منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

إلّا (١) الرجوع إلى ما بني عليه (٢) في المسائل الأصولية ، وبدونه (٣) لا يكاد يتمكّن من استنباط واجتهاد ، مجتهدا (٤) كان أو أخباريّا.

نعم (٥) يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «لا محيص» يعني : لا مناص للمجتهد إلّا مراجعة مبانيه في مسائل علم الأصول.

(٢) الضمير راجع إلى الموصول المراد به القواعد الممهدة للاستنباط ، المبحوث عنها في علم الأصول.

(٣) أي : وبدون الرجوع إلى القواعد الأصولية لا يكاد يتمكن من الاستنباط.

(٤) أي : سواء كان المتصدّي للاستنباط أصوليا أم أخباريا. فكما يتوقّف استنباط الأصولي من الكتاب والسنة على إثبات ظهور هيئة «افعل» في الوجوب وإثبات حجية الظاهر للعموم لا لخصوص المخاطبين ، فكذلك يتوقّف استنباط الأخباري على ذلك. وهكذا سائر المباحث الأصولية.

(٥) استدراك على قوله : «ما من مسألة إلّا ويحتاج ...» وحاصله : أنّ الحاجة إلى علم الأصول في استنباط الأحكام وإن كانت مسلّمة ، لما عرفت ، إلّا أنّ هذا الاحتياج ذو مراتب ، تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والمسائل والأزمنة ، فإذا كان مدرك المسألة واضحا جدّاً بأن كان رواية صحيحة سندا وواضحة دلالة كانت القاعدة الأصولية المحتاج إليها في هذه المسألة هي حجية الخبر والظهور. وإن كان مدرك المسألة مما فيه إعضال وإشكال كانت القواعد الأصولية المحتاج إليها أزيد ، كما في مسألة ضمان عارية الذهب والفضة ، فان الأخبار فيها على طوائف يتوقّف استنباط الحكم فيها على ملاحظة الظاهر منها والأظهر والعام والخاصّ ، ومسألة انقلاب النسبة وعدمه ، وهكذا.

وقد تكون الحاجة إلى علم الأصول شدة أو ضعفا بلحاظ الأزمنة ، ففي الصدر الأوّل حيث كان الرّواة في عصر الحضور كان استنباط الأحكام فيه أسهل وأخف مئونة من عصرنا ، خصوصا لأجلّائهم ، وهذا بخلاف العصور المتأخرة ، للزوم الفحص عن المخصص والمقيد والمعارض مما يتوقف عليه الاجتهاد فعلا ، ولم يكن الاجتهاد في

٤٤١

والأشخاص ، ضرورة (١) خفّة مئونة الاجتهاد في الصدر الأوّل ، وعدم حاجته إلى كثير مما يحتاج إليه في الأزمنة اللاحقة ، مما لا يكاد يحقق (٢) ويختار عادة إلّا بالرجوع إلى ما دوّن فيه من الكتب الأصولية (*).

______________________________________________________

الصدر الأوّل محتاجا إليه. ولزوم الفحص من جهة أن ما استظهره من الخبر هل يوافق ما استفادة الأصحاب؟ وهل يكون في مورده إجماع قطعي أو شهرة كذلك أم لا؟ وكل هذه الأمور لم يكن في عصر الحضور.

وقد تختلف مراتب الحاجة إلى علم الأصول بنظر الأشخاص المتصدّين للاستنباط ، فربما كان بعضهم سريع القطع بحكم يستنبطه ، ولا يتخيّل معارضة مدركه بأمر آخر ، فلا يحتاج إلى إعمال قواعد أصولية ، بخلاف مجتهد آخر بطيء الجزم بما يستنبطه من الأحكام ، فهو محتاج جدّاً إلى إعمال قواعد أصولية فيه.

(١) تعليل وبيان لقوله : «نعم يختلف» واقتصر المصنف على تقريب مراتب الحاجة إلى علم الأصول بلحاظ قرب عهد الاستنباط بعصر الحضور وبعده عنه ، وقد عرفت آنفا مراتب الحاجة بلحاظ المسائل والأشخاص أيضا. والمقصود من هذا كله أنّ الحاجة إلى علم الأصول موجبة جزئية مسلّمة ، ولا وجه لإنكارها ، وإنّما الكلام في مقدار الاحتياج إليه ، وهو يختلف باختلاف الأشخاص ، والصحيح أنّ جلّ ما دوّن في كتب الأصول المتأخّرة دخيل في الاستنباط.

(٢) بصيغة المجهول ، يعني : لا يمكن أن يختار المجتهد رأيا أو يحقّق حكما إلّا بالاستعانة من القواعد الأصولية.

__________________

(*) كما يلزم الاطّلاع على شيء من المباحث المنطقية كشرائط البرهان ، وكيفية تراكيب البراهين وامتيازها عن سائر مواد الأقيسة من الصناعات الخمس من الجدل والخطابة والشعر والسفسطة ، لتوقف استنباط الأحكام من مآخذها على الاستدلال ، وذلك لا يتم إلّا بالمنطق ، بل هو من مبادئ علم الأصول أيضا ، لأنه من العلوم النظرية التي يكثر فيها الاختلاف ، فلا بد من معرفة مواد الأقيسة لتمييز البرهان عما يكون مصادرة على المطلوب أو مغالطة.

ومما يتوقف عليه الاستنباط علم الرّجال ، لأنّ عمدة أدلة الأحكام الشرعية لما كانت أخبار

٤٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الآحاد ، لعدم وفاء الأخبار المتواترة والإجماعات القطعية بجلّ الفقه ، فاللازم إحراز صدورها بوجه حتى يصح الاستناد إليها في الاستنباط ، وإلّا كان الاستناد إلى غير الحجة ، وكان الإفتاء حينئذ بغير علم. وحيث إنّ تحصيل العلم الوجداني بصدورها غير متيسّر فلا بد من تحصيل الوثوق بصدورها ، وهو منوط بالاطّلاع على تراجم رجال السند ومعرفة حالهم وأنّهم متحرّزون عن الكذب في المقال أولا ، فلا محيص عن التحرّي عما يوجب الوثوق بصدور الرواية من وثاقة الراوي أو عمل المشهور بها أو غير ذلك من موجبات الوثوق بالصدور ، وما لم يحصل هذا الوثوق لا يصح الاستناد إلى الرواية.

وعلى هذا فتكون الحجة هي الخبر الموثوق الصدور وإن لم يكن مخبره ثقة ، فنحتاج إلى علم الرّجال لتشخيص خبر الثقة عن غيره ، كما نحتاج إلى مراجعة كلمات الأصحاب للاطلاع على أنّهم أعرضوا عنه أم لا ، حيث إن إعراضهم إمّا رافع للوثوق بصدوره أو لإرادة طاهرة ، فيعلم إجمالا باختلال أصالة الظهور أو الصدور فيه ، ومع هذا العلم لا وجه لحجية الخبر والاعتماد عليه.

نعم إذا أعرض الأصحاب عن خبر معتبر سندا مع العلم بوجه إعراضهم كانت العبرة بذلك الوجه لا بنفس الإعراض ، كما إذا علم أنهم أعرضوا عن الخبر لزعمهم ضعف سنده ، لوقوع رجل فيه حسبوه ضعيفا ، أو زعموا اعتبار عدالة الراوي في حجية خبره ، أو كون الراوي إماميّا أو غير ذلك مما يعتبر عندهم في حجية الخبر ولا يعتبر عندنا ، أو زعموا معارضة الخبر المعرض عنه لخبر آخر فأخذوا بأحدهما وتركوا الآخر لمجرد الأخذ بأخبار التخيير ، لا لخلل في الخبر الّذي لم يعوّلوا عليه ، أو غير ذلك ، فان هذا الإعراض لا يكون كاسرا لسورة حجية الخبر المعرض عنه مع الوثوق بصدوره من ناحية سنده.

والإعراض الموهن لحجية السند والرافع للوثوق بصدوره هو ما إذا لم يعلم وجه الإعراض مع فرض موافقة المشهور لهذا المجتهد في شرائط حجية الخبر.

فالمتحصل : أنّ المجتهد لا يستغني عن علم الرّجال ، فلا بد من الخوض فيه حتى يظهر له أن إعراضهم عن خبر هل هو لأجل المبنى الّذي لا يكون صحيحا عنده أم لخلل فيه لم يظهر له. كما أنّ عملهم بخبر ضعيف هل هو لتوثيق الراوي أم لاحتفافه بقرائن تدل على حصته ، فإذا ثبت أنّ إعراضهم لم يكن من ناحية ضعف السند ، أو أن عملهم بخبر ضعيف لم يكن لتوثيق السند ـ مع فرض

٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عدم موافقتنا لهم في ذلك ـ لم يكن إعراضهم كاسرا ولا عملهم جابرا.

ومع ما عرفت : من أن المناط عندنا هو الوثوق بالصدور خبريّا كان أم مخبريّا ـ تعرف مسيس الحاجة إلى علم الرّجال لتحقيق صغرى خبر العدل والثقة والحسن والقوي.

ولكن ذهب جمع إلى الاستغناء عنه وعدم توقف الاستنباط عليه ، لوجوه ، منها : دعوى قطعية أخبار الكتب الأربعة لقرائن زعموا وفائها بإثبات دعواهم ، ومنها : كفاية حصول الظن بالصدور من عمل علمائنا بكل ما حصل لهم الظن بأنه مراد المعصوم عليه‌السلام. ومنها : غير ذلك.

ولكن الكل مخدوش ، ونقتصر من الكلام بإرجاع الطالب العزيز إلى ما أفاده بعض أجلة العصر في مدخل معجم رجال الحديث لإبطال هذه الدعاوي ، وضرورة المراجعة إلى علم الرّجال في مقام الاستنباط.

٤٤٤

فصل (١)

اتفقت الكلمة على التخطئة في

______________________________________________________

التخطئة والتصويب

(١) الغرض من عقد هذا الفصل التعرض لما نسب إلى جماعة من المخالفين من القول بأنّ كل مجتهد مصيب ، وأنّه لا حكم في الواقع سوى ما يؤدي إليه رأي المجتهد ، ثم المناقشة فيه وإثبات التخطئة. وقبل الخوض في المقصود نبّه على أمر متسالم عليه وهو التخطئة في العقليات ، وسيأتي بيانه. ولا بأس بالإشارة أوّلا إلى محل النزاع وموارد البحث والخلاف في مسألة التخطئة والتصويب ، فنقول :

تقدم في الفصل الأوّل من مباحث الاجتهاد أن جماعة من العامة عرّفوه بأنّه «استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي» وإن ورد هذا التعريف في كلمات جمع من أصحابنا ، كما سبق توضيحه ، إلّا أنّ الفارق بيننا وبينهم في مدارك الأحكام وما يوجب الظن بها ، فأصحابنا يستندون إلى الكتاب والسنة ، وأولئك يستندون إليها وإلى طرق ظنية أخرى. وفرّقوا بين الظن الحاصل من الكتاب والسنة ، وغيره ، فقالوا بالتخطئة في الأوّل كما التزموا بها في العقليات ، واختلفوا في الظن بالحكم المستند إلى مثل القياس فقال جمع منهم بالتخطئة وآخرون بالتصويب.

قال الآمدي : «المسألة الظنية من الفقهيات إمّا أن يكون فيها نصّ أولا يكون. فإن لم يكن فيها نصّ ، فقد اختلفوا فيها ، فقال قوم : كل مجتهد فيها مصيب ، وأن حكم الله فيها لا يكون واحدا ، بل هو تابع الظنّ المجتهد ، فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدّى إليه

٤٤٥

العقليات (١) ،

______________________________________________________

اجتهاده وغلب على ظنّه ، وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهذيل والجبّائي وابنه. وقال آخرون : المصيب فيها واحد ومن عداه مخطئ ، لأنّ الحكم في كل واقعة لا يكون إلّا معيّنا ، لأنّ الطالب يستدعي مطلوبا ، وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر».

وقال ابن حزم : «ذهبت طائفة إلى أنّ كل مجتهد مصيب ، وأن كل مفت محقّ في فتياه على تضاده».

وقال الغزالي : «انه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يطلب بالظن ، بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه ، وهو المختار ، وإليه ذهب القاضي. وذهب قوم من المصوّبة إلى أنّ فيه حكما معيّنا يتوجه إليه الطلب ، إذ لا بد للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلّف المجتهد إصابته فلذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الّذي لم يؤمر بإصابته ، بمعنى أنّه أدّى ما كلّف ، فأصاب ما عليه» ثم أطال الكلام في بيان مختاره وبيان الفارق بين ما لا نصّ فيه وما فيه النص ، فراجع (١).

والحاصل : أن الناظر في كلماتهم يظهر له أنّهم مختلفون في التصويب ، فبعضهم ينكره رأسا ، وبعضهم يلتزم به في ما لا نصّ فيه. وعليه فنسبة التصويب إلى المخالفين مطلقا أو إلى الأشاعرة خاصة دون المعتزلة لا تخلو من شيء.

(١) لأنّ التصويب فيها مساوق لجواز اجتماع النقيضين أو الضدين ، وبيانه : أن المراد من العقليات هي الأمور النّفس الأمرية المتحققة في صقع الواقع التي لا يتوقف تحققها على اعتبار معتبر وفرض فارض ، سواء تحققت في وعاء الخارج كالجواهر والأعراض ، أم لم تتحقق فيه ، بل كانت ثابتة في وعائها المناسب لها كاستحالة اجتماع الضدين والنقيضين وإمكان الممكن وغيرها ، فهذه أمور واقعية لا يتوقّف تحققها على اعتبار الشارع أو العقلاء وان لم توجد في الخارج في نفسه أو في غيره كما هو حال الجواهر والأعراض.

والوجه في اتفاق كلمتهم على التخطئة في هذه الأمور العقلية هو استلزام القول بالتصويب فيها لاجتماع الضدين أو النقيضين ، مثلا إذا أدرك عقل زيد إمكان إعادة

__________________

(١) نقلت هذه الكلمات من كتاب أصول الفقه المقارن للعلّامة السيّد محمّد تقي الحكيم ، ص ٦١٧ وغيرها

٤٤٦

واختلفت في الشرعيات ، فقال أصحابنا بالتخطئة فيها أيضا ، وأنّ (١) له تبارك وتعالى في كل مسألة حكم يؤدّي إليه الاجتهاد تارة وإلى غيره أخرى. وقال مخالفونا بالتصويب ، وأنّ (٢) له تعالى أحكاما

______________________________________________________

المعدوم وأدرك عقل عمرو استحالتها ، أو أدرك عقل رجل قبح الكذب الضار ، وعقل آخر عدم قبحه مطلقا بل فيما كان المتضرر هو المؤمن ، أو أدرك عقل أحدهما حسن الصدق النافع ، وآخر قيّده بشيء مثلا ، فلو قيل بالتصويب فيها لزم اجتماع الضدين بل النقيضين ، وهو محال ، إذ الواقع إمّا أن يكون ظرفا لاستحالة إعادة المعدوم وإما لإمكانها ، لبداهة امتناع أن يقال : إن إعادة المعدوم ممكنة ومستحيلة ، فالتخطئة في هذا السنخ من العقليات مما لا بد منه.

ولا فرق في ذلك بين الحكم العقلي الّذي موضوعه حكم شرعي كحسن الإطاعة وقبح المعصية وبين غيره مما تقدّم كاستحالة إعادة المعدوم وإمكانها ، لوحدة المناط وهو استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين.

وليعلم أنّ الاتّفاق على التخطئة في العقليات وإنّما يكون مورده الأحكام العقلية التي تقع طرقا إلى استكشاف الواقعيات كالملازمة بين وجوب المقدمة وذيها ، فإنّ هذه الملازمة أمر واقعي يدركها العقل تارة ولا يدركها أخرى ، وكذا استحالة شيء واقعا أو مصلحته أو مفسدته كذلك. وأمّا الأحكام العقلية غير الطريقية التي لا واقع لها ويكون إدراك العقل مقوّما لحكمه فلا محيص عن الالتزام بالتصويب فيها ، ضرورة أنّ الحسن العقلي حينئذ ليس إلّا ملائمة الشيء لدى القوة العاقلة كملاءمة الشيء لدى سائر القوى من الذائقة والشامة واللامسة ، كما أنّ القبح العقلي عبارة عن منافرته لدى القوة العاقلة كإدراكه حسن العدل وقبح الظلم ، ومن المعلوم عدم تطرق الخطأ في الأمور الوجدانية المتقوّمة بإدراكات العقل.

(١) عطف تفسير لـ «التصويب» وقوله : «تارة» متعلق بـ «يؤدي».

(٢) عطف تفسير لـ «التصويب» وبيان لما يعتقده المخالفون ، لكنك عرفت اختلاف كلماتهم في المسألة ، وتفصيلهم بين الظن الحاصل من الكتاب والسنة والحاصل من سائر

٤٤٧

بعدد آراء المجتهدين ، فما يؤدّي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك وتعالى.

ولا يخفى أنه (١) لا يكاد يعقل الاجتهاد في حكم المسألة إلّا إذا كان لها

______________________________________________________

الأدلة.

(١) الضمير للشأن ، شرع المصنف من هنا في مناقشة التصويب ـ بناء على حجية الأمارات بالسببية والموضوعية ـ وما يحتمل في معناه ثبوتا وفي نفس الأمر ، وذكر وجوها ثلاثة يكون التصويب في أوّلها معقولا في نفسه وباطلا بلحاظ الأدلة النقليّة ، وفي ثانيها محالا ، وفي ثالثها صحيحا لا بد من الالتزام به.

وقبل بيان الوجوه الثلاثة نبّه على أمر يكون هو المعيار في بطلان التصويب المنسوب إلى العامة وصحته ، فقال ما محصله : إنّ الاجتهاد هو استفراغ الوسع وبذل الجهد لتحصيل الظن بالحكم الشرعي ، وهذا المعنى في نفسه متوقف على وجود حكم في الواقع يتفحّص عنه المجتهد ليحصل له الظن به. ولو لم يكن في الواقع شيء ، وكان نفس حكميّة الحكم متوقفة على اجتهاد المجتهد واستنباطه فعمّا يبحث؟ وفي ما ذا يستفرغ وسعه؟ وقد ورد في كلام بعضهم : أن المطلب يقتضي وجود مطلوب حتى تصل إليه اليد تارة وتقصر عن تناوله أخرى.

وعليه فلو كان المراد بالتصويب خلوّ صفحة الواقع عن جميع مراتب الحكم حتى الاقتضاء والإنشاء ، ومع ذلك توقف الحكم على قيام ظن المجتهد به فهو محال ، لاستحالة الفحص عن العدم البحث ، واستلزم الدّور المحال ، لتوقف الاجتهاد على الحكم ، وتوقف الحكم على الظن به.

وبعد وضوح هذا الضابط الكلّي ـ الّذي هو من القضايا التي معها قياساتها ـ تعرّض المصنف للاحتمالات الثلاثة في التصويب وحكم كل منها :

الأوّل : أن يكون المراد من التصويب الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد آراء المجتهدين ، وحاصله : أنّ الشارع الأقدس لمّا كان عالما بما يؤدّي إليه آراء المجتهدين فقد أنشأ أحكاما في الواقع ـ بعدد آرائهم ـ قبل أداء اجتهاداتهم إليها ، لعلمه تعالى بآرائهم ، وأنّ حكم كل واحد منها هو الّذي أدّى إليه ظن المجتهد واقعا ، إذ المجعول

٤٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

في حقه أزلا هو المطابق لما أدّى إليه ظنه.

وأورد المصنف على التصويب بهذا المعنى ـ على فرض إرادته ـ بأنّه وإن كان معقولا في نفسه ، لكن لا سبيل للالتزام به ، لوجهين :

أحدهما : تواتر الأخبار على أنّ له تبارك وتعالى في كل واقعة حكما واحدا يشترك فيه الكل ، سواء أدّى إليه اجتهاد المجتهد أم لا ، وليس للواقعة الواحدة أحكام متعددة حتى يتجه التصويب بهذا المعنى. ومن المعلوم أن الخبر المتواتر يفيد العلم بالواقع.

والظاهر ان مقصود المصنف وغيره ممن ادّعى هذا التواتر هو أخبار الوقوف والاحتياط الدالة على وجود حكم واقعي لكل مسألة ، وأنّ الأمر بالاحتياط إنما هو لأجل التحفظ عليه وعدم الابتلاء بمخالفته.

ثانيهما : إجماع أصحابنا على وحدة الحكم الواقعي المشترك بين الكل ، والإجماع حجة. وعليه فلو أريد بالتصويب الاحتمال الأوّل كان ممكنا ثبوتا وباطلا إثباتا ، لوجهين.

الثاني : أن يكون معنى التصويب الالتزام بإنشاء أحكام على طبق الآراء بعد أن أدّت إليها الاجتهادات ، ففتاوى المجتهدين مطابقة لتلك الإنشاءات. ومرجع هذا الوجه إلى كون رأي المجتهد موضوعا لحدوث حكم واقعا ، فلا حكم في الواقع غير ما أدّت إليه الأمارة القائمة عند المجتهد ، فالأحكام تابعة لآراء المجتهدين ، ولا حكم قبل حدوث الرّأي لهم.

والفرق بين هذا التصويب الأشعري وبين سابقه هو : أنّ الإنشاءات في الأوّل تكون قبل الاجتهادات ، وفي الثاني تكون بعدها.

وردّه المصنف بأنّه غير معقول ، لاستلزامه الدور ، وهو توقف الإنشاء على الاجتهاد ، وتوقف الاجتهاد عليه. أمّا توقفه على الاجتهاد فلأنّ المفروض ترتب الإنشاءات الواقعية على اجتهادات المجتهدين ، وكون اجتهاداتهم بالنسبة إلى الإنشاءات الواقعية كالموضوع بالنسبة إلى الحكم في الترتب. وأمّا توقف الاجتهاد على تلك الأحكام الإنشائية فلأنّ الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي ، ومن المعلوم تأخر الظن ـ كالعلم ـ عما يتعلّق به تأخّر العرض عن معروضه ، فالاجتهاد المؤدّي إلى الظن

٤٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

بالحكم لا بد وأن يتأخّر رتبة عن ذلك الحكم ، وإلّا فلا يصدق حدّ الاجتهاد على الاجتهاد الموجب لوجود الحكم قبله.

وبالجملة : فتعريف العامة الاجتهاد بالمعنى المذكور آنفا ينافي ذهابهم إلى التصويب بهذا المعنى المستحيل.

الثالث : أن يكون المراد من التصويب التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي ، لا جميع مراتب الحكم ، وبيانه : أنّ للحكم الواقعي في كل واقعة مراتب أربع : الاقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجز. وله تعالى في الواقع أحكاما مجعولة على حسب ما فيها من المصالح المقتضية لجعلها ، وهي التي قامت الأمارات عليها ، وتلك الأحكام إنشائية ، فإن أصابت الأمارات القائمة عليها الموجبة لظنّ المجتهد بها صارت فعلية ، وإن أخطأت صار الحكم الفعلي مؤدّى الأمارة ، لحدوث مصلحة في مؤداها بسبب قيام الأمارة عليه تكون تلك المصلحة أقوى من مصلحة الحكم الإنشائيّ ، فيكون الحكم الفعلي على طبق الأمارة ، لحصول الكسر والانكسار في الملاك الواقعي الثابت في الفعل كشرب الخمر ، بعد حدوث مصلحة في العمل بالأمارة.

وهذا نظير الأحكام الثانوية الفعلية المترتبة على العناوين الثانوية ، ويبقى الحكم الواقعي الأوّلي على إنشائيته ، فمن لم تقم عنده أمارة على الحكم لم يكن حكم فعلي في حقه ، وبه يتعدد الحكم الفعلي بعدد آراء المجتهدين.

وحكم هذا التصويب المعتزلي هو : أنّه معقول في نفسه ـ بناء على موضوعية رأي المجتهد وسببية كل أمارة لحدوث مصلحة في مؤداها توجب تغير الحكم الواقعي ـ إذ لا مانع من توقف فعلية الأحكام الواقعية على قيام الأمارة على طبقها ، ومن اختصاص تلك الأحكام ببعض المكلفين دون بعض ، نظير اختصاص أحكام النساء بهنّ ، وعدم اشتراك الرّجال فيها معهن.

والّذي يرد على هذا المعنى للتصويب أمور عمدتها أمران ، أحدهما : بطلان أصل المبني ، للإجماع على عدم كون الأمارة حجة من باب السببية حتى تكون مغيرة للواقع كما يتغيّر بطروء عنوان ثانوي كالضرر والخوف والاضطرار.

٤٥٠

حكم واقعا ، حتى (١) صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلّته ، وتعيينه بحسبها (٢) ظاهرا.

فلو كان (٣) غرضهم من التصويب هو الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء ـ بأن (٤) تكون الأحكام المؤدّي (٥) إليها الاجتهادات أحكاما واقعية (٦) كما هي ظاهرية ـ فهو (٧) وإن كان خطأ من جهة تواتر الأخبار ، وإجماع أصحابنا الأخيار على أنّ له تبارك وتعالى في كل واقعة

______________________________________________________

ثانيهما : ما ادّعي من تواتر الأخبار على اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين بها.

(١) أي : حتى يصح أن يقال : المجتهد صار بصدد استنباط ذلك الحكم الواقعي والإفتاء به في مرحلة الظاهر ، ولو لا وجود حكم في الواقع لاستحال التصدّي لاستنباطه واستخراجه ، كما مرّ بيانه.

(٢) أي : بحسب أدلته ، وضمائر «استنباطه ، أدلته ، تعيينه» راجعة إلى «حكم واقعا».

(٣) هذا شروع في أقسام التصويب بناء على سببية الاجتهاد وسائر الأمارات ، وهذا هو الاحتمال الأوّل ، وقد تقدم تقريبه بقولنا : «الأوّل : أن يكون المراد من التصويب الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع ... إلخ».

(٤) بيان لـ «إنشاء أحكام».

(٥) بصيغة اسم الفاعل ، وفاعلها «الاجتهادات» الأولى أن يقال : «المؤدّية» بالتأنيث.

(٦) أمّا كونها أحكاما واقعية فلأنّه مقتضى التصويب أي إصابة كل اجتهاد بالواقع ، وأمّا كونها ظاهرية فلأنّها أحكام مجعولة عند الجهل بالواقع والشك فيه ، ومن المعلوم أن الحكم المجعول في مورد الشك ـ كما في الأمارة أو في موضع الشك كما في الأصل العملي ـ يكون حكما ظاهريا.

(٧) أي : فالالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء وإن كان خطأ ، وهذا جزاء لقوله : «فلو كان» وردّ للاحتمال الأوّل ، وقد تقدم بيانه بقولنا : «وأورد المصنف على هذا المعنى للتصويب ...».

٤٥١

حكما يشترك فيه الكل (١) ، إلّا أنه (٢) غير محال.

ولو كان غرضهم منه (٣) الالتزام بإنشاء الأحكام على وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد ، فهو (٤) مما لا يكاد يعقل ، فكيف يتفحص (٥) عمّا لا يكون له عين ولا أثر؟ أو يستظهر (٦) من الآية أو الخبر؟

إلّا أن يراد (٧) التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي ،

______________________________________________________

(١) من غير فرق بين من أدّى إليه ظنه ومن لم يؤدّ إليه ظنه.

(٢) متعلّق بـ «وان كان خطأ» أي : إلّا أنّ الالتزام بإنشاء أحكام بعدد الآراء غير محال ، لعدم استلزامه الدور ، وإنّما يكون خطأ من جهة التواتر والإجماع على اشتراك الأحكام.

(٣) أي : من التصويب ، وهذا بيان للاحتمال الثاني المتقدم بقولنا : «الثاني أن يكون معنى التصويب الالتزام بإنشاء أحكام على طبق الآراء ... إلخ».

(٤) أي : فالالتزام بإنشاء الأحكام على وفق الآراء بعد الاجتهاد مما لا يعقل ، وهذا جزاء قوله : «ولو كان غرضهم منه» وردّ للاحتمال الثاني بأنّه محال ، وقد تقدّم توضيحه بقولنا : «ورده المصنف بأنه غير معقول ... إلخ».

(٥) هذا إشارة إلى وجه عدم المعقولية ، وحاصله : أنّه بناء على توقف الأحكام على اجتهادات المجتهدين كيف يمكن التفحص عن الحكم الّذي لا يكون له عين ولا أثر قبل الاجتهاد؟

(٦) معطوف على «يتفحص» يعني : كيف يستظهر ـ من الآية أو الخبر ـ الحكم الّذي ليس له عين ولا أثر؟

(٧) ظاهر العبارة ـ بمقتضى السياق ـ أنه استدراك على استحالة الاحتمال الثاني للتصويب المتقدم بيانه ، فكأنه قال : «ولو كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الأحكام على وفق آراء الأعلام ... فهو مما لا يكاد يعقل. ولو كان غرضهم منه الالتزام بأحكام فعلية على وفق آراء المجتهدين .. فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى ...» وهذا لا بأس به ، فان المحال هو التصويب في ناحية الحكم الإنشائيّ دون الفعلي. لكنه مبني على مبنى غير سديد وهو حجية الأمارة على السببية والموضوعية.

٤٥٢

وأنّ (١) المجتهد وإن كان يتفحّص عمّا هو الحكم واقعا وإنشاء (٢) ، إلّا (٣) أنّ ما أدّى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة ، وهو (٤) ممّا يختلف باختلاف الآراء ضرورة ، ولا يشترك (٥) فيه الجاهل والعالم بداهة ، وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقة (٦) بل إنشاء ، فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى (٧) ، بل لا محيص عنه في الجملة (٨) بناء على اعتبار الأخبار من باب السببية والموضوعية كما لا يخفى (*). وربما يشير

______________________________________________________

وكان الأولى بحفظ السياق وإفهام المقصود ـ أعني بيان القسم الثالث للتصويب ـ أن يقال : «ولو كان غرضهم التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي ...».

(١) معطوف على «التصويب» وبيان له.

(٢) المراد بهما في المقام واحد ، إذ الحكم الواقعي الّذي يتفحص عنه المجتهد ليس إلّا إنشائيا حسب الفرض.

(٣) متعلّق بقوله : «وإن كان» فالحكم الواقعي قبل الاجتهاد إنشائي وبعده فعلي.

(٤) أي : الحكم الفعلي الّذي يتعين العمل به ـ وهو ما أدى إليه رأي المجتهد ـ يختلف باختلاف آراء المجتهدين ، فلكل واحد منهم حكم فعلي يخصه ، ولكن الحكم الإنشائيّ واحد.

(٥) إذ الحكم المشترك بين العالم والجاهل هو الإنشائيّ فقط.

(٦) إذ الحكم الحقيقي هو الفعلي البالغ مرتبة البعث والزجر ، حيث يتنجز بوصوله بنحو من الأنحاء ، وأمّا الإنشائيّ فليس له إطاعة وعصيان.

(٧) أي : بمعنى تبعية الحكم الفعلي لرأي المجتهد واشتراك الكل في الحكم الإنشائيّ ، وضمير «عنه» راجع إلى «التصويب بهذا المعنى».

(٨) كالموقّتات مطلقا ، أو إذا انكشف الخلاف ، أو بعد انقضاء أوقاتها مع عدم القضاء لها. أو يراد بقوله : «في الجملة» الالتزام بالتصويب في مراتب الحكم في حال الانسداد

__________________

(*) لا يخفى أنّه اختلفت كلمات المصنف في أنّ الحكم المشترك بين الجاهل والعالم هل هو

٤٥٣

إليه (١) ما اشتهرت بيننا «أن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم».

______________________________________________________

دون الانفتاح.

(١) أي : يشير إلى التصويب في الفعلية ما اشتهرت ... إلخ. ووجه الإشارة : أنّ ظنيّة الطريق لا تنافي قطعية الحكم الّذي هو مؤدى الأمارة ، لاستلزم موضوعية الأمارة القطع بكون مؤداها حكما فعليا كما لا يخفى.

والتعبير بـ «ربما يشير» دون «ربما يدل عليه» إنّما هو لاحتمال عدم إرادة القطع بالحكم الظاهري النفسيّ ، بل إرادة القطع بالحجية ، فكون الطريق ظنيّا لا ينافي القطع بحجيته ، وأين هذا القطع من القطع بالحكم الظاهري النفسيّ الّذي هو المبحوث عنه في المقام.

__________________

إنشائي أم فعلي تعليقي؟ فيظهر من حاشيته على الرسائل في مقام منع التصويب أنه إنشائي ، قال : «وكما يكون بالإجماع بل الضرورة من المذهب في كل واقعة حكم يشترك فيه الأمّة لا يختلف باختلاف الآراء ، كذلك يمكن دعوى الإجماع بل الضرورة على عدم كونه فعليّا بالنسبة إلى كل من يشترك فيه بمعنى أن يكون بالفعل بعثا أو زجرا أو ترخيصا ، بل يختلف بحسب الأزمان والأحوال ، فربما يصير كذلك في حق واحد في زمان أو حال دون آخر ، كما أنّه بالبداهة كذلك في المرتبة الرابعة» (١).

وكذا كلامه في بحث الإجزاء ، لكنه ناظر إلى حجية الأخبار من باب الطريقية لا الموضوعية كما أراد هنا توجيه التصويب به ، قال : «فان الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ليس إلّا الحكم الإنشائيّ ... وإنما المنفي فيها ليس إلّا الحكم الفعلي البعثي ، وهو منفي في غير موارد الإصابة».

ولكنه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من الكفاية التزام بأنّ الحكم الواقعي المشترك بين من قامت عنده الأمارة ومن لم تقم عنده هو الفعلي من جهة ، والمختص بالعالم هو الفعلي من جميع الجهات ، حيث قال : «فانقدح بما ذكرنا أنّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأصول والأمارات فعليا» ، وأفاد نحوه في الأمر الرابع من مباحث القطع ، وفي أوّل بحث الاشتغال ،

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٣٦

٤٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فلاحظ.

واختار المحقق الأصفهانيّ (قده) أنّ الصحيح هو الجميع بالفعلية من وجه والفعلية من جميع الجهات ، وأنّ الجمع بحمل الأحكام الواقعية على مرتبة الإنشاء لا يخلو من محذور «وذلك لأنّ الإنشاء بلا داع محال ، والإنشاء بداع آخر ـ غير جعل الداعي ـ ليس من مقولة الحكم ، ولا يترقب منه الفعلية البعثية والزجرية ، بل فعلية ذلك الإنشاء فعليّة ما يدعو إليه من إرشاد أو امتحان أو جعل القانون ، فلا محالة لا بد من أن يكون الإنشاء المترقب منه البعث والزجر هو الإنشاء بداعي جعل الداعي وهو الفعلي من قبّل المولى. والمراد من الفعلي من وجه في قبال ما إذا وصل ، فإنّه فعليّ بقول مطلق ، وذلك لأنّ الإنشاء بداعي جعل الداعي قبل وصوله ـ بنحو من أنحاء الوصول ـ يستحيل أن يكون في نفسه صالحا للدعوة وإن بلغ من القوة ما بلغ ، فهو عقلا متقيد بالوصول» (١).

وهذا هو مبناه المتكرر في كلماته من أنّ فعلية الحكم متوقفة على وصوله ، لتوقف الانبعاث عنه عليه ، وهذا هو مرتبة التنجز بنظر المصنف وغيره.

وما أفاده (قده) وإن كان متينا ، فان الإنشاءات لمّا كانت منبعثة عن المصالح والمفاسد الواقعية فلا بد أن تكون بداعي جعل الداعي ولو بعد تحقق شرط فعليّته ، فالأولى القول بالفعلية من وجه والفعلية من جميع الجهات.

إلّا أنّ توجيه الفعلية بما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) لا يخلو من شيء ، فإنّ الحكم الّذي يتوقف فعليّته التامة على وصوله بأحد أنحاء الوصول يكون العلم به دخيلا في نفس الملاك ومتمّما له ، لا أنّه تامّ المصلحة من قبل المولى حتى يتوقف تنجزه خاصة على الوصول.

وبالجملة : فرق بين الفعلي من وجه ومن جميع الجهات بنظر المصنف والمحقق الأصفهاني ، فلا يكون بيانه (قده) توجيها الكلام الماتن بعد تصريحه بدخل العلم بالحكم الفعلي التعليقي في بلوغه الفعليّة التامّة والتنجز معا ، فلاحظ كلمات المصنف في التنبيه الرابع من مباحث القطع ، وفي أوائل التعبد بالأمارات ، وأول بحث الاشتغال ، هذا بعض ما يتعلّق بالقسم الثالث من أقسام التصويب.

ولا بأس بالنظر الإجمالي إلى القسمين الأوّلين منه وإن لم يستحقّا البحث بعد قيام الإجماع والتواتر على بطلانه.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٩٨

٤٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أمّا الأوّل وهو إنشاء أحكام بعدد آراء المجتهدين بعد أدائها وهو أحد الوجهين بنظر المصنف في التصويب المعتزلي ، فيكفي في بطلانه في نفسه مخالفته لمبناهم في التحسين والتقبيح العقليين ، إذ مع الالتزام بكون الملاكات أمورا واقعية لا اعتبارية كيف يفرض القائل بهذا التصويب جعل أحكام متضادة لفعل واحد لمجرد اختلاف آراء المجتهدين؟ والمفروض فعلية كل واحد منها لأداء رأي المجتهد إليه ، فمثل شرب الخمر مما فيه المفسدة الملزمة المقتضية لإنشاء الحرمة كي ينزجر عنها المكلفون كيف ينشأ له الأحكام الخمسة؟ وهل تتمشّى الإرادة والكراهة الجدّيتان في المبادي العالية؟ وهل المفسدة الذاتيّة المعترف بها تصير اعتبارية حتى تتغير باختلاف الآراء؟

وعليه فأصل هذا النحو من التصويب لا يمكن الإذعان به بناء على مبنى العدلية حتى تصل النوبة إلى إبطاله بالإجماع والأخبار المتواترة.

وهذا بخلاف الوجه الثالث ، إذ المفروض أنّ الحكم المشترك بين العالم والجاهل إنشائي ، لأنّ قيام الأمارة على الخلاف يزاحم الملاك الواقعي ويمنع فعليّته ، ولا مزاحم للمصلحة والمفسدة الواقعيتين المقتضيتين لإنشاء الأحكام هذا مع الغض عن الإشكال المتقدم عن المحقق الأصفهاني.

وما أفاده المصنف في تقريره من كون الأحكام واقعية وظاهرية لا يخلو من شيء ، لتعدد الحكمين رتبة ووجودا فكيف يكون كل منهما فعليّا؟

وأمّا الثاني ـ وهو التصويب الأشعري ـ فقد عرفت استحالته ، لبرهان الدور والخلف.

وللمحقق الأصفهاني (قده) إيراد آخر عليه بعد مناقشته في المحذورين المتقدمين ، قال : «وأمّا بالإضافة إلى الملتفت إلى أنّه لا حكم قبل العلم والظنّ ففيه محذور ، فان من يعتقد أنّه لا حكم له قبل اعتقاده به كيف يعقل منه اعتقاد الحكم؟ لأنّه من اجتماع النقيضين ، وجعل الحكم المبني عليه محال ، لأنّ المبني على المحال محال» (١).

ومحصله : أنّ التصويب بمعنى تبعية جعل الحكم للاعتقاد محال ، لترتبه على اجتماع النقيضين المستحيل ، حيث إن هذا القائل إمّا لا يعتقد بالحكم لا علما ولا ظنا ، وإمّا يعتقد بعدم الحكم قبل الاعتقاد ، فعلى الأوّل لا موضوع للحكم ـ وهو الاعتقاد بالحكم ـ كما لا حكم أيضا تبعا له ، ولا كلام على هذا الفرض.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٩٧

٤٥٦

نعم (١) بناء على اعتبارها من باب الطريقية

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله : «بل لا محيص عنه في الجملة» يعني : أنّ ما تقدم من لابديّة

__________________

وعلى الثاني ـ وهو فرض الالتفات إلى أنه لا حكم قبل الاعتقاد ـ ففي تحقق الاعتقاد بالحكم محذور ، وذلك لأنّه مع اعتقاده بعدم الحكم كيف يعتقد بنفس الحكم ، إذ المفروض أن موضوع جعل الحكم هو الاعتقاد بالحكم ، والمفروض أيضا أنه يعتقد بعدم الحكم ، لتأخر رتبة الحكم عن الاعتقاد بالحكم ، وتبعيته للاعتقاد. وعليه فمع اعتقاده بعدم الحكم ـ لالتفاته إلى تأخر الحكم عن الاعتقاد به ـ كيف يعتقد بنفس الحكم؟ وهل هو إلّا اجتماع النقيضين؟

وبتقرير آخر : مفروض الكلام في هذا التصويب تبعية الحكم للاعتقاد ، فلا حكم في ظرف الاعتقاد بالعدم ، لكون الحكم وليدا للاعتقاد بالحكم ومترتبا عليه ، فقبل الاعتقاد بنفس الحكم يعتقد بعدم الحكم ، فكيف يحصل الاعتقاد بالحكم في ظرف الاعتقاد بعدم الحكم؟ لأنهما اعتقادان متناقضان ، هذا.

وهذا البيان مع دقته في نفسه يمكن أن يجاب عنه بعدم لزوم محذور اجتماع النقيضين في هذا التصويب ، لتعدد متعلق الاعتقاد ، فان الحكم الّذي يعتقد بعدمه قبل الفحص في الأمارات هو الحكم الواقعي ، لخلوّ صفحة التشريع عنه بحسب اعتقاده. ولكن الحكم الّذي يعتقد بوجوده بعد قيام الأمارة عنده هو الحكم الحاصل بجعل الشارع عند أداء الأمارة ورأي المجتهد إليه ، وحينئذ يغاير اعتقاد وجود الحكم اعتقاد عدمه ، لتعدد نفس الحكمين.

وعلى كلّ يكفي لردّ هذا التصويب محذور الدور والخلف على ما تقدم.

ولا يخفى أنهما لا يردان على التصويب بالمعنى الأوّل. فما أفاده المحقق المتقدم (قده) من ورود المحاذير الثلاثة على كلا التصويبين لا يخلو من شيء.

وحيث إنك قد عرفت بطلان جميع أنحاء التصويب فالحق مع ما عليه الأصحاب (قدس الله أسرارهم) من القول بالطريقية ، وعدم كون قيام الأمارة مغيّرا للواقع ، وأنّ الأمارة تنجز الواقع عند الإصابة وتعذّر عنه عند المخالفة. واختلاف العالم والجاهل إنّما يكون في مرتبة التنجز على المشهور ، وفي الفعلية التامة على مختار المحقق الأصفهاني وإن لم يخل عن كلام سبق التنبيه عليه في مباحث أصالة البراءة.

٤٥٧

كما هو كذلك (١) ، فمؤدّيات الطرق والأمارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقيّة نفسيّة (٢) ، ولو قيل بكونها أحكاما طريقيّة (٣). وقد مرّ غير مرّة (٤) إمكان منع كونها أحكاما كذلك (٥) أيضا (٦) ، وأنّ (٧) قضية حجيتها ليس إلّا تنجز [تنجيز] مؤدّياتها عند إصابتها ، والعذر عند خطئها ، فلا يكون (٨)

______________________________________________________

الالتزام بالتصويب في مراتب الحكم إنّما يتجه بناء على حجية الأخبار من باب الموضوعية. وأمّا بناء على اعتبارها من باب الطريقية كما هو المختار فلا سبيل إلى التصويب بهذا المعنى ، كما لا سبيل للتصويب بمعنى آخر. فالتصويب بمعانيه الثلاثة المزبورة مما لا يمكن الالتزام به ، لبطلان الوجه الأوّل بالأخبار المتواترة والإجماع ، والثاني بالاستحالة ، والثالث بعدم كون مؤدّيات الأمارات أحكاما ظاهرية نفسية.

(١) يعني : كما أنّ الحق هو كون حجية الأخبار من باب الطريقية لا الموضوعية. وقد تقدم الكلام في معنى الحكم الطريقي والحجية في أوائل بحث الأمارات غير العلمية ، فراجع.

(٢) أي : ناشئة من المصالح والمفاسد في المتعلقات ، بل هي أحكام ظاهرية طريقية.

(٣) كما نسب إلى الشيخ (قده) وتقدم كلامه أيضا في أوائل بحث الأمارات. والمراد بالحكم الطريقي هو وجوب الأخذ بالأمارة لمصلحة في سلوكها كالتسهيل على المكلف ، من دون كون مؤداها ـ على فرض خطائها ـ حكما نفسيا ظاهريا ، فإنّه على تقدير الالتزام بجعل الحكم الطريقي في الأمارات لا يمكن الذهاب إلى التصويب في الفعلية ، لأنّ مرادهم بالتصويب التصويب في الحكم النفسيّ الفعلي دون الطريقي.

(٤) تقدم التنبيه عليه في أوّل بحث الأمارات وفي ثاني تنبيهات الاستصحاب ، من أن حجية الأمارات ـ كحجية القطع ـ بمعنى التنجيز والتعذير ، لا وجوب العمل بها طريقيا.

(٥) يعني : أحكاما طريقية ناشئة من مصلحة في تطبيق العمل على الطريق.

(٦) يعني : كمنع كونها أحكاما نفسية.

(٧) معطوف على «إمكان» وضمير «حجيتها» راجع إلى الأمارات.

(٨) هذه نتيجة كون الحجية بمعنى التنجيز والتعذير.

٤٥٨

حكم أصلا إلّا الحكم الواقعي ، فيصير (١) منجزا فيما قام عليه حجة من علم أو طريق معتبر ، ويكون غير منجز بل غير فعلي (٢) فيما لم تكن هناك حجة مصيبة (٣) ، فتأمل جيّدا (٤).

______________________________________________________

(١) هذا متفرع على قوله : «فلا يكون» يعني : فيصير الحكم الواقعي منجزا تارة وغير منجز أخرى.

(٢) أي : إنشائي. والإضراب عن «غير منجز» لأجل أن عدم تنجز الحكم الواقعي لا يستلزم إنشائيّته ، لإمكان كونه فعليا تعليقيا غير حتمي ، كما جمع هو «قده» بين الحكمين الواقعي والظاهري بحمل الواقعي على الفعلي التعليقي ، والظاهري على الفعلي الحتمي ، وو كأنه (قده) عدل عن ذلك الّذي اختاره في مواضع من الكتاب وحاشية الرسائل إلى كون الحكم الواقعي ـ في جميع موارد خطأ الأمارة أو فقدها ـ باقيا على مرتبة الإنشاء.

ولعل الوجه فيه : أنّ الحكم الفعلي ـ ولو من وجه ـ يمتنع اجتماعه مع حكم فعلي آخر ، لأنه إمّا من اجتماع المثلين أو الضدين ، وكلاهما محال ، فلا يحتمل الموضوع الواحد إلّا حكما فعليا واحدا ، وذلك بعد الكسر والانكسار في الدواعي وهي الملاكات ، واندكاك بعضها في بعض.

(٣) سواء لم تكن هناك حجة أصلا كما في موارد فقد النص ، أم كانت ولكن لم تكن مصيبة.

(٤) لكن قيل : إن ظاهر كلمات أصحاب التصويب نفي أصل الحكم قبل الاجتهاد ، لا نفي تعيينيّته مع وجود أصله ، وهذا يرجع إلى أحد الوجهين الأوّلين.

٤٥٩

فصل (١)

إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق بتبديل الرّأي الأوّل

______________________________________________________

تبدّل رأي المجتهد

(١) الغرض من عقد هذا الفصل بيان حكم الأعمال الواقعة على طبق اجتهاد سابق قد تبدّل برأي آخر يخالفه ، أو زال الرّأي الأوّل وتردّد المجتهد في حكم المسألة بدون حصول رأي آخر له ، وينبغي التنبيه على أمرين قبل توضيح المتن :

الأوّل : أن النسبة بين هذه المسألة ومسألة الإجزاء المتقدمة في مباحث الأوامر هي العموم من وجه ، إذ القول بإجزاء الأمر الظاهري هناك مختص بوجود الأمر الظاهري والطلب ظاهرا ، فيقال : إنّ موافقة المأمور به بالأمر الظاهري هل تجزي عن المأمور به بالأمر الواقعي أم لا؟ فموضوع مسألة الإجزاء وجود الطلب وامتثاله لا غير.

وموضوع هذه المسألة تبدّل رأي المجتهد بما يخالفه ، أعم من كونه في الواجبات والمحرمات والعقود والإيقاعات والأحكام ، فيقال : إنّ العمل السابق المطابق لرأي المجتهد هل يبنى على صحته وترتيب آثاره عليه مع فرض تبدل رأيه أم لا؟

هذا وجه أخصيّة مسألة الإجزاء من هذه المسألة. وأمّا وجه أعميّتها منها ، فهو جريان بحث الإجزاء في الشبهات الحكمية كالصلاة مع الطهارة الترابية ، والشبهات الموضوعية كما إذا عمل بالاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، فبان الخلاف. ولكن البحث في مسألة اضمحلال رأي المجتهد مخصوص بالشبهات الحكمية. والمجمع لكلا البحثين هو الأمر

٤٦٠