منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

حقيقة أو عرضا (١) ،

______________________________________________________

يكن اللازم من البيِّن بالمعنى الأخص ، لبناء الحدّ على تعريف المحدود ورفع الخفاء عنه.

(١) هاتان الكلمتان متعلقتان بقوله : «التضاد» فالمقصود أن التنافي على وجه التضاد إما حقيقي وإما عرضي. وقد عرفت أن فرض التعارض في موارد التضاد العرضي فارق آخر بين تعريفي المصنف والمشهور للتعارض ، فانهم اقتصروا على التضاد الحقيقي ، ولذا قال شيخنا الأعظم «قده» بعد تعريف التعارض : «وكيف كان فلا يتحقق إلّا بعد اتحاد الموضوع ، وإلّا لم يمتنع اجتماعهما» ولكن المصنف «قده» فرض قسمين للتضاد ، قال في حاشية الرسائل ذيل كلمة «التضاد» ما لفظه : «حقيقة ، بأن يمتنع واقعا اجتماعهما ولو بحسب الشرع. أو علما بأن علم إجمالا كذب أحدهما ...» (١).

وكيف كان فالمراد بالتضاد الحقيقي هو تنافيهما بحسب مفهومهما لا بسبب أمر خارجي ، كما عرفت في مثال استحباب الجماعة في صلاتي العيدين وحرمتها. أو المراد بالتضاد العرضي هو تمانع الدليلين بسبب أمر خارجي ـ مانع عن شمول دليل الاعتبار لهما ـ كالعلم الإجمالي بكذب أحد الخبرين من دون أن يكون بين نفس المتعلقين ولا حكميهما ـ اللذين علم إجمالا بكذب أحد الخبرين الدالين عليهما ـ تناقض ولا تضاد. وقد عدّ المصنف له في الحاشية صورتين ، فقال بعد عبارته المتقدمة آنفا : «بأن علم إجمالا كذب أحدهما كتعارض دليلي الظهر والجمعة يومها ، والقصر والإتمام في بعض الموارد. وكذا لو علم إجمالا كذب أحد الخبرين ولو كان أحدهما في أبواب الطهارات والآخر في الدّيات».

أما الصورة الأولى فقد مثّل المصنف لها بتعارض دليلي الظهر والجمعة يومها. والقصر والإتمام في بعض الموارد. وأما الصورة الثانية فكما إذا دلّ أحد الخبرين على انفعال البئر بملاقاة النجاسة ، ودلّ الآخر على استحباب الوضوء نفسيّا ، فإنه لا تنافي ذاتا بين مدلولي هذين الدليلين ، لتعدد موضوع الحكمين ، ولم تثبت ملازمة بينهما كما ثبتت بين القصر في الصلاة والإفطار. لكن العلم الإجمالي بكذب أحدهما يمنع عن حجيتهما معا كالدليلين المتناقضين والمتضادين. ولو لم يكن هذا العلم الإجمالي لم يكن مانع عن حجيتهما معا.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٥٦

٢١

بأن (١) علم كذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا (٢).

______________________________________________________

والمتحصل من كلام المصنف في تعريف التعارض هو : أن التعارض يوصف به الأدلة لا المداليل ، يعني تمانع الدليلين في شمول دليل الاعتبار لهما ، وهو منحصر في صور ثلاث :

الأولى : أن يكون منشأ تعارض الدليلين تناقض مدلوليهما كالوجوب وعدمه.

الثانية : أن يكون منشؤه تضاد المدلولين حقيقة كالوجوب والحرمة.

الثالثة : أن لا يكون منشؤه تنافي المدلولين أصلا ، بل العلم الإجمالي بكذب أحد المتعارضين أوجب التعارض بين الدليلين وعدم شمول دليل الاعتبار لهما ، ويطلق على هذا القسم التعارض بالعرض.

(١) هذا تفسير للتضاد العرضي ، وقد عرفت انطباقه على صورتين كما نقلناه عن حاشية الرسائل ، ومثّل كثير من الأصوليين للعلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين بنظائر مثال استحباب الوضوء وانفعال ماء البئر (*).

(٢) يعني لا عقلا ولا شرعا. لكنّه على هذا التعميم يخرج عن التعارض موضوعا وحكما ، فالأولى إسقاط كلمة «أصلا» أو إبدالها بـ «عقلا» حتى تندرج صورة العلم الإجمالي في باب التعارض حكما كما سيأتي في التعليقة.

__________________

(*) لعل الأولى التمثيل للتعارض بالتضاد العرضي ـ الّذي هو خارج حقيقة عن التعارض وداخل فيه عرضا أي لدليل خارجي ـ بالصورة الأولى من هاتين الصورتين وهي مثال صلاتي الظهر والجمعة ، حيث إنه لا تنافي بينهما بعد تعددهما موضوعا ، وإمكان تشريع الوجوب لهما معا ، لكن الشارع لمّا لم يوجب يوم الجمعة إلّا إحداهما ، فكل من دليليهما يثبت مؤداه مطابقة ، وينفي مؤدى الآخر التزاما ، فيثبت التناقض بينهما بالدلالة الالتزامية ، فدليل وجوب الظهر يدل مطابقة على وجوبه والتزاما على عدم وجوب الجمعة ، وكذا العكس. ومن المعلوم أن هذا التناقض نشأ من الدليل الخارجي القائم على وحدة الفريضة في ظهر يوم الجمعة ، كما أن تضاد المتعلقين نشأ أيضا من هذا الدليل الخارجي ، إذ لا تضاد حقيقة بينهما ، والتضاد لم ينشأ إلّا من وحدة التكليف.

ونظير هذا المثال الماء القليل المتنجس المتمم كرّا بطاهر ، فإنه لا مانع عقلا من نجاسة المتمّم وطهارة متمِّمه ، لاستصحابهما. إلّا أنه ادّعي الإجماع على عدم كون الماء الواحد محكوما بحكمين ،

٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فتأمل.

وبالجملة : فبسبب الدليل الخارجي تندرج نظائر دليلي الظهر والجمعة في التعارض ، إذ به يتحقق التنافي بينهما وهو التناقض الناشئ من الدلالة الالتزامية ويجري عليهما أحكام التعارض.

وأما التمثيل لهذا القسم ـ أي : العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين ـ بمثل انفعال البئر واستحباب الوضوء نفسيا ـ ففيه : أنه وان كان في نفسه صحيحا ، لكنه أجنبي عن باب التعارض ، ضرورة أن مجرد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين لا يوجب تناقضا ولا تضادا في المتعلقين ولا في حكميهما حتى يصدق عليهما تعريف التعارض ، فان صدقه على الدليلين منوط بتناقضهما أو تضادهما حقيقة كالوجوب وعدمه أو الوجوب والحرمة ، أو عرضا كتناقض دليلي الظهر والجمعة الناشئ من حكم الشارع بكون الفريضة إحداهما ، فانه يوجب مناقضة مدلول كل منهما مطابقة لمدلول الآخر التزاما على التقريب المتقدم آنفا.

وكالتناقض الناشئ من الملازمة الشرعية بين حكمين كوجوب القصر والإفطار ، فإذا دلّ دليل على وجوب القصر مطابقة كان دالا على عدم وجوب الصوم التزاما ، كما أنه إذا قام دليل على وجوب الصوم مطابقة كان دالا على عدم وجوب القصر التزاما ، فيقع التعارض بين الدلالة المطابقية لكل منهما مع الدلالة الالتزامية للآخر ، فالقصر واجب بالدلالة المطابقية لأحد الدليلين وغير واجب بالدلالة الالتزامية للدليل الآخر ، وكذا الإتمام.

فصور التعارض التي تجري فيها أحكام التعارض منحصرة في تنافي الدليلين بالتناقض أو التضاد حقيقة كما مر آنفا ، أو عرضا إمّا لحكم الشارع بوحدة الحكم كما في مثال الظهر والجمعة ، وإمّا لحكمه بالملازمة بين حكمين كوجوب القصر والإفطار على ما مرّ آنفا.

وأما مجرد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين من دون حصول التنافي بينهما لا مطابقة ولا التزاما ـ كالدليلين الدالّ أحدهما على انفعال ماء البئر بالملاقاة والآخر على الاستحباب النفسيّ للوضوء ـ فلا يوجب اندراجهما في باب تعارض الخبرين وجريان أحكامه عليهما ، بل يعامل معهما معاملة العلم الإجمالي ، فإن كانا دالّين على الحكم الإلزامي كدلالة أحدهما على وجوب جلسة الاستراحة والآخر على حرمة شرب التتن جرى عليهما حكم العلم الإجمالي من لزوم الاحتياط بناء على كون العلم بجنس التكليف كالعلم بنوعه في التنجيز.

وإن كان أحدهما دالّا على الحكم الإلزامي والآخر على الترخيصي جرى فيه أصل البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف.

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وكيف كان فلنعد إلى ما وعدنا بيانه من اختلاف تفسير التعارض بما أفاده الشيخ والمصنف «قدهما» وعدمه ، ثم تعقيبه بما أورد على كل منهما ، فنقول وبه نستعين : قال شيخنا الأعظم : «وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما ، ولذا ذكروا ...» وقريب منه تعريف الماتن في الفوائد كما تقدم في (ص ١٩). وقال المحقق الميرزا الآشتياني «قده» : «وان كان الظاهر على ما صرّح به شيخنا الأستاذ في مجلس البحث عدم اتصاف المدلول به عندهم ، وكون هذا التعريف مبنيّا على الإشارة إلى كون تنافي الدليلين إنما هو باعتبار مدلوليهما» (١). وعلى هذا فقد تفطّن الشيخ الأعظم لعدم اتصاف المدلولين بالتعارض وإن اتّصاف بالتنافي والتمانع ، وأنّ التعارض وصف لنفس الدليلين والأمارتين. وهذه النكتة المحكية عن مجلس درسه الشريف جهة أُخرى في تعريف الشيخ للتعارض بتنافي الدليلين ، غير ما أفاده المصنف في حاشية الرسائل من وجهين تقدّما في التوضيح ، وهما : كون الوصف بحال الموصوف ، وخروج موارد التوفيقات العرفية.

وأما الفرق بين التعارض والتنافي ـ بنظر شيخنا الأعظم ـ فقد تقدم مجمله في التوضيح وأوضحه المحقق الأصفهاني «قده» في تعليقته بما محصله : أنّ التنافي ينسب تارة إلى المدلولين من الوجوب والحرمة أو الوجوب وعدمه ، وأخرى إلى الدليلين بما هما دليلان وحجتان ، فيكونان متنافيين في الحجية والدليليّة ، وثالثة إلى الدليلين بما هما كاشفان عن أمرين متنافيين لتلوّن الدال بلون المدلول لفنائه فيه. والتنافي وهو عدم الاجتماع في الوجود يكون في الأولين بالذات وفي الثالث بالعرض. أما تنافي الوجوب والحرمة فلوضوح امتناع اجتماعهما. وأما تنافي الدليلين والحجتين كذلك فلامتناع حجيتهما معا ، خصوصا إذا كانت الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل ، لأوله حينئذ إلى اجتماع الوجوب والحرمة الفعليين في موضوع واحد ، وهو محال.

وأما كون تنافي الدالين بما هما كاشفان بالعرض فلأنهما غير متمانعين في الوجود ، إذ ليس الكلام في الكاشفين القطعيين أو الظنيين بالظن الفعلي حتى يستحيل اجتماعهما بالذات ، بل في الكاشفين بالكشف النوعيّ ، ومن المعلوم إمكان اجتماعهما في الوجود ، إذ التنافي في مطابقهما لا في نفسهما ، ويكون توصيف الدال والكاشف بالتنافي بالعرض ، لما بين الكاشف والمنكشف من الاتّحاد جعلا واعتبارا. وعليه يكون تنافي المدلولين واسطة في عروض التنافي على الدالين ، لا واسطة في الثبوت.

والتعارض إن كان كالتنافي فهو ينسب إلى المدلول والدليل بالذات وإلى الكاشف بالعرض ،

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٤ ـ ٣

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لسراية حكم المدلول إلى الدال. وان كان التعارض أخص من مطلق التنافي ـ كما هو الصحيح ـ لعدم اتصاف المدلول كالوجوب والحرمة بالتعارض بل بالتمانع والتنافي ، وكذلك الحجية ، فإنّها لا توصف أيضا بالتعارض ، بل بالمنافاة وشبهها ، وإنما المتصف بالتعارض ما دلّ على الوجوب وما دلّ على الحرمة ، فيقال : «تعارض الخبران» لا «تعارض الحكمان» فهو من أوصاف الدال بما هو دال بالذات لا بالعرض وان كان تنافيهما بالعرض من جهة سرايته من المدلول إليهما.

وعليه يتجه ما أفاده الماتن من كون التعارض تنافي الدليلين في مقام الدلالة والإثبات ، خصوصا إذا كان التعارض من العرض بمعنى الإظهار ، فان لكل من الدالين المتنافيين ثبوتا ، ويظهر كل منهما نفسه على الآخر ، بخلاف المدلولين ، فإنّه لا ثبوت إلّا لأحدهما ، فلا معنى لإظهار كل منهما نفسه على صاحبه (١).

وبهذا البيان يظهر وجه تصرف شيخنا الأعظم في تحديد المشهور للتعارض بجعله تنافي الدليلين لا المدلولين. وليس وجهه ما أفاده المصنف في حاشية الرسائل من خروج موارد الحكومة عنه ، وإن كان الشيخ قد أخرج بعض تلك الموارد عن التعارض أيضا بعد اعتبار اتحاد الموضوع في المتعارضين.

وعلى هذا فالظاهر أن التعارض عند الشيخ والمصنف «قدس‌سرهما» بمعنى واحد من حيث اتصاف الدليل به لا المدلول ، ويكون تقابل المدلولين بالتناقض أو التضاد واسطة ثبوتية وحيثية تعليلية لتعارض الدليلين ، لا حيثية تقييدية وواسطة في العروض حتى يكون التعارض قائما بالمدلولين حقيقة ، وبالدليلين عناية وبالعرض.

وبهذا يظهر غموض ما في حاشية المحقق المشكيني «قده» من فرض تغاير تعريفي الشيخ والمصنف «قدهما» للتعارض ، وبيان الفرق بينهما بـ «كون التعارض من صفات نفس الدليلين حقيقة وان كان منشؤه هو تنافي المدلولين على الأوّل. ومن صفات المدلولين حقيقة على الثاني ، فيكون تنافي المدلولين على الأوّل من الحيثيات التعليلية وواسطة في الثبوت ، وتوصيف الدليلين به توصيفا بحال الموصوف ، ولا يصح سلبه عنه مثل توصيف الماء بالحرارة بواسطة النار. ومن الحيثيات التقييدية وواسطة في العروض ... على الثاني» (٢). وذلك لأن منشأ هذه التفرقة هو قول الشيخ بعد ذكر تنافي الدليلين : «باعتبار مدلولهما» مع أن هذه الكلمة تناسب كلّا من الحيثية التعليلية

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٤٠

(٢) كفاية الأصول المحشّاة بحاشية المحقق المشكيني ، ٢ ـ ٣٧٧

٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

التي التزم بها الماتن ، والحيثية التقييدية التي قال بها المشهور كما سبق بيانه في التوضيح.

ولا وجه لحمل هذه الكلمة على خصوص إرادة الحيثية التقييدية والواسطة في العروض مع التئامها مع كل من الحيثيتين ، خصوصا بعد تصريح الشيخ ـ على حسب حكاية تلميذه الثقة المحقّق الآشتياني «قده» ـ بكون التعارض وصفا للأدلة لا للمداليل. فلو سلِّمت قرينية كلمة «باعتبار مدلولهما» في كلام الشيخ الأعظم على إرادة الوساطة في العروض اتجه ذلك بالنسبة إلى كلمة التنافي والمنافاة وشبههما ، فان تنافي المدلولين وتمانعهما بالذات يسري إلى الدالين والحاكيين ، فيكون تنافي الكاشفين بالعرض ، وهذا لا ربط له بمادة التعارض الّذي لا يوصف به المدلولان أصلا ، إذ ليس المتصف بالتعارض إلّا نفس الأدلة كالخبرين المتصفين بالتعارض في الأخبار العلاجية.

فتحصّل من أول البحث إلى هنا : أن للتعارض تحديدين أحدهما للمشهور ، والآخر للشيخ والمصنف ومن تبعهما.

وأما عدول المصنف عن تعريف المشهور لإخراج موارد الجمع العرفي ، فأورد عليه أوّلا : بعدم التنافي بين المدلولين في تلك الموارد كما حكي عن المحقق النائيني «قده». أو في خصوص الورود والحكومة ، فإنّهما خارجان عن التعارض موضوعا ، وسائر موارد الجمع العرفي خارجة عنه حكما كما ذهب إليه المحقق العراقي (١). وعليه فلو كان التعارض بمعنى تنافي المدلولين لم ينتقض بموارد الجمع العرفي حتى يقتضي ذلك تفسيره بتنافي الدليلين أو التنافي في مقام الدلالة ، فالمراد بتنافي المدلولين تمانعهما في الصدق ، وهذا هو التعارض المستقر ، لا مطلق التنافي حتى البدوي الزّائل بإعمال النّظر العرفي.

وثانيا : بما أفاده شيخنا المحقق العراقي «قده» من أن تعريف المصنف وإن أخرج موارد الجمع العرفي عن موضوع التعارض ، لكن لا وجه لإخراج أحكام الجمع وتمييز موارده عن مقاصد الباب ، لمحض عدم إعمال المرجحات السندية أو التخيير في مواردها ، ليكون التكلم في أحكام الجمع وما يتعلق به في هذا البحث لمحض الاستطراد (٢).

لكن لا محذور في الاستطراد ، إذ لا بد من تمييز موارد الجمع العرفي عن غيرها ، والبحث عن موجبات قوة الظهور ، وحيث لم يبحث عنها في موضع آخر فلا مناص من تنقيحها في هذا المقصد.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٣٧٨ و ٣٨٣

(٢) مقالات الأصول ، ٢ ـ ١٨٤ ، نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٣٧١

٢٦

وعليه (١) فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما (٢) إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض (٣) والخصومة ، بأن (٤) يكون أحدهما قد سيق ناظرا

______________________________________________________

موارد خروج الجمع الدلالي عن تعريف التعارض :

الموارد الأول : حكومة أحد الدليلين على الآخر

(١) أي : وبناء على تعريف التعارض بتنافي الدليلين لا المدلولين لا تعارض بين الدليلين إذا كان المدلولان متمانعين متنافيين لكن لم يكن بينهما معارضة في مقام الدلالة والحجية. وهذه العبارة كما أنّها تبيّن وجه عدول الماتن عن تعريف المشهور للتعارض إلى تعريفه بتنافي الدليلين في مقام الدلالة كما سبق توضيحه في (ص ١٥) عند بيان الفرق بين التعريفين ، كذلك تبيِّن ثمرة التعريف المزبور ، وخروج موارد الحكومات والتوفيقات العرفية عن موضوع التعارض مما يتحقق فيه منافاة بين المدلولين ، لكنها لا تسري إلى دليل الحجية ، لإمكان الجمع العرفي بين المدلولين.

(٢) هذا الضمير وضميرا «بينهما» في الموضعين راجعة إلى الدليلين.

(٣) المقصود به تنافي المدلولين لا التعارض المصطلح عنده وهو تنافي الدليلين ، لأنه «قده» يريد إخراج موارد الحكومة ـ التي يتحقق فيها التنافي بين المدلولين لا الدليلين ـ عن تعريف التعارض ، فلا بد أن يراد بكلمة «التعارض» تنافي المدلولين حتى يتجه خروج موارد الحكومة عن التعارض المصطلح الّذي هو تنافي الدليلين.

(٤) هذا إشارة إلى تعريف الحكومة الرافعة لتعارض الدليلين. وقد سبق منّا توضيح الحكومة والورود والتوفيق العرفي ـ الشامل لهما وللتخصيص ولحمل الظاهر على الأظهر ، وحمل أحد الحكمين على الاقتضائي والآخر على الفعلي ـ في المقام الثاني من تتمة الاستصحاب (١) كما سبق شرح الحكومة وما يميِّزها عن التخصيص والورود في قاعدة «لا ضرر» (٢).

__________________

وليس الاستطراد في هذه الأمور فحسب ، لوجود جملة أخرى من المباحث التزموا بالبحث عنها استطرادا في علم الأصول ، لعدم البحث المستوفى عنها في مقامات أخرى ، فالمهم البحث عن كون التعارض تنافي الأدلة أو المداليل ، فلو اقتضت الصناعة تعريفه بتمانع الأدلة لم يكن إشكال الاستطراد موجبا للعدول عنه إلى تعريف المشهور.

__________________

(١) راجع الجزء السابع من هذا الشرح ، ص ٧٦٠ وما بعده

(٢) راجع الجزء السادس من هذا الشرح ، ص ٦١٤ إلى ٦١٦

٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ومع ذلك لا بأس ببيان معنى الحكومة ، فلعل الإعادة لا تخلو عن الفائدة ، فنقول : الحكومة هي كون أحد الدليلين ناظرا إلى دليل آخر ومتعرِّضا لبيان كمية موضوع ذلك الدليل الآخر تعميما أو تخصيصا ، فالتعميم يكون بإدخال ما ليس موضوعا في الدليل المحكوم بالتوسعة فيه وجعل فردٍ آخر لموضوع الحكم ، والتخصيص يكون بإخراج بعض أفراد موضوع الدليل المحكوم ورفع الحكم عن ذلك البعض. وسيأتي بيان مثالين للتعميم والتخصيص.

وهذا التعريف هو ما أفاده المصنف هنا وفي الحاشية والفوائد ، وهو موافق لما في كلمات شيخنا الأعظم «قده» ، لكن الماتن خالفه في أمر آخر ، وهو : أن ظاهر كلام الشيخ ـ بل صريحه ـ لزوم تقدّم صدور الدليل المحكوم على الدليل الحاكم. وناقشه المصنف بعدم اعتبار هذا القيد ، فلو سبق بيان الحاكم وتأخّر بيان المحكوم انطبق عليه ضابط الحكومة أيضا. فلنذكر أوّلا مثالين للحكومة وثانيا كلام الشيخ ، وثالثا إشكال المصنف عليه.

أما مثال الحكومة المضيِّقة المخصِّصة لموضوع الحكم في الدليل المحكوم فهو كما إذا دلّ دليل على أن «الشاك بين الثلاث والأربع يبني على الأربع» ودليل آخر على أن «كثير الشك ليس بشاك» فان الدليل الثاني حاكم على الأوّل ، لكونه رافعا لموضوعه ، فان الحكم بالبناء على الأربع حكم للشك على تقدير وجوده بنحو القضية الشرطية ، يعني «كلّما شك المصلِّي بين الثلاث والأربع ـ سواء كان كثير الشك أم قليله ـ وجب عليه البناء على الأربع» ودليل كثير الشك يهدم ذلك التقدير ، لدلالته على «أن كثير الشك ليس بنظر» الشارع من أفراد الشاك» فلا يثبت له حكم «الشاك بين الثلاث والأربع» من البناء على الأربع.

وهذه الحكومة المضيِّقة وإن كانت مشتركة مع التخصيص في كون كلّ من الحاكم والخاصّ ذا دلالة مستقلة على مضمونه ، إلّا أنها تفترق عن التخصيص بأن الحاكم ناظر إلى المحكوم ومتعرض لبيان كمية موضوعه ومتفرع عليه ، بخلاف الخاصّ ، فانه ليس متفرعا على العام.

٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مضافا إلى : أن لساني العام والخاصّ لسان المعارضة ، ولذا يكون تقديم الخاصّ على العام بحكم العقل من باب الأخذ بأقوى الدلالتين ، ولساني الحاكم والمحكوم لسان الملاءمة والمسالمة كما عرفت في المثال المتقدم ، حيث إن الدليل المحكوم يدل على ثبوت الحكم على تقدير وجود موضوعه ، ولا يدل على وجود ذلك التقدير أو عدمه ، والدليل الحاكم يهدم ذلك التقدير.

وأما مثال الحكومة الموسِّعة فهو : كما إذا دلّ الدليل على إناطة وجوب قصر الصلاة والإفطار بالمسافة الامتدادية ، ودلّ دليل آخر على أن المسافة التلفيقية هي المسافة الامتدادية ، فإنّ حكومة ما دلّ على موضوعية الثمانية التلفيقية موسِّعة لموضوع دليل حكم الثمانية الامتدادية. وللحكومة الموسعة والمضيقة في الفقه أمثلة كثيرة.

وأما عبارات الشيخ الأعظم «قده» في تحديد الحكومة فلاحظها في قاعدة لا ضرر وخاتمة الاستصحاب وأول بحث التعادل والترجيح ، قال في الموضع الأخير : «وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبيِّنا لمقدار مدلوله مسوقا لبيان حاله ... إلخ». وظاهر هذه الجملة الأخيرة اعتبار تقدم صدور المحكوم على الحاكم. وأظهر من هذه العبارة قوله بعد العبارة المتقدمة ـ المشتملة على ما دلّ على نفي الشك عن كثير الشك وعدم الشك بعد الفراغ عن العمل وغيرهما ـ : «فلو فرض أنه لم يرد من الشارع حكم الشكوك لا عموما ولا خصوصا لم يكن مورد للأدلة النافية لحكم الشك في هذه الصور» بل هذا الكلام صريح في اعتبار تقدم المحكوم على الحاكم في تحقق الحكومة (*).

__________________

(*) إذ بناء عليه يتفرع الحاكم على المحكوم تفرّع المفسِّر ، على المفسّر ، لأنه يبيِّن كمية موضوعه سعة وضيقا ، فلو لم يرد قبل الحاكم دليل كان الحاكم لغوا ، إذ لا معنى لأن يكون مبيِّنا لكمية موضوع ليس له عين ولا أثر. فقول الشيخ : «فلو فرض أنه لم يرد من الشارع حكم الشكوك ... إلخ» كالصريح في إرادة ورود المحكوم متقدما على الحاكم زمانا ، فإرادة التقدم عليه رتبة كما أفاده سيدنا الأستاذ «قده» (١) خلاف الظاهر ، ولا بد من مزيد التأمل.

__________________

(١) حقائق الأصول ، ٢ ـ ٥٥٢

٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ووجّهه المصنف في الحاشية بقوله : «ولعلّ منشأ توهم التفرع عليه واللغوية بدونه كون الحاكم بمنزلة الشرح ، وتبعيته للمشروح لا تحتاج إلى بيان وشرح» (١) وبيانه : أن الدليل الحاكم شارح فعلي للدليل المحكوم ، لأنه يتعرض لحاله ويبيِّن كمية موضوعه ، ومن المعلوم أن الشارح بالفعل منوط بالمشروح بالفعل ، لأنّ الشارحية والمشروحية متضايفتان ، والمتضايفان متكافئان في القوة والفعلية ، فلو لم يتقدم المشروح بالفعل لم يكن معنى للشارح بالفعل. وهذا البيان يقتضي استحالة تأخر المحكوم عن الحاكم ، لوحدة المتضايفين في القوة والفعلية ، وهذا غير اللغوية التي وردت في عبارة الشيخ ، فان اللغو ليس محالا في نفسه ، بل لقبح صدوره من الحكيم يمتنع وجوده.

ولكن المصنف ردّ هذا التوجيه في الحاشية وأورد على كلام شيخنا الأعظم كما في المتن بأن أظهر أفراد الحكومة ـ بنظره «قدس‌سره» ـ حكومة أدلة الأمارات على أدلة الأصول العملية ، مع أنه لا يلزم لغوية جعلها ولو لم تشرّع الأصول العملية إلى يوم القيامة بديهة ، لوجود الفائدة التامة في جعل الأمارات واستقلالها التام في الإفادة. وهذا شاهد على عدم اعتبار تقدم المحكوم على الحاكم أو تقارنه معه في انطباق ضابط الحكومة على الدليل الحاكم.

وأما التوجيه المتقدم عن الحاشية من اقتضاء الشارحية الفعلية وجود المشروح الفعلي ، فجوابه ـ أزيد مما تقدم في التوضيح ـ هو ما أفاده المحقق الأصفهاني بقوله : «ان التضايف بين الشارح بالذات والمشروح بالذات لا المشروح بالعرض. والمشروح المقوِّم للشارح في مقام شارحيته ـ وهو وجوده العنواني ـ له ثبوت فعلي بثبوت الشارح بالذات ، والمتأخر بالزمان هو المشروح بالعرض ، كالمعلوم بالذات والمعلوم بالعرض ، كما لا منافاة بين تأخر الشارح بالذات عن المشروح بالحمل الشائع بالزمان» (٢).

ولعلّ عبارة شيخنا الأعظم ناظرة إلى غالب موارد الحكومة من تقدم المحكوم زمانا على الحاكم ، أو إلى إرادة تقدمه ذاتا ، قال المحقق الآشتياني : «ولا يعتبر فيها تأخر الحاكم عن المحكوم كما ربما يتوهم من بيان شيخنا في الكتاب ...» (٣) لكنه ظاهر كلام الشيخ لو لا صريحه ، وليس إيهاما حتى يوجّه بالتقدم الذاتي أو الرتبي.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٥٧

(٢) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٤٣

(٣) بحر الفوائد ، ٤ ـ ٦

٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

بل أصل دعوى تفرع الحاكم على المحكوم ممنوعة ، فان الحاكم قد يكون ذا مفاد مستقل ، ولا نظر له إلى مدلول دليل آخر ـ بالمعنى الّذي يظهر من كلام الشيخ للنظر ـ ولأجل هذا التزم المصنف بورود أدلة الأمارات على أدلة الأصول العملية كما سبق شرحه في تتمة الاستصحاب ، فراجع كلماته هناك وفي الحاشية والفوائد (١).

وليعلم أن مناقشة الماتن في مقالة شيخنا الأعظم «قده» ـ من حكومة الأمارات على الأصول ـ أمران :

أحدهما : ما تقدم في آخر الاستصحاب وسيأتي في المتن قريبا من إنكار أصل حكومتها عليها ، لأن المعتبر عند الشيخ في حكومة أحد الدليلين هو النّظر ـ بمدلوله اللفظي ـ إلى مدلول الدليل المحكوم ، والمفروض فقدان هذا النّظر بين أدلة الأمارات والأصول.

ثانيهما : ما أفاده المصنف هنا بقوله : «مقدما أو مؤخرا» وحاصله ـ كما مر تفصيله ـ أنه على فرض انطباق ضابط الحكومة نقول : بعدم اعتبار سبق صدور المحكوم على الحاكم ، ولا يلزم لغويته لو صدر قبل المحكوم ، ولذا لا يكون جعل الأمارات لغوا قبل تشريع الأصول العملية ، فتأمل في كلمات المصنف كي لا تتوهم وحدة الإشكالين وأولهما إلى أمر واحد.

(بقي التنبيه) على بعض أحكام الحكومة ، وهو : أن قوام الحكومة حيث كان بتعرض الدليل الحاكم لما يراد من موضوع الدليل المحكوم تعميما أو تخصيصا ، فلذا تخرج مواردها عن موضوع التعارض كخروج موارد ورود أحد الدليلين على الآخر من جهة عدم تواردهما على موضوع واحد. فالدليل الحاكم يشبه القرينة المنفصلة من جهة والمتصلة من جهة أخرى.

أما كونه بنظر العرف في حكم القرينة المتصلة الحاكية مع ذيها عن معنى واحد فلأن الحاكم وإن كان منفصلا عن المحكوم وغير مانع عن ظهوره في مؤداه ، إلّا أنه بلحاظ شارحيته له لا يغاير مدلول المحكوم. وأما كونه كالقرينة المنفصلة ، فلأن المدلول وإن كان واحدا لبّا ، لعدم مغايرة الشارح للمراد من المشروح ، إلّا أن الدال على هذا المدلول الواحد متعدد ، لفرض الانفصال واستقرار ظهور كلا الدالين. وبهذا تصير الحكومة برزخا بين القرينة المنفصلة والمتصلة ، فمن حيث

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٥٦ و ٣٢٥

٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

وحدة المدلول تشبه المتصلة ومن حيث تعدد الدال تشبه المنفصلة.

ويترتب على هذا أمران :

أحدهما : تعيّن الأخذ بمدلول الحاكم بعد الفراغ عن إثبات حكومته وإن كان أضعف دلالة على مؤداه من المحكوم ، من غير ملاحظة النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم ، ولا ملاحظة قوة الظهور وضعفه ، بل يقدم الحاكم ـ بعد ثبوت نظره ـ ولو كانت نسبته إلى موضوع دليل المحكوم العموم من وجه. وهذا بخلاف باب التخصيص وسائر موارد الجمع ، فان تقديم الخاصّ والأظهر يكون بمناط تقديم أقوى الدلالتين ، ولذا يتوقف في تقديم الخاصّ في فرض مساواته للعام في الدلالة ، وقد يقدم العام على الخاصّ في المقدار الّذي كان العام نصّا فيه أو أقوى ظهورا من الخاصّ.

وبهذا تظهر جهة أخرى فارقة بين بابي الحكومة والتخصيص ، وهي : أن في باب الحكومة لا يخرج سند المحكوم عن الاعتبار حتى لو فرض اقتضاء دليل الحاكم طرح ظهور المحكوم رأسا بحيث لا يبقى تحت ظهوره شيء من مدلوله ، لأنه بعد شرح مراده بمفاد الحاكم كان بحكم القرينة المتصلة في تعيين المراد من الدليل المحكوم ، ودليل التعبد بسنده لا يلغى عن الاعتبار ، إذ ينتهي الأمر إلى العمل بمراده ولو بتوسيط شارحه. وهذا بخلاف باب الجمع الدلالي ، فان دليل الأظهر لا يكون شارحا لمراد العام ، بل العام الظاهر باق بعد على ظهوره في المراد منه مع احتمال كون المراد الواقعي على طبق ظهوره ، غاية الأمر أنّه يجب رفع اليد عن حجيته عند قيام حجة أقوى على خلافه ، ولازمه حينئذ بقاء مقدار من الدلالة بحاله لزوما ليكون هو المصحح للتعبد بسنده ، وإلّا يلزم طرح سنده أيضا ، لأنه في حكم التعبد بسند المجمل الّذي لا معنى له.

والحاصل : أن باب الحكومة الشارحة للمراد من ظهور آخر تختلف عن باب الجمع بين الدليلين المنفصلين بمناط الأظهرية وقوة الدلالة ، وعن باب القرائن المتصلة الشارحة للمراد والكاشفة عن المقصود باللفظ (١).

هذا ما أفاده شيخنا المحقق العراقي «قده» وهو في غاية المتانة بحسب الكبرى ، لكون الحاكم بمنزلة قرينة المراد. لكن الظاهر عدم الظفر به في أدلة الأحكام ، فان الحكومات فيها إما موسعة وإما مضيقة ، ويلحق الثاني حكم التخصيص من لزوم بقاء مورد للعمل بالعامّ والمحكوم.

الأمر الثاني : الظاهر عدم سراية إجمال الحاكم إلى المحكوم فيما لا يسري إجمال الخاصّ

__________________

(١) مقالات الأصول ، ٢ ـ ١٨٥ و ١٨٦ ، نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٣٨٢

٣٢

إلى بيان كمية ما أريد من الآخر (١) مقدّما (٢) كان أو مؤخّرا.

أو كانا (٣) على نحو إذا عُرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرف

______________________________________________________

(١) أي : من الدليل الآخر وهو الدليل المحكوم.

(٢) هذا و «مؤخرا» حالان من «الآخر» المراد به الدليل المحكوم ، واسم «كان» ضمير راجع إلى «الآخر» يعني : أن الحكومة ـ الرافعة للتعارض والخصومة ـ تتحقق فيما إذا سبق أحد الدليلين للنظر إلى الآخر ، سواء أكان زمان صدور الدليل المحكوم مقدما على الدليل الحاكم ـ كما يعتبره الشيخ الأعظم ـ أم مؤخرا. وهذه نقطة الخلاف بين الشيخ والمصنف في اعتبار سبق المحكوم على الحاكم وعدمه.

المورد الثاني : التوفيق العرفي

(٣) معطوف على «إذا كان» وبيان للمورد الثاني مما لا يكون فيه تمانع بين الدليلين في مقام الدلالة وإن كان التنافي بين نفس المدلولين ثابتا. وهذا هو التوفيق العرفي والحكومة العرفية بنظر المصنف ، لا الحكومة الاصطلاحية المنوطة بكون أحدهما ناظرا إلى الآخر وشارحا له.

وقد ذكر لهذا التوفيق العرفي فرضين : أحدهما : توفيق العرف بين الدليلين ـ المتعارضين بدوا ـ بالتصرف في أحدهما ، وثانيهما : بالتصرف في كليهما. والمقصود فعلا بيان الفرض الأول ، يعني : فلا تعارض بين الدليلين اللذين يكونان على نحو إذا عرضا

__________________

المردد بين الأقل والأكثر إلى العام ، لفرض حجية أصالة العموم في جميع أفراد العام ، والمزاحم لهذه الحجية هو القدر المتيقن من الخاصّ المجمل. وكذا الحال في باب الحكومة ، فإذا ورد «أكرم العالم» ثم ورد «العالم الفاسق ليس بعالم» فان إطلاق العالم في الدليل المحكوم شامل لمرتكب الصغيرة لا عن إصرار. والشارح وإن كان مجملا ، ولعله يتوهم سراية إجماله إلى المحكوم قضية للتضايف بين الشارح والمشروح ، إلّا أن الصحيح عدم سرايته ، لأن شارحية الحاكم مقصورة على مقدار دلالته ، والمفروض دلالته على الأقل وهو مرتكب الكبيرة ، وأما غيره فلا مزاحم لأصالة الإطلاق في دليل المحكوم ، فيؤخذ به.

هذا ما أفاده المصنف في الحاشية (١) وهو متين.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٥٨.

٣٣

في خصوص أحدهما (١) كما هو مطّرد (٢) في مثل الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأوّلية مع مثل الأدلة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار مما (٣) يتكفل لأحكامها بعناوينها الثانوية ، حيث (٤) يقدّم في مثلهما الأدلة النافية ، ولا تلاحظ

______________________________________________________

على العرف جمع بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما ، ولا يبقى متحيّرا في العمل بهما ، كما هو الحال في الأدلة المتكفلة للأحكام الأوّلية ـ كوجوب الوضوء ونحوه ـ مع الأدلة الثانوية النافية للعسر والحرج والضرر وغيرها ، فإنّها ترفع الأحكام الأوّلية ، فيرتفع وجوب الوضوء بدليل نفي العسر ونحوه إذا صار الوضوء ضرريّا أو حرجيا. فيصير الحكم الأوّلي اقتضائيا والحكم الثانوي فعليا.

وهذا الجمع هو المسمى بالتوفيق العرفي والحكومة العرفية ، وذلك مطّرد في جميع الأحكام الأولية والثانوية التي يكون بين موضوعاتها ترتُّب وطولية كوجوب الوضوء في المثال المتقدم ، فان موضوعه ـ وهو نفس الغسلتين والمسحتين ـ مقدم على عارضه من الضرر والحرج ونحوهما من العناوين الثانوية.

(١) هذا الضمير وضمير «بينهما» راجعان إلى «الدليلين».

(٢) هذا لا يخلو من تعريض بمختار الشيخ الأعظم «قده» القائل بحكومة أدلة نفى الضرر والحرج على أدلة الأحكام الأولية ، وقد نبّه المصنف عليه في قاعدة لا ضرر بقوله : «ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلة الأحكام ، وتقدم أدلته على أدلتها ، مع أنها عموم من وجه ، حيث إنه يوفق بينهما عرفا بأن الثابت للعناوين الأوّلية اقتضائي ... إلى أن قال : هذا ـ أي التقديم ـ ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله ، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله» فراجع.

(٣) بيان كـ «مثل الأدلة النافية» وضميرا «أحكامها ، بعناوينها» راجعان إلى «الموضوعات» والمقصود من الأدلة النافية هو نفي الضرر والحرج ورفع الإكراه والاضطرار ونحوها.

(٤) تعليل لقوله : «وفّق بينهما بالتصرف» يعني : أن العرف يوفِّق بينهما بأنه يقدِّم في

٣٤

النسبة بينهما أصلا (١) ، ويتفق (٢) في غيرهما (٣) كما لا يخفى.

أو بالتصرف (٤) فيهما ، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما ،

______________________________________________________

مثل العناوين الأولية والثانوية خصوص الأدلة النافية ، ويحمل أحكام العناوين الأوّلية على الاقتضائية والثانوية على الفعلية ، من غير ملاحظة النسبة بينهما ، فيقدم دليل حكم العنوان الثانوي على دليل حكم العنوان الأوّلي وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه. وعليه فيقدم دليل نفي الضرر على دليل وجوب الوضوء مع كون النسبة بينهما عموماً من وجه ، ويحكم بعدم وجوب الوضوء الضرري.

ولو كان بين هذين الدليلين تعارض كان اللازم إجراء قانون التعارض في المجمع في المتعارضين بالعموم من وجه ، فعدم رعاية ضابط التعارض فيه دليل على خروجهما عن باب التعارض موضوعا.

(١) غرضه أن عدم لحاظ النسبة دليل على عدم كونهما متعارضين ، وإلّا كان اللازم ملاحظة النسبة بينهما وإجراء أحكام التعارض في مورد الاجتماع.

(٢) معطوف على «مطرد» يعني : كما يتفق التوفيق العرفي بالتصرف في خصوص أحد الدليلين في غير أدلة أحكام العناوين الأوّلية والثانوية ، كما إذا كان أحد العنوانين بنظر العرف ـ ولو بمناسبة الحكم والموضوع ـ مقتضيا للحكم والآخر مانعا عنه ، نظير ما قيل (١) من : «أكرم العلماء ولا تكرم الفساق» فإنّ العرف يقدِّم حرمة الإكرام في العالم الفاسق على وجوب إكرام العلماء ، لما يراه من كون العلم مقتضيا لوجوب الإكرام والفسق مانعا عنه (*) مع عدم كون أحد العنوانين في طول الآخر كالعنوان الأوّلي والثانوي.

(٣) أي : غير العناوين الأوّلية والثانوية.

(٤) معطوف على «بالتصرف في خصوص أحدهما» وبيان للفرض الثاني للتوفيق

__________________

(*) لا يخلو من غموض ، إذ كما يكون العلم مقتضيا لوجوب الإكرام كذلك يكون الفسق مقتضيا لحرمته ، فيندرج مورد الاجتماع في تعارض المقتضيين ، فلا بد من إجراء أحكام التعارض فيهما ، ولا مجال للتوفيق العرفي بينهما بحمل «أكرم العلماء» على الحكم الاقتضائي و «لا تكرم الفساق» على الحكم الفعلي ، فيندرج مثل هذا المثال فيما اشتمل عليه بعض الأخبار العلاجية من الخبرين اللذين أحدهما يأمر والآخر ينهى.

__________________

(١) حقائق الأصول ، ٢ ـ ٥٥٣

٣٥

أو في (١) أحدهما المعيّن ولو كان من الآخر

______________________________________________________

العرفي والحكومة العرفية ، ولهذا الفرض صورتان ، إحداهما : كون مجموع الدليلين قرينة على التصرف في كليهما ، وثانيتهما : كون مجموعهما قرينة على التصرف في أحدهما المعين ، والمقصود فعلا بيان الصورة الأولى منهما ، وحاصلها : أن من الموارد الخارجة عن تعارض الدليلين ما إذا وفّق العرف بينهما بالتصرف في دلالتهما معا بأن يكون كل منهما قرينة على التصرف في الآخر ، ومثِّل له بما ورد من «أن ثمن العذرة سحت ، ولا بأس بثمن العذرة» بتقريب : أن العرف يوفّق بينهما بحمل العذرة في الأوّل بمناسبة الحكم والموضوع على عذرة الإنسان ، وفي الثاني على عذرة البهائم ، فان الحرمة تناسب عذرة الإنسان لنجاستها ، والجواز يناسب عذرة البهائم لطهارتها ، فيكون العذرة في دليل الحرمة كالنصّ في عذرة الإنسان وظاهرا في عذرة غيره ، وفي دليل الجواز كالنص في عذرة البهائم وظاهرا في عذرة الإنسان ، فيرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الآخر ، فتكون النتيجة حرمة بيع عذرة الإنسان وجواز بيع عذرة غيره ، هذا ما قيل (*).

(١) معطوف على «فيهما» وهذا إشارة إلى الصورة الثانية من الفرض الثاني من موارد

__________________

نعم يمكن التمثيل للتوفيق العرفي بما دلّ على انفعال الماء القليل بالملاقاة وما دلّ على عدم انفعال الماء ذي المادة بها ، فإن مورد الاجتماع ـ وهو القليل ذو المادة ـ محكوم بعدم الانفعال ، إذ المادة بنظر العرف كالكرّيّة من موانع الانفعال ، فيقدّم على أدلة الانفعال مع عدم طولية القلة والمادة كالعنوان الأوّلي والثانوي ، لكونهما في عرض واحد ، ومع ذلك يوفِّق العرف بينهما بحمل انفعال القليل بالملاقاة على الحكم الاقتضائي ، وحمل عدم انفعال ذي المادة على الحكم الفعلي.

(*) الظاهر أن من قال بهذا الجمع في المثال المذكور أراد أن يُدرجه في باب النص والظاهر وجعل الأوّل قرينة على التصرف في الثاني. لكن الظاهر أجنبيّة المثال عنه ، لكون التيقن الّذي أُريد به النص هنا ناشئا من أمر خارجي وهو الحكم ، لا من نفس اللفظ مع الغض عما يترتب عليه من الحكم ، والمفروض أن لفظ «العذرة» في كلا الدليلين أمّا نصّ في معنى وإمّا ظاهر فيه ، ولا يمكن أن يكون في أحد الدليلين نصا في معنى وفي الآخر نصّا في معنى آخر. إلّا أن يلحق التيقن الخارجي بالنص الّذي نشأت نصوصيته من نفس اللفظ.

ولكن هذا الإلحاق يحتاج إلى الدليل ، ومع فرض عدم الدليل على الإلحاق يكون مقتضى الجمع الدلالي بينهما الحمل على الكراهة الشديدة لو لم يقم دليل على خلافه ، ولم يثبت اختصاص موارد استعمال «السحت» بخصوص الحرام.

٣٦

أظهر [ولو كان الآخر أظهر] (*)

______________________________________________________

التوفيق العرفي الخارجة عن باب التعارض ، وحاصلها : أنه قد يوفق العرف بين الدليلين بالتصرف في أحدهما المعين وإن كان أظهر من الآخر ، كما إذا لزم من التصرف في الدليل غير الأظهر قلة المورد له أو عدمه ، كما إذا قال : «أكرم الأمير ولا تكرم الفساق» فان دلالة الثاني على معناه وإن كانت بسبب الوضع أظهر من دلالة الأوّل على معناه لكونه بالإطلاق ، لكن الدليل الأوّل يقدم عليه في مورد الاجتماع ـ وهو الأمير الفاسق ـ ويحكم بوجوب إكرامه ، إذ التصرف في «أكرم الأمير» بعدم وجوب إكرام الأمير الفاسق يوجب قلة أفراده ، واختصاص وجوب الإكرام بالأمير العادل ، وهو إما معدوم وإما نادر ملحق به ، فلا محيص حينئذ من التصرف في «لا تكرم الفساق» مع أظهريته ، وإخراج الأمير الفاسق عن دائرته. وكيف كان فقد أخرج المصنف «قده» موارد عديدة عن باب التعارض :

أحدها : الحكومة.

ثانيها : التوفيقات العرفية التي منها : التصرف في أحد الدليلين بالخصوص كما في أدلة أحكام العناوين الأوّلية ، فإنّ المطّرد هو التصرف فيها بحملها على الاقتضائية ، وإبقاء أدلة أحكام العناوين الثانوية على ظاهرها من الفعلية.

ومنها : التصرف في كلا الدليلين.

ومنها : التصرف في أحدهما المعين وإن كان أظهر من الآخر من حيث الدلالة ، وذلك لجهة خارجية توجب ذلك كلزوم عدم مورد أو قلّته للدليل الآخر الظاهر لو لم يتصرف في الأظهر ، وقد مرّ آنفا مثال هذا وما قبله.

__________________

(*) لا يخفى اختلاف نسخ الكفاية في المقام ، ففي بعضها «ولو كان الآخر أظهر» وفي بعضها «لو كان الآخر أظهر» بإسقاط الواو ، وفي بعضها كحاشية العلامة الرشتي «قده» (١) : «ولو كان من الآخر أظهر». وهذا هو الصواب والملائم لكلمة «ولو» الوصلية على تقدير اشتمال العبارة عليها ، لدلالتها على الفرد الخفي. إذ مقتضى القاعدة التصرف في الدليل الظاهر بقرينة الدليل الأظهر ، فالتصرف في الأظهر يعدّ فردا خفيّا من التوفيقات العرفية بين الدليلين ، ومقتضى الإيجاز إسقاط كلمة «من الآخر» بأن يقال : «ولو كان أظهر».

ولو كانت عبارة المتن هكذا : «أو في أحدهما المعين لو كان الآخر أظهر» كان المراد بها العام

__________________

(١) هو العالم الجليل الشيخ عبد الحسين من تلامذة المصنف «قدهما».

٣٧

ولذلك (١) تقدم الأمارات المعتبرة على الأصول الشرعية (٢) ، فانه (٣) لا يكاد

______________________________________________________

(١) أي : ولأجل كون الدليلين على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما ـ بالتصرف في أحدهما المعيّن من دون أن يرى تهافتا بينهما ـ تقدّم الأمارات المعتبرة غير العلمية على الأصول الشرعية من الاستصحاب وغيره ، حيث أن العرف لا يرى موضوعا للأصول مع قيام الدليل والأمارة على وفاقها أو خلافها ، فان موضوع أصالة الحل مثلا هو مشكوك الحل والحرمة ، والخبر المعتبر الدال على الحرمة يرفع الشك الّذي هو موضوع أصالة الحل ، وتدخل الحرمة في الغاية ـ وهي قوله عليه‌السلام : «حتى تعلم أنه حرام» ـ وتخرج عن المغيّا وهو قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال».

وكذا الحال في الاستصحاب ، فان رفع اليد عن اليقين السابق بالخبر المعتبر غير العلمي القائم على خلافه ليس نقضا لليقين بالشك ، بل هو من نقض اليقين باليقين ، وهذا التوفيق العرفي هو المسمّى بالورود.

(٢) تقييد الأصول بالشرعية لأجل إخراج الأصول العقلية ، فانه لا خلاف بين الشيخ والمصنف «قدس‌سرهما» في ورود الأمارات عليها ، وإنما الخلاف بينهما في وجه تقدم الأمارات على الأصول الشرعية ، فالشيخ يقدّمها بالحكومة والمصنف بالورود ، وعليه يكون التقييد بالشرعية ناظرا إلى كلام الشيخ.

(٣) الضمير للشأن ، وهذا بيان وجه التوفيق العرفي ، ومحصله : أن ضابط التعارض ـ وهو تحيّر العرف في الجمع بين الدليلين ـ مفقود هنا ، حيث إنّه لا يلزم من تقديم الأمارات على الأصول محذور ـ وهو تخصيص أدلة الأصول الشرعية ـ أصلا ، لأن التخصيص إخراج حكمي مع حفظ الموضوع كقوله : «أكرم الأمراء إلّا زيدا» مع كون زيد من الأمراء. وفي المقام لا يكون دليل الأمارة مخصّصا لدليل الأصل ، بل يكون رافعا

__________________

والخاصّ والمطلق والمقيد وغيرهما من الدليلين اللذين يكون أحدهما أظهر من الآخر ، فان المتعين حينئذ التصرف في غير الأظهر. والظاهر بل المعلوم عدم إرادة مثل العام والخاصّ من هذه العبارة ، لأنه صرّح بخروج العام والخاصّ والمطلق والمقيد ومثلهما بعد ذلك بقوله : «ولا تعارض» أيضا إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ... مثل العام والخاصّ والمطلق والمقيد أو مثلهما ... إلخ» فالمتعين أن يكون الصواب ما ضبطه العلامة الرشتي «قده» وقد تقدم آنفا.

٣٨

يتحير أهل العرف (*) في تقديمها (١) عليها بعد ملاحظتهما ، حيث (٢) لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا. بخلاف العكس (٣) ، فانه يلزم منه محذور

______________________________________________________

لموضوعه ، فليس هنا إلّا دليل واحد وهو الأمارة ، دون دليلين حتى يتحير العرف في الجمع بينهما ، وسيأتي عند شرح كلمات المصنف مزيد توضيح لذلك إن شاء الله تعالى.

(١) أي : في تقديم الأمارات على الأصول ، وضمير «ملاحظتهما» راجع إلى «الأمارات والأصول».

(٢) بيان لوجه عدم تحير العرف ، وحاصله ـ كما مر آنفا ـ هو : عدم لزوم محذور من تقديم الأمارات على الأصول أصلا ، لارتفاع موضوع الأصول بها إمّا وجدانا بناء على حجية الأمارات ببناء العقلاء ، حيث إنّها تفيد الاطمئنان الّذي هو علم عادي نظامي. وإمّا تعبدا بناء على حجيتها من باب تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف شرعا ، فان الشك الّذي هو موضوع للأصول يرتفع في كلتا الصورتين ، فيبقى دليل الأمارة حينئذ بلا مانع ، لعدم لزوم محذور تخصيص في دليل الأصل بعد انتفاء موضوعه ، وهو المراد بقوله : «حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا». وضمير «منه» راجع إلى «تقديمها».

(٣) وهو تقديم الأصول الشرعية على الأمارات ، حيث إنه يلزم من هذا التقديم محذور وهو التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر.

أمّا الأوّل فتقريبه : أن خبر الثقة إذا قام على حرمة شرب المتن مثلا كان حجة ، لكونه

__________________

(*) فيه : ان عدم تحير العرف وإن كان مسلّما ، لكنه ليس لأجل الجمع بينهما كما هو مقتضى الجمع العرفي ، بل إنما هو لأجل عدم الموضوع لأحد الدليلين المانع عن جريانه والموجب لانحصار الدليل في الآخر ، فموضوع تحيّر العرف في موارد ورود أحد الدليلين على الآخر مفقود.

وإرادة المعنى العام للتوفيق العرفي ـ وهو مطلق الجمع بين الدليلين ـ لا تجدي في توجيه قوله «قده» : «ولذلك تقدم الأمارات المعتبرة ... إلخ» حيث إن معنى هذا الكلام «وللتوفيق العرفي تقدّم» وقد عرفت عدم الموضوع لهذا التوفيق في الدليلين الوارد أحدهما على الآخر. بل لا سبيل لإرادة هذا المعنى العام هنا ، لأنه «قده» جعل تقديم الأمارة على الأصل من التوفيق العرفي بمعناه الأخص ، لا معناه العام الشامل للحكومة والتخصيص والورود ، فتأمل في العبارة.

ثم إن في التعبير بالتخصيص هنا مسامحة بناء على إرادة الورود المصطلح كما سبق التنبيه عليه في باب الاستصحاب ، فلاحظ.

٣٩

التخصيص بلا وجه أو بوجهٍ دائر (١) كما أشرنا إليه في أواخر الاستصحاب (٢).

وليس (٣) وجه تقديمها حكومتها ،

______________________________________________________

مشمولا لعموم أدلة حجية خبر الواحد ، والبناء على عدم اعتباره حينئذ تخصيص لعموم أدلة حجيته اقتراحا ومن دون وجه ، إذ لا موجب لرفع اليد عن الحجية وهي أصالة العموم.

وأما الثاني فبيانه : أن عدم حجية الخبر الدال على حرمة شرب التتن مثلا ـ وخروجه عن عموم دليل حجيته مع كونه فردا فعليا له ـ منوط بمخصّصيّة دليل الأصل له ، ومن المعلوم توقف مخصصيته على حجيته حتى يصلح لتخصيص الحجة وهي أصالة العموم ، وحجيته أيضا موقوفة على مخصصيته ، إذ لا سبيل إلى رفع اليد عن أصالة العموم إلّا بمخصّصيّة دليل الأصل لها ، فتوقف المخصصية على الحجية وبالعكس دور.

(١) قد عرفت تقريب كليهما. وقد سبق توضيحه ببيان أوفى في بحث الاستصحاب فلاحظ ما ذكرناه هناك (١).

(٢) قال : «المقام الثاني أنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده ... والتحقيق انه للورود ... إلخ» فانه قد ذكر هناك أمرين : أحدهما ورود الأمارة على الاستصحاب. ثانيهما لزوم إشكال من تقدم الاستصحاب على الأمارة ، وهو عدم الوجه في تقديمه عليها إلّا على وجه دائر.

ثم إنه «قده» قد ذكر في أواخر هذا المقام الثاني : «وأما التوفيق فان كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق ، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له» وهذا الكلام قرينة على إرادة الورود من التوفيق العرفي هنا ، فلا يرد عليه أن هذا التوفيق العرفي ينافي ما اختاره هناك من ورود الأمارة على الاستصحاب. لكن هذا الوجيه لا يخلو من شيء كما بيّناه في التعليقة.

(٣) يعني : وليس وجه تقديم الأمارات على الأصول الشرعية حكومة الأمارات عليها كما ذهب إليه الشيخ «قده» حيث إنه قال بعد بيان ورود الأمارات على الأصول العقلية : «وان كان مؤداه ـ أي مؤدى الأصل ـ من المجعولات الشرعية كالاستصحاب ونحوه كان ذلك الدليل حاكما على الأصل بمعنى أنه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل».

ومحصل تقريب الحكومة التي عرفت ضابطها من عبارة الشيخ التي نقلناها سابقا (في صفحة ٢٩) هو كون أحد الدليلين متعرِّضا بمدلوله اللفظي لحال الدليل الآخر ورافعا

__________________

(١) الجزء السابع ، ص ٧٦٤ إلى ٧٦٧

٤٠