرجحين على الآخر على إفادة الظن الفعلي لا على غيرها. وعليه فلا وجه لتقديم المرجّح الجهتي ـ كمخالفة العامة ـ على غيره كما عن الوحيد البهبهاني «قده» ، فإنّه قدّم المرجّح الجهتي على غيره من المرجحات ، وتبعه بعض أعاظم معاصري المصنف وهو المحقق الميرزا الرشتي «قده» مصرّا على ذلك.

(٢) هذا الضمير وضمير «تقديمه» راجعان إلى «المرجح الجهتي».

(٣) أي : في تقديم المرجح الجهتي على غيره من المرجحات.

والحاصل : أنّ هذين العلمين «قدهما» يقدّمان المرجح الجهتي على المرجح السندي والمضموني.

(٤) معطوف على «فلا وجه» يعني : ولا وجه لتقديم غير المرجح الجهتي على المرجح الجهتي كما هو مذهب الشيخ الأنصاري «قده» فإنّه قدّم المرجّح السندي والمضموني على المرجح الجهتي. فالمصنف «قده» خالف هؤلاء الأعلام ، وذهب إلى عرضيّة المرجحات طرّا من غير فرق في ذلك بين التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة وعدمه والاقتصار عليها ، فالأقوال ثلاثة :

أحدها : تقديم المرجح الجهتي على غيره ، وهو قول الوحيد والرشتي «قدهما».

ثانيها : تقديم غير المرجح الجهتي ـ وهو الصدوري ـ على الجهتي ، وهو قول الشيخ وغيره.

ثالثها : تقديم غير المرجح الجهتي ـ وهو الصدوري ـ على الجهتي ، وهو قول الشيخ وغيره.

ثالثها : عرضيّة المرجحات ، وعدم تقديم بعضها على بعضها الآخر إلّا بأقوائية الملاك ، ومع عدمها وتساويهما في الملاك يرجع إلى إطلاقات التخيير.

٣١٥

الأرجح صدورا موافقا للعامة ، فالظاهر تقديمه (١) على غيره وإن كان مخالفا للعامة ، بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق (٢) ، لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين ، أو تعبّدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر. وفيما نحن فيه يمكن ذلك (٣) بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور (٤).

إن قلت (٥). انّ الأصل في الخبرين الصدور ، فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية ، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة

______________________________________________________

(١) أي : تقديم الأرجح صدورا على غير الأرجح صدورا وإن كان غير الأرجح مخالفا للعامة.

(٢) هذا احتراز عما إذا كان الترجيح لقلة الاحتمال في الخبر المخالف وكثرته في الموافق ، إذ تخرج مخالفة العامة حينئذ عن المرجح الجهتي وتندرج في المرجح المضموني.

(٣) أي : التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر ، فإنّ ذلك يمكن فيما نحن فيه أعني الخبرين الظنيين المتفاضلين.

(٤) محصل ما أفاده : أنّ المرجح الجهتي لمّا كان متفرعا على إحراز أصل الصدور ـ قطعا كما في المتواترين أو تعبدا كما في الظنيين المتكافئين اللذين لا بد من الحكم بصدورهما معا ، لفرض تساويهما من حيث شمول دليل الحجية لهما ـ فلا مورد لهذا المرجح الجهتي في المتفاضلين كما هو مورد البحث ، لعدم شمول دليل الحجية إلّا لخصوص ذي المرجح الصدوري ، دون فاقده حتى تلاحظ جهة صدوره. وعليه فيقدّم ذو المرجح الصدوري ـ وإن كان موافقا للعامة ـ على غيره وإن كان مخالفا لهم.

(٥) محصل هذا الإشكال الّذي أورده الشيخ «قده» على نفسه هو : أنّ في تقديم المرجح الصدوري على الجهتي محذورا ، وهو : تخصيص عموم أدلة حجية الخبر ، حيث إنّ مقتضى

٣١٦

خلاف الظاهر في أضعفهما ، فيكون هذا المرجح (١) نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور.

قلت (٢) : لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقية ، لأنّه إلغاء لأحدهما في الحقيقة».

وقال بعد جملة من الكلام : «فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصدور إمّا علما كما في المتواترين ، أو تعبّدا كما في المتكافئين

______________________________________________________

هذا التقديم عدم شمولها للخبر المخالف للعامة ، فلا بد من الالتزام بحجية كلا الخبرين وصدورهما معا ، كما هو مقتضى عموم أدلة حجية الخبر ، ثم التصرف في الخبر الموافق للعامة بحمله على التقية. نظير شمول أدلّة اعتبار الخبر للظاهر والأظهر ، والتصرف في الظاهر بحمله على الأظهر ، فكما يصح التعبد بصدور الظاهر مع فرض عدم العمل به ، للزوم حمله على الأظهر ، ولا يقتضي هذا الحمل لغوية التعبد بدليل حجية خبر الواحد ، فكذا في مورد موافقة أحد الخبرين للعامة وصدوره تقية ، فإنّه يتعبد بصدوره ولو لم يجز العمل بمضمونه فعلا ، لاختصاص مشروعيّته بحال التقية. وعليه فتكون مخالفة العامة نظير المرجّح الدلالي في التقديم على المرجح الصدوري.

(١) أي : المرجح الجهتي ، وقوله : «أضعفهما» أي : أضعف الخبرين دلالة.

(٢) هذا دفع الإشكال ، ومحصله : عدم صحة قياس المقام بالظاهر والأظهر ، وذلك للفرق الواضح بينهما ، حيث إنّه لا يرفع اليد عن الظاهر رأسا حتى لا يشمله دليل الحجية ، بل يتصرف في دلالته في الجملة ، كالعام الّذي يتصرف فيه بالخاص ، فدليل الحجية يشمل كلّا من الظاهر والأظهر بلا إشكال. وهذا بخلاف المتفاضلين ، فإنّ دليل الحجية لا يشمل الخبر الموافق للعامّة ، إذ لا أثر لشموله له إلّا إسقاطه ورفع اليد عنه رأسا ، وهذا هو الطرح لا الحجية.

وبالجملة : فالدليلان اللذان يكون بينهما جمع عرفي يشملهما دليل الحجية ، لعدم انثلامه بالنسبة إليهما ، إذ لا يلزم من شموله لهما محذور الطرح في أحدهما ، بخلاف المقام ـ أعني المتفاضلين صدورا ـ لما عرفت من عدم تعقّل صدورهما ثم طرح أحدهما رأسا ،

٣١٧

من الأخبار. وأمّا ما وجب فيه التعبد (١) بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر ، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح (٢) فيه (٣) ، لأنّ (٤) جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور» انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

وفيه (٥) : ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّ (٦) حديث فرعيّة جهة الصدور على أصله إنّما يفيد إذا لم يكن المرجّح الجهتي من مرجحات أصل الصدور ،

______________________________________________________

إذ حمل الموافق منهما للعامة على التقية إلغاء له عن الاعتبار من جميع الجهات.

(١) وهو فيما إذا كان المتعارضان متفاضلين ، فإنّه يجب التعبد بأحدهما المعين ـ وهو ذو المزية الصدورية ـ بمقتضى أدلة الترجيح.

(٢) أي : المرجح الجهتي.

(٣) أي : فيما وجب فيه التعبد بصدور أحدهما المعين ، وحاصله : أنّه ـ بعد تفرّع جهة الصدور على أصله ـ لا يبقى مجال لإعمال المرجح الجهتي ، بل لا بدّ من إعمال المرجح الصدوري ، والحكم بصدور ذيه ، وطرح الخبر الآخر وإن كان مخالفا للعامة.

(٤) تعليل لقوله : «فلا وجه» وقد تقدم في صدر كلامه بقوله : «لأن هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما ... إلخ» ومقتضى الفرعية لزوم إعمال مرجح الصدور قبل مرجح جهته ، فلا مجال للمرجح الجهتي مع الصدوري ، بل هذا مقدم على ذلك.

(٥) هذا جواب ما أفاده الشيخ «قده» وهو يرجع إلى وجهين : أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى ما عرفت» ومحصله : ما أفاده سابقا من أنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات سواء قلنا بالتعدي عن المزايا المنصوصة أم لم نقل ، ومن المعلوم أن مقتضى عدم الترتيب عرضيّة المرجحات وعدم تقدم أحدها على الآخر.

(٦) إشارة إلى ثاني الوجهين ، ومحصله : أنّ فرعيّة جهة الصدور على أصله إنّما تصح إن لم يكن المرجّح الجهتي مرجّحا لأصل الصدور ، وأمّا إذا كان كذلك بأن جعل مناط مرجّحية المرجّح مطلقا ـ سواء أكان مرجّحا صدوريّا أم جهتيا ـ الظنّ بالصدور أو الأقربية إلى

٣١٨

بل من مرجّحاتها. وأمّا (١) إذا كان من مرجّحاته (٢) بأحد المناطين فأيّ فرق بينه (٣) وبين سائر المرجحات ، ولم يقم دليل (٤) بعد في الخبرين

______________________________________________________

الواقع ، فلا فرق بينه وبين سائر المرجحات ، لرجوعها طرّا إلى مرجحات الصدور ، فترتيب المرجحات يجدي في تقديم بعضها على بعضها الآخر إن لم ترجع إلى المرجح السندي ، فهذه المناقشة ترجع حقيقة إلى منع الصغرى ، وهي عدم كون ما عدّ من المرجح الجهتي مرجّحا للجهة ، بل هو مرجح لأصل الصدور.

وعليه فإذا كان أحد الخبرين مخالفا للعامة والآخر موافقا لهم وكان راويه أعدل وأفقه من راوي الآخر قدّم الخبر الّذي مناطه أقوى من الآخر سواء أكان ذلك الخبر مخالفا للعامة أم موافقا لهم ، ومع التساوي وعدم الأقوائية يرجع إلى إطلاقات التخيير.

هذا بناء على التعدي عن المزايا المنصوصة بمناط الظن. وكذا الحال بناء على عدم التعدّي ، فإنّه على مذهب المصنف من عدم اعتبار الترتيب بينها يقع التزاحم بينها ، فيرجع أيضا إلى إطلاقات التخيير. وعلى كل حال فلا ملزم بالأخذ بذي المرجح السندي وطرح ذي المرجح الجهتي كما أفاده الشيخ «قده» لعدم دليل عليه ، حيث إن أخبار العلاج لا تدل إلّا على الترجيح بالمزية السندية والجهتية ، ولا تدلّ على تقديم إحداهما على الأخرى عند المزاحمة ، بل لا بدّ حينئذ من الرجوع إلى إطلاقات التخيير.

(١) إشارة إلى القول بالتعدي ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «هذا بناء على التعدي ... إلخ».

(٢) أي : من مرجحات أصل الصدور ، وضمير «مرجحاتها» راجع إلى جهة الصدور.

(٣) أي : بين مرجّح أصل الصدور.

(٤) إشارة إلى القول بالاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدم التعدّي عنها إلى غيرها. وغرضه : أنّه بناء على الاقتصار على المرجّحات المنصوصة وعدم التعدي عنها لا دليل أيضا على مذهب الشيخ من وجوب التعبد بصدور الراجح من غير جهة الصدور ـ وهو الواجد للمرجح الصدوري ـ على الواجد للمرجح الجهتي ، حيث إن أخبار العلاج لا تدلّ إلّا على «أنّ هذا مرجّح ، وذلك مرجّح» وليس فيها دلالة على اعتبار الترتيب بينها حتى يقال : إنّ المرجّح الصدوري مقدّم على المرجّح الجهتي.

وبالجملة : فلا دليل على تقديم المرجح السندي على الجهتي سواء قلنا بالتعدي أم لا.

٣١٩

المتعارضين على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حيث غير (١) الجهة مع كون الآخر راجحا بحسبها (٢) ، بل هو (٣) أوّل الكلام كما لا يخفى. فلا محيص (٤) من ملاحظة الراجح من المرجّحين (٥) بحسب أحد المناطين (٦) ، أو من (٧) دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما (٨) مع المزاحمة ، ومع عدم الدلالة (٩) ـ ولو لعدم

______________________________________________________

(١) وهو المرجح الصدوري ، وضمير «منهما» راجع إلى «الخبرين».

(٢) أي : بحسب الجهة ، وهي كمخالفة العامة بناء على كونها من المرجحات الجهتية.

(٣) يعني : بل وجوب التعبد بصدور ذي المرجّح الصدوري ـ مع كون الخبر الآخر راجحا من حيث الجهة ـ أوّل الكلام ، لما عرفت من إشكال استفادة ترتيب المرجحات من الأخبار.

(٤) هذا ملخص ما أفاده بطوله ، وحاصله : أنّه لا بد في صورة تزاحم المرجحات ـ بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة ـ من ترجيح المرجح الّذي فيه الظن بالصدور أو الأقربية إن كان ، وإلّا فالرجوع إلى إطلاقات التخيير ، وكذا بناء على عدم التعدي ، فإنّ المرجع حينئذ أيضا إطلاقات التخيير.

(٥) وهما المرجح الصدوري والجهتي ، و «بحسب» متعلق بـ «الراجح».

(٦) أي : الظن بالصدور والأقربية إلى الواقع ، فإنّهما مناطا الترجيح بناء على التعدي.

(٧) معطوف على «من ملاحظة» يعني : لا محيص من دلالة الأخبار العلاجية. وهذا إشارة إلى صورة عدم التعدي عن المرجحات المنصوصة ، والمفروض عدم دلالة الأخبار على حكم تزاحم المرجحات ، فلا بد أيضا من الرجوع إلى إطلاقات التخيير.

(٨) أي : بين المرجّحين.

(٩) يعني : عدم دلالة الأخبار على الترجيح بأحد المرجّحين في صورة تزاحمهما ، إمّا لأجل كونها في مقام تشريع أصل الترجيح بتلك المرجحات ، لا بصدد بيان الترتيب بينها ، وإمّا لأجل عدم تعرّضها لحكم مزاحمة خصوص المرجّح الجهتي مع غيره من المرجّحات كمزاحمة موافقة الكتاب لمخالفة العامة ، فلا بد في صورة مزاحمة المرجّح الجهتي مع

٣٢٠