منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن لا بأس بذكر بعض الوجوه تبعا لما في تقريرات شيخنا الأعظم وغيرها :

فمنها : أنّ قول المجتهد مفيد للظن ، فيجب العمل به لما دلّ على حجية الظن.

ومنها : أنّه إذا علم بأنّ الاستفتاء من المجتهد إنما هو لأجل كونه مخبرا عن أحكامه تعالى شأنه علمنا بعدم دخل حياة المجتهد في ذلك أصلا.

ومنها : أنّ المجتهد إذا غاب فلا إشكال في جواز العمل بقوله ، وعدم سقوط رأيه عن الحجية ، فكذا إذا مات.

ومنها : أنّ العمل بقول أنبياء بني إسرائيل (على نبيّنا وآله وعليهم‌السلام) بعد موتهم كان جائزا قطعا ، فكذا علماؤنا ، لعموم المنزلة فيما أرسل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل».

ومنها : ما يستظهر منه جواز الرجوع إلى فتوى الميّت بخصوصه ، مثل ما روي عن الإمام العسكري عليه‌السلام في كتب بني فضال : «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا» (١) فإنّ الأمر بعدم اتباع ما رأوا ـ ولو كان بعد موتهم ـ يشير إلى جواز الأخذ بما يراه غير بني فضّال بعد موته ، وإلّا لم يكن وجه لاختصاصهم بالحكم ، فمفهوم قوله عليه‌السلام هو حجية قول الفقيه السليم العقيدة ، وجواز أخذ رأيه بعد موته.

ومنها : أنّ دليل التقليد هو لزوم العسر والحرج على الجاهل ، وهو يقتضي جواز تقليد الميّت كالحي ، لاندفاع محذور العسر بكلّ منهما.

ومنها : أنّ تقرير الإمام عليه‌السلام ـ المستفاد من بعض الأخبار ـ يدلّ على جواز تقليد الميّت ، مثل ما رواه أحمد بن خلف ، قال : «كنت مريضا ، فدخل علي أبو جعفر عليه‌السلام يعودني في مرضي ، فإذا عند رأسي كتاب يوم وليلة ، فجعل يتصفّحه ورقة ورقة حتى أتى عليه من أوّله إلى آخره ، وجعل يقول : رحم الله يونس رحم الله يونس» (٢) فإنّ هذا تقرير منه عليه‌السلام لجواز تقليد يونس بعد موته.

وهذا كتصريح مولانا العسكري عليه‌السلام بأنّ «ما في كتاب يونس ديني ودين

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٧٩ ، ص ٧٢

(٢) المصدر ، الحديث : ٧٤ ، ص ٧١.

٦٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

آبائي» كما رواه داود بن القاسم الجعفري ، قال : «أدخلت كتاب يوم وليلة الّذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري عليه‌السلام ، فنظر فيه وتصفّحه كلّه ، ثم قال : هذا ديني ودين آبائي ، وهو الحق كله» (١).

ومنها : تصريح ابن بابويه (قده) بجواز العمل بما في كتاب من لا يحضره الفقيه ، مع نقله لكثير من فتاوى أبيه ، فهذا كالصريح في تجويزه العمل بفتاوى أبيه بعد موته ، فلاحظ كلامه متدبّرا فيه.

ومنها : أنّ ما دلّ من الروايات على عدم تغيّر أحكام الله تعالى بمرور الدهور وبمضيّ الأعوام والشهور كقوله عليه‌السلام : «حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» يدلّ على جواز تقليد الميّت ، فإنّ موت المجتهد لو كان مؤثّرا في عدم جواز الأخذ بفتواه كان ذلك موجبا لتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله ، وهل هذا إلّا مضحكة للنسوان وملعبة للصبيان؟

ومنها : ما أفاده سيّدنا الجد في محكي منبع الحياة من تقرير دلالة العقل بقوله : «إن قضيّة المنع صحة إحدى صلاتي المقلّد وبطلان الأخرى إذا مات المجتهد بين الصلاتين. ولازم هذا أن يكون شريكا للشارع في الأحكام الشرعية. وهذا لا ينطبق على أصولنا ، لأنّ علماءنا يحكون كلام الشارع ويعملون به ، فلا تفاوت في اتّباع أقوالهم بين حياتهم وموتهم. وإنّما يناسب هذا لو كان صادرا من رأيه ، كما كان الكوفي كذلك ، حيث قال في مسجد الكوفة : قال عليّ كذا ، وأنا أقول كذا».

وهذه الوجوه على تقدير تماميتها والإغماض عمّا فيها من المناقشات أدلة على عدم اشتراط الحياة في المجتهد وجواز تقليد الميّت مطلقا ، من غير تفاوت بين الابتدائي والاستمراري ، كما لا يخفى (*)

__________________

(*) لا يخفى أنّ مسألة اشتراط الحياة في مرجع التقليد كانت ذات قولين عند القدماء ، وهما اشتراطها فيه مطلقا من غير فرق فيه بين التقليد الابتدائي والاستمراري ، وعدم اشتراطها فيه كذلك. وأمّا القول بالتفصيل بين الابتدائي والاستمراري باشتراطها في الأوّل وعدمه في الثاني فهو لم يكن مصرّحا به في كلمات القدماء ، وإنّما حدث لبعض المتأخرين من الأصوليّين كصاحب الفصول ،

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٧٥ ، ص ٧١

٦٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بزعم أنّ التقليد الاستمراري غير مندرج تحت إطلاق كلمات المانعين ، لاختصاصها بالتقليد الابتدائي.

لكنه ليس كذلك ، لوضوح صدق تقليد الميت على الاستمراري كصدقه على الابتدائي بوزان واحد ، فإن كان هذا وجه الاختصاص فلا وجه له ، وإن كان غيره ، فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه.

وكيف كان فالمشهور بينهم شهرة دعت جماعة من أجلاء الأصحاب ـ كما في التقريرات ـ إلى نفي الخلاف ، أو دعوى الإجماع عليه هو الاشتراط ، فعن شرح الألفية للمحقق الثاني : «لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحي بلا خلاف بين علماء الإمامية». وإن شئت الوقوف على كلمات الأصحاب في هذا الباب فراجع تقريرات شيخنا الأعظم (قده).

لكن دعوى عدم ثبوت كون هذا الإجماع من الإجماعات التعبدية الكاشفة ـ لاحتمال مدركيّته ـ غير بعيدة.

وعليه فلا بد في تحقيق المقام من التكلم فيما تقتضيه الأدلّة من اشتراط الحياة وعدمه ، فنقول وبه نستعين : أنّه ينبغي البحث في مقامات ثلاثة : الأوّل في الأدلّة اللفظية ، والثاني في الدليل العقلي والثالث في الأصل العملي.

أمّا المقام الأوّل ، فملخص الكلام فيه : أنّه يحتمل في الأدلّة اللفظية من الكتاب والسنة وجوه :

الأوّل : دلالتها على اعتبار الحياة مطلقا ، من غير فرق فيه بين التقليد البدوي والاستمراري.

الثاني : دلالتها على عدم اعتبارها كذلك.

الثالث : دلالتها على اعتبارها في الجملة أي إهمالها بالنسبة إلى كيفية شرطية الحياة.

فعلى الأوّل : لا إشكال في عدم جواز تقليد المجتهد الميّت مطلقا ، لا ابتداء ولا استدامة ، فإذا قلّد مجتهدا مدّة ثم مات ذلك المجتهد بطل تقليده ، ووجب عليه العدول إلى الحي ، إذ المفروض انتفاء الحياة التي هي شرط جواز التقليد.

وعلى الثّاني : يجوز له تقليد الميّت مطلقا أي ابتداء واستدامة كما عن العامة. وأصحابنا المحدّثين إن أرادوا التقليد عند الأصوليين ، فيجوز للعامي في هذا العصر أن يقلّد الشيخ الطوسي (قده) مثلا ابتداء كما يجوز له البقاء على تقليد من مات من المجتهدين ، فإنّ نفس الدليل الدالّ على عدم اعتبار الحياة في جواز تقليد المجتهد يدلّ على جواز البقاء على تقليد المجتهد الّذي مات بعد

٦٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أن قلّده العامي مدّة من دون حاجة إلى التماس دليل آخر من أصل أو غيره. وإن أرادوا نقل الروايات فليسوا مخالفين للمجتهدين ، ضرورة أنّ نقل الرواية عن الراوي ليس مشروطا بحياة الرّاوي عند المجتهدين أيضا.

وعلى الثالث : ـ وهو دلالة الأدلّة على شرطية الحياة في الجملة ـ يشك في حجية فتوى المجتهد بعد وفاته ، إذ المتيقّن خروجه عن دليل حرمة العمل بغير العلم هو فتوى الحي ، وأمّا فتوى الميّت ـ ولو استدامة ـ فهي مشكوكة الحجية ، ومقتضى الأصل عدم حجيتها.

لا يقال : إنّ مقتضى استصحاب حجيتها الثابتة حال حياة المجتهد هو حجيتها بعد مماته.

فإنه يقال : إنّ الشك في حجية الفتوى بعد وفاة المجتهد لمّا كان مسبّبا عن الشك في كيفية شرطية الحياة من كونها شرطا لخصوص التقليد الابتدائي أو الأعم منه ومن التقليد الاستمراري جرى استصحاب شرطيّتها ، ومعه لا مجال لاستصحاب حجية الفتوى ، لعدم شكّ فيها ، إذ مقتضى حكومة الأصل السببي على المسببي عدم حجيتها.

ومن هنا ظهر : أنّه بناء على هذا الاحتمال الثالث ـ الّذي يجري فيه استصحاب شرطية الحياة الّذي هو متمّم دلالة دليل شرطيّتها ـ لا يجري استصحاب حجية الرّأي ، أو نفس الحكم كوجوب تثليث التسبيحات الأربع وغيره ، لأنّ الشك فيها مسبّبي ، إذ لا منشأ له إلّا الشك في شرطية الحياة ، وبعد ثبوت شرطيّتها لجواز التقليد مطلقا سواء أكان ابتدائيا أم استمراريا بسبب جريان الاستصحاب في الشرطية لا يبقى شك في الحجية ، لإحراز عدم الحجية بالأصل.

هذا كله مع الغض عن مرجعية العام مع إجمال المخصّص مفهوما ، وإلّا فلا تصل النوبة إلى استصحاب الشرطية ، لدلالة نفس عموم النهي عن العمل بغير العلم على عدم حجية قول الميت.

هذا ما يقتضيه مقام الثبوت.

دلالة الأدلة اللفظية على اعتبار الحياة مطلقا

وأمّا مقام الإثبات فلا ينبغي الارتياب في ظهور أدلة التقليد كرواية الاحتجاج ـ بناء على اعتبارها ـ في اعتبار الحياة في جواز التقليد ، فإنّ ظهور «وأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ...» في الفقيه المتصف فعلا حين التقليد ، بهذه الصفات ممّا لا ينكر ، وليس ذلك إلّا الحيّ ، فإنّ صيانة النّفس وغيرها من الصفات ظاهرة في اعتبار الحياة في المتصف بها حين التقليد ، لأنّ الميّت الّذي هو جماد لا يعقل أن يتصف بها.

٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مضافا إلى ظهور ترتب الجزاء ـ وهو «فللعوام أن يقلّدوه» ـ على الشرط وهو «وأمّا من كان من الفقهاء ... إلخ» في كون موضوع جواز التقليد هو المتصف بتلك الصفات فعلا ، وليس ذلك إلّا المجتهد الحي.

فالمتحصل : أنّه لا بدّ أن يكون رجوع العامي إلى مجتهد واجد لتلك الصفات حين رجوعه إليه. بل هو ظاهر في اعتبار الحياة في التقليد مطلقا أي : ما دام العامي يقلّده ، من غير فرق بين الابتدائي والاستمراري.

وكذا الأخبار الإرجاعية ، فإنّ المأمور بالإفتاء للناس ومرجعهم من ناحية الإمام عليه‌السلام كأبان والأسدي وزكريّا بن آدم وأضرابهم نفس الأشخاص الّذين هم أحياء ، لا رواياتهم ، والإرجاع إلى الحي لا يدلّ على اعتبار قوله بعد موته ، بل هو يتوقّف على دليل آخر.

والحاصل : أنّ ظاهر الأدلة اللّفظية ـ أو متيقنها ـ كون موضوع جواز التقليد هو المجتهد الحي ، فموضوعية المجتهد الميّت له محتاجة إلى الدليل.

وإن شئت الوقوف على جميع طوائف الأدلة من الآيات والروايات ، وتقريب الاستدلال بها على التقليد ، والمناقشات التي أوردوها على الاحتجاج بها ، فراجع تقريرات شيخنا الأعظم قدس‌سره وجزاه الله تعالى عن العلم وأهله خير الجزاء.

وإن أبيت عن ظهور الأدلّة في اعتبار الحياة في كل من التقليد الابتدائي والبقائي وسلّمت ظهورها في خصوص الابتدائي ، فلا مانع من جريان استصحاب شرطيّة الحياة بعد الموت ، ومعه لا يجري استصحاب حجية الفتوى كما أشير إليه سابقا ، هذا.

وأمّا توهم دلالتها على عدم اعتبار الحياة مطلقا لا في التقليد البدوي ولا في البقائي فلا وجه له أصلا ، لقصور الأدلّة عن الدلالة على ذلك.

وغاية ما يمكن دعواه هي عدم دلالتها على اعتبار الحياة وعدمه وإهمالها من هذه الجهة. وعلى فرض دلالتها على ذلك لا بدّ من رفع اليد عن هذه الدلالة ، لتكرّر دعوى الاتفاق في كلماتهم على اعتبار الحياة الكاشف عن إعراضهم عن تلك الدلالة.

ويتلوه في الضعف دعوى إهمال الأدلة وعدم دلالتها إلّا على موضوعية المجتهد لجواز التقليد ، من دون تعرّض لدخل الحياة فيه وعدمه. مع أنّ الإهمال ـ بعد تسليمه ـ لا يجدي في إثبات حجية قول المجتهد بعد موته ، لأنّه مع الإهمال لا بدّ من الأخذ في مقام تخصيص العام بالقدر المتيقّن من

٦٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المخصّص ، وهو قول المجتهد الحي الّذي ادّعي الاتفاق عليه ، والبناء على بقاء تقليد الميّت مطلقا من البدوي والبقائي تحت عموم النهي عن العمل بغير العلم ، ومع هذا العموم ـ الّذي هو دليل لفظي اجتهادي ـ لا تصل النوبة إلى استصحاب الحجية ، أو الحكم الفرعي ، أو غيرهما أصلا كما لا يخفى.

ويظهر مما ذكرنا عدم الحاجة في عدم جواز تقليد الميّت إلى دليل خاص عليه ، وإنّما المحتاج إلى الدليل هو جواز تقليده وحجية رأيه.

فصار المتحصل مما ذكرنا : أنّ المستفاد من الأدلّة اللفظية ـ سواء أكان هو اعتبار مطلقا أو في خصوص التقليد البدوي ، أم كان ذلك موضوعية المجتهد لجواز التقليد مع الإهمال من حيث اعتبار الحياة فيه وعدمه ـ هو : عدم جواز الاكتفاء بتقليد الميّت في فراغ الذّمّة ، من غير فرق فيه بين ابتداء التقليد واستمراره. وعدم المجال لإجراء الاستصحاب بتقاريبه المختلفة المتقدمة لتصحيح العمل المستند إلى فتوى الميّت ، إمّا لعموم ما دلّ على حرمة العمل بغير العلم ، وإمّا لاستصحاب شرطيّة الحياة الحاكم على استصحاب الحجية ، أو نفس الحكم الشرعي الفرعي ، أو غيرهما كما مر آنفا.

دلالة دليل الانسداد على اعتبار الحياة

وأمّا المقام الثاني ـ وهو الدليل العقلي الّذي احتجّ به المحقق القمي (قده) على مختاره من جواز تقليد الميّت أو وجوبه ـ فتقريبه : أنّ قول الميّت مفيد للظن ، وكل ما يفيد الظن فهو حجة في حق المقلّد. أمّا الصغرى فوجدانية ، وأمّا الكبرى فلدليل الانسداد المؤلّف من أمور :

أحدها : بقاء التكاليف.

ثانيها : انسداد باب العلم بها في حق المقلّد.

ثالثها : فقدان الظن الخاصّ ، لأنّ الدليل على جواز الأخذ بقول المجتهد تعبّدا مفقود ، إذ الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة غير واضحة الدلالة ، لما فيها من المناقشات ، وعلى فرض التسليم لا يحصل منها إلّا الظن المعلوم عدم حجية في إثبات الطريق الشرعي والأدلّة اللبية من الإجماع والضرورة والسيرة غير ثابتة ، لأنّ السلف المعاصرين للإمام عليه‌السلام كان باب العلم لهم مفتوحا ، وكانوا يعملون به ، والإجماع موهون بخلاف جملة من الأصحاب كفقهاء الحلب والأخباريين ، فلا

٦٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مناص للعامي إلّا الاعتماد على الظن كالمجتهد ، لأنّ الاقتصار على القدر المعلوم من الضرورة والإجماع من التكاليف يوجب الخروج عن الدين ، لكونه في غاية القلّة ، وإلزام الاحتياط يستلزم العسر والحرج ، هذا ما حكي في التقريرات عن المحقق القمي (قده).

وفيه أوّلا : أنّ هذا الدليل مبني على دليل الانسداد ، وقد ثبت في محله عدم تماميته.

وثانيا ـ بعد تسليمه ـ : أنّ مقتضى هذا الدليل حجية قول الميّت إذا كان الظن الحاصل منه أقوى من الظن الحاصل من قول الحي ، فالدليل أخص من المدّعي الّذي هو حجية قول الميّت مطلقا ، بل مقتضى هذا الدليل حجية كل ظن يكون أقوى من الظن الحاصل من قول الميّت وإن حصل من الأسباب غير المتعارفة ، إذ مقتضى دليل الانسداد حجية كل ظن قويّ وإن لم يحصل من قول الميّت.

وثالثا : أنّ لازم هذا الدليل وجوب العمل بالظن على العامي ، ومن المعلوم أنّ الظن الحاصل من فتوى المعظم بعدم جواز تقليد الميّت ومن الإجماعات والشهرة والأخبار والآيات مانع من حصول الظن الشخصي من قول الميّت في خصوص المسألة الفرعية ، فيلزم أن يكون هذا الدليل ـ بناء على ما اشتهر عند الأصوليّين من تقدم الظن المانع على الظن الممنوع عند التعارض وإن كان أضعف من الظن الممنوع ـ دليلا على عدم حجية فتوى الميّت ، فينتج نقيض المطلوب.

ورابعا : أنّ دوران الحجية مدار ظن العامي أجنبي عن المدّعي وهو حجية قول الميّت في باب التقليد تعبدا ، لا في خصوص ما كان للعامي مفيدا للظن.

فالمتحصّل : أنّ هذا الدليل العقلي لا يجدي في إثبات جواز تقليد الميّت أصلا.

مقتضى الأصل العملي اعتبار الحياة

وأمّا المقام الثالث ـ وهو الأصل العملي الّذي قد يتمسّك به لجواز تقليد الميّت ـ فملخص الكلام فيه : أنّه ـ بناء على ما قيل من قصور الأدلّة الاجتهادية عن إثبات إطلاق الحياة في جواز التقليد ، ووصول النوبة إلى الأصل العملي ـ يكون الأصل في المقام استصحاب شرطية الحياة ، ومعه لا يجري استصحاب الحجية وغيرها مما ذكر في المقام ، لحكومة استصحاب الشرطية عليه ، لما مرّت الإشارة إليه من تسبّب الشك في الحجية ونحوها عن الشك في شرطية الحياة ، إذ مع فرض ثبوت شرطيتها في ابتداء التقليد ، لكونه ظاهر أدلته أو متيقنها الخارج عن عموم حرمة العمل بغير العلم.

٦٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومع الغض عن شمول دليل حرمة العمل بغير العلم للتقليد الّذي هو دليل اجتهادي ـ لخروج التقليد في الجملة عن حيّز عموم دليل الحرمة ـ يحرز باستصحاب شرطيتها عدم حجية قول الميّت. ومعه لا يبقى شك في الحجية حتى يجري فيها الاستصحاب.

لكنه مع ذلك لا بأس بالتعرض إجمالا لما أفادوه من جريان الاستصحاب تبعا لهم ، فنقول وبه نستعين : إنّ الكلام يقع في مقامين :

أحدهما : الاستصحاب الّذي يراد به إثبات جواز تقليد الميّت ابتداء.

ثانيهما : إثبات جواز تقليده بقاء.

تقريب الاستصحاب في تقليد الميّت ابتداء بوجوه :

أمّا المقام الأوّل فتقريبه : أنّ الاستصحاب يقرر بوجوه :

الأوّل : إجراؤه في نفس الحكم الشرعي ، بأن يقال : إن وجوب تثليث التسبيحات الأربع في الأخيرتين كان فتوى شيخ الطائفة مثلا ، وبعد وفاته يشك في بقاء هذا الوجوب ، فيستصحب. وهذا الاستصحاب تنجيزي.

الثاني : إجراؤه في حكم المستفتي ، بأن يقال : إنّ جواز أخذ فتوى المجتهد في زمان حياته والعمل بها للعامي كان معلوما ، وبعد وفاته يشك في بقائه فيستصحب. وهذا الاستصحاب تنجيزي أيضا إذا أدرك العامي حياة المجتهد واجدا لشرائط التكليف ، وتعليقي إذا لم يدركه كذلك بأنّ صار مكلّفا بعد موت ذلك المجتهد.

الثالث : إجراؤه في حكم المفتي ، بأن يقال : إنّ ذلك المجتهد الميّت كان حال حياته جائز التقليد ، وبعد وفاته يشك في بقاء هذا الجواز ، فيستصحب. وهذا الاستصحاب أيضا تنجيزي كما لا يخفى.

الرابع : إجراؤه في الظن بالحكم ، بأن يقال : إنّ الظن بالحكم الشرعي الحاصل للمجتهد حال حياته يشك في بقائه بعد وفاته ، فيستصحب استصحابا تنجيزيّا.

فإنّ هذه الاستصحابات ـ على تقدير سلامتها ـ تنتج جواز تقليد الميّت ابتداء.

لكنها غير سليمة من الإشكال ، لما ثبت في محله من عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان منشأ

٦٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الشك زوال وصف من أوصاف الموضوع مع احتمال دخله في الحكم ، إذ مع هذا الاحتمال يرجع الشك إلى الشك في بقاء الموضوع ، ومن المعلوم عدم جريان الاستصحاب فيه ، كعدم جريانه في العلم بارتفاع الموضوع.

ففي المقام لمّا كانت الحياة مما يحتمل دخله في الأحكام المذكورة ، إذ لم يقم دليل على عدم دخل الحياة فيها ، لما مرّ سابقا من عدم إطلاق في أدلة التقليد يشمل حياة المجتهد ومماته ، لصلاحية الإجماعات المدّعاة على عدم جواز تقليد الميّت لمنع انعقاد الإطلاق في أدلته أوّلا. ولعدم تعرّض شيء من الأدلّة لشروط التقليد ثانيا ، فإنّه أيضا يكشف عن الإهمال ، وعدم كونها في مقام البيان من جميع الجهات ، فلا ينعقد لها إطلاق ، بل ظاهرها أو متيقنها اختصاص جواز التقليد بمن له الرّأي حين رجوع العامي إليه ، وليس ذلك إلّا المجتهد الحي ، إذ الميّت جماد لا رأي له كما لا يخفى.

وعليه فلا مجال لدعوى حكومة إطلاق الدليل المقيّد ـ أعني به أدلّة التقليد ـ على إطلاق ما دلّ على حرمة العمل بغير العلم حتى يقال : بجواز تقليد المجتهد مطلقا سواء أكان حيّا أم ميّتا.

وكيف كان فنفس احتمال الدخل كاف في المنع عن جريان الاستصحاب.

وببيان أخصر : لا مجال لجريان الاستصحاب أصلا ، لأنّه إن ثبت دخل الحياة في تلك الأحكام ، فيعلم بارتفاعها بعد الموت ، وإن ثبت عدم دخلها فيها فيعلم ببقائها بعد الموت ، كالعلم بوجودها حال الحياة. ففي هاتين الصورتين لا مجال للاستصحاب ، لوجود العلم فيهما. وإن لم يثبت شيء من الدخل وعدمه للحياة فلا يجري أيضا ، لكون الشك حينئذ في بقاء الموضوع.

ومما ذكرنا في وجه عدم جريان الاستصحاب ـ من رجوع الشك فيه إلى الشك في بقاء الموضوع ـ يظهر : أنه لا أثر للبحث عن بقاء الظن بالحكم للمجتهد بعد موته وعدمه ، بأن يقال في وجه بقائه كما عن صاحب الفصول (قده) : إنّ الموت يوجب تكامل الظن ، وانكشاف حقائق الأمور بعد الموت.

ويقال في وجه عدم بقائه وزواله بالموت : إنّ الظن قائم بالذهن المتقوّم بتركيب الأخلاط الأربعة التي تترتب عليها آثار كسرعة الانتقال ، والإدراك ، وجودة الذهن التي هي من آثار الصفراء ، وكالبلادة وسوء الفهم وبطء الانتقال التي هي من آثار البلغم ، وهكذا ، والموت يفني هذه الأخلاط كلّها ، فلا يبقى محلّ للإدراك الّذي هو من آثار بعض الأخلاط. وبالجملة : يزول الظن بزوال الحياة.

٦٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

توضيح وجه عدم الأثر للبحث عن بقاء الظن وعدمه بعد الموت هو : أنّه مع احتمال شرطية الحياة في جواز تقليد المجتهد لا وجه للاستصحاب حتى مع العلم ببقاء الظن بعد الموت ، لأنّه مع احتمال شرطية الحياة يشك في بقاء الموضوع بعد الموت ، ومع هذا الشك لا يجري الاستصحاب ، هذا.

مضافا إلى إمكان أن يقال ـ بعد الغض عن احتمال شرطية الحياة ـ إنّ أدلة التقليد قاصرة عن شمولها للظن الحاصل من الكشف والشهود ، لظهور أدلته ـ ولو انصرافا ـ في الظن الكسبي الحاصل من الأدلة المعهودة ، كما يؤيّده تعريف الفقه «بأنّه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية» دون الظن الكشفي الحاصل من المكاشفة والشهود ، فانّه ليس موضوعا لأدلة التقليد. ولو شك في حجية الظن الكشفي فمقتضى الأصل عدمها ، لعدم دليل على حجيته بعد ما مرّ آنفا من قصور شمول أدلة التقليد للظن الكشفي. هذا بعض الكلام في المقام الأوّل.

تقريب الاستصحاب في التقليد البقائي بوجوه

وأمّا المقام الثاني فمحصله : أنّ الاستصحاب يقرّر بوجوه عديدة :

أحدها : جريانه في الأمر الارتكازي العقلائي ، وهو رجوع الجاهل إلى العالم ، فإذا شكّ في بقاء هذا الأمر العقلائي بعد موت العالم فلا مانع من استصحابه.

ثانيها : جريانه في الحكم الشرعي الأصولي ، وهي حجية رأي المجتهد حال حياته ، فيجري استصحاب الحجية بعد مماته.

ثالثها : جريانه في الحكم الشرعي الظاهري كوجوب السورة مثلا ظاهرا بمقتضى رأي المجتهد حال حياته ، فيستصحب هذا الوجوب بعد مماته.

رابعها : جريانه في الحكم الشرعي الفرعي الواقعي ، بأن يقال : انّ السورة كانت واجبة واقعا حال حياة المجتهد ، وبعد وفاته يشك في بقائه ، فيستصحب وجوبها.

خامسها : جريانه في نفس الرّأي ، بأن يقال : إنّ بقاء الرّأي بعد الموت مشكوك فيه ، لاحتمال ارتفاعه ، فيستصحب.

سادسها : جريانه في عدم تبدّل رأيه ، لاحتمال عدوله بعد الموت ، لانكشاف خطائه ، فيستصحب عدم عدوله عن رأيه الّذي حصل له حال حياته.

٦٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والجواب العام عن الاستصحاب بجميع تقاريبه المتقدمة : ما تقدّمت الإشارة إليه من عدم جريان الاستصحاب مع زوال وصف من أوصاف الموضوع فيما إذا احتمل دخله في موضوعيته ، لأنّه مع هذا الاحتمال لا يحرز بقاء الموضوع ، واتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة الّذي هو مقوّم الاستصحاب. وقد مرّ أنّ الحياة لو لم تكن شرطيّتها معلومة فلا أقلّ من كونها محتملة ، ومع هذا الاحتمال لا يجري الاستصحاب بشيء من تقاريبه المذكورة ، لعدم إحراز ما هو مقوّمة من وحدة القضيتين ، هذا.

وأمّا الجواب المختص بكل من التقريبات المذكورة فبيانه :

أنّ في التقريب الأوّل أوّلا : منع صدق الرجوع إلى العالم على الرجوع إلى المجتهد الميّت ، وذلك لما مرّ من أنّ الميّت لا رأي له حتى يتبعه العامي ، إذ ليس الرجوع إلى المجتهد كالرجوع إلى الأموات من الأطبّاء مثلا ، لأنّ المناط في الرجوع إليهم ، بعد كثرة الممارسة الموجبة للقطع بإصابة معالجاتهم للواقع أو الاطمئنان بها هو هذا القطع أو الاطمئنان ، لا مجرّد رأيه ، لعدم بناء العقلاء على العمل بالظن أو الشك. وهذا المناط مفقود في العامي ، إذ ليس مناط رجوعه إلى المجتهد علمه أو اطمئنانه بإصابة رأيه للواقع ، بل على العامي العمل برأيه تعبدا من دون إناطة بعلمه أو اطمئنانه بمطابقة رأيه للواقع ، فموضوع جواز التقليد نفس الرّأي من دون اعتبار علم العامي أو ظنه بإصابته للواقع.

وثانيا ـ بعد تسليمه ـ : أنّ هذا الأمر الارتكازي العقلائي ليس أثرا شرعيا ولا موضوعا له حتى يجري فيه الاستصحاب. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّ الأثر المترتب عليه ـ وهو التنجيز أو التعذير ـ أثر عقلي لا شرعي.

وفي التقريب الثاني أوّلا : أنّ الحجية ـ بعد تسليم كونها حكما مجعولا شرعيا ـ لا موضوع لها هنا ، لفناء موضوعها وهو الرّأي بالموت كما تقدّم سابقا.

ودعوى كفاية حدوث الرّأي في الحجية حدوثا وبقاء وإن كانت ممكنة ، لكنها ليست من شأن الاستصحاب المتقوّم ببقاء موضوعه ، بل إثبات هذه الدعوى منوط بقيام دليل اجتهادي عليه ، وهو مفقود ، إذ لو كان هناك دليل على ذلك لكان الرّأي الزائل حجة على نفس المجتهد ، مع أنّه ليس كذلك مع زوال الرّأي بهرم أو مرض.

٦٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وثانيا ـ بعد تسليم بقاء الرّأي بعد الموت ـ أنّ مقتضى عموم ما دلّ على حرمة العمل بالظن على ما ثبت في محله من مرجعية العام فيما عدا القدر المتيقن من المخصص المجمل هو عدم جواز تقليد الميّت ، إذ المفروض أنّ المتيقن من المخصّص ـ أي ما دلّ على مشروعية التقليد ـ هو تقليد خصوص المجتهد الحي. وأمّا تقليد الميّت ـ بعد تسليم بقاء رأيه بعد الموت ـ فهو باق تحت عموم دليل الحرمة ، فالدليل الاجتهادي يقتضي حرمة تقليد الميّت ، ولا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

وثالثا ـ بعد الغض عن ذلك ـ : أنّه لا يجري استصحاب الحجية أيضا ، لأنّه محكوم باستصحاب شرطية الحياة ، لتسبّب الشك في الحجية عن الشك في شرطية الحياة ، وحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي من الواضحات. إلّا أنّه مع عموم النهي عن العمل بالظن لا تصل النوبة إلى استصحاب شرطية الحياة أيضا كما أشرنا إليه غير مرة في الأبحاث السابقة ، فجريانه منوط بالغض عن هذا العموم وإن كان موافقا له كما هو شأن الحكومة.

وفي التقريب الثالث : أنّ الحكم الظاهري متقوّم في الأدلّة الظنية التي تكون حجيتها بعناية التعبد ـ لا باقتضاء ذاتها كالقطع ـ بوجود الظن الّذي هو كحدّ الوسط في سائر الأقيسة ، وإن كان الظن ملحوظا فيها بنحو الطريقية لإثبات متعلقة بحيث يكون واسطة في الإثبات دون الثبوت ، فإنّ جميع الأمارات غير العلمية القائمة على الأحكام الشرعية كذلك ، فإذا ظنّ المجتهد من خبر الواحد مثلا بوجوب السورة ، فلا يمكن استصحاب وجوبها بعد وفاته ، لارتفاع الظن بوجوبها بالموت كما تقدم سابقا ، إلّا إذا قام دليل على كون الظن في حال الحياة علّة للحجية حدوثا وبقاء. ولكن لم نظفر إلى الآن بهذا الدليل.

هذا مع الغض عن طريقية الأمارات غير العلمية ، إذ مع النّظر إليها لا حكم أصلا ، إذ لا يترتّب على الطريقية إلّا التنجيز مع الإصابة والتعذير مع الخطاء.

وفي التقريب الرابع ـ بعد البناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية ـ : أنّ الركن الأوّل المعتبر في الاستصحاب وهو اليقين السابق مفقود هنا ، لأنّ الدليل الدال على الحكم ـ كوجوب السورة ـ ليس هو العلم حتى يحرز به الواقع ويكون معلوما كي يجري فيه الاستصحاب عند الشك في بقائه ، بل هو حكم ظاهري مستند إلى دليل تعبدي متقوّم بالظن الّذي قد انعدم بالموت ، فالإشكال على الاستصحاب بتقريبه الرابع إنّما هو من ناحية اختلال الركن الأوّل

٦٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وهو اليقين بالحدوث.

وفي التقريب الخامس أوّلا : أنّ الرّأي ليس إلّا ما استنبطه المجتهد واستخرجه من أدلّة الفقه من الاعتقاد بوجوب شيء أو حرمته ، وقد مرّ آنفا زوال هذا الاعتقاد بالموت ، والمنكشف بعد الموت من العلم بالوفاق أو الخلاف ليس ناشئا من الاجتهاد في الأدلّة ، بل هو علم آخر ناش من المكاشفة ، وذلك ليس موضوعا لجواز التقليد ، لما تقدم من أنّ موضوعه هو الاعتقاد الناشئ من الاجتهاد في أدلّة الفقه ، ولذا لا يكون العلم الحاصل بالرمل والجفر مثلا موضوعا لجواز التقليد.

ومن هنا يظهر فساد توهم كون الاستصحاب في المقام من القسم الثاني من ثالث أقسام استصحاب الكلي ، ببيان : أنّه يحتمل حدوث فرد مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم الزوال ، فيستصحب الكلي الجامع بينهما.

توضيح وجه الفساد : ما تقدّم من كون الأثر الشرعي هنا مترتّبا على الفرد ، وهو خصوص الاعتقاد الناشئ عن الاجتهاد في الأدلّة المعهودة ، دون كلّي الاعتقاد وإن كان ناشئا من الكشف والشهود ، فيندرج هذا الاستصحاب في استصحاب الموضوعات التي لا أثر لها ، ويكون أجنبيا عن استصحاب الكلي.

وثانيا ـ بعد تسليم بقاء الرّأي بعد الموت ، لبقاء موضوعه وهي النّفس الناطقة وإن كان خلاف الفهم العرفي الّذي هو المعتبر في تشخيص موضوع الاستصحاب ، إذ الموضوع بنظرهم هو الحياة ، دون النّفس الناطقة التي هي موضوع الرّأي بالنظر العقلي ـ : أنّ شرطية الحياة الثابتة بعموم دليل حرمة العمل بالظن أو بالأصل ـ وهو استصحاب الشرطية ـ تمنع حجية رأي الميّت ، فلا يجدي استصحاب الرّأي ، بل القطع به ، إذ الموضوع لجواز التقليد حينئذ هو رأي المجتهد الحي ، فمع القطع ببقاء الرّأي بعد الموت ـ فضلا عن استصحابه ـ لا يجوز البقاء على تقليد الميّت إلّا بعد إلغاء شرطية الحياة.

وفي التقريب السادس أوّلا : أنّ مورد العدول وتبدل الرّأي هو المجتهد الحي ، لأنّه هو الّذي يحتمل تبدل اجتهاده الأوّل باجتهاد ثانوي موجب لعدوله عمّا اجتهد فيه أوّلا ، وهذا أجنبي عن المجتهد الميّت ، ضرورة أنّه ليس له اجتهاد ثان في أدلة الفقه. وإن حصل له علم في تلك النشأة فليس ذلك ناشئا من الاجتهاد في أدلة الفقه ، بل هو ناش من المكاشفة ، وليس هذا العلم موضوعا

٦٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لأدلة جواز التقليد حتى يكون استصحابه ذا أثر ، إذ مع فرض العلم بتبدل رأيه في تلك النشأة البرزخية لا يترتّب عليه أثر شرعي فضلا عن الشك في التبدّل.

وثانيا : أنّ استصحاب عدم العدول لا يجدي في إثبات جواز البقاء على تقليد الميّت إلّا بعد إثبات عدم شرطية الحياة ، إذ مع فرض شرطيتها لا أثر لاستصحاب عدم العدول عن رأيه الأوّل كما لا يخفى.

وثالثا : أنّه لا مجال لاستصحاب بقاء الرّأي ، للعلم بزواله وتبدّله بالعلم بالوفاق أو الخلاف الحاصل بعد الموت بالمكاشفة ، فلا شك في البقاء حتى يجري فيه الاستصحاب.

فتلخص من جميع ما ذكرناه في تقليد الميّت : أنّ الأوفق بالقواعد عدم جوازه مطلقا من غير فرق فيه بين التقليد الابتدائي والاستمراري.

الأقوال في التقليد البقائي

تذنيب : لا يخفى أن التقليد الاستمراري صار عند متأخري المتأخرين ذا أقوال وتفاصيل لا بأس بالإشارة إليها.

١ ـ عدم الجواز مطلقا

منها : عدم الجواز مطلقا ، وهو المشهور كما في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) وقد عرفت أنّه مقتضى القواعد ، ومختار جمع من المعاصرين كالسيدين الفقيهين السيد البروجردي قبل مهاجرته إلى بلدة قم المقدسة ، وأستاذنا الشاهرودي (قدس‌سرهما).

٢ ـ جواز البقاء مطلقا

ومنها : الجواز مطلقا أي في جميع المسائل ، لا في خصوص المسائل التي عمل بها ، فإنّه بعد تحقق التقليد بسبب العمل بفتوى المجتهد الحي في بعض المسائل يجوز للعامي البقاء على تقليده بعد وفاته في كل مسألة وإن لم يعمل بها في زمان حياة ذلك المجتهد كما في تحرير الوسيلة : في المسألة (١٣) من مسائل التقليد : «نعم يجوز البقاء على تقليده بعد تحققه بالعمل ببعض المسائل ، مطلقا ولو في المسائل التي لم يعمل بها على الظاهر».

٦٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإطلاق هذه العبارة يشمل صورتي أعلمية الميّت من الأحياء ، وأعلميّة الأحياء من الميّت ، وصورة التساوي في العلم» والتقليد بـ «بعد تحققه بالعمل» إشارة إلى : أنّ التقليد عنده هو العمل ، لا الالتزام ، أو التعلم بقصد العمل ، فهو من قبيل الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع.

أقول : ـ بعد الغض عن إشكالات جواز أصل تقليد الميّت ـ إنّ فيه إشكالين :

أحدهما : أنّ مقتضى ما أفاده (في المسألة : ٥) بقوله : «يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط» لزوم تقييد جواز البقاء على تقليد الميّت بعدم أعلمية أحد الأحياء منه ، وإلّا وجب العدول إلى ذلك الحي الأعلم ، لا أنّه يجوز العدول إليه على الأحوط الاستحبابي. كما أنّه إذا كان الميّت أعلم الأحياء وجب البقاء ، لا أنّه يجوز البقاء ، ضرورة أنّه بعد البناء على إلغاء شرطية الحياة في التقليد ـ وعلى جواز تقليد الميّت كتقليد الحي ـ لا بد من مراعاة الأعلمية ، بأنّ يقال : وجب البقاء إن كان الميّت أعلم من الأحياء ، ووجب العدول إن كان الحي أعلم من الميّت.

ثانيهما : أنّ مقتضى كون التقليد هو العمل ـ لا الالتزام ولا التعلم بقصد العمل ـ هو الاقتصار على ما يصدق عليه البقاء ، وليس ذلك إلّا خصوص المسائل التي عمل بها في زمان حياة المجتهد ، لصدق التقليد عليها ، دون غيرها مما لم يعمل بها ، وصدق التقليد في جميع المسائل مع عدم تحققه حقيقة إلّا في بعضها من المسامحة في التطبيق التي لا عبرة بها ، ويكون التقليد فيما لم يعمل به حال حياة المجتهد من التقليد الابتدائي للميّت الّذي هو قائل بعدم جوازه ، لا من التقليد البقائي الّذي هو موضوع البحث. نعم بناء على كون التقليد هو الالتزام دون العمل يكون صدقه في جميع المسائل على نحو الحقيقة كما لا يخفى.

٣ ـ التفصيل بين ما عمل بها وما لم يعمل

ومنها : ما في وسيلة سيّدنا الفقيه الأعظم (قده) : «نعم يجوز البقاء على تقليده في المسائل التي عمل بها في زمان حياته أو الرجوع إلى الحي الأعلم ، والرجوع أحوط».

أقول : الظاهر أنّ وجه تقييد جواز البقاء بالعمل ليس لأجل تحقق التقليد في تلك المسائل التي عمل بها ، إذ التقليد عنده (قدّس سره) ليس هو العمل ، بل الالتزام ، لقوله (قده) في المسألة الثانية : «التقليد المصحّح للعمل هو الالتزام بالعمل بفتوى مجتهد معيّن ، ويتحقق بأخذ المسائل منه للعمل

٦٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بها وإن لم يعمل بعد بها».

فلعلّ وجه هذا التقييد هو : أنّ متمّم حجية الفتاوي هو العمل بها ، بحيث تتوقف حجيتها على العامي ـ وصيرورتها أحكاما له ـ على العمل ، فالفتاوي التي لم يعمل بها ليست أحكاما للعامي حتى يجوز العمل بها بعد وفاة المجتهد.

فإن كان كذلك لزم منه الدور ، لتوقف حجية الفتوى على الجاهل على العمل بها ، وتوقف صحة العمل وإجزاؤه على حجية الفتوى ، إذ لا بد في الإجزاء من كون العمل مستندا إلى الحجة.

وإن كان للتقييد وجه آخر فلم يظهر إلى الآن حتى ننظر فيه ، هذا.

وأمّا التخيير بين البقاء والرجوع إلى الحي الأعلم مطلقا فلا يلائم مبناه من وجوب تقليد الأعلم ، حيث إنّه إن كان الميّت أعلم من الحي وجب البقاء ، وإن كان الحي أعلم منه وجب الرجوع إليه. إلّا أن يراد بقوله (قده) : «أو الرجوع إلى الحي الأعلم» أعلم الأحياء فقط مع كونه مساويا للميّت في العلم. لكنه خلاف الظاهر.

فالتخيير حينئذ منحصر بصورة واحدة ، وهي تساوي الحيّ والميّت في الفضيلة ، إذ بعد إلغاء شرطية الحياة في التقليد الاستمراري لا بد من مراعاة شرطية الأعلمية فيه ، إذ لا وجه لإهمالها مع إطلاق شرطيتها للحدوث والبقاء.

٤ ـ التفصيل بين أعلمية الميّت من الحي وعدمها

ومنها : ما أفاده سيّدنا الفقيه الحكيم (قده) في رسالة المنهاج بقوله : «إذا قلّد مجتهدا فمات ، فإن كان أعلم من الحي وجب البقاء على تقليده فيما عمل به من المسائل وفيما لم يعمل. وإن كان الحي أعلم وجب العدول إليه. وإن تساويا في العلم تخيّر بين العدول والبقاء ، والعدول أولى ، والأخذ بأحوط القولين أحوط استحبابا».

أقول : ويتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما تقدّم من إشكالات تقليد الميّت ـ إشكالات :

الأوّل : أنّ تعميم جواز البقاء لجميع المسائل ممّا عمل بها في زمان حياة المجتهد وممّا لم يعمل بها مبنيّ على كون التقليد هو الالتزام أو التعلم للعمل حتى يتحقق التقليد في جميع المسائل ، ويكون التقليد فيها بعد وفاة المجتهد تقليدا بقائيّا. لكنّ التقليد عنده (قده) هو العمل اعتمادا على فتوى المجتهد كما صرّح بذلك في المسألة الرابعة.

٦٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وعليه فيكون عمله في غير المسائل التي عمل بها برأي المجتهد حال حياته تقليدا ابتدائيّا للميّت لا بقائيّا ، وهو (قده) لا يجوّزه كما صرّح به في المسألة الخامسة بقوله : «فلا يجوز تقليد الميّت ابتداء» فلا بدّ من الاقتصار في جواز البقاء على خصوص المسائل التي عمل بها في زمان حياة المجتهد.

نعم بناء على إلغاء شرطية الحياة لأحكام التقليد ـ وجعل الموت كالعدم ـ يتّجه القول بجواز البقاء في جميع المسائل ، سواء كان الميّت أعلم من الحي أم مساويا له ، لأنّ الميّت حينئذ كالحيّ. إلّا أنّ صدق البقاء لا يخلو من مسامحة.

الثاني : أنّ التخيير مع التساوي إن كان مستندا إلى استصحاب التخيير الثابت قبل الرجوع إلى الميّت فهو مبنيّ على جريان الاستصحاب مع زوال حال من حالات الموضوع ، فإنّ ذلك التخيير كان ثابتا بين المجتهدين حال حياتهما ، فلا يجري الاستصحاب مع تغيّر وصف من أوصاف الموضوع ، هذا.

مضافا إلى : أن التخيير إنّما هو لرفع التحيّر ، وبعد الأخذ بقول الميّت يرتفع التحيّر ، فلا مورد للاستصحاب كما لا يخفى.

الثالث : أنّ جعل العدول إلى الحي أولى لا يلائم القول بحرمة العدول عن الميّت ، بل مع الغضّ عن القول بحرمته نقول : إنّ مورد البحث من صغريات العدول عن مجتهد إلى مثله في العلم والفضيلة بعد إلغاء شرطية الحياة ، وكون المجتهد الميّت كالحيّ في أحكام التقليد. والظاهر أنّ جلّ الأصحاب لا يجوّزون العدول إلّا إلى الأعلم ، فمع تساوي الميّت والحي في العلم كيف يكون العدول إلى الحي أحوط؟ مع أنّ الأكثر لا يجوّزون العدول إلى المساوي. نعم الاحتياط في المسألة هو العمل بأحوط القولين مع الإمكان مطلقا سواء أكان الميّت أعلم من الحي أم العكس أم كانا متساويين.

٥ ـ التفصيل بين ما يعلمها المقلّد مما توافق الاحتياط وعدمه

ومنها : ما عن السيّد الفقيه القمي (قده) في تعليقته على العروة : «بل الأقوى الرجوع إلى الحي في جميع المسائل إلّا فيما يعلمه فعلا من فتاوى الميّت التي توافق الاحتياط ، فيعمل بها ، ولا يلزم الفحص عنها مع عدم العلم فعلا». والظاهر أنّ مراده بقوله : «مع عدم العلم فعلا» أي : عدم العلم

٦٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بموافقة تلك الفتاوى لفتاوى المجتهد الحي ، إذ مع موافقتها للاحتياط لا وجه للزوم الفحص ، إذ لزومه إنّما هو للعلم بالعدول إلى الحي ، وإحراز فتاواه لتطبيق عمله عليها.

أقول : الظاهر أنّه (قده) من منكري جواز البقاء مطلقا لا من المفصّلين ، وأنّ الاستثناء في قوله : «إلّا فيما يعلمه فعلا» منقطع ، إذ العمل بفتاوى الميّت المطابقة للاحتياط ليس تقليدا بقائيّا للميّت ، بل هو عمل بالاحتياط الّذي هو مقابل التقليد وقسيمه ، ولذا يصح العمل بتلك الفتاوى مطلقا وإن لم يكن عاملا بها في زمان حياة المجتهد ، فلا يرد عليه إشكالات البقاء على تقليد الميّت ، لمغايرة العمل الاحتياطي للعمل التقليدي البقائي.

٦ ـ التفصيل بين تذكّر فتاوى الميّت وعدمه

ومنها : ما عن سيّدنا المحقق الخوئي دامت بركاته في حاشية العروة : «بل الأقوى وجوبه فيما تعيّن تقليد الميّت على تقدير حياته» وفي مسائله المنتخبة : «المسألة ١٤ : الأقوى جواز البقاء على تقليد الميّت في المسائل التي تعلّمها العامي من فتاواه حال حكايته ولم ينسها وإن لم يكن قد عمل بها ، بل الأظهر وجوبه إذا كان المجتهد الميّت أعلم من المجتهد الحي».

وفي رسالة المنهاج : «مسألة ٧ : إذا قلّد مجتهدا فمات ، فإن كان أعلم من الحي وجب البقاء على تقليده فيما إذا كان ذاكرا لما تعلّمه من المسائل ، وإن كان الحي أعلم وجب العدول إليه مع العلم بالمخالفة بينهما ولو إجمالا. وإن تساويا في العلم أو لم يحرز الأعلم منهما جاز له البقاء في المسائل التي تعلّمها ولم ينسها ، ما لم يعلم بمخالفة فتوى الحي لفتوى الميّت ، وإلّا وجب الأخذ بأحوط القولين. وأمّا المسائل التي لم يتعلّمها أو تعلّمها ثم نسيها فإنّه يجب أن يرجع فيها إلى الحي».

ومحصل ما يستفاد من هذه العبارات : أنه (دامت بركاته) من القائلين بالبقاء وجوبا في صورة أعلميّة الميّت من الأحياء ، وجوازا في صورة التساوي بشرط تعلم الفتاوى حال حياة المجتهد وعدم نسيانها ، من غير فرق في وجوب البقاء وجوازه بين المسائل التي عمل بها في زمان حياة المجتهد وبين المسائل التي لم يعمل بها في زمان حياته.

أقول : يتوجه عليه أوّلا : ما تقدم من إشكالات أصل تقليد الميّت.

وثانيا : أنّ اعتبار تعلم فتاوى المجتهد حال حياته وعدم نسيانه لها إن كان وجهه توقف عنوان

٦٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

التقليد على تعلّمها فهو خلاف ما صرّح (دامت بركاته) به في مسائل تقليد المنهاج : «المسألة ٤ : التقليد هو العمل اعتمادا على فتوى المجتهد ... إلخ». فالتعلم خارج عن حقيقة التقليد الّذي هو العمل ومقدّمة له ، لتوقف تطبيق العمل على رأي المجتهد على العلم به غالبا ، ومن المعلوم خروج المقدمة عن حقيقة ذيها.

وإن كان وجه إناطة حجية الفتوى على العامي بتعلمها بحيث يكون تعلّمه لها متمّما لحجيتها ، فهو وإن كان ممكنا ، إذ لا محذور في إناطة حجية الفتوى على العامي بعلمه بها ، كإناطة المانعية بالعلم بعدم المأكولية ، لكنّه لا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا ، فإنّ وجوب البقاء على تقليد الميّت إنّما هو لصغرويّته لكبرى وجوب تقليد الأعلم ، ولذا يجب العمل بفتاواه التي لم يعمل بها حال حياته. ومن المعلوم أنّ حجية فتوى الأعلم ليست مشروطة بتعلّم العامي لها ، بل حجيتها تقتضي لزوم تعلمها والفحص عنها. ولو شك في شرطية التعلم لحجية الفتوى على الجاهل يرجع في نفي شرطيّته إلى إطلاق أدلة التقليد.

والحاصل : أنّه لم يثبت شرطية التعلم لا في نفس التقليد الاستمراري ولا في حجية الفتوى على العامي. وعمدة الكلام في مسألة البقاء على تقليد الميّت إنّما هي في مانعية الموت عن تقليده بقاء وعدمها ، وبعد البناء على عدم مانعيته يكون وزان تقليد الميّت الأعلم وزان تقليد الحي الأعلم في عدم الاشتراط بالتعلّم.

وإن كان وجهه ما نسب إليه دام بقاؤه في تقريرات بحثه الشريف من أن «الصحيح اعتبار الذّكر في البقاء ، وذلك لأنّ بالنسيان ينعدم أخذه السابق ورجوعه إلى الميّت قبل موته» (١). فإن كان المراد بانعدام أخذه السابق ارتفاع العلم بالفتوى فهو من الواضحات. لكنه غير ضائر ببقاء التقليد ، ضرورة أنّه أجنبي عن التقليد الّذي هو عنده نفس العمل بفتوى المجتهد ، ولازم ذلك أن يكون سؤال العامي عن مسألة قلّد فيها المجتهد الحي سنين عديدة ـ ونسي فتواه في تلك المسألة ـ تقليدا جديدا ، وهو كما ترى.

وإن كان المراد بانعدام أخذه السابق انعدام العمل بفتوى الميّت ، فمن الواضح أنّ نسيان الفتوى ـ وهي الحكم ـ لا يرفع العمل الّذي هو التقليد.

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، ١ ـ ١١٢

٦٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإن كان وجهه عدم صدق السؤال عن «أهل الذّكر» على الرجوع إلى المجتهد الميّت مع نسيان فتواه ، ومقتضى آية السؤال هو اعتبار صدق هذا العنوان في الرجوع إلى أهل الذّكر ، وهذا العنوان صادق مع العلم بالفتوى الحاصل له في زمان حياة المجتهد وعدم نسيانها.

فيتوجه عليه أوّلا : أنّ المقصود من الأمر بسؤال أهل الذّكر إثبات حجية أقوال أهل العلم ، من دون اعتبار سبق السؤال عنهم ، ولذا تكون أقوالهم حجّة وإن لم تكن مسبوقة به. وعليه فذكر السؤال للتنبيه على أمر متعارف في التعلم من دون خصوصية فيه.

وثانيا : أنّ الدليل ليس منحصرا بآية السؤال ، ومقتضى سائر أدلة التقليد هو لزوم التعلم للعمل ، سواء حصل بسؤال أهل الذّكر ، أم بمراجعة كتبهم ، أم بالاستماع من الثقات الناقلين لآرائهم. ولا وجه لتقليد سائر الأدلة بآية السؤال ، لكونهما من المثبتين اللذين لا تنافي بينهما.

وثالثا : أنّ ظاهر الأمر بالسؤال هو الأمر بتحصيل العلم ، لا العمل بقول الغير تعبدا كما هو المقصود في باب التقليد ، كأنّه قال سبحانه وتعالى : «أيّها الناس إن كنتم جاهلين فاسألوا أهل العلم حتى تعلموا» فالآية أجنبية عن مورد التقليد ، هذا.

مضافا إلى ما في بعض التفاسير من أنّ المراد بأهل الذّكر هم الأئمة الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين.

هذا بعض الأبحاث المتعلقة بتقليد الميّت ، وقد عرفت أنّ الأوفق بالقواعد عدم جوازه مطلقا من الابتدائي والاستمراري بتفاصيله المتقدمة ، والله تعالى هو الهادي إلى الصواب.

٦٤٠