منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

التعرّض لهذه الصورة (١) ـ فالحكم (٢) هو إطلاق التخيير ، فلا تغفل (٣).

وقد أورد بعض (٤) أعاظم تلاميذه عليه : بانتقاضه بالمتكافئين من حيث

______________________________________________________

غيره من الرجوع إلى إطلاقات التخيير ، فلاحظ الأخبار العلاجية.

(١) وهي صورة مزاحمة المرجح الصدوري والجهتي.

(٢) هذا جواب «ومع عدم» واقترانه بالفاء لتضمن ما قبله معنى الشرط ، يعني : ومع عدم دلالة أخبار العلاج ـ على حكم مزاحمة المرجّح الصدوري ـ فالمحكّم إطلاقات أدلة التخيير.

(٣) يعني : لا تغفل عمّا ذكرناه ـ من عدم ترتيب المرجحات ورجوع جميعها إلى السند ـ حتى لا تقع فيما وقع غير واحد فيه من تخيّل تقدم المرجح الصدوري على الجهتي.

(٤) وهو المحقق الميرزا حبيب الله الرشتي في بدائعه. والأولى نقل عبارته ثم بيان محصّل إيراده على أستاذه «قدهما» قال بعد نقل جملة من كلام الشيخ الأعظم ما لفظه : «أما مخالفته لصاحب الوافية «ره» في تقديم الصفات على الشهرة ففي محلها ... وأما موافقته في تقديمها على مخالفة العامة. فإن استند فيه أيضا إلى النصين المذكورين كما يقتضيه طريقة صاحب الوافية فالجواب الجواب ... وإن استند فيه إلى مقتضى القاعدة ـ كما في الرسالة ـ ففيه بحث ومنع ، لأنّ السؤال الّذي أورده سديد والجواب غير مفيد ، لأنّه منقوض بالمتكافئين ، إذ لو لم يكن لتصديق الخبر ثم حمله على التقية معنى معقولا لكونه إلغاء له في المعنى وطرحا له في الحقيقة ، فيلزم من دخوله تحت أدلة التصديق خروجه ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو باطل ، فكيف يتعقل الحمل على التقية في صورة التكافؤ وفقد المرجح؟ بل لازم ذلك اختصاص هذا المرجّح بالقطعي ، وعدم جريانه في الظني. وهو مع وضوح فساده كما سبق مناف لمختاره من عدم اختصاصه بالقطعي.

ولعمري أن تقديم الصفات على مخالفة العامة من حيث القاعدة ـ لا لأجل التعبد بالأخبار كما هو بصدده ـ من غوامض العلوم التي يقصر عن إدراكها أفهامنا.

بل الأمر في المقام دائر بين أمرين ، إمّا عدم ثبوت هذا المرجح في الظنيّين رأسا ولو لم يكن له معارض من المرجحات ، أو تقديمه على مرجحات السند قطعا ، لوضوح أنّ الخبر

٣٢١

الصدور ، فإنّه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث (١) الصدور (٢)

______________________________________________________

الموافق للعامة لا يخلو في الواقع ونفس الأمر إمّا صادر عن الإمام ، فيدخل تحت قوله «عليه‌السلام» : ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقية ، وإمّا غير صادر فلا معنى للتعبد بالكاذب غير الصادر ، فكيف يتعقل العمل به عند التعارض؟ ... إلى أن قال : فاحتمال تقديم المرجّحات السندية على مخالفة العامة ـ مع نصّ الإمام عليه‌السلام على طرح ما يوافقهم ـ من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدوره عن ذي مسكة فضلا عمن هو تال العصمة علما وعملا ...» (١).

ومحصّل إشكاله على الشيخ «قده» القائل بتقدّم المرجح الصدوري على الجهتي هو النقض بالمتكافئين صدورا ، كما إذا فرض تساوي رواتهما في العدالة والوثاقة والفقاهة مثلا ، فإنّ التعبد بصدور الخبرين مع حمل أحدهما على التقية إن كان ممكنا فأيّ فرق فيه بين المتكافئين سندا ـ اللذين صرّح الشيخ بكون مورد الترجيح بمخالفة العامة مقطوعي الصدور كالمتواترين أو مظنوني الصدور المتكافئين سندا ـ وبين مظنوني الصدور المتخالفين صدورا ، كما إذا كان المرجّح الصدوري في الخبر الموافق للعامّة دون الخبر المخالف لهم ، فإنّه بناء على مذهب الشيخ ـ من اعتبار الترتيب بين المرجّحات ـ لا بدّ من تقديم الخبر الموافق للعامة حينئذ على الخبر المخالف لهم المشتمل على المرجّح الجهتي ، لفرض عدم وصول النوبة إليه.

وإن لم يكن التعبد بصدور الخبرين المتكافئين ـ مع حمل أحدهما على التقية ـ ممكنا فلا وجه للالتزام بصدورهما مع حمل أحدهما على التقية في المتخالفين أيضا.

والحاصل : أنّه لا وجه للتفكيك بين المتكافئين صدورا وبين المتخالفين كذلك ، بالالتزام بصدور الخبرين في الأوّل وحمل أحدهما على التقية ، والالتزام بصدور خصوص الراجح منهما صدورا في الثاني. هذا تقريب إشكال الميرزا الرشتي على الشيخ «قدهما».

(١) متعلق بـ «المتخالفين».

(٢) يعني : من حيث وجود المرجح الصدوري في أحد المتخالفين صدورا دون الآخر كما هو المفروض ـ مع حمل أحدهما على التقية.

__________________

(١) بدائع الأفكار المقام الرابع ، في ترتيب المرجحات ، ص ٤٥٧.

٣٢٢

مع حمل أحدهما على التقية لم يعقل (١) التعبد بصدورهما (٢) مع حمل أحدهما عليها (٣) ، لأنّه (٤) إلغاء لأحدهما أيضا (٥) في الحقيقة.

وفيه (٦) : ما لا يخفى

______________________________________________________

(١) جواب «لو» ، وضمير «أحدهما» راجع إلى «المتخالفين».

(٢) أي : بصدور المتكافئين من حيث الصدور اللّذين التزم الشيخ بصدورهما وحمل الموافق منهما للعامة على التقية ، وجعلهما مورد الترجيح بالمرجح الجهتي.

(٣) أي : على التقية ، وضمير «أحدهما» راجع إلى «المتكافئين».

(٤) تعليل لعدم تعقل التعبد بصدور المتكافئين مع حمل أحدهما على التقية. ومحصل التعليل : أنّ التعبد الّذي لا يترتب عليه أثر إلّا الحمل على التقية ـ التي هي طرح الخبر وإلغاؤه ـ غير معقول ، إذ يلزم من وجود التعبد عدمه. مضافا إلى لغوية مثل هذا التعبد.

(٥) يعني : كما أن حمل الموافق للعامّة على التقية في المتكافئين صدورا إلغاء له حقيقة.

(٦) هذا دفع إشكال الميرزا الرشتي على الشيخ «قدهما» ومحصل دفعه ـ كما أفاده في الحاشية (١) أيضا ـ هو : أنّ ورود النقض المذكور على الشيخ «قده» مبنيّ على أن يكون مراده من التعبد بالخبرين التعبد الفعلي والحجية الفعلية ، إذ لو كان هذا مراده فالنقض المذكور وارد عليه ، ضرورة أن الحجية الفعلية مفقودة في كلّ من المتكافئين والمتفاضلين ، حيث إن دليلها إمّا أدلّة حجية خبر الواحد ، وإمّا أخبار العلاج. وشيء منهما لا يقتضي حجية المتعارضين فعلا. أمّا الأوّل فواضح ، إذ مقتضاه حجية كل خبر بعينه ، وهذا غير ممكن في صورة التعارض. وأمّا الثاني فلأن مقتضاها حجية أحدهما تعيينا مع المرجّح ، وتخييرا مع تساويهما وتكافئهما ، لا حجية كليهما فعلا.

وأمّا لو كان مراد الشيخ «قده» في المتكافئين صدورا هو تساويهما بحسب دليل الاعتبار ـ لا الحجية الفعلية ـ فمن المعلوم أنّ التساوي من هذه الجهة ـ أي إمكان الحجية ـ موجود في المتكافئين دون المتفاضلين ، لأنّ مقتضى أخبار العلاج هو حجية خصوص ذي المزيّة تعيينا ، فلا يتساوى الخبران من حيث دليل الاعتبار في المتفاضلين ، ويتساويان في

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٨٣.

٣٢٣

من (١) الغفلة وحسبان أنّه التزم قدس‌سره في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار (٢) تساويهما من حيث الصدور ، إمّا للعلم بصدورهما ، وإمّا للتعبد به فعلا. مع (٣) بداهة أنّ غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبدا تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور وقطعا ، ضرورة (٤) أن دليل

______________________________________________________

المتكافئين صدورا ، ولا يمكن التعبد بصدور أحدهما دون الآخر ، وعدم التعبد بصدور الآخر ، فيكونان كمقطوعي الصدور في عدم المرجح الصدوري ، فتصل النوبة حينئذ إلى المرجّح الجهتي الّذي هو متفرع على أصل الصدور كما أفاده الشيخ «قده» ، فلا مورد للنقض المذكور ، للفرق الواضح بين المتكافئين صدورا ، لعدم مورد للترجيح الصدوري فيهما ، بل لا بد من الترجيح بالمرجح الجهتي ، بخلاف المتفاضلين صدورا ، فلا بد من تقديم ذي المرجّح الصدوري على الآخر.

(١) بيان لـ «ما» الموصول ، و «حسبان» معطوف على «الغفلة» وضمير «انه» راجع إلى الشيخ ، وعليه كان المناسب تقديم «قدس سرّه» على «التزم» إذ لا يناسب جعل ضمير «أنه» للشأن.

(٢) متعلق بـ «التزم» غرضه : أنّ إشكال الميرزا الرشتي على الشيخ «قدهما» نشأ من تخيّل أنّ الشيخ «قده» التزام في مورد الترجيح بالجهة باعتبار صدورهما فعلا المحرز بالوجدان أو التعبد. ولذا أورد عليه النقض بأن الحكم بصدور الخبرين المتكافئين مع حمل أحدهما على التقية إن كان ممكنا أمكن ذلك أيضا في الخبرين المتخالفين صدورا ، فاللازم الحكم بصدورهما أيضا وحمل أحدهما على التقية ، مع عدم التزام الشيخ بذلك ، بل التزم بترجيح ذي المرجّح الصدوري على فاقده.

(٣) هذا تنبيه على عدم صحة التخيل المزبور ، وأنّ مراد الشيخ «قده» من التساوي من حيث الصدور تعبّدا هو إمكان التعبد ، والحجية الإنشائية ، لا التعبد الفعلي حتى يقال : بعدم تعقّل الحجة الفعلية في المتعارضين مطلقا سواء كانا متكافئين صدورا أم متخالفين كذلك.

(٤) تعليل لكون غرض الشيخ التساوي من حيث الصدور شأنا لا فعلا.

٣٢٤

حجية الخبر (١) لا يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين (٢) ، بل ولا بأحدهما (٣). وقضية (٤) دليل العلاج ليس إلّا التعبد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا.

______________________________________________________

(١) وهي الأدلّة العامة الدالة على حجية خبر الواحد ، فإنّها لا تقتضي حجية كليهما ولا أحدهما ، لا معيّنا لعدم الترجيح ، ولا مخيّرا لعدم كونه فردا للعام.

(٢) أي : بالمتعارضين المتكافئين من حيث الصدور.

(٣) أمّا عدم التعبد الفعلي بالمتعارضين فللتعارض الّذي لا يمكن معه حجية المتعارضين فعلا ، وأمّا عدم التعبد الفعلي بأحدهما تعيينا وتخييرا فلما مرّ آنفا.

(٤) غرضه : أنّه لا دليل على التعبد الفعلي بالمتكافئين صدورا ، لأنّ الدليل على الحجية منحصر في الأدلة العامة القائمة على حجية أخبار الآحاد ، وفي الأخبار العلاجية. وشيء منهما لا يدلّ على حجيتهما فعلا. أمّا الأدلّة العامة فلما مر آنفا (في التوضيح رقم.). وأمّا الأخبار العلاجية فلأنّها لا تقتضي إلّا حجية أحدهما تعيينا أو تخييرا ، فلا محيص عن إرادة إمكان حجية المتكافئين صدورا ، لا فعليّتها.

فصارت النتيجة : أنّ مراد الشيخ «قده» إمكان حجية المتعارضين سواء أكانا متكافئين صدورا أم مختلفين كذلك. إلّا أن تفرّع جهة الصدور على أصل الصدور وكذا الأخبار الآمرة بالترجيح بالمرجّح الصدوري أوجبا ارتفاع إمكان شمول دليل الاعتبار للمرجوح في غير المتكافئين ، لوجود المرجّح الصدوري في غير المرجوح الموجب لشمول دليل التعبد للراجح صدورا وإن كان موافقا للعامة ، دون المرجوح صدورا وإن كان مخالفا للعامة.

وهذا بخلاف صورة تكافؤ المتعارضين صدورا ، لبقاء إمكان شمول دليل الحجية لهما مع الغض عن المرجّح الجهتي. وإيراد صاحب البدائع «قده» مبني على اعتبار التعبد الفعلي بصدورهما في مورد الترجيح بالمرجح الجهتي مع تكافئهما صدورا. وقد عرفت أنّ مراد الشيخ إمكان التعبد بالمتعارضين ، لا فعليته.

٣٢٥

والعجب كل العجب أنه (١) رحمه‌الله لم يكتف بما أورده من النقض حتى ادّعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح (٢) على الترجيح به ، وبرهن (٣) عليه بما حاصله : «امتناع التعبد بصدور الموافق ، لدوران (٤) أمره بين عدم صدوره من أصله ، وبين صدوره (٥) تقية ، ولا يعقل التعبد به على التقديرين (٦) بداهة ،

______________________________________________________

برهان امتناع تقديم المرجح الصدوري على الجهتي

(١) أي : أنّ بعض الأعاظم من تلامذة الشيخ وهو المحقق الرشتي لم يكتف. ومحصل ما أفاده من دعوى استحالة تقديم المرجح السندي على الجهتي خلافا للشيخ ـ القائل بتقدّم الأرجح صدورا إذا كان موافقا للعامة على غيره وإن كان مخالفا للعامة ـ هو القطع بعدم إمكان شمول دليل اعتبار الخبر للخبر الموافق للتقية ، لدوران أمره بين عدم صدوره رأسا وبين صدوره تقية. وعلى التقديرين لا يعقل حجيته كعدم تعقّل حجية الخبر الموافق للعامة إذا كان قطعيّ الصدور ، لامتناع التعبد بصدور ما علم بصدوره ، وجدانا ، بل صحة التعبد به منوطة بالشك في صدوره.

(٢) أي : المرجح الجهتي ، والمراد بغيره هو المرجّح الصدوري. وضمير «به» راجع إلى «هذا المرجح» وهو المرجح الجهتي ، وغرضه : دعوى استحالة تقديم المرجّح الصدوري على الجهتي ، وهذا التقديم هو مدعى الشيخ.

(٣) يعني : وبرهن المحقق الرّشتي «قده» على دعوى هذه الاستحالة بامتناع ترجيح الأرجح صدورا الموافق للعامة على الخبر المخالف لهم ، لأنّ أمر الموافق للعامة دائر بين عدم صدوره رأسا ، وبين صدوره تقية ، وعلى التقديرين لا يعقل التعبد به كما مرّت الإشارة إليه آنفا.

(٤) تعليل لامتناع التعبد بصدور الموافق ، وقد تقدم توضيحه.

(٥) هذا الضمير وضمائر «أمره ، صدوره ، به» راجعة إلى «الموافق».

(٦) وهما عدم الصدور أصلا ، أو صدوره تقية بداهة ، لعدم أثر شرعي يصح التعبد بلحاظه.

٣٢٦

كما أنّه لا يعقل التعبد (١) بالقطعي الصدور الموافق ، بل الأمر في الظنّي الصدور (٢) أهون ، لاحتمال عدم صدوره (٣) بخلافه (٤)». ثم قال (٥) : «فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة ـ مع نصّ الإمام عليه‌السلام على طرح موافقهم (٦) ـ من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة فضلا عمن هو تال العصمة علما وعملا». ثم قال : «وليت شعري أن هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه؟ مع أنّه في جودة النّظر يأتي بما يقرب من شقّ القمر».

وأنت خبير بوضوح فساد برهانه (٧) ،

______________________________________________________

(١) لامتناع اجتماع الإحراز التعبدي مع الإحراز الوجداني.

(٢) كما هو المفروض ، إذ مورد البحث هو الخبر الظني الصدور الواجد للمرجحات الصدورية ، يعني : أنّ امتناع التعبد بصدور الظني أسهل من امتناعه في القطعي ، لما ذكره من احتمال عدم الصدور في الظني ، وانتفائه في القطعي الصدور ، فإذا رفعنا اليد عن القطعي الموافق للعامة ، فرفع اليد عن الظني أسهل.

(٣) أي : عدم صدور الظني الصدور.

(٤) أي : بخلاف القطعي الصدور ، فإنّ رفع اليد عنه ـ لقطعية صدوره وانتفاء احتمال عدم الصدور فيه ـ أصعب من رفع اليد عمّا فيه احتمال عدم الصدور.

(٥) يعني : بعض الأعاظم من تلامذة الشيخ ، وهو المحقق الرشتي «قده».

(٦) كقوله عليه‌السلام في مصحح عبد الرحمن بن أبي عبد الله : «فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه».

(٧) وهو : امتناع التعبد بالخبر الموافق للعامة لأجل دوران أمره بين الاحتمالين ، وهما : عدم صدوره ، وصدوره للتقية. لكنه ليس كذلك ، لدورانه بين احتمالات ثلاثة ، أعني الاحتمالين الأوّلين ، واحتمال صدوره لبيان حكم الله الواقعي ، ومن المعلوم أن احتمال صدور الموافق يخرج التعبد به عمّا ادّعاه الميرزا الرشتي «قده» من الامتناع وعدم المعقولية ، لكفاية احتمال الصدور في شمول أدلة حجية الخبر له ، إذ المانع عن الشمول

٣٢٧

ضرورة (١) عدم دوران أمر الموافق بين الصدور تقيّة وعدم الصدور رأسا ، لاحتمال (٢) صدوره لبيان حكم الله واقعا ، وعدم (٣) صدور المخالف المعارض له أصلا ، ولا يكاد (٤) يحتاج في التعبد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك (٥) بداهة (٦).

______________________________________________________

ـ وهو العلم بالكذب ـ مفقود مع فرض احتمال صدور الموافق ، وعدم صدور الخبر المخالف المعارض له أصلا.

(١) تعليل لوضوح فساد برهانه الّذي أقامه على عدم معقولية التعبد بصدور الخبر الظني الموافق للعامة ، وقد مر توضيحه آنفا بقولنا : «لدورانه بين احتمالات ثلاثة».

(٢) تعليل لنفي دوران أمر الموافق بين أمرين ، وإثبات دورانه بين أمور ثلاثة.

(٣) معطوف على «صدوره» يعني : ولاحتمال عدم صدور الخبر المخالف للعامة المعارض للخبر الموافق لهم أصلا.

(٤) غرضه من هذه العبارة : إثبات إمكان التعبد بالخبر الموافق ، في قبال الامتناع الّذي ادّعاه المحقق الرشتي «قده» وحاصله : أنّ احتمال الصدور المفروض وجوده كاف في صحة التعبد.

وبعبارة أخرى : كلام المصنف يشتمل على كبرى وصغرى ، فالكبرى هي أن المناط في حجية كل خبر واحد هو احتمال صدقه وكذبه ، فلو علم صدق الخبر أو كذبه لم يكن مجال التعبد بالصدور. والصغرى هي أنّ الخبر الموافق للعامة لا علم بكذبه ولا بصدقة ، بل يحتمل إصابته بالواقع ، ونتيجة ذلك شمول أدلة الاعتبار ـ من الأدلة الأوّلية والثانوية ـ للخبر الموافق للعامة ، لوجود المقتضي وفقد المانع.

(٥) أي : لبيان الحكم الواقعي ، وبهذا الاحتمال يعقل التعبد به ، وتصير احتمالاته ثلاثة.

وإنّما يدور احتمال الخبر الموافق بين الاثنين ـ وهما الصدور تقية وعدم الصدور رأسا ـ فيما إذا كان الخبر المخالف قطعيّا من جميع الجهات أي الصدور والجهة والدلالة ، ضرورة أنّ الظنّي الموافق يدور أمره حينئذ بين هذين الاحتمالين ولا ثالث لهما.

(٦) قيد لـ «يحتاج».

٣٢٨

وإنما دار احتمال الموافق بين الاثنين (١) إذا كان المخالف قطعيّا صدورا وجهة ودلالة ، ضرورة (٢) دوران معارضه (٣) حينئذ (٤) بين عدم صدوره وصدوره تقية ، وفي غير هذه الصورة (٥) كان دوران أمره بين (٦) الثلاثة (٧) لا محالة ، لاحتمال (٨) صدوره (٩) لبيان الحكم الواقعي حينئذ (١٠) أيضا (١١).

ومنه (١٢) قد انقدح إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم

______________________________________________________

(١) كما أفاده المحقق الرشتي «قده» فإنّ الدوران بين الاحتمالين إنما هو فيما إذا كان المخالف قطعيّا صدورا وجهة ودلالة.

(٢) تعليل لقوله : «وإنما دار».

(٣) وهو الخبر الموافق الّذي يعارضه الخبر المخالف القطعيّ من جميع الجهات.

(٤) أي : حين قطعيّة الخبر المخالف من جمع الجهات الثلاث.

(٥) يعني : غير صورة قطعيّة الخبر المخالف من الجهات الثلاث ، كما إذا كانا ظنّيين من جميع الجهات ، أو كان المخالف قطعيّا سندا ودلالة وظنّيا جهة ، أو قطعيا سندا وظنيا دلالة وجهة ، أو قطعيّا دلالة وظنيا سندا وجهة ، إلى غير ذلك من الصور المتصورة التي لا تنافي ثلاثيّة احتمالات الخبر الموافق للعامة من عدم صدوره ، أو صدوره للتقية أو لبيان الحكم الواقعي.

(٦) خبر «كان» وضمير «أمره» راجع إلى «الموافق».

(٧) المتقدمة ، وهي عدم صدور الموافق ، وصدوره تقية ، أو لبيان الحكم الواقعي.

(٨) تعليل لدوران أمر الخبر الموافق بين الثلاثة المتقدمة.

(٩) أي : صدور الموافق للعامة لبيان الحكم الواقعي.

(١٠) أي : حين عدم كون الخبر المخالف قطعيّا من جميع الجهات.

(١١) قيد «لاحتمال صدوره» يعني : أنّ احتمال صدور الموافق لبيان الحكم الواقعي موجود ، كوجود احتمال عدم الصدور وصدوره تقيّة.

(١٢) أي : ومما ذكر ـ من تعقل التعبد بالظني الموافق ، ومنع ما أفاده المحقق الرشتي من

٣٢٩

الواقعي أيضا (١) ، وإنّما لم يكن التعبد بصدوره (٢) لذلك (٣) إذا كان معارضه

______________________________________________________

عدم تعقّله ، حيث التزم بانحصار أمر الخبر الموافق في احتمالين ، وهما عدم صدوره وصدوره تقية ـ قد ظهر الإشكال في مقايسة الظني الموافق بالقطعي الموافق في عدم تعقل التعبد الصدور ، وأنّه لا وجه لمنع تعقل التعبد في شيء من الموافق القطعي والظني ، وذلك لوضوح كفاية احتمال الصدور الموافق لبيان الحكم الواقعي في الموافق القطعي في صحة التعبد به وشمول دليل الاعتبار له ، غاية الأمر أنّ في الموافق الظني احتمالات ثلاثة : عدم الصدور ، والصدور تقية ، والصدور لبيان الحكم الواقعي. وفي الموافق القطعي احتمالين : صدوره تقيّة ، وصدوره لبيان الحكم الواقعي. وكثرة الاحتمال وقلّته لا توجبان الفرق بينهما في تعقل التعبد وعدمه.

والحاصل : أنّ البرهان الّذي أقامه الميرزا الرشتي «قده» على عدم تعقل التعبد بالخبر الظني الموافق ، وقياسه بالقطعي الصدور بقوله : «كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق ... إلخ» غير سديد ، لإمكان التعبد بصدور الموافق القطعي كما عرفت مفصلا (*).

(١) يعني : كإمكان التعبد بصدور الموافق الظني.

(٢) أي : بصدور الموافق القطعي ، غرضه : أنّ عدم تعقل التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي كما ذكره بقوله المتقدّم آنفا : «كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق» إنّما يكون فيما إذا كان الخبر المعارض المخالف له قطعيّا سندا ودلالة ، إذ يتعين حينئذ حمل الموافق القطعي على التقية.

(٣) أي : لبيان الحكم الواقعي.

__________________

(*) بل الظاهر أنّه لا يلزم محذور من التعبد بالخبر الموافق للعامة من اللغوية أو الامتناع العقلي ، وهو لزوم عدم حجيته من وجود حجيته. وجه عدم اللزوم هو : أنّ الخبر الموافق حجة شأنية يتضمن حكما واقعيا اضطراريا ثانويا ، والخبر المخالف يتضمّن حكما واقعيّا أوّليّا ، ولا تنافي بينهما في الحجية. غاية الأمر أنّ الحكم في الخبر المخالف فعليّ وفي الموافق شأني ، فلا يلزم من شمول دليل حجية الخبر الموافق العامة طرحه.

وعليه يندرج الخبر المخالف الموافق في الخبرين المتعارضين اللذين يشملهما دليل اعتبار الخبر ، غاية الأمر أنّ الموافق يبيّن الحكم الواقعي الثانوي ، والمخالف يبيّن الحكم الواقعي الأوّلي.

٣٣٠

المخالف قطعيّا بحسب السند والدلالة (*) لتعيين (**) حمله على التقية حينئذ (١) لا محالة. ولعمري أنّ ما ذكرناه (٢) أوضح من أن يخفى (٣) على مثله ، إلّا أنّ الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للإنسان ، عصمنا الله من زلل الأقدام والأقلام في كل ورطة ومقام (***).

______________________________________________________

(١) أي : حين قطعيّة الخبر المخالف للعامة ، وضمير «حمله» راجع إلى «الموافق».

(٢) أي : أنّ ما ذكرناه ـ من ردّ ما أفاده المحقق الرشتي ـ ممّا لا ينبغي أن يخفى على مثله ، إلّا أنّ النسيان لا يفارق الإنسان ، بل هو كالطبيعة الثانية له.

(٣) هذا من العبارات المشهورة التي لم يظهر لها إلى الآن معنى يصح الركون إليه بالنظر إلى القاعدة الأدبية من اشتراك المفضّل والمفضّل عليه في المبدأ ، فإنّ هذه القاعدة لا تنطبق عليه ، إذ معناه : أن ما ذكرناه أوضح من الخفاء ، وهذا كما ترى.

__________________

(*) الأولى إضافة الجهة إلى الدلالة أيضا ، إذ مع ظنيّة الجهة لا يتعين حمل الموافق على التقية ، لدوران أمره بين الثلاثة : عدم الصدور ، والصدور تقيّة ، والصدور لبيان الحكم الواقعي ، إذ من المحتمل صدور المخالف لمصلحة أخرى غير بيان الواقع.

(**) كيف يتعين حمله على التقية مع احتمال صدوره وعدم إرادة ظاهره ، لمصلحة هناك؟

(***) الظاهر سلامة ما أفاده المحقق الرشتي عما أورده المصنف «قدهما» عليه. أمّا اعتراضه على كلام الشيخ ـ من تقديمه المرجع الصدوري على المرجح الجهتي ـ فلا يندفع بما أفاده الماتن من دوران أمر الخبر الموافق للعامة بين احتمالات ثلاثة ، وذلك بعد الإمعان في جملة من كلام الميرزا الرشتي ، وهو قوله : «وتوضيح المقام : أن موافقة العامة إمّا هي من المرجحات الخارجية بناء على غلبة الباطل في أخبارهم وأحكامهم ، أو من المرجحات الجهتية الباعثة على حمل الكلام الصادر من الإمام على التقية ، ولا إشكال في تقديمها على الصفات بناء على الأوّل ، كما هو «قده» معترف بذلك ، حيث صرّح في غير موضع بأن المرجحات الخارجية مقدّمة على الصفات ، وأنّ هذا المرجح أيضا على الوجه المذكور حكمه حكم المرجحات الخارجية ، فانحصر تقديم الصفات عليها على الوجه الثاني ، وهو غير معقول ، لأنّ مورد هذا المرجح هو الخبر المقطوع ، لاختصاص دليله به ، ومقتضاه

٣٣١

ثم إن هذا (١) كلّه إنّما هو بملاحظة

______________________________________________________

(١) المشار إليه هو ما تقدم من الأبحاث المتعلقة بكون مخالفة العامة مرجحا جهتيا ، وتقدمها على المرجح الصدوري كما عن الوحيد البهبهاني ، وبالعكس كما عن الشيخ ، أو

__________________

عدم العمل بموافق العامة مطلقا قطعيا كان أو ظنيا ، إذ لا فرق بينهما إلّا احتمال عدم الصدور في الثاني دون الأول ، وبداهة العقل قاضية بأنّ احتمال عدم الصدور لو لم يكن منشأ لعدم التعبد فلا يصلح منشأ للتعبد ، سواء كان راويه جامعا للصفات المرجحة ، أو كان سنده كذلك أو لم تكن ، فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة ... إلخ».

ومحصله : أن مخالفة العامة لا تخلو إمّا أن تكون من المرجحات الخارجية ، وإمّا من المرجحات الداخلية. فإن كانت كموافقة الكتاب مرجحا خارجيا فالمفروض اعتراف شيخنا الأعظم بتقديمها على المرجح الصّدوري. وإن كانت مرجحا داخليا كشهرة الرواية فالخبر الموافق للعامة بالنظر إلى أدلة الترجيح ـ لا الأدلة الأوّلية على حجية الخبر ، لعدم شمولها لحال التعارض كما مرّ ـ يدور بين عدم الصدور أصلا والصدور بداعي الجدّ ، وهو ساقط عن الاعتبار ، لاندراجه في قوله عليه‌السلام : «إذا سمعت منّي ما يشبه قول الناس ففيه التقية» بعد وضوح عدم إرادة مطلق الشباهة ، للاشتراك في كثير من الأحكام ، وانحصار مورد الرواية بالمتعارضين.

نعم تطرّق الاحتمالات الثلاثة ـ المذكورة في المتن ـ في الخبر الموافق للعامة إنما يتجه بالنظر إلى الدوران الواقعي مع قطع النّظر عن أخبار الترجيح ، إذ كما يحتمل عدم صدور الموافق أصلا وصدوره ، تقية ، كذلك يحتمل صدوره لبيان الحكم الواقعي ، إلّا أنّ مفروض الكلام سقوط الأدلة الأوّلية ، واستناد حجية أحد الخبرين تعيينا أو تخييرا إلى الأخبار العلاجية ، وهي تقتضي ترجيح أصالة الجهة في الخبر المخالف للعامة على أصالة الجهة في الخبر الموافق لهم ، وأنّه على تقدير صدوره واقعا محمول على التقية ، ومعه لا يحتمل صدوره لبيان الحكم الواقعي حتى يسلم كلام الشيخ عمّا أورده المحقق الرشتي عليه.

وأما ما أفاده المصنف ـ من حمل كلام الشيخ في المتكافئين على الحجية الإنشائية لا الفعلية ، لأنه لا دليل عليها لا من الأدلة الأوّلية ولا من أدلة العلاج ، فكيف يلتزم بها الشيخ حتى ينتفض بما أورده المحقق الرشتي عليه؟ ـ فهو حمل له على خلاف ظاهره ، إذ لو كان غرضه أصل الإنشاء لم يكن إطلاق دليل الحجية بالنسبة إلى تلك المرتبة مستلزما للخلف في المتفاضلين أيضا.

٣٣٢

أنّ هذا المرجح (١) مرجح من حيث الجهة.

______________________________________________________

عدم تقدم أحد المرجحين على الآخر ، وكون المناط في التقدم حصول الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع كما هو مختار المصنف «قده» وغرضه : أنّ هذه الأبحاث مبنيّة على كون مخالفة العامة مرجّحا جهتيّا ، توضيحه : أنّ في الترجيح بمخالفة العامة احتمالات قد نبّه عليها الشيخ والمصنف «قدهما».

الأوّل : كون الترجيح بها تعبدا محضا.

الثاني : كون الترجيح بها لحسن مخالفتهم بحيث لوحظت المخالفة معنى اسميّا.

وتقديمها على سائر المرجحات بناء على هذين الاحتمالين منوط بدليل يدل على الترجيح بهذا المرجح.

الثالث : كون الترجيح بها لغلبة الحق في الخبر المخالف لهم ، فتكون المخالفة حينئذ من المرجحات المضمونية كموافقة الكتاب والشهرة الفتوائية.

الرابع : كون الترجيح بها لأجل الظن بصدور الموافق للتقية ، وتكون المخالفة حينئذ من المرجحات الجهتية. وعلى هذا الاحتمال يجري نزاع نقدم المرجح الجهتي ـ المنطبق على مخالفة العامة ـ على المرجح الصدوري وعدمه.

(١) أي : أنّ مخالفة العامة مرجّح من حيث الجهة ، لا من حيثية أخرى وهي كون المخالفة من المرجحات الدلالية الموجبة لأقوائيّة دلالة الخبر المخالف من دلالة الموافق ، ببيان : أنّ في الخبر الموافق احتمالين :

أحدهما : صدوره للتقية التي هي إرادة ظاهر الكلام من باب الكذب الّذي سوّغه الشرع لمصلحة أقوى من مفسدة الكذب.

ثانيهما : إعمال التورية فيه بإرادة الحكم الواقعي الّذي هو خلاف ظاهره بدون قرينة عليه ، كإرادة الوجوب من كلمة «ينبغي» بناء على ظهورها في الندب ، وإرادة الحرمة من كلمة «لا ينبغي» بناء على ظهورها في الكراهة.

فعلى الاحتمال الأوّل تكون مخالفة العامة من المرجحات الجهتية. وعلى الاحتمال الثاني ـ المؤيّد بوجود التورية إمّا بوجوبها على الإمام عليه‌السلام ، وإمّا بأليقيّتها بشأنه «عليه‌السلام» إذ لم يقل أحد بوجوب الكذب على الإمام تعيينا عن مصلحة في مقام التقية ـ

٣٣٣

وأمّا (١) بما هو موجب لأقوائية دلالة ذيه (٢) من معارضه ـ لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه (٣) التقية دونه ـ فهو (٤) مقدّم على جميع مرجحات الصدور بناء على ما هو المشهور (*) من تقدم التوفيق بحمل الظاهر على (٥) الأظهر على الترجيح بها (٦).

______________________________________________________

تكون المخالفة مرجحا دلاليّا ، لإيجابها ضعف دلالة الموافق وظهوره في معناه ، وقوّة دلالة المخالف وظهوره ، فيصير المخالف حينئذ ، أظهر من الموافق ، لانسداد باب التورية فيه ، وانفتاحه في الموافق ، فقدّم على الموافق من باب تقدم الأظهر على الظاهر.

وقد أفاد هذا في الحاشية بقوله : «وأما بناء على أن يكون الترجيح بها ـ أي بمخالفة العامة ـ لأجل كشفها عن أقربية مضمون المخالف إلى الحق ، فهي بهذه الاعتبارات من المرجحات المضمونية ، وسيأتي من المصنف تقديمها على المرجحات الصدورية ...».

(١) معطوف على «بملاحظة» يعني : وأمّا إذا لوحظت المخالفة من حيث كونها موجبة لأقوائيّة الدلالة ... إلخ ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «لا من حيثية أخرى ، وهي كون المخالفة ... إلخ».

(٢) أي : ذي المرجح ، وضمائر «معارضة ، دونه ، فهو» راجعة إلى «ذيه».

(٣) أي : في المعارض ، والمراد بالمعارض هو الخبر الموافق للعامة.

(٤) جواب «وأمّا» يعني : وأمّا مخالفة العامة ـ بما أنّها موجبة لأقوائية ذيها ـ فهي مقدّمة على جميع مرجحات الصدور ، ولا يقدم شيء منها على المرجح الجهتي بناء على ما هو المشهور من تقدم التوفيق العرفي ـ الّذي منه حمل الظاهر على الأظهر ـ على الترجيح بمرجحات الصدور طرّا. وغرضه : أن باب التوفيق العرفي أجنبي عن باب التعارض الّذي يجري فيه نزاع تقدم المرجح الجهتي على الصدوري وبالعكس.

(٥) متعلق بـ «بحمل» ، وقوله : «بحمل» متعلق بـ «التوفيق».

(٦) أي : بمرجحات الصدور ، و «على الترجيح» متعلق بـ «تقدم».

__________________

(*) وذهب المحقق النائيني «قده» إلى تقديم المرجّح الصدوري على المرجح الجهتي

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والمضموني ، فيقدّم الخبر المشهور على الخبر المخالف للعامة أو الموافق للكتاب مستدلا عليه بما حاصله : أن استنباط الحكم الشرعي من الخبر الواحد يتوقف على أمور أربعة مترتبة :

الأوّل : كون الخبر صادرا عن الإمام عليه‌السلام.

الثاني : كونه ظاهرا في المعنى.

الثالث : كونه صادرا لبيان الحكم الواقعي ، لا لجهة أخرى من تقية ونحوها.

الرابع : كون مضمونه تمام المراد لا جزءه.

والمتكفل لإثبات الأمر الأوّل أدلّة حجية الخبر ، وللثاني العرف واللغة ، وللثالث بناء العقلاء على حمل الكلام على كونه صادرا بداعي إفادة المراد النّفس الأمري ، وللرابع الأصول اللفظية العقلائية كأصالة عدم التخصيص وقرينة المجاز ونحوهما.

ولا يخفى أنّ التعبد بجهة الصدور فرع التعبد بالصدور والظهور ، كما أنّ التعبد بكون المضمون تمام المراد فرع التعبد بجهة الصدور ، بداهة أنّه لا بد من فرض صدور الخبر لبيان حكم الله الواقعي حتى يتعبد بكون مضمونه تمام المراد لا جزءه. ولا وجه لإرجاع جميع المرجحات إلى الصدور ، فإنّ المرجح الجهتي والمضموني يرجعان إلى تخصيص الأصول العقلائية المقتضية لكون الكلام صادرا لبيان المراد وكونه تمام المراد. والمرجح السندي كالشهرة يرجع إلى تخصيص أدلة حجية خبر الواحد المقتضية لصدور الخبر ، فإرجاع جميع المرجحات إلى الصدور بمعنى كونها مخصّصة لأدلة حجية الخبر الواحد مما لا سبيل إليه ، لاستلزامه جعل مخصّص دليل مخصّصا لدليل آخر ، وهو كما ترى.

وما أفاده صاحب الكفاية من ـ أنّه لا معنى للتعبد بصدور الخبر الّذي لا بدّ من حمله على التقية ، بل لا بد من الحكم بعدم صدور الخبر الموافق للعامة ـ فيه : أنّ الحمل على التقية على قسمين ، فتارة يكون في الخبر الموافق لهم قرائن الصدور تقيّة وإن لم يكن له معارض ، وأخرى لا يكون فيه ذلك ، بحيث لو لم يكن له معارض كان حجة ومشمولا لأدلّة الاعتبار كما هو مفروض البحث في تعارض الخبرين ، ولم يكن مجرد موافقته للعامة موهنا له. وما يكون مرجّحا لأحد الخبرين هو هذا القسم الثاني ، ومن المعلوم أنّ مجرد الموافقة لهم لا يوجب عدم صدور الخبر الموافق لهم ، فيقع التعارض بين الموافق للعامة وبين المخالف لهم ، ومن البديهي أن التعارض فرع شمول دليل الاعتبار ، هذا (١).

__________________

(١) فوائد الأصول ، ٤ ـ ٢٩٠

٣٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأورد عليه المحقق العراقي «قده» بما محصله : أنّ نفس الترتيب بين الأمور المعتبرة في حجية الخبر تقتضي كون المرجحات الجهتية راجعه إلى المرجحات السندية ، وذلك لأنّ مفروض الكلام في الخبرين المتعارضين اللذين لا دليل ـ بعد ـ على حجية شيء منهما بعد سقوط الأدلّة الأوّلية ، بل تتوقف حجية أحدهما تعيينا أو تخييرا على عناية أخرى تتكفلها أخبار العلاج ، ومن المعلوم أن الترجيح بمخالفة العامة ونحوه من مرجحات الجهة يتوقف على إحراز موضوعه الّذي هو كلام الإمام عليه‌السلام ، فإنّ المحمول على التقية كلامه عليه‌السلام المحرز صدوره منه ، لا كلام غيره ، والمفروض في باب التعارض عدم إحراز هذا الموضوع لا وجدانا ولا تعبدا حتى يرجّح الخبر المخالف للعامة على الخبر الموافق.

أمّا عدم إحراز كلام المعصوم وجدانا فواضح ، وأمّا عدم إحرازه تعبدا فلسقوط المتعارضين عن الحجية الفعلية ، وعدم شمول عموم دليل السند ـ فعلا ـ لواحد منهما ولا مرجّح لسند أحدهما على الآخر حتى يتعبد بصدور المخالف منه عليه‌السلام.

وبعبارة أخرى : جعل الترجيح بمخالفة العامة في طول المرجح السندي موقوف على إحراز صدور الخبر من الإمام عليه‌السلام ـ ولو تعبدا ـ حتى يرجّح الخبر المخالف للعامة على الموافق لهم ، وإحراز هذا الأمر ممتنع في المتعارضين الظنيّين ، لأنّ أدلة اعتبار السند إمّا هي الأدلّة الأوّلية على حجية خبر الواحد ، وإمّا الأدلة الثانوية وهي أخبار العلاج.

وشيء منهما غير جار في المقام ، أمّا الأدلّة الأوّلية فلامتناع شمولها للمتعارضين كما مر مرارا.

وأمّا الأدلّة الثانوية فلفرض عدم مرجح سندي يقتضي التعبد الفعلي بصدور المخالف حتى يسند مضمونه إلى الإمام ، ويحكم بترجيحه على الموافق من جهة مرجحية المخالفة للعامة على الموافقة لهم.

فإن قلت : إنّ عمومات أدلة اعتبار خبر الواحد شاملة لكل واحد من الخبرين المتعارضين مع قطع النّظر عن معارضه ، فتكون الحجية الاقتضائية موضوعا للترجيح بالجهة في الخبر المخالف للعامة.

قلت : لا تجدي هذه الحجية الشأنية للتعبد الفعلي بالمرجح الجهتي ، فإنّ موضوعه هو كلام الإمام عليه‌السلام ، ولا يحرز هذا الموضوع بحجية الخبرين اقتضاء ، حتى يترتب عليه أثره الّذي هو التعبد

٣٣٦

اللهم (١) إلّا أن يقال : إنّ باب احتمال التورية وإن كان مفتوحا فيما احتمل فيه التقية ، إلّا أنّه (٢) حيث كان بالتأمل والنّظر

______________________________________________________

(١) غرضه إنكار كون مخالفة العامة موجبة لأقوائيّة الدلالة ـ وإخراجها عن التوفيق العرفي ـ بعدم كون التورية قرينة على إثبات أظهريّة الخبر المخالف للعامة من الخبر الموافق ، وذلك لأنّ باب احتمال التورية وإن كان مفتوحا في الموافق ومسدودا في المخالف ، إلّا أنّ التورية ليست جليّة كالقرائن اللفظية أو العقلية المنسبقة إلى الأذهان بلا تأمّل ونظر ، كاللوازم البيّنة بالمعنى الأخص التي لا يحتاج الالتفات إليها إلى إعمال نظر حتى تكون قرينة عرفية على التصرف في الخبر الموافق ، وتوجب أظهرية المخالف ، وتخرج مخالفة العامة عن المرجحات الجهتية ، وتدرجها في المرجحات الدلالية. وعلى هذا فمخالفة العامة مرجح جهتي لا دلالي حتى تتقدم على جميع المرجحات من الصدورية وغيرها.

(٢) يعني : إلّا أنّ التورية حيث كانت بالتأمّل والنّظر ـ ولم تكن كالقرائن العقلية الحافة بالكلام ـ لم توجب أظهريّة معارضه وهو الخبر المخالف للعامة حتى يتقدّم على معارضه الموافق بالأظهرية.

__________________

بترجيح أصالة الجهة فيه على أصالة الجهة في الخبر الآخر الموافق للعامة.

وعلى فرض كفاية مجرّد اقتضاء الحجية لذلك نقول : إنّ أصالة الجهة بعد أن كانت من آثار الكلام الواقعي للإمام لا من آثار التعبد به فلازم الترجيح بها هو تقديم هذا المرجح على المرجح السندي ، لاقتضاء دليل الترجيح بها في الخبر المخالف للعامة للعلم الإجمالي في الخبر الموافق لهم إمّا بعدم صدوره أو بوجوب حمله على التقية ، ومع هذا العلم الإجمالي لا مجال لترجيح سنده في فرض وجود مرجح سندي فيه (١).

وعليه فالحق ما في المتن بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة. وأما بناء على الاقتصار عليها فالظاهر رعاية الترتيب بينها من شهرة الرواية وموافقة الكتاب ومخالفة العامة. وان كان المعتمد في الترجيح مصحح عبد الرحمن فالمرجح منحصر في موافقة الكتاب ثم مخالفة العامة.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٤٥٠.

٣٣٧

لم يوجب (١) أن يكون معارضه أظهر بحيث يكون قرينة على التصرف عرفا في الآخر ، فتدبر (٢).

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : الترجيح بالظهور مختص بما إذا كان اللفظ بحسب الدلالة اللفظية أظهر ولو بواسطة القرائن ، لا من جهة الظهور الوضعي بالخصوص. وأمّا الاحتمالات العقلية غير المرتكزة في أذهان العرف فلا تجعل اللفظ بحسب قالبيته للمعنى أظهر من الآخر ، والمفروض أن التورية من هذا القبيل.

(١) الأولى رعاية التأنيث فيه وفي «كان» لرجوع الضمير المستتر إلى «التورية» ، كما أن الأولى تأنيث ضمير «أنه» ولا يناسب جعله للشأن ، فتدبر.

(٢) لعله إشارة إلى ما قيل : من أن منع الأظهرية مطلقا بصرف كون المناط ما يعد قرينة عقلية غير مستقيم ، بعد وضوح انقسام الأمر العقلي إلى خفيّ وجليّ ، وصحة اعتماد المتكلم على قرينة عقلية في مقام التخاطب وإن لم يفهمها المخاطب إلّا بعد الدقة والالتفات.

٣٣٨

فصل (١)

______________________________________________________

المرجحات الخارجية

(١) الغرض من عقد هذا الفصل هو بيان حكم موافقة مضمون أحد الخبرين المتعارضين للأمور الخارجية المعبّر عنها بالمرجحات الخارجية ، وينبغي الإشارة إلى أمرين قبل توضيح المتن :

الأوّل : أن البحث في هذا الفصل ـ كالفصل المتقدم ـ من فروع القول بوجوب الترجيح والتعدي عن المرجحات المنصوصة ، وإلّا فبناء على مختار المصنف «قده» من الرجوع إلى إطلاقات التخيير ـ سواء في المتفاضلين والمتكافئين ـ لا موضوع لعقد هذا البحث إلّا مماشاة للقوم.

الثاني : أن المراد بالمرجح الخارجي ـ كما في رسائل شيخنا الأعظم ـ هو كل مزية مستقلة بنفسها ، في قبال المرجّح الداخليّ وهي المزية غير المستقلة بنفسها ، لقيامها بإحدى الجهات المتعلقة بالخبر.

وناقش المصنف في هذا التعريف في حاشية الرسائل بما محصله : أن جميع المرجحات غير مستقلّة بنفسها متقوّمة بما فيها ، حتى الكتاب والأصل العملي المعدودين من المرجحات الخارجية ، فإنّهما وإن كانا مستقلّين عن أحد الخبرين المتعارضين ، لكن المرجّح ليس نفس الكتاب والأصل ، بل موافقة الخبر لكل منهما ، ومن المعلوم أن الموافقة ليست مستقلة ، وإنّما تكون متقومة بالخبر.

٣٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم منشأ الانتزاع في المرجح الداخليّ نفس الخبر ، بخلافه في الخارجي ، فإنّه مركب منه ومن الخارج. إلّا أنّ هذا المقدار غير موجب للفرق بينهما بما ذكر. فالأولى أن يعرّف المرجح الداخليّ بما كان منشأ انتزاعه (*) نفس الأمور المتعلقة بالرواية من صفات الراوي أو متنها أو وجه صدورها ، والخارجي بخلافه (١).

ولعله لهذا عنوان الماتن البحث هنا بقوله : «موافقة الخبر لما يوجب ...» ولم يفتتح الكلام بمثل ما في الرسائل من قوله «وأما المرجحات الخارجية فقد أشرنا إلى أنها على قسمين : الأول ما يكون غير معتبر بنفسه ، والثاني ما يعتبر بنفسه بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع ...».

وبوضوح الأمرين نقول : إن المرجحات الخارجية على أقسام ، فإنّها إمّا غير معتبرة في نفسها مع كونها معاضدة لمضمون أحد الخبرين المتعارضين ، لكونها في رتبته كالشهرة الفتوائية وهي تتصور على وجهين ، أحدهما : أن يكون عدم اعتبارها لأجل عدم الدليل على اعتبارها ، وثانيهما : أن يكون عدم اعتبارها لأجل قيام الدليل الخاصّ على عدم اعتبارها.

وإمّا معتبرة في نفسها ، وهي تتصور على وجهين أيضا ، أحدهما : أن تكون معاضدة لمضمون أحد الخبرين كالكتاب والسنة. والآخر : أن لا تكون معاضدة لمضمون أحد الخبرين ، لعدم كونها في رتبته كالأصل العملي ، بناء على عدم اعتباره من باب الظن ، وإلّا كان معاضدا له. وعليه فالمرجحات الخارجية أربعة أقسام.

__________________

(*) لا يخلو هذا التعبير عن المسامحة ، إذ المرجوح الداخليّ ـ كصفات الراوي من الأعدلية وغيرها وفصاحة متن الرواية ـ ليس له منشأ انتزاع ، بل نفسه مرجّح. فلعل الأولى تعريف المرجح الداخليّ : بأنّه ما يتعلق بنفس الرواية من صفات راويها ومتنها ووجه صدورها. نعم يصح التعبير بمنشإ الانتزاع في المرجح الخارجي ، حيث إنّ المرجح عبارة عن موافقة الخبر لما هو دليل مستقل في نفسه كالكتاب ، فالمرجح وهو موافقة الخبر ينشأ من ذلك الدليل ، فهو منشأ انتزاع المرجحية ، فمرجحية الكتاب إنّما هي اعتبار منشئيته لما هو مرجح ، لا أنه بنفسه مرجح.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٧٤.

٣٤٠