منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

لعدم (١) كونها ناظرة إلى

______________________________________________________

للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، نظير ارتفاع حكم الشك الثابت بدليله ـ كالبناء على الثلاث أو الأربع مثلا ـ بما دل على أنه «لا شك لكثير الشك» أو «مع حفظ الإمام» أو «بعد المحل». ففي المقام إذا كان مقتضى الاستصحاب حلية شيء وقام خبر الثقة مثلا على حرمته كان هذا الخبر حاكما على استصحاب الحلية أي مخرجا له عن الحلية وموجبا لنقض اليقين باليقين أي بالحجة ، لا بالشك.

وبالجملة : فالدليل الحاكم يرفع تعبدا الشك الّذي هو موضوع الاستصحاب وغيره من الأصول الشرعية. وهذا الكلام ظاهر في إرادة حكومة نفس الأمارة على أدلة الأصول ، لا حكومة دليل اعتبارها على أدلة الأصول ، والمصنف ناقش في حكومة كل من الأمارة ودليل اعتبارها بما سيأتي.

(١) أي : لعدم كون الأمارات ناظرة ، وهذا تعليل لنفي الحكومة التي ادعاها الشيخ الأعظم «قده» وحاصله : عدم انطباق الضابط المذكور في كلامه للحكومة على المقام. وينبغي بيان منشأ نزاع المصنف والشيخ في حكومة أحد الدليلين على الآخر ، فانه قد تكرر من الماتن مناقشة كلام الشيخ في حكومة قاعدة «لا ضرر» على أدلة الأحكام الأولية ، وكذا في حكومة الأمارة على الاستصحاب ، وحكومته على مثل أصالتي الحل والبراءة ، وألجأته هذه المناقشة إلى اختيار الجمع بوجه آخر من التوفيق العرفي أو الورود.

وقد بيّن المصنف مرامه في مواضع من حاشية الرسائل مختصرا وفي الفوائد مفصّلا (١) ، ومحصل ما أفاده فيهما هو : أن ما اعتبره شيخنا الأعظم في تفسير الحكومة من «كون أحد الدليلين متعرضا بمدلوله اللفظي لحال الدليل الآخر» متين جدا ، فلا يكون أحد الدليلين حاكما على الدليل الآخر ما لم يكن تفسير مدلول الدليل المحكوم وتبيين كمية موضوعه مدلولا لفظيا للدليل الحاكم ، فإذا لم يكن هذا النحو الخاصّ من التفسير والشرح لم ينطبق ضابط الحكومة على هذين الدليلين ، بل كان بينهما تعارض يقتضي رعاية حكمه من التخيير أو الترجيح أو تقديم أحدهما بمناط آخر كالتوفيق العرفي ، ولا يكفي في الحكومة دلالة الدليل الحاكم على أمر واقعي ينطبق على موضوع الدليل المحكوم عقلا ، لكن بدون النّظر والشرح والتفسير بالدلالة اللفظية.

__________________

(١) لاحظ حاشية الرسائل ، ص ١٦٩ و ٢٣٥ و ٢٥٦ ، والفوائد المطبوعة مع الحاشية ، ص ٣٢٤ و ٣٢٥

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وبيان وجه عدم الكفاية : أن مدلولي الحاكم والمحكوم متنافيان ، والرافع لهذا التنافي هو الشرح والنّظر والتعرض المتقوِّم بها الحكومة ، وإنما يتحقق النّظر إذا كان الدليل الحاكم بمدلوله اللفظي حاكيا عن حال موضوع الدليل المحكوم سعة وضيقا ، ومفسِّرا له ، ومبيِّنا لكمية ما يراد منه.

هذا بحسب الكبرى. وأما تطبيقه على المقام ببيان انتفاء ضابط الحكومة بين الأمارة والأصل ، فتوضيحه : أن الشارع جعل الأمارة حجة في ظرف الجهل بالواقع ، وحكم بعدم الاعتناء باحتمال مخالفته للواقع ، وحجية الأمارة في هذه الحال حكم مستقل غير متفرع على جعل أصالة الحل في ما اشتبهت حليته وحرمته ، ومعنى حجية الأمارة ـ حسب الفرض ـ إلقاء احتمال خلاف ما أخبر به العادل أو الثقة ، ومعنى هذا الإلقاء هو عدم ترتيب الحكم المجعول لاحتمال الخلاف عليه. لكن دلالة الأمارة على نفي حكم الاحتمال إنما هو بمقتضى دلالته الالتزامية الثابتة في دليل الأصل أيضا ، لأن دليل الأصل مثل «كل شيء لك حلال» يدل أيضا على انتفاء غير الحلية من الأحكام ، فان الدليل على ثبوت حكم خاص يدل على انتفاء ما ينافي ذلك الحكم ، فتقع المعارضة بين الدلالتين لا الحكومة.

فان قلت : الأمارة ناظرة إلى الأصل العملي ومتعرضة لحكم مورده ، وذلك لأنّه إذا أخبر العادل بحرمة شرب التتن مثلا ، فمدلوله المطابقي هو حرمة شربه ، ومدلوله الالتزامي اللفظي هو نفي ما عدا الحرمة ـ أعني الحلية الظاهرية التي هي مفاد الأصل ـ الثابتة لموضوعها وهو الشرب المشكوك في حكمه الواقعي. وهذه الدلالة منتفية في جانب دليل الأصل ، فان خلاف الحلية الظاهرية في موضوعها هو الحرمة الظاهرية أو عدم الحلية الظاهرية ، وإلغاؤها لا ربط له بإلغاء حرمة شرب التتن المترتبة على ذات الشرب لا على المحتمل.

قلت أوّلا : ان النّظر المعتبر في الدليل الحاكم عند شيخنا الأعظم «قده» هو الدلالة اللفظية التي يعبر عنها بالشرح والتفسير ، والنّظر بهذا المعنى مفقود في الأمارات. ففرق بين تعرض أحد الدليلين لذات مدلول الآخر وبين تعرضه له بما هو مدلوله ، والرافع للمنافاة ـ المسمى بالحاكم ـ هو الثاني لا الأول ، والمفروض أن الأمارة لا بمدلولها ولا

٤٢

على أدلتها (١) بوجه (٢). وتعرُّضها (٣) لبيان حكم موردها لا يوجب (٤) كونها (٥)

______________________________________________________

بدليل اعتبارها ليست شارحة لما يراد من مثل «كل شيء لك حلال».

وثانيا : ان النّظر إن كان أعم من الدلالة الالتزامية العقلية لزم أن يكون دليل الأصل أيضا حاكما على الأمارة ، ضرورة أن مقتضى الأصل هو الحلية التي هي مورد الأمارة الدالة على الحرمة ، ومن المعلوم منافاة الحلّ والحرمة ، ودلالة كل منهما بالالتزام العقلي على نفي الآخر. وهذا معنى حكومة كل من الدليلين المتنافيين ـ بحسب المفاد ـ على الآخر ، وهو كما ترى. وعليه فلا بد أن يراد بالنظر الدلالة اللفظية دون العقلية الثابتة في كل دليل ، حيث ان مدلوله المطابقي ثبوت الحكم لموضوعه ، ومدلوله الالتزامي العقلي نفي غير ذلك الحكم عن موضوعه ، وقد عرفت انتفاء النّظر اللفظي في الأمارات سواء أكان المقصود حكومة نفس الأمارة على الأصل أم حكومة دليلها على دليله.

قال في الفوائد في توضيح تفسير الشيخ للحكومة : «ضرورة أن مجرد تعرض أحد الدليلين لذات مدلول الآخر ـ لا بما هو مدلوله ـ لا يرفع المنافاة بينهما ، ولا يوجب أن يعامل معهما معاملة الشارح والمشروح ، بل لا بد من ملاحظة أحكام التعارض من التخيير أو تقديم الراجح على المرجوح ، وذلك لأن التعرض لذلك ثابت لكل واحد منهما كما هو الشأن في كل متنافيين في المدلول ، غاية الأمر أنّه في أحدهما بمنطوقه ومدلوله المطابقي على الفرض ، وفي الآخر بمفهومه ولازم معناه ...».

(١) أي : أدلة الأمارات.

(٢) أي : بشيء من الدلالات اللفظية الشارحة لمعنى الكلام.

(٣) يعني : ومجرد تعرض الأمارات لبيان حكم مورد الأصول ... إلخ. وهذا إشارة إلى توجيه الحكومة ، وإثبات النّظر للأمارات بما ذكرناه آنفا من قولنا : «فان قلت : الأمارة ناظرة إلى الأصل العملي ...» وضمير «موردها» راجع إلى الأصول.

(٤) خبر «وتعرضها» ودفع لتوجيه حكومة الأمارات على الأصول بما تقدم في «ان قلت» وهذا الدفع يرجع إلى وجهين ، أولهما ما عرفته بقولنا : «قلت أوّلا ... إلخ» وقوله : «لا يوجب» إشارة إلى هذا الوجه الأوّل.

(٥) أي : كون الأمارات ، وضمائر «لها ، أدلتها» في الموضعين راجعة إلى الأصول.

٤٣

ناظرة إلى أدلتها وشارحة لها ، وإلّا (١) كانت أدلتها أيضا دالّة ولو (*) بالالتزام (٢) على أن حكم مورد الاجتماع فعلا (٣) هو مقتضى الأصل لا الأمارة ، وهو (٤)

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدم بقولنا : «وثانيا : ان النّظر إن كان أعم من الدلالة الالتزامية ... إلخ».

يعني : وإن أوجب تعرض الأمارات لحكم مورد الأصول كونها شارحة لأدلة الأصول وناظرة إليها كانت أدلة الأصول أيضا ... إلخ. وجه هذه الدلالة الالتزامية هو : أن المنافاة بين الأحكام الظاهرية الثابتة بالأمارة والأصل توجب دلالة كل واحد من الأمارة والأصل ـ بالالتزام العقلي ـ على نفي ما عداه ، فدليل حرمة شرب التتن مثلا يدل مطابقة على الحرمة والتزاما عقليا على نفي حليته ، ودليل حليته يدل أيضا مطابقة على حليّته والتزاما عقليا على نفي حرمته ، فيتحقق التعارض بينهما في مورد الاجتماع كشرب التتن المحكوم بالحرمة بمقتضى الأمارة ، وبالحل بمقتضى الأصل ، وينهدم أساس الحكومة.

وعليه فقوله : «وإلّا كانت ... إلخ» جواب نقضي لنظر الأمارة إلى الأصل ، حيث إن هذا النّظر لا يختص بالأمارة ، بل يشترك الأصل مع الأمارة في هذا النّظر ، فيلزم حكومة كلّ من الأمارة والأصل على الآخر ، وهذا واضح البطلان.

(٢) أي : الالتزام العقلي الناشئ من تنافي الحكمين المدلولين بالأمارة والأصل.

(٣) قيد قوله : «حكم» يعني : أن دليل الأصل ـ كأصالة الحل ـ يدل التزاما عقليا على أنّ الحكم الفعلي ـ في مورد اجتماع قاعدة الحل والأمارة على حرمة شرب التتن مثلا ـ هو الحلّ الّذي يقتضيه أصالة الحل ، لا الحرمة التي تقتضيها الأمارة.

(٤) أي : وكون حكم مورد الاجتماع فعلا مقتضى الأصل لا الأمارة مستلزم عقلا نفى مقتضى الأمارة وهي الحرمة في مثال شرب التتن ، وغرضه توضيح الإشكال على ما أفاده

__________________

(*) الظاهر زيادة كلمة «ولو» لأنّها وصلية وتدل على فرد خفي ، والمفروض انحصار الدلالة هنا في فرد واحد وهو الالتزامية ، فإن دليل أصالة الحل مثلا لا يدلّ مطابقة إلّا على حلية المشكوك فيه ، فلو دلّ على عدم حرمته كان ذلك دلالة التزامية عقلية ناشئة من تنافي الحلّ والحرمة وتضادهما ، والحاكم بعدم اجتماعهما هو العقل من غير دلالة لفظية عليه.

٤٤

مستلزم عقلا نفي ما هو قضية الأمارة ، بل (١) (*) ليس مقتضى حجيتها إلّا

______________________________________________________

الشيخ من حكومة الأمارات على الأصول الشرعية بتطبيق الحكومة على كل من الأمارة والأصل بناء على تعميم النّظر في الحكومة للالتزام العقلي كما تقدم ، لكن لا معنى لحكومة كل من الدليلين على الآخر ، بل ليس هذا إلّا التعارض.

(١) هذا إشارة إلى توهم ودفعه. أما التوهم الّذي مرجعه إلى تصحيح الحكومة التي أفادها الشيخ «قده» من ناحية دليل حجية الأمارة ـ لا من ناحية نفس الأمارة التي كان البحث المتقدم بلحاظ حكومتها على الأصل ـ فهو : أن نفس الأمارة كخبر الثقة الدال على حرمة شرب التتن مثلا وإن لم يكن مؤداها ناظرا إلى دليل الأصل مثل «كل شيءٍ لك حلال حتى تعلم أنه حرام» حتى تصح دعوى الحكومة. إلّا أنّ دليل حجية الأمارة ـ كآية النبأ وغيرها ـ ناظر إلى دليل الأصل ، لأنّ مقتضى دليل حجيتها نفي احتمال خلاف مؤدى الأمارة كحرمة شرب التتن في المثال ، فان احتمال خلافه ـ الّذي هو موضوع أصالة الحلّ منفيّ بدليل حجية خبر الثقة ، وهذا النّظر النافي لموضوع الأصل يوجب حكومة دليل الأمارة عليه ، فيتم حينئذ حديث حكومة الأمارات على الأصول ، كما أفاده الشيخ «قده» هذا حاصل التوهم.

وأما دفعه ـ المشار إليه بقوله : «بل ليس مقتضى ... إلخ» ـ فتقريبه الراجع إلى نفى النّظر اللفظي للأمارة المقوِّم لحكومتها على الأصل هو : أن شيئا من مؤدى الأمارة وحجيتها لا يدل لفظا على نفي مقتضى الأصل. أما مؤداها فلأنه ليس إلّا الحكم الواقعي. وأما حجيتها فلأن مقتضاها ليس إلّا لزوم العمل شرعا بمقتضى الأمارة ، أي جعل الحكم المماثل على طبق مؤداها ، دون تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف وتنزيل الظن منزلة

__________________

(*) الظاهر ان الأولى تبديل «بل» بـ «إذ» لأن السياق يقتضي علّية «بل ليس مقتضى حجيتها ... إلخ» لقوله : «لا يوجب كونها ناظرة ... إلخ» فكأنه قيل : «ان تعرض الأمارة لمورد الأصل لا يوجب النّظر إلى دليل الأصل ، لأن منشأ هذا النّظر إمّا نفس الأمارة وإمّا حجيتها ، ولا نظر لشيءٍ منهما إلى الأصل. أمّا الأمارة فلأنه لا دلالة لها إلّا على الحكم الواقعي كحرمة شرب التتن. وأما حجيتها فلأنه لا دلالة لها إلّا على لزوم العمل على طبق الأمارة أي جعل حكم مماثل لمؤدّاها. وشيء منهما لا نظر له إلى دليل الأصل».

فينحل جواب المصنف عن النّظر الّذي أفاده الشيخ «قدهما» إلى جوابين : أحدهما نقضي ، وهو

٤٥

نفي ما قضيّته عقلا (١) من دون دلالة عليه (٢) لفظا ، ضرورة (٣) أن نفس

______________________________________________________

العلم ، وشيء منهما لا نظر له لفظا إلى مؤدى الأصل.

نعم تشريع الحرمة مثلا التي هي مؤدى الأمارة مناف عقلا لتشريع الحلية في مورد الأصل. وكذا العكس ، فان حكم الأصل كحلية شرب التتن مثلا ينافي أيضا عقلا مؤدى الأمارة وهي حرمته.

وبالجملة : فليس المراد بالحجية نفي احتمال الخلاف وتتميم الكشف حتى يكون ناظرا إلى موضوع الأصل ، بل المراد بها لزوم العمل على طبق مؤدى الأمارة كما هو أحد المباني في حجية خبر الواحد.

(١) قيد لـ «نفى» والمراد بالموصول الحكم ، وضمير «قضيته» راجع إلى الحكم ، يعني : بل ليس مقتضى حجية الأمارة إلّا نفي الحكم الّذي يقتضيه الأصل ، وهذا النفي عقلي لا لفظي ، وعقليته إنما هي لتنافي مدلولي الأمارة والأصل كالحرمة والحلية.

(٢) أي : من دون دلالة على ما يقتضيه الأصل كالحلية لفظا ، بل الدلالة عقلية كما مرّ آنفا.

(٣) تعليل لنفي الدلالة اللفظية ، يعني : أن هذه الدلالة لا بد أن يكون الدال عليها نفس الأمارة أو دليل اعتبارها ، وشيء منهما لا يدل عليها ، إذ الأمارة لا تدل إلّا على الحكم الواقعي كحرمة شرب التتن ، ودليل اعتبارها ـ المشار إليه بقوله : «وقضية حجيتها ليست ... إلخ» ـ لا يدل إلّا على جعل الحكم الظاهري المماثل لمؤدى الأمارة ، وهذا مراده بـ «لزوم العمل على وفقها شرعا» وعليه فلا يدل شيء من الأمارة ودليل حجيتها لفظا على نفي ما يقتضيه الأصل ، ونتيجة ذلك عدم حكومة الأمارة على الأصل.

__________________

الّذي أشار إليه بقوله : «وإلّا كانت أدلتها أيضا ... إلخ».

وثانيهما : حلِّي ، وهو ما أشار إليه بقوله : «بل ليس مقتضى حجيتها ... إلخ» وهذا الجواب مبني على كون الحجية بمعنى جعل الأحكام على طبق مؤديات الأمارات ، فحرمة شرب التتن مثلا المدلول عليها بخبر الثقة وكذا لزوم العمل بها لا نظر لهما لفظا إلى الحلّ الّذي هو مقتضى أصالة الحل. نعم لا تجتمع الحرمة والحلية في موضوع واحد من باب استحالة اجتماع الضدين عقلا ، وهذا أجنبي عن النّظر أي الدلالة اللفظيّة المعتبرة في الدليل الحاكم كما مرت الإشارة إليه غير مرة.

٤٦

الأمارة لا دلالة له (١) إلّا على الحكم الواقعي (٢) ، وقضية حجيتها ليست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعا (*) المنافي (٣) عقلا للزوم العمل على خلافة (٤) ، وهو (٥) قضية الأصل ، هذا.

مع احتمال أن يقال (٦) : إنّه ليس قضية الحجية شرعا إلّا لزوم العمل على

______________________________________________________

(١) أي : للأمارة ، والصناعة تقتضي تأنيثه ، لكنه لم يؤت به مؤنّثا حتى في النسخة المطبوعة على النسخة الأصلية.

(٢) واقعيّته إنّما هي بلحاظ ثبوته للشيء بعنوانه الأوّلي كشرب التتن ، لا بعنوانه الثانوي وهو مشكوك الحكم حتى يكون حكما ظاهريا.

(٣) نعت لـ «لزوم» في قوله : «إلّا لزوم العمل».

(٤) الأولى تأنيث الضمير ، لرجوعه كرجوعه ضميري «حجيتها ، وفقها» إلى الأمارة.

(٥) أي : وخلاف الأمارة ـ كالحلية ـ يكون مقتضى الأصل.

(٦) هذا جواب آخر عن نظر الأمارة عقلا إلى الأصل ، ونفي مفاده لأجل تضاد

__________________

(*) فيشترك الأصل والأمارة في كيفية الحجية ، لأنّها حينئذ جعل الحكم شرعا لكلّ من مؤدى الأمارة والأصل ، فلا فرق بينهما في كيفية الحجية وفي دلالة كل منهما على مدلوله مطابقة وعلى نفى الآخر التزاما ، فلا ورود ولا حكومة للأمارة على الأصل ، بل لا بد من معاملة التعارض بينهما.

لكنه كما ترى لا يمكن الالتزام به.

ولعل الأولى في الإشكال على النّظر المعتبر في حكومة الأمارة على الأصول أن يقال أوّلا : انه لا نظر في البين ، لا في نفس الأمارة إن كان المقصود حكومتها على الأصل ، ولا في دليل اعتبارها إن كان الغرض حكومته على الأصل ، إذ الأمارة لا تدل إلّا على الحكم الواقعي ، ودليل الحجية لا يدل إلّا على جعل حكم مماثل لمؤدى الأمارة.

وثانيا : ان النّظر على فرض وجوده مشترك بين الأمارة والأصل ، لأن الحجية في كليهما بمعنى واحد وهو جعل الحكم الظاهري. والمنافاة بين الحكمين الظاهريين ـ اللذين أحدهما مؤدى الأمارة كالحرمة والآخر مفاد الأصل كالحلية ـ توجب طرد كل منهما للآخر ، وهذا الطرد ليس هو النّظر اللفظي المعتبر في حكومة أحد الدليلين على الآخر ، بل هو حكم عقلي ناش من تضاد نفس الحكمين المدلول عليهما بالأمارة والأصل.

٤٧

وفق الحجة عقلا ، وتنجز الواقع مع المصادفة ، وعدم تنجزه في صورة المخالفة.

وكيف كان (١) ليس (٢) مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف

______________________________________________________

الحكمين. وحاصل هذا الجواب إنكار جعل الحكم المماثل للأمارة حتى يكون مضادا لما يقتضيه الأصل وتنفيه الأمارة عقلا ، وتصير حاكمة على الأصل. توضيحه : أن من مباني حجية الأمارات غير العلمية جعل الحجية لها التي هي من الأحكام الوضعيّة القابلة للجعل بالاستقلال شرعا كما تقدم في مباحث الاستصحاب. وليس مقتضى الحجية إلّا تنجز الواقع مع الإصابة والعذر مع الخطاء ، من دون جعل حكم شرعي مماثل للمؤدى كالحرمة حتى ينافي هذا الحكم ما يقتضيه الأصل كالحلية ويكون ناظرا إليه ونافيا له بالالتزام العقلي.

وبالجملة : فليس للمؤدى حكم حتى ينفي عقلا ما يقتضيه الأصل ، وتحكم عليه الأمارة. والفرق بين الحجية في الأمارات والأصول حينئذ هو : أن الحجية في الأمارات لا أثر لها إلّا التنجز مع الإصابة والعذر بدونها ، بخلاف الحجية في الأصول ، فان مقتضاها جعل الحكم الظاهري فيها.

وأما ما تقدم من قوله «قده» : «بل ليس مقتضى حجيتها ... إلخ» فقد عرفت أن مقصود المصنف منه جعل الحجية في الأمارات والأصول بمعنى واحد ـ وهو جعل الحكم الظاهري في كلتيهما ـ حتى يدل كل منهما بالالتزام العقلي على نفي ما يقتضيه الآخر.

فصار المتحصل إلى هنا : عدم الوجه في حكومة نفس الأمارة ولا دليل اعتبارها على الأصل ، لانتفاء النّظر المعتبر في تحقّق الحكومة ، وقد مرّ وجه عدم النّظر اللفظي بل ولا العقلي لا في الأمارة ولا في دليلها.

(١) يعني : سواء قلنا بكون الحجية مقتضية لجعل المؤدى في الأمارات كما هو المنسوب إلى المشهور ، أم قلنا بكون الحجية ـ كما احتمله هنا واختاره في محله ـ بمعنى تنجيز الواقع مع الإصابة والتعذير بدونها ، لا مجال لحكومة الأمارة على الأصل إلّا بمعنى آخر في الحجية وهو تتميم الكشف وتنزيل الظن منزلة العلم.

(٢) غرضه تسليم الحكومة على تقدير دلالة دليل الاعتبار على إلغاء احتمال الخلاف ،

٤٨

تعبدا كي يختلف الحال (١) ،

______________________________________________________

وتنزيل الأمارة منزلة القطع كما أفاده الشيخ «قده». لكن الإشكال في إثبات هذا المبني.

وكيف كان فلمّا اعترف المصنف بالحكومة على هذا المبنى تصدّى لدفع الإشكال الّذي أوردوه على الحكومة على ذلك المبنى أيضا ، وقد أفادهما في حاشية الرسائل توضيحا لحكومة الأمارة على الأصل الّتي ادعاها شيخنا الأعظم «قده».

ومحصل ذلك الإشكال : لزوم حكومة كل من الأمارة والأصل على الآخر ، حيث إن دليل اعتبار الأمارة القائمة على حرمة شرب العصير مثلا ينفي احتمال خلافها وهو احتمال حليته ، كما أن دليل اعتبار الأصل المقتضي لحلية شرب العصير ينفي أيضا احتمال خلافها وهو الحرمة ، وأنّ احتمال الحرمة يكون شرعا بمنزلة العدم لا يترتب عليه الحكم الشرعي المترتب عليه لو لا الأصل ، ومن المعلوم أنه لا معنى لحكومة كل من الدليلين على الآخر ، بل هذا هو التعارض ، فلا بد من معاملة التعارض مع الأمارة والأصل.

(١) أي : حال دليل الاعتبار. وهذا إشارة إلى دفع الإشكال المزبور. وتوضيح دفعه : أن الخبر الدال على حرمة العصير وكذا الخبر الدال على «حلية كل شيء حتى تعلم أنه حرام» مشمول لأدلة حجية الخبر ، ويعم الحكم بتصديق العادل كلّا منهما ، وما يدل بالمطابقة على وجوب تصديق العادل عملا يدل التزاما على إلغاء احتمال خلافه.

إلّا أنّ الوجه في حكومة أحد الخبرين ـ أي الأمارة ـ على الآخر ـ أعني الأصل ـ هو : أن الأمارة القائمة على حرمة شرب العصير بعنوانه الأوّلي يدل بالالتزام اللفظي على إلغاء احتمال خلافه ، ولا معنى لإلغاء الاحتمال إلّا إلغاء حكمه وأثره شرعا ، فهذه الأمارة تدلّ على إلغاء احتمال الحلية الواقعية ـ التي هي خلاف ما أخبر به العادل ـ وحكم هذا الاحتمال هو الحلية الظاهرية ، بمقتضى «كل شيء لك حلال». فالأصل العملي يعارض المدلول الالتزامي للأمارة.

وهذا بخلاف احتمال خلاف مفاد «كل شيء لك حلال» فان خلاف الحلية الظاهرية في موضوعها هو عدم الحلية الظاهرية أو الحرمة الظاهرية أو الاحتياط ، ومن المعلوم أن إلغاء هذا الاحتمال أجنبي عن إلغاء حرمة شرب العصير المترتبة على ذات الشرب لا على المحتمل ، إذ لا يمسّ الأصل العملي كرامة الواقع ، فهو بالمطابقة يدل على حلّيّة الشيء المشكوك الحكم حِلًّا وحرمة ، وبالالتزام على نفي الحرمة الظاهرية. ولا منافاة بين حرمة

٤٩

ويكون (١) مفاده في الأمارة نفي حكم الأصل ، حيث (٢) إنه حكم

______________________________________________________

شيء واقعا وحليته ظاهرا على ما تقرر في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

وعليه ، فدليل وجوب التصديق في طرف الأمارة يدل بالالتزام على إلغاء مفاد الأصل ، ولا يدل في طرف الأصل على إلغاء مفاد الأمارة ، وحيث إن هذه الدلالة التزامية لفظية مأخوذة من اقتضاء نفس عنوان التصديق فيؤخذ بها وتتحقق الحكومة المتوقفة على نظر الحاكم بمدلوله اللفظي ـ ولو بالالتزام ـ إلى المحكوم.

والظاهر أن الالتزام بحكومة الأمارة على الأصل مبني على أمرين ، أحدهما : كفاية تعرّض الحاكم بمدلوله اللفظي ـ ولو بدلالته الالتزامية اللفظية ـ للدليل الآخر ، دون العكس. وعدم توقف الحكومة على وجود كلمة «أعني» وأشباهها من أدوات الشرح والتفسير ، لأن المهم هو التعرض بالدلالة اللفظية ، والمفروض تحققها في المقام ، فان الدلالة الالتزامية تكون من أقسام الدلالة اللفظية لا العقلية.

ثانيهما : كون الحجية في الأمارات من باب تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف ، لا على مبنى تنزيل المؤدى منزلة الواقع وجعل الحكم المماثل ، ولا على مبنى جعل الحجية. لكن إثبات مبنى تتميم الكشف وجعل الظن منزلة العلم بنظر المصنف «قده» مشكل.

(١) بالنصب معطوف على «يختلف» ومفسّر له ، وضمير «مفاده» راجع إلى «دليل الاعتبار» وقد عرفت مفاد دليل الاعتبار في كل من الأمارة والأصل ، وأن مفاد دليل اعتبار الأمارة ـ بناء على كونه إلغاء احتمال الخلاف ـ ينفي الاحتمال الّذي هو موضوع الأصل ، فيكون حاكما عليه كما ذهب إليه الشيخ «قده».

(٢) يعني : حيث إن حكم الأصل كالحلية حكم احتمال الحرمة ، وغرضه من هذه العبارة بيان كون مفاد دليل الاعتبار في الأمارة نفي حكم الأصل كالحلية. توضيحه : أن إلغاء احتمال خلاف الحرمة ـ التي هي قضية الأمارة ـ أعني به الحل الّذي هو مفاد الأصل يوجب انتفاء احتمال الحرمة الّذي هو موضوع أصالة الحل. بخلاف مفاد دليل الاعتبار في الأصل ، فانه لا يكون مفاده فيه نفي حكم الأمارة أعني الحرمة واقعا حتّى يلغى احتمالها ، بل مفاده في الأصل نفي احتمال كون الحكم الظاهري في محتمل الحرمة واقعا غير حلّيّته كإيجاب الاحتياط. وهذا الدليل لا ينفي ما تقتضيه الأمارة من حرمة الشيء

٥٠

الاحتمال (١) ، بخلاف (٢) مفاده فيه (٣) ، لأجل (٤) أن الحكم الواقعي ليس حكم احتمال خلافه (٥) ، كيف (٦)؟ وهو (٧) حكم الشك فيه

______________________________________________________

واقعا ، فلا نظر لدليل الأصل إلى الأمارة حتى يكون حاكما عليها.

وبالجملة : فبناء على مبنى إلغاء الاحتمال وتنزيل الظن منزلة العلم في حجية الأمارات تتجه حكومة الأمارات على الأصول.

(١) يعني : أن احتمال الحرمة الواقعية لشرب التتن مثلا موضوع للحلية التي هي مفاد الأصل ، فإذا دلّت أدلة حجية الأمارة على كون الأمارة كالعلم بالواقع ارتفع احتمال الحرمة الّذي هو موضوع الأصل ، وتبدّل بالعلم بها.

(٢) يعني : بخلاف مفاد دليل الاعتبار في الأصل ، حيث إن الحكم الواقعي كحرمة شرب التتن في المثال ليس حكم احتمال خلاف الأصل حتى ينفيه دليل الأصل ، ضرورة أن الحلية التي هي مفاد الأصل حكم محتمل الحرمة ، فاحتمال الحرمة موضوع الأصل ، فلا يعقل أن ينفي به ، ودليل اعتبار الأصل ينفي احتمال حكم ظاهري آخر غير الحلية ـ كإيجاب الاحتياط ـ عن نفس هذا الموضوع أعني احتمال الحرمة ، كما قال به أصحابنا المحدثون.

(٣) أي : في الأصل ، وضمير «مفاده» راجع إلى «دليل الاعتبار».

(٤) تعليل لعدم كون مفاد دليل الاعتبار في الأصل نفي حكم الأمارة ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «حيث ان الحكم الواقعي كحرمة شرب التتن في المثال ... إلخ».

(٥) الضمير راجع إلى «مفاده» أي : مفاد دليل الاعتبار في الأصل.

(٦) يعني : كيف يكون دليل الأصل نافيا لاحتمال خلاف الحكم الواقعي الّذي هو مؤدى الأمارة؟ مع أن موضوع الأصل نفس هذا الاحتمال ، فإذا نفي الأصل هذا الاحتمال لزم من وجود الأصل عدمه.

(٧) الواو للحالية ، وضمير «هو» راجع إلى «مفاد الأصل» وضمير «فيه» إلى «الحكم الواقعي» يعني : والحال أنّ مفاد الأصل ـ كحلية الشيء المشكوك في حكمه ـ حكم الشك في الحكم الواقعي.

فتلخص من جميع ما تقدم : أن الحكومة التي ادعاها الشيخ «قده» مبنية على حجية

٥١

واحتماله (١) ، فافهم (٢) وتأمّل جيِّدا.

فانقدح بذلك (٣) أنه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل والأمارة إلّا بما أشرنا سابقا (٤) وآنفا (٥) فلا تغفل (٦) ، هذا.

______________________________________________________

الأمارات من باب تتميم الكشف وإلغاء الاحتمال ، ولا يرد عليه حينئذٍ إشكال حكومة الأصول على الأمارات أصلا.

(١) معطوف على «الشك» وضميره راجع إلى الحكم الواقعي.

(٢) لعله إشارة إلى وجاهة مبنى تتميم الكشف في حجية الأمارات غير العلمية ، بدعوى : أن ظاهر أدلة حجيتها عرفا هو تتميم طريقيتها وكشفها تعبدا ، حيث إنها طرق عقلائيّة يكون الأمر المتعلق بها ظاهرا في الأخذ بها لأجل الكشف والطريقية ، وهذا عبارة أخرى عن إلغاء احتمال الخلاف الموجود فيها تعبدا. وعليه فيتجه كلام الشيخ «قده» في حكومة الأمارات على الأصول على مبنى تتميم الكشف.

أو إشارة إلى ما في تقريرات سيدنا الفقيه الأعظم الأصفهاني «قدس‌سره» من إمكان منع موضوعية الاحتمال في الأمارة حتى يكون كموضوعيته في الأصل ، بل الموضوع خبر العادل ، وخروج صورة العلم إنما هو لحكم العقل بعدم تعقل جعل الأمارة للعالم (١).

(٣) أي : بما ذكرناه من الإشكال على الحكومة التي أفادها الشيخ «قده».

(٤) أي : في الاستصحاب ، حيث إنه جعل هناك تقديم الأمارات على الأصول لأجل الورود.

(٥) من التوفيق العرفي الّذي هو نوع من الحكومة الرافعة للتعارض والخصومة.

(٦) لعله إشارة إلى المنافاة بين الورود ـ الّذي أفاده في مبحث الاستصحاب ـ والتوفيق العرفي الّذي أفاده هنا ، إذ التوفيق هو الجمع بين الدليلين والأخذ بهما ، والورود هو الأخذ بأحدهما وترك الآخر ، بل انتفاؤه رأسا. إلّا أن يراد بالتوفيق العرفي ما ينطبق على الورود ، فتدبر.

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ٢٦١

٥٢

ولا تعارض (١) أيضا (٢) إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر

______________________________________________________

المورد الثالث : حمل الظاهر على الأظهر

(١) معطوف على «فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلوليهما» وهذا إشارة إلى المورد الثالث من موارد التنافي بين المداليل مع خروجها عن تعريف التعارض من جهة عدم تنافيها في مقام الدلالة والإثبات.

(٢) يعني : كعدم التعارض في موارد الحكومة والتوفيق العرفي. والفرق بين المقام والتوفيق العرفي هو : أن تقديم أحد الدليلين على الآخر هناك إنما يكون لجهات خارجية كمناسبة الحكم للموضوع ، وقرينية العنوان الثانوي للتصرف في الدليل المشتمل على العنوان الأوّلي ، بخلافه هنا ، فان تقديم أحد الدليلين على الآخر فيه إنما هو بملاحظة حالات اللفظ من النصوصية والأظهرية (*).

__________________

(*) وحيث كان تقديم الأظهر على الظاهر بملاك القرينية ، فلا بأس بالإشارة إلى معنى القرينة وإلى المناط في تقديمها على ذي القرينة ، فهنا جهتان :

الأولى : في معنى القرينة ـ المنطبق على جميع الموارد ـ وهو : أن يكون في الكلام لفظان يدل أحدهما على قيام فعل بفاعل وعرض بجوهر ، ويدل الآخر على كيفية قيام ذلك الفعل أو العرض ، فما يكون حاكيا عن أصل قيام العرض. بمعروضه فهو ذو القرينة ، وما يكون حاكيا عن دخل حال أو وصف فيه فهو القرينة.

وبعبارة أخرى : اللفظ الدال على ركن الكلام من الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر هو ذو القرينة ، واللفظ المتأخر الحاكي عن القيود والملابسات المعدودة بنظر العرف مبيّنة لتمام المراد من اللفظ المتقدم هو القرينة ، ولذا تكون القرينة غالبا متأخرة في اللفظ ، لبناء أهل المحاورة كثيرا على جعل المتأخر ناظرا إلى المتقدم. ولا يعتبر في صدق القرينة كونها أقوى ظهورا من ذيها ، إذ ملاك صدقها وتقدمها على ذيها هو النّظر والشرح ، ولذا يقال في مثل «رأيت أسدا يرمي» بتقدم ظهور «يرمي» في رمي النبال مع ضعفه ـ لكونه بالإطلاق ـ على ظهور «أسد» في الحيوان المفترس مع قوته لكونه بالوضع.

ولكن ظاهر المتن أو صريحه : «مما كان أحدهما نصا أو أظهر» اعتبار أظهرية القرينة ، لأن الكلام في تقدم الخاصّ المنفصل ونحوه من القرائن المنفصلة ، فلا بد من الأظهرية حتى يقدم على

٥٣

كما في الظاهر مع النص أو الأظهر مثل العام والخاصّ (١)

______________________________________________________

(١) كعموم ما دل على حرمة الرّبا إلّا في بعض الموارد كالولد ووالده والسيد وعبده وغير ذلك ، فان المخصِّص ـ لنصوصيته أو أظهريته ـ يقدّم على العام الّذي هو ظاهر في العموم. وكذا الحال في المطلق والمقيد ، كقوله : «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» فان الأوّل ظاهر في صحة عتق مطلق الرقبة وإن كانت كافرة ، والثاني نصّ في اعتبار الإسلام في صحة عتقها ، فيقيد إطلاق الأوّل به. وهذا الجمع الدلالي العرفي يرفع

__________________

الظهور المستقر في العام والمطلق.

أقول : لعل نظره «قده» في اعتبار الأظهرية في مثل الخاصّ والمقيد المنفصلين وغيرهما من القرائن المنفصلة إلى أنه لمّا انعقد الظهور في ذي القرينة كالعام والمطلق ونحوهما كان رفع اليد عنه منوطا بقيام حجة على خلافه ، إذ لا وجه لرفع اليد عن الحجة بغير الحجة ، فلا بد أن يكون ظهور القرينة أقوى من ظهور ذي القرينة حتى تصلح للتقدم عليه. وأما في القرائن المتصلة فلا يعتبر فيها الأظهرية ، لعدم انعقاد ظهور في ذي القرينة حتى يتوجه اعتبار الأظهرية في القرينة.

فان كان هذا وجه اعتبار الأظهرية في القرائن المنفصلة فيتوجه عليه : أن العبرة في تقدم القرينة على ذيها إنما هي بعدم مانع عن حجية ظاهرها. وأما اعتبار أظهريتها من ذي القرينة في حجيتها وتقدمها على ذيها فلا دليل عليه بعد وضوح أن المناط فيها نظرها إلى ذيها وشرحها له ، فان ذا القرينة وان كان ظاهرا في معناه غاية الظهور لا يقاوم القرينة وان كان ظهورها أضعف الظهورات ، لأنّها تتكفل لما لا يتكفله الآخر.

والظاهر أن تقديم الخاصّ والمقيد المنفصلين على العام والمطلق ليس من باب القرينة إلّا إذا كانا بلسان الشرح والتفسير ، بل تقديمهما عليهما من باب الأظهرية الموجبة عرفا لتقديمهما ، فان لسانهما لسان المعارضة ، فإذا قال : «أكرم الأمراء ولا تكرم زيدا الأمير» كان بمنزلة قوله : «أكرم زيدا ولا تكرمه» وليس «لا تكرم» مفسِّرا لـ «أكرم الأمراء» حتى ينطبق عليه ضابط القرينة ، فاعتبار الأظهرية في تقديم الخاصّ والمقيد في محله.

وبالجملة : لا مجال لاعتبار الأظهرية في تقديمهما مع جعلهما من صغريات القرينة ، بل قد عرفت عدم انطباق ضابط القرينة عليهما ، وكونه أجنبيا عنهما ، هذا.

الجهة الثانية : أن المناط في تقديم القرينة على ذيها كما أشرنا إليه آنفا هو ملاك تقديم الحاكم على المحكوم في الخطابات الشرعية من النّظر والشرح ، لبناء العرف على تفهيم المراد الجدّي بالكلام المعدّ لتفسير المقصود من اللفظ المتقدم.

٥٤

والمطلق والمقيد ، أو مثلهما (١) ممّا كان أحدهما نصّا أو أظهر ، حيث إن بناء العرف على كون النص أو الأظهر قرينة على التصرف في الآخر (*).

وبالجملة : الأدلة في هذه الصور (٢) وإن كانت متنافية بحسب

______________________________________________________

الحيرة ، ويخرج نظائر هذين الدليلين عن موضوع التعارض الّذي هو الموجب للتحيّر والموضوع في الأخبار العلاجية لأحكام خاصة كما سيأتي بيانها.

(١) أي : مثل العام والخاصّ والمطلق والمقيد في كون أحد الدليلين نصّا أو أظهر والآخر ظاهرا ، كقوله : «يجب غسل الجمعة» و «ينبغي غسل الجمعة» فان الأوّل نصّ في الوجوب والثاني ظاهر في الاستحباب. أو «اغتسل للجمعة» و «ينبغي غسل الجمعة» فان الأوّل أظهر في الوجوب من الثاني الظاهر في الاستحباب. وقوله : «مما» بيان لـ «مثلهما».

(٢) أي : العام والخاصّ والمطلق والمقيد ونظائرهما ، فان مداليلها وإن كانت متنافية ، ضرورة أن صحة عتق الرّقبة الكافرة كما يقتضيها إطلاق «أعتق رقبة» وعدم صحته كما هو مقتضى «أعتق رقبة مؤمنة» متنافيان ، لكن أظهرية المقيد أو نصوصيته قرينة في مقام الدلالة والإثبات على إرادة خصوص المقيّد ، وعدم تعلق الطلب بعتق مطلق الرقبة حتى يتحقق التنافي بين الدليلين.

__________________

(*) لا يخفى أن قرينية النص أو الأظهر ترفع التعارض الّذي هو موضوع حكم العقل بالتساقط أو التخيير ، لأن موضوع حكمه بهما هو التحير في مقام العمل بالدليلين وعدم إمكان الجمع بينهما ، ويرتفع هذا التحير بوجود الجمع الدلالي العرفي بينهما ، ويخرجان به موضوعا عن باب التعارض الّذي هو موضوع الأخبار العلاجية أيضا. فما عن الشيخ «قده» في العدّة من عد العام والخاصّ مما تشمله الأخبار العلاجية مما لم يظهر له وجه وجيه ، وسيأتي التعرُّض لبعض الكلمات في الفصل الخامس من هذا المقصد إن شاء الله تعالى.

ثم إنه يعتبر في تقديم الأظهر على الظاهر بملاك القرينية أمور :

الأول : أن موضوع البحث في هذا الجمع الدلالي هو الكلامان الصادران من شخص واحد أو بمنزلته كالأخبار الصادرة عن الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ، فإنهم عليهم‌السلام بمنزلة شخص واحد ، ولا يجري هذا في الأمارات المتعارضة على الموضوعات كالبينتين المتعارضتين ، فلا عبرة بقوة الدلالة ، بل الأصل فيها التساقط إلّا بدليل خاص على الترجيح كتقديم بيّنة الداخل على

٥٥

مدلولاتها (١) ، إلّا أنّها غير متعارضة ، لعدم (٢)

______________________________________________________

(١) كما عرفت في مثال «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة».

(٢) تعليل لعدم تعارض الأدلة مع تنافي مدلولاتها ، حيث ان مناط التعارض ليس هو التنافي بين المدلولات ، بل مناطه تنافيها في مقام الدلالة والإثبات ، وهو مفقود في العام

__________________

بيّنة الخارج.

الثاني : أنه يعتبر احتمال صدور كلا الخبرين عن الإمام عليه‌السلام ، بمعنى عدم العلم بكذب أحد الراويين في حكاية الحكم عن الإمام ، أو اشتباهه في نقله ، فلو علم إجمالا بكذب أحد الخبرين من الظاهر والأظهر لم يتجه الجمع بينهما ، لأن الجمع بين الدلالتين متفرع على إحراز صدورهما ، وإلّا فأصالة السند في كل منهما تقتضي بالدلالة الالتزامية عدم صدور الآخر من الإمام عليه‌السلام ، ولازم عدم صدوره عدم التعبد بدلالته أيضا ، ومعه لا ينتهي الأمر إلى التعارض بين الدلالتين حتى يجمع بينهما.

وبعبارة أخرى : المدار في هذا الجمع إنما هو على التصرف في كلام إمام ورد منه أو من إمام آخر على خلافه أظهر منه ، وهذا يقطع تفصيلا بعدمه ، لأنه على تقدير كون الصادر هو الأظهر فلا ظاهر في قباله حتى يقتضي الأظهر التصرف فيه. وعلى تقدير كون الصادر هو الظاهر فلا أظهر في قباله ، ومرجع ذلك إلى العلم بعدم صدور ظاهر من الإمام «عليه‌السلام يجب التصرف فيه بحمله على الأظهر ، إمّا لعدم صدور الظاهر نفسه ، وإمّا لعدم صدور أظهر على خلافه (١).

الثالث : أنهم اعتبروا في هذا الجمع بقاء مقدار من دلالة الظاهر لئلا يلزم لغوية التعبد بسنده ، فيكون تقديم الأظهر عليه في بعض مدلوله لا تمامه. وهذا المعنى لا يخلو من خفاء وإن التزموا به في العام والخاصّ ، ولذا قالوا بعدم جواز التخصيص البالغ حدّ الاستهجان ، فإنه ـ بناء على كون التقديم بمناط شارحية القرينة للمراد النهائيّ من ذيها ـ يلزم جريان ضابط الحكومة في المقام أيضا ، من جواز تصرف الحاكم في تمام مدلول المحكوم ، إذ الحاكم يحدّد موضوع المحكوم.

وليكُن المقام كذلك ، سواء أكان في حمل الأمر الظاهر في الوجوب على الاستحباب بقرينة التصريح بجواز الترك ، أم في حمل المطلق على المقيد ، أم في العام والخاصّ ، فإنّ تقديم القرينة على ذي القرينة ليس إلّا بمناط الشرح والتفسير بنظر أهل المحاورة ، وهذا المناط مطّرد في جميع الموارد ، فما يقال من اعتبار بقاء مقدار من دلالة الظاهر مما لم يظهر له وجه وجيه. إلّا أن يكون تقديم الخاصّ على العام بملاك آخر غير القرينية.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٣٨٥

٥٦

تنافيها (١) في الدلالة وفي مقام الإثبات بحيث (٢) تبقى أبناء المحاورة متحيرة (٣) ، بل (*) بملاحظة المجموع (٤) أو خصوص بعضها يتصرّف في الجميع (٥) أو في البعض (٦)

______________________________________________________

والخاصّ والمطلق والمقيد ، ومثلهما مما يكون أحدهما نصّا أو أظهر والآخر ظاهرا ، لما مرّ آنفا من قرينية النص أو الأظهر على التصرف في الآخر بحيث لا يبقى تحير لأبناء المحاورة في الجمع بينهما والعمل بهما.

(١) هذا الضمير وضميرا «مدلولاتها ، أنها» راجعة إلى «الأدلة».

(٢) متعلق بـ «تنافيها» وبيان له ، فان ملاك التعارض هو التنافي في مرحلة الدلالة ، فلا تعارض إن لم يكن بينهما منافاة في هذه المرحلة وإن كان بينهما منافاة من حيث المدلول.

(٣) حتى يوجب هذا التحير اندراج تلك الأدلة في باب التعارض.

(٤) بأن يتوقف انعقاد الظهور ـ المتبع عند أبناء المحاورة ـ على ملاحظة مجموع الكلمات المتعددة الصادرة من متكلم واحد حقيقة كالكلمات الصادرة من زيد مثلا ، أو تنزيلا كالروايات الصادرة عن الأئمة المعصومين عليهم أفضل صلوات المصلين ، فانهم عليهم‌السلام بمنزلة متكلم واحد ، فتكون الكلمات الصادرة منهم كالصادرة من متكلم واحد في قرينية بعضها على الآخر ، أو كون المجموع ظاهرا في مطلب واحد.

(٥) متعلق بـ «بملاحظة المجموع». والتصرف في الجميع كالتصرف في كلا الخبرين اللذين دلّ أحدهما على حرمة بيع العذرة والآخر على جوازه ، فإنّه يتصرف في كليهما بمناسبة الجواز والحرمة ، فيحمل ما دلّ على الحرمة على عذرة الإنسان ، وما دلّ على الجواز على عذرة المأكول اللحم.

(٦) متعلق بـ «خصوص بعضها» والتصرف في البعض كما يتصرف فيما دلّ بظاهره

__________________

(*) سوق العبارة يقتضي إبدال «بل» بـ «إذ» لأنّ الظاهر أنه في مقام تعليل عدم المنافاة في مقام الإثبات بين الدليلين ، لا في مقام الترقّي من عدم المنافاة في مقام الإثبات إلى مطلب آخر كما يشهد بذلك مفاد عبارته من قوله : «بل بملاحظة» إلى قوله : «تكون في البين» فانه ليس إلّا وجه عدم المنافاة في مقام الإثبات الّذي ادّعاه بقوله : «لعدم تنافيها في الدلالة».

٥٧

عرفا (١) ترتفع به المنافاة التي تكون في البين.

ولا فرق فيها (٢) بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا ،

______________________________________________________

على وجوب إعادة الحج على المخالف بعد استبصاره بحمله على الاستحباب ، بقرينة الأخبار الدالة على استحباب الإعادة ، كقوله عليه‌السلام : «يقتضي أحبّ إليّ».

(١) قيد لـ «يتصرف» و «بما» متعلق بـ «يتصرف» وبيان للتصرف العرفي ، وضمير «به» راجع إلى «بما».

(٢) أي : لا فرق في الموارد التي قلنا بخروجها عن باب التعارض وعدم شمول الأخبار العلاجية لها كالعام والخاصّ والمطلق والمقيد وغيرهما ـ مما يكون أحدهما نصّا أو أظهر والآخر ظاهرا ـ بين كون السند فيها قطعيا كالكتاب والخبر المتواتر والواحد المحفوف بالقرائن القطعية ، وظنيا كأخبار الآحاد غير المحفوفة بتلك القرائن ، ومختلفا كالكتاب أو الخبر المتواتر وخبر الواحد غير العلمي ، فان النص أو الأظهر في جميع هذه الموارد يقدّم على الظاهر وإن كان سنده قطعيا كالكتاب وكان سند النص والأظهر ظنّيين كالخبرين غير العلميين ، فان إطلاق الكتاب مثلا يقيّد بخبر الواحد الظني السند.

والوجه في عدم الفرق في تقديم النص أو الأظهر على الظاهر بين قطعية السند وظنيته والاختلاف هو لزوم العمل بهما بعد اعتبارهما سندا وعدم تنافيهما دلالة. وقطعية سند الظاهر لا تمنع عن التصرف عرفا في دلالته بعد كون الآخر أظهر منه وموجبا لرفع التحيّر الّذي هو الموضوع للأخبار العلاجية ولحكم العقل بالتساقط أو التخيير.

ثم إن قوله «قده» : «ولا فرق بين ... إلخ» لا يخلو من تعريض بمقالة شيخنا الأعظم «قده» حيث فصّل بين صورة قطعية سند الخاصّ ودلالته ، وظنيّتهما ، وقطعية الدلالة وظنيّة صدوره على ما يظهر إن شاء الله تعالى. قال «قده» في مقام بيان جريان الورود والحكومة في الأصول اللفظية العقلائية على حذو وجريانها في الأصول العملية ما لفظه : «ثم ان ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الأصول اللفظية أيضا ، فان أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز ، فان كان المخصص مثلا دليلا علميا كان واردا على الأصل المذكور ... إلخ».

٥٨

فيقدّم النص أو الأظهر ـ وإن كان بحسب السند ظنيا ـ على الظاهر (١)

______________________________________________________

وتوضيحه : انه إذا ورد عام ، ثم ورد خاص مخالف له في المفاد ، فإمّا ان يكون الخاصّ قطعيا صدورا ودلالة ، وإمّا أن يكون ظنيا من إحدى الجهتين وقطعيا من جهة أُخرى ، وإمّا أن يكون ظنيا من الجهتين.

ففي الصورة الأولى يكون الخاصّ واردا على أصالة الحقيقة في ناحية العام ، لأن حجية أصالة الظهور تكون في ظرف الشك في المراد الجدّي ، ومع العلم بالمراد لا معنى للبناء على حجية ظاهر لفظ العام.

وفي الصورة الثانية فصّل شيخنا الأعظم في منشأ حجية أصالة الظهور ، فإن قلنا بأنّ إرادة المتكلم للظاهر تكون لأجل كاشفية نفس الظهور نوعا عن المراد الجدي ، كان الخاصّ الظني السند القطعي الدلالة واردا على أصالة العموم كما في الصورة الأولى ، لارتفاع ظهور العام حقيقة بعد ورود الخاصّ ، لتقيّد حجية الظن بإرادة العموم بعدم وجود ظنّ معتبر على خلافه ، فينهدم موضوع أصالة الظهور في العام بقيام ظن على خلافه.

وإن قلنا بأن أصالة الظهور تستند إلى أصل عدمي وهو أصالة عدم القرينة ـ لا إلى نفس الظهور الّذي هو أمر وجودي ـ كان الخاصّ حاكما على العام ، لارتفاع الشك في المراد من العام بعناية التعبد ، لا حقيقة. واحتمل الشيخ الورود على هذا الفرض أيضا مع أمره بالتأمل.

وفي الصورة الثالثة التزم شيخنا الأعظم «قده» بعدم تقدم الخاصّ على العام لمجرد كونه خاصا ، بل أناط التقديم بالأظهرية ، فإن كان العام أظهر قدِّم على الخاصّ ، وإن كان الخاصّ أظهر قدِّم على العام. وإن كانا متكافئين في الظهور جرى عليهما حكم المتعارضين.

هذا محصل ما أفاده الشيخ. وبما تقدم في توضيح المتن ظهر وجه نظر المصنف إليه ومخالفته معه ، فان الماتن «قده» جعل وجه تقديم الخاصّ على العام صغرويته لكبرى تقديم القرينة على ذيها ، فلا ورود في صورة قطعية الخاصّ ، كما لا حكومة في صورة ظنية سند الخاصّ ، ولا تعارض في صورة تكافؤ العام والخاصّ ، في الظهور ، فالوجه في التقديم منحصر في قرينية الخاصّ على ما يراد جدّاً من العام. وللمصنف إشكال آخر في حاشية الرسائل على الترديد في حجية أصالة الظهور ، فراجع.

(١) متعلق بـ «فيقدم» وضمير «فيها» راجع إلى الموارد المذكورة الخارجة عن باب التعارض.

٥٩

ولو كان (١) بحسبه قطعيا.

وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور (٢) ممّا (٣) كان التنافي فيه بين

______________________________________________________

(١) يعني : ولو كان الظاهر بحسب السند قطعيا مثل الكتاب والخبر المتواتر ، لما عرفت من عدم تهافتهما سندا ، ولزوم العمل بهما ، لوجود الجمع العرفي بينهما الموجب لعدم تنافيهما في مقام الدالة والإثبات.

فصار المتحصل : أنه في موارد الجمع العرفي يجب العمل بكلا الدليلين من دون لحاظ السند فيهما من حيث قطعيّته وظنّيته واختلافه ، فلا يقع تعارض في سنديهما. ومورد التعارض في السند هو ما يذكره بقوله : «وانما يكون التعارض بحسب السند».

(٢) أي : غير موارد الجمع العرفي من العام والخاصّ والمطلق والمقيد ونحوهما ، إذ لا تنافي بينها في مرحلة الدلالة والإثبات بحيث يتحير العرف في الجمع بينها.

(٣) بيان لـ «غير» وضمير «فيه» راجع إلى الموصول في «مما» وغرضه بعد نفى التعارض عن الصور المذكورة ـ التي لا يتحيّر العرف في الجمع بينها ـ إثبات التعارض في غير تلك الصور ، وهو : ما إذا كان العرف متحيّرا في الجمع بين الدليلين أو الأدلة في مقام الإثبات. توضيح ذلك : أن حجية ما يستنبط منه الحكم الشرعي منوطة بواجديته لأمور ثلاثة : أحدها : صدوره ممن له تشريع الأحكام. ثانيها : ظهوره في المعنى وعدم إجماله. ثالثها : كونه صادرا لبيان الواقع. والمتكفل للأوّل أدلة حجية الأخبار ، ويعبّر عنه تارة بأصالة السند ، وأخرى بأصالة الصدور. وللثاني بناء أبناء المحاورة على كون اللفظ ظاهرا في المعنى الكذائي ، ويعبر عنه بأصالة الظهور. وللثالث ظهور حال المتكلم في إرادة ظاهر كلامه وجعله حاكيا عن مرامه ، ويعبر عنه بأصالة الجهة.

وهذه الأصول الثلاثة مقومة لدليلية الدليل ، فإذا تعارض دليلان علم إجمالا بكذب أحد هذه الأصول الثلاثة في أحد الدليلين ، وبمخالفة أحدهما للواقع.

وصور تعارض هذه الأصول وإن كانت كثيرة ، إذ التعارض قد يكون بين أصالتي السند فيهما كما إذا كانا مقطوعي الدلالة والجهة ، وقد يكون بين أصالتي الظهور كما إذا كانا مقطوعي السند والجهة ، وقد يكون بين أصالتي الجهة كما إذا كانا مقطوعي السند والدلالة ، وقد يكون غير ذلك ، إلّا أن التعارض الّذي يسري من الدلالة إلى السند ويوجب التعارض

٦٠