منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

ما لم يقطع بحجيته ، بل (١) ربما ادّعي الإجماع أيضا على حجية خصوص الراجح.

واستدلّ عليه (٢) بوجوه أخر (٣) أحسنها (٤) الأخبار ، وهي (٥) على طوائف :

______________________________________________________

(١) إضراب على قوله : «للقطع بحجيته» يعني : بل الإجماع أيضا قائم على حجية خصوص الراجح من المتعارضين ، مضافا إلى حكم العقل القطعي بحجيته ، فيكون العقل والنقل متطابقين على حجية الراجح.

(٢) أي : على عدم سقوط المتعارضين ولزوم الأخذ بأحدهما.

(٣) غير الإجماع الّذي تعرض له بقوله : «وإلّا فربما يدعى الإجماع على عدم سقوط ... إلخ» مثل : أنّهما دليلان متعارضان لا يمكن العلم بهما ولا بأحدهما بالخصوص دون الآخر ، ولا إسقاطهما ، فوجب التخيير. أمّا الأوّل فلشمول أدلة حجية خبر الواحد لهما. وأمّا الثاني فلاستلزامهما اجتماع الضدين كالوجوب والحرمة ، أو النقيضين كالوجوب وعدمه. وأمّا الثالث فلكونه ترجيحا بلا مرجح. وأما الرابع فلإيجابه إسقاط ما ثبت اعتباره. وأمّا الخامس فلعدم إمكان غيره.

(٤) أي : أحسن تلك الوجوه هو الأخبار ، لمخدوشية غير الأخبار من تلك الوجوه.

أخبار العلاج

(٥) الضمير راجع إلى الأخبار مطلقا ـ بالاستخدام ـ لا خصوص أخبار الترجيح ، لاشتمالها على أخبار التخيير أيضا ، وهي ليست من أخبار الترجيح.

وبالجملة : الأخبار على طوائف أربع.

ولا يخفى وقوع التعارض البدوي بين نفس الأخبار العلاجية ـ كما سيظهر ـ وحينئذ

__________________

المقتضي لا يترتب عليها شرعا عدم مقتضاه ، فإن الترتب وعدمه عقليان لا شرعيان.

وعليه فليس مقتضى أصالة عدم اعتبار المزية عدم حجية الراجح تعيينا ، فضلا عن حجية المرجوح تخييرا. وحينئذ تنتهي النوبة إلى أصالة التعيين في الحجية ، للعلم بحجية واجد المزية والشك في حجية فاقدها ، فلا بدّ من الاقتصار عقلا على معلوم الحجية.

١٠١

منها (١) : ما دلّ على التخيير على الإطلاق (٢) :

كخبر الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام : «قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا يعلم أيُّهما الحق ، قال : فإذا لم يعلم فموسّع عليك بأيِّهما أخذت» (٣)

______________________________________________________

فحلُّ مشكلة تعارض الأخبار المتكفلة للأحكام الفرعية يتوقف على حلِّ تعارض نفس أخبار العلاج بالجمع الدلالي بينها.

وما سيأتي من المصنف «قده» من القول بالتخيير بين المتعارضين والجمع بين ما دلّ على التخيير والترجيح بحمل أخبار الترجيح على الاستحباب هو أحد الطرق المتكفلة لحل تعارض الأخبار العلاجية ، فانتظر.

١ ـ أخبار التخيير

(١) أي : من الطوائف الأربع من أخبار العلاج ما دلّ على التخيير.

(٢) إطلاق أخبار التخيير يراد به تارة إطلاقها في قبال ما دلّ على التخيير مقيّدا بعدم وجود المرجح في أحد الخبرين ، فلو كانت مزية في أحدهما كان الحجة التعيينية ذا المزية ، ولا تخيير حينئذ. ويراد به أخرى في قبال دلالة بعض الأخبار على التخيير في مدة معيّنة كعصر الغيبة ، فلا تخيير في زمان ظهور الإمام عليه‌السلام. ومقصود الماتن من الإطلاق هو المعنى الأوّل ، لا الثاني ، لما سيأتي في المتن من التنبيه عليه ، ولأنّه «قده» استدل على مدعاه برواية الحارث بن المغيرة الظاهرة في اختصاص التخيير بزمان غيبة الإمام عليه‌السلام كما قيل.

(٣) صدر الحديث كما في الوسائل هكذا : «قال : قلت له ـ أي للرضا عليه‌السلام ـ تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، فقال : ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزوجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا ، قلت ...» (١).

ودلالة الخبر على التخيير بين المتعارضين واضحة ، فإن الحسن بن الجهم سأل أوّلا عن تعارض الخبرين المرويّين عنهم عليهم‌السلام فأجابه عليه‌السلام بعرض الحديثين على

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٠ ، ص ٨٧

١٠٢

وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلُّهم ثقة فموسّع عليك حتى ترى القائم فترد عليه» (١) (١).

______________________________________________________

الكتاب والسنّة المسلّمة ، فإن كان أحدهما يشبههما تعيّن الأخذ به ، وإن لم يكن شيء منهما شبيها بالكتاب والسنّة فلا يأخذ بهما. ثم سأل ثانيا عن حكم الخبرين اللذين رواهما ثقتان ، فأجاب عليه‌السلام بالتوسعة في العمل بكل منهما. والظاهر أن منشأ سؤاله الثاني هو موافقة الخبرين لعمومات الكتاب والسنّة بحيث لم يكن العرض على الكتاب والسنّة كافيا لتمييز الحجة عن اللاحجة.

فإن قلت : هذا الخبر يدل على التخيير بعد فقد المرجِّح لا على التخيير المطلق ، فمع وجود الشباهة بالكتاب والسنّة في أحدهما خاصة لم يحكم عليه‌السلام بالسعة ، بل بحجية خصوص المشابه بهما.

قلت : ليس كذلك ، فإنّ دلالة الخبر على التخيير المقيّد بعدم المرجح مبنية على كون موافقة الكتاب من المرجحات ، وسيأتي من المصنف منع ذلك ، وأنّ موافقة الكتاب من وجوه تمييز الحجة عن اللاحجة ، بحيث لا مقتضي لحجية الخبر المخالف ، وحيث إنّ كلا الخبرين ـ في مفروض السؤال ـ موافق للكتاب فالمقتضي لحجيتهما موجود ، ويكون حكمه عليه‌السلام بالتخيير مطلقا لا مقيّدا بفقد المرجح.

(١) دلالة هذا الخبر على التخيير ـ حتى لو فرض وجود المرجح في أحد المتعارضين ـ واضحة ، لأنّ موضوع الحكم بالتوسعة في حجية الخبرين المتعارضين هو مجيء الثقات بأحاديث تتضمّن أحكاما مختلفة يتعذر الأخذ بها ، والحكم هو التخيير في الأخذ بأيّ منهما شاء. لكن هذا التخيير الظاهري ينتهي بظهور الإمام الحجة «عليه‌السلام وعجّل فرجه الشريف» ، فإذا ظهر عليه‌السلام ارتفع هذا الحكم الظاهري كسائر الأحكام الظاهرية ، فإنّه يحكم بالواقع وببطون القرآن.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤١ ، ص ٨٧

١٠٣

ومكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : «اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر ، فروى بعضهم : صلِّ في (١) المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلِّها إلّا في الأرض ، فوقّع عليه‌السلام : موسّع عليك بأيّة عملت» (٢).

ومكاتبة الحميري إلى الحجة عليه‌السلام ... إلى أن قال : «في الجواب عن ذلك حديثان ... إلى أن قال عليه‌السلام : وبأيِّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» (٣).

______________________________________________________

(١) في التهذيب «أن صلِّهما» وفي الوسائل «صلِّها في المحمل» ، وكذا «إلّا على الأرض» بدل «في الأرض» (١).

(٢) وتقريب الدلالة : أنّ أحد الخبرين ظاهر في شرطيّة الاستقرار في النافلة كالفريضة ، والخبر الآخر ظاهر في عدم اعتبار الاستقرار والإجزاء في حال السير ، فالخبران متعارضان في حكم الاستقرار في النافلة ، وأجاب عليه‌السلام بالتوسعة والتخيير في العمل بكل واحد منهما ، وهذا هو المطلوب.

(٣) روى المكاتبةَ في الوسائل هكذا : «في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحِميَري إلى صاحب الزمان عليه‌السلام : يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبِّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ، ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد ، فكتب عليه‌السلام في الجواب : أن فيه حديثين : أمّا أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير. وأمّا الآخر ، فإنه روي : أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيِّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» (٢). ورواه الشيخ في الغيبة بتفاوت يسير ، وفي آخره : «وبأيِّهما أخذت من جهة التسليم» (٣).

__________________

(١) المصدر ، الحديث : ٤٤ ، ص ٨٨ ، التهذيب ، ٣ ـ ٢٢٨ ، الحديث : ٩٢ من الباب ٢٣

(٢) الوسائل ، ج ٤ ، الباب ١٣ من أبواب السجود ، الحديث : ٨ ، ص ٩٦٧

(٣) كتاب الغيبة لشيخ الطائفة ، ص ٢٣٢

١٠٤

إلى غير ذلك من الإطلاقات (١).

______________________________________________________

ودلالتها كسابقتها واضحة ، فإنّ أحد الخبرين يدل على مطلوبية التكبير في الانتقال من كل حالة إلى أخرى في الصلاة ، والآخر يدل على عدم مطلوبيته حال النهوض إذا كبّر بعد السجدة الثانية ، فيتعارض الخبران بالسلب والإيجاب في استحباب التكبير عند القيام. وأجاب عليه‌السلام بالتخيير ، وأنّ مصلحة التسليم والانقياد لهم عليهم‌السلام تقتضي جعل التخيير والتوسعة في العمل بأيهما شاء ، ولم يحكم عليه‌السلام بتخصيص الخبر الأوّل بالثاني ، مع أنّ التخصيص جمع عرفي رافع للتعارض. وتتمة الكلام في التعليقة.

(١) مثل ما رواه الكافي عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» (١). ودلالته على التخيير مبنية على إرادة السعة في العمل من قوله عليه‌السلام : «في سعة» لا السعة في إرجاء الواقعة وعدم العمل بالخبرين إلى زمان لقائه عليه‌السلام ، إذ يكون حينئذ دليلا على لزوم الاحتياط إلى زمان العلم بالحكم الواقعي بملاقاته عليه‌السلام.

ثم قال الكليني «ره» : «وفي رواية أُخرى : بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» (٢).

ومثل ما روي عن فقه الرضا عليه‌السلام ، قال : «والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها ... إلى أن قال : وقد روي ثمانية عشر يوما ، وروي ثلاثة وعشرين يوما. وبأيِّ هذه الأحاديث أخذ من باب التسليم جاز» (٣). ودلالة هذه الرواية عن التخيير مطلقا تامة ، لعدم تقييد الأخذ بإحدى الروايات المتعارضة بعدم وجود مرجح لبعضها على بعض ، أو تكافئها في المزايا لو كان في كل منها مزية. وهذا الإطلاق يتأكد بأنّ غرض السائل رفع حيرته في مقام عمل المرأة بوظيفتها ، وليس المقصود مجرد استعلام الحكم من باب ضرب القانون حتى يجوز تأخير بيان المقيد إلى وقت آخر.

وقد ظهر مما بيّنا إلى هنا : وجود المقتضي للقول بالتخيير بين المتعارضين مطلقا ، فتصل النوبة إلى المانع منه ، وهو طوائف من الأخبار سيأتي بيانها (*).

__________________

(*) لكن نوقش في استظهار التخيير المطلق أو المقيد بفقد المرجح أو بزمان الغيبة من هذه

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٥ ، ص ٧٧

(٢) المصدر ، الحديث : ٦ ، ص ٧٧

(٣) مستدرك الوسائل ، ج ٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٢ ، ص ١٨٦

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأخبار بما سيأتي ، فينبغي ملاحظتها والنّظر أوّلا في وفائها بإثبات التخيير بين الخبرين المتعارضين ، وثانيا في النسبة بينها وبين سائر الطوائف من أخبار العلاج ، فلنقدم الكلام في الجهة الأولى بالنظر في كل منها سندا ودلالة ، بعد الإغماض عمّا في رسائل شيخنا الأعظم «قده» من دعوى استفاضة أخبار التخيير بل تواترها ، كالإغماض عمّا عن الضوابط من ضعفها جميعا إلّا واحدا منها. فان دعوى الاستفاضة وإن كانت في محلها ، لكن دعوى التواتر لا تخلو من مبالغة ، كالمبالغة في القول بضعف ما عدا واحد منها سندا ، لما سيظهر من اعتبار أكثر من واحد منها ، فنقول وبه نستعين :

الرواية الأولى : خبر الحسن بن الجهم المروي عن الاحتجاج ، وهي ضعيفة بالإرسال ، وحيث إن المدار في حجية الخبر هو الوثوق الشخصي بالصدور ، فلا وجه للاعتماد عليها. وشهادة الشيخ الطبرسي في مقدمة الاحتجاج ـ من كون روايات كتابه مسندة في الأصل ، وهي مشهورة أو مجمع عليها ، وإنما أسقط أسنادها اختصارا ـ غير وافية بإثبات اعتبارها بالنسبة إلينا بعد اختلاف المباني في العدالة وغيرها مما يبتني عليه حجية خبر الواحد. نعم لا بأس بهذه الشهادة إذا أحرز مبني صاحب الاحتجاج في قبول الرواية وردِّها مع فرض حصول الوثوق بصدور تلك الأخبار من مجرد شهادته. وعليه فالبحث عن دلالة خبر الحسن بن الجهم يكون بتبع استدلال الماتن به ، وهو ينفع لتأييد القول بالتخيير الّذي تدل سائر الروايات عليه.

وأما الدلالة فقد عرفت ظهور قوله عليه‌السلام : «فإذا لم يعلم فموسّع عليك» في التخيير بين الخبرين اللذين تمّ المقتضي للحجية في كل منهما ، لكون راوييهما ثقتين ، وكان السؤال عن علاج المانع وهو التعارض.

وأورد المحقق الأصفهانيّ «قده» على الاستدلال بها بما محصله : أنها لا تدل على مدعى المصنف وهو إثبات التخيير بين الخبرين سواء أكانا متكافئين أم متفاضلين ، وإنما تدل على التخيير بعد فقد المرجح ، وذلك لأنّ صدرها مقيّد بالعرض على الكتاب والسنة ، وقد روى شخص هذا الراوي عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام أيضا العرض على الكتاب والسنة في الحديثين المختلفين (١) ، كما روى عنه عليه‌السلام الأخذ بما يخالف العامة (٢). والغرض أن التخيير ليس على الإطلاق ، بل بعد الترجيح ولو في الجملة ، فقوله : «ولا نعلم أيهما الحق» إما لموافقتهما معا للكتاب أو عدم موافقتهما معا للكتاب.

نعم بناء على ما سيجيء من المصنف «قده» ـ من أن العرض على الكتاب ليس من المرجحات

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٩ ، الحديث : ٤٨ ، ص ٨٩

(٢) المصدر ، الحديث : ٣١ ، ص ٨٥

١٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لإحدى الحجتين على الأخرى ، بل لتمييز الحجة عن اللاحجة ـ يكون التخيير مطلقا غير مقيد بأعمال المرجحات ، لكن سيأتي إن شاء الله ما فيه.

وأما حمل صدره ـ لإطلاقه ـ على عدم كون الجائي بالخبر ثقة فيخرج عن مورد الترجيح ، بخلاف ذيله ، لتقيده بكون الجائي بالخبرين ثقة ، وفي هذا المورد لم يعمل الترجيح ، فبعيد ، إذ مثله لا يؤخذ به مع عدم الاختلاف ، وظاهره أن الاختلاف هو الموجب لتحيُّر السائل في الأخذ به ، فيعلم منه وجود المقتضي للعمل به.

إلّا أنه يقرِّب هذا الحمل ما في رواية عبد الله بن أبي يعفور ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به ، قال عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلّا فالذي جاءكم به أولى» (١) وعليه فمنشأ تحير السائل ليس كونهما حجتين بالذات ، بل حيث إنه منسوب إليهم «عليهم‌السلام» له أن يردّه مطلقا أو يجب عليه رعاية الواقع بالتوقف والاحتياط ، فتدبر (٢)

وعليه يشكل الاستدلال بهذه المرسلة على التخيير بين المتعارضين مطلقا ـ حتى مع التفاضل ـ إلّا إذا تمّ أحد أمرين على سبيل منع الخلو :

أحدهما : أن يكون الغرض من السؤال الأوّل استعلام حكم تعارض مطلق الخبرين حتى مع قصور المقتضي للحجية في أحدهما ، ويكون جوابه عليه‌السلام بقياس الخبرين على الكتاب والسنة أجنبيا عن الحكم بالتخيير عند التكافؤ.

ثانيهما : أن يكون السؤال الأوّل سؤالا عن معارضة خبرين جاء بهما ثقتان كما هو مفروض السؤال الثاني أيضا : إلّا أن موافقة الكتاب ليست من وجوه الترجيح ، بل من مميِّزات الحجة عن اللاحجة.

ولا سبيل لإحراز الأمر الأوّل. لكن الأمر الثاني ثابت عند المصنف. وعليه يتجه استدلاله برواية الحسن بن الجهم على التخيير المطلق ، إذ لا يبعد ظهور قوله عليه‌السلام : «فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا» في كونه في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة ، لا ترجيح أحد المتعارضين على الآخر ، فإنه قريب من رواية الحسن بن الجهم عن العبد الصالح عليه‌السلام قال : «إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن أشبهها فهو حق ، وإن لم يشبهها فهو باطل» وبذلك يتجه استدلال المصنف بذيل الرواية على التخيير مطلقا سواء في المتكافئين والمتفاضلين.

__________________

(١) المصدر ، الحديث : ١١ ، ص ٧٨

(٢) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٦٢

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الرواية الثانية : خبر الحارث بن المغيرة. أما السند فهو كسابقه مروي عن الاحتجاج مرسلا. وأما الدلالة فقد عرفت ظهورها في جعل التخيير بين المتعارضين ـ تكافئا أم تفاضلا ـ إلى زمان التمكن من لقاء الإمام الحجة صلوات الله وسلامه عليه وعجل فرجه الشريف.

لكن نوقش فيها تارة بأن موردها التمكن من لقاء الإمام القائم بالأمر في كل عصر ، وصورة ترقب لقائه عليه‌السلام كما في أيام الحضور ، لا زمان الغيبة. والرخصة في التخيير في مدة قليلة لا تلازم الرخصة فيه أبدا (١). وأخرى بأنها «لا دلالة لها على حكم المتعارضين. ومفادها حجية اخبار الثقة إلى ظهور الحجة عليه‌السلام» (٢).

وكلاهما لا يخلو من غموض : أما الأوّل فلأن كل واحد من الأئمة المعصومين عليهم‌السلام وإن كان قائما بالحق ، بل أطلق على بعضهم في الأخبار ، إلّا أن الظاهر اختصاص لقب «القائم» ـ عند الإطلاق ـ بالإمام الحجة المنتظر «عليه أفضل الصلاة والسلام» ، لقِّب به من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ورد في كثير من الأخبار ، فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عند بيان الأئمة من ولد الحسين عليه‌السلام : «تاسعهم قائمهم» و «التاسع قائمهم» و «تاسعهم قائمهم قائم أمّتي» و «تاسعهم قائمهم ومهديّهم» ونحو هذا التعبير كما لا يخفى على من راجع مظانه.

وعليه فظاهر خبر الحارث جعل التوسعة والتخيير بين المتعارضين في عصر الغيبة. ولعل تحديد ذلك برؤيته عليه‌السلام لأجل طول غيبته زمانا وقصر مدى إمامة سائر الأئمة عليهم‌السلام.

ولو لم يكن مقصوده عليه‌السلام جعل التخيير كان الأنسب تحديد التوسعة برؤية كل واحد منهم ، بأن يقال : «حتى تراني أو ترانا» كتحديد الأمر بالوقوف في المقبولة بملاقاة الإمام عليه‌السلام فالإتيان باللقب المختص بالإمام الحجة «عليه‌السلام وعجل فرجه الشريف ، وتعليق السعة على رؤيته «عليه‌السلام» ظاهر في جعل التخيير في الأزمنة المتمادية قبل ظهوره عليه‌السلام ، حيث يكون المدار في عصر الدولة المهدوية على الأحكام الواقعية بلا تقية لخوف أو مداراة ، هذا.

مضافا إلى : أن الحكمة في جعل التوسعة ـ وهي الإرفاق بالمكلفين ورفع الحرج عنهم مع كثرة الأخبار المتعارضة في أبواب الفقه ـ تقتضي جعلها في حق الشيعة في عصر الغيبة ، لحرمانهم عن التشرف بمحضره عليه‌السلام بخلاف الشيعة المعاصرين لهم عليهم‌السلام لتمكنهم أحيانا من التشرف واستعلام الوظيفة منهم.

وعليه فجعل التخيير في حقهم يقتضي جعله في عصر الغيبة بالأولوية. هذا مع الغض عن ظهور

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٦٢

(٢) مصباح الأصول ٣ ـ ٤٢٤

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ألفاظ الرواية في إفادة التخيير في عصر الغيبة كما جعله المحقق الآشتياني أقوى الاحتمالين (١)

وأما الثاني ـ وهو أجنبية الرواية عن باب التعارض ودلالتها على حجية خبر الثقة ـ فلأن حجية خبر الثقة غير محدودة بعصر الغيبة حتى تكون هذه الرواية دليلا عليها ، إذ الأخبار المستدل بها على اعتبار الخبر الواحد لا تزيد عن إمضاء السيرة العقلائية ، ومن المعلوم عدم تفاوت حضورهم «عليهم‌السلام» وغيبته عليه‌السلام في بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة ، بل مفاد الأخبار الإرجاعية حجية أخبار الثقات المعاصرين لهم عليهم‌السلام كالإرجاع إلى زكريا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن وزرارة وأضرابهم ، فهل يدل قوله عليه‌السلام : «أما ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام فلا يجوز لك أن ترده» على اختصاص حجية اخبار زرارة بعدم التمكن من لقاء الإمام الصادق عليه‌السلام؟

والحاصل : أن حجية خبر الثقة ـ بمعنى منجزية الواقع والاعتذار عنه ـ لم تقيّد في الروايات الإرجاعية بعصر الغيبة ، بل تشهد بخلافه كما عرفت.

هذا مضافا إلى : أجنبية مفاد هذه الرواية عن حجية خبر الثقة ، وإنما يدل عليها مثل قوله «عليه‌السلام» في التوقيع الشريف : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (٢) الظاهر في حجية اخبار الثقات بنحو العموم ، وقطع العذر الجهلي به ، وانتفاء التوسعة بإجراء الأصل النافي للتكليف ، وأن إخبار الثقة بمنزلة السماع من المعصوم عليه‌السلام ، ومن المعلوم أن اخباره قد يتضمن السعة كما إذا أخبر باستحباب فعل أو إباحته ، وقد يتضمن الضيق والكلفة كما إذا أخبر بالإلزام. وهذا بخلاف خبر الحارث بن المغيرة المتضمن للتوسعة بعد سماع الحديث من الأصحاب. وظاهره اختلاف الثقات في الحديث عنهم عليهم‌السلام لقوله : «وكلهم ثقة» وليس المراد به اخبار الثقات برواية واحدة ، فإنّ مثله يوجب العلم العادي بالحديث ، ولا يناسب جعل التوسعة المطلقة حينئذ.

والحاصل : أن دلالة هذه الرواية على مختار المصنف «قده» تامة ، لما عرفت من أن التوسعة المجعولة أجنبية عن إمضاء سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة. والإشكال إنما هو في ضعف السند بالإرسال.

الرواية الثالثة : معتبرة علي بن مهزيار في صلاة النافلة في المحمل. رواها الشيخ في التهذيب بإسناده عن أحمد بن محمد عن العباس بن معروف عن علي بن مهزيار (٣). والظاهر أن أحمد هو ابن محمد بن يحيى العطار القمي كما ذكره الشيخ في سنده رواية مفصّلة في كتاب الدّيات. ورجال هذا

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٤ ـ ٣٠

(٢) الوسائل ، ١٨ ـ ١٠٨ ، الحديث : ٤٠

(٣) التهذيب ، ٣ ـ ٢٢٨ ، الحديث : ٩٢

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

السند من الأجلاء ، وإسناد الشيخ إلى أحمد معتبر. ولو نوقش في السند تارة بجهالة أحمد ، وأخرى بتأخره عن العباس بطبقتين وسقوط الواسطة بينهما ، لم يقدح ذلك في اعتبار الرواية بعد تصريح الشيخ في الفهرست بطريق آخر له إلى ابن مهزيار ، قال : «أخبرنا بكتبه ورواياته جماعة عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه عن أبيه ، ومحمد بن الحسن عن سعد بن عبد الله ، والحميري ، ومحمد بن يحيى ، وأحمد بن إدريس عن أحمد بن محمد عن العباس بن معروف عنه» (١) فسند الرواية معتبر على هذا الطريق.

وأما الدلالة : فظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تصلّهما إلّا على الأرض» من جهة اشتماله على السلب والإيجاب هو شرطية الاستقرار في النافلة كالفريضة ، فتبطل الصلاة في المحمل ، لفقدانها للشرط. وظاهر الأمر في «صلِّهما في المحمل» جواز الإتيان بالنافلة في حال السير وعدم شرطية الاستقرار ، لا وجوب الصلاة في المحمل ، إذ الأمر في مقام توهم الحظر ، ولا مورد للجمع الدلالي بين الخبرين «بحمل الأمر على الاستحباب فيخرج الخبران عن المتعارضين» وذلك لعدم كون «صلِّ» ظاهرا في الوجوب أصلا حتى يتصرف في دلالته ، بل هو يدل على الترخيص من أوّل الأمر ، ومن المعلوم تحقق التعارض بين هذين الخبرين ، وقد أجاب عليه‌السلام بالتخيير في الحجية بين المتعارضين.

وأورد عليه بعض أعاظم العصر بأن «ظاهر حكمه عليه‌السلام بالتخيير أن التخيير واقعي ، إذ لو كان الحكم الواقعي غيره لكان الأنسب بيانه ، لا الحكم بالتخيير بين الحديثين» (٢).

لكن يمكن أن يقال : ان وظيفة الإمام عليه‌السلام بما أنه مستودع علمه «تعالى شأنه» بيان الأحكام الواقعية الأوّلية والثانوية ، وكذا بيان القواعد العامة كما هو كثير في الروايات التي بأيدينا. ومما يحتاج إلى معرفته عامة المكلفين علاج تعارض الخبرين من التخيير أو الترجيح أو التساقط رأسا مع كثرة الابتلاء بالمتعارضات في أبواب الفقه. فلا تنحصر وظيفة الإمام في تبليغ الأحكام الفرعية حتى يكون الأنسب بشأنه بيان الحكم الواقعي خاصة ، دون إعطاء قانون تعارض الخبرين ، بل كل من الأمرين مناسب لمقام الإمام.

وعليه فالمتبع ظهور جوابه عليه‌السلام عن السؤال ، وهو قوله : «فموسّع عليك» ولا يبعد ظهوره في التخيير الظاهري بين الخبرين المتعارضين في جميع الموارد ، وكان منشأ التخيير في جميع الموارد مصلحة التسهيل على المكلفين والتسليم لهم عليهم‌السلام ، وفي خصوص المورد كان منشأ التخيير عدم شرطية الاستقرار في الناقلة.

نعم يختص الحكم بالتخيير في هذه الرواية بالمستحبات المبني أمرها على التخفيف كما أفاده

__________________

(١) الفهرست ، ص ١١٤

(٢) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٤٢٥

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المحقق الأصفهاني «قده» ولا سبيل للتعدي إلى مطلق الأخبار المتعارضة.

الرواية الرابعة : مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان «أرواحنا فداه». والكلام في سندها تارة وفي الدلالة أخرى.

أما السند فهي وإن كانت مرسلة في الاحتجاج ، لكن رواها الشيخ في كتاب الغيبة أيضا كما تقدم في التوضيح. وطريق الشيخ إلى الحميري صحيح ، قال في الفهرست : «له مصنفات وروايات أخبرنا بها جماعة عن أبي جعفر ابن بابويه ، عن أحمد بن هارون الفامي وجعفر بن الحسين عنه» (١). وأما الحميري فقال النجاشي في شأنه : «كان ثقة وجها ، كاتب صاحب الأمر عليه‌السلام وسأله مسائل في أبواب الشريعة» (٢).

وأما الدلالة فظاهرها التوسعة والترخيص في العمل بكل من المتعارضين سواء في مورد السؤال وهو الأحكام الترخيصية أم في غيرها. أما التخيير في المستحبات فلظهور أحد الخبرين في استحباب التكبير في الانتقال من كل حالة إلى أخرى ، لقوله عليه‌السلام «فعليه التكبير». بعد وضوح أمرين :

أحدهما : أن كلمة «عليه» وإن كانت ظاهرة في التكليف الإلزاميّ الّذي فيه الثقل والمشقة ، إلّا أنها وردت بالنسبة إلى بعض المستحبات أيضا باعتبار استقرارها في الذمّة.

وثانيهما : كون ما عدا تكبيرة الافتتاح من التكبيرات مستحبا في الصلاة بالضرورة ، خصوصا مع جلالة الراوي وكون السؤال من الناحية المقدسة. وظهور الخبر الآخر في نفي الاستحباب ، لقوله عليه‌السلام : «ليس عليه».

ووجه المعارضة حينئذ واضح ، للتنافي بين ما يدل على استحباب التكبير وما يدل على عدم استحبابه. وقد أجابه عليه‌السلام بالتخيير أي بالإتيان بالتكبيرات بقصد الاستحباب ، وتركها ، وهذا هو التخيير المدعى بين المتعارضين.

ومورد الرواية وإن كان حكما ترخيصيا ، إلا أنّ مفاد جوابه عليه‌السلام اطراد الحكم بالتخيير في جميع موارد التعارض ، لقوله عليه‌السلام : «من باب التسليم» فإنه تنبيه على علّة الحكم ، ولازمه التعدي إلى جميع موارد تعارض الخبرين. وعليه فلا وجه لمقايسة هذه الرواية برواية ابن مهزيار في الاقتصار على الأحكام الترخيصية كما أفاده المحقق الأصفهاني «قده». وذلك لما عرفت من الفرق بين جوابه عليه‌السلام في الروايتين ، فإن قوله : «من باب التسليم» بيان لعلّة الحكم بالتخيير ، والمدار على عموم العلة لا خصوص المورد ، ولم يرد هذا التعبير في رواية علي بن مهزيار.

__________________

(١) الفهرست ، ص ١٨٤

(٢) رجال النجاشي ، ص ٢٥١

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأورد على الاستدلال بهذه المكاتبة بخروج موردها عن التعارض ، للجمع العرفي بينهما بحمل الخبر العام ـ المثبت للتكبير في جميع الانتقالات ـ على الخبر الخاصّ النافي للتكبير في خصوص حال النهوض ، والقاعدة تقتضي الجمع بين الخبرين بالتخصيص ، لا الحكم بالتخيير ، فالحكم بالتخيير وعدم تخصيص العموم إنما هو لكون التكبير ذكرا في نفسه (١).

لكنه لا يخلو من خفاء ، فإنّ جهة سؤال الحميري هي اختلاف الخبرين في استحباب التكبير بالسلب والإيجاب. ولو كان مقصوده عليه‌السلام من جعل التخيير ـ وعدم إرشاد السائل إلى الجمع بين الخبرين بالتقييد ـ كون التكبير ذكرا في نفسه كان المناسب بيان ما يدل عليه ، لا الحكم بالتوسعة في الأخذ ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» ظاهر في الحجية التي هي مسألة أصولية ، ونتيجة حجية أحدهما تخييرا جواز الإفتاء باستحباب التكبير في جميع الانتقالات بما أنه حكم الله ، اعتمادا على رواية «فعليه التكبير» لا الإتيان به من جهة مطلوبية مطلق الذِّكر.

وعليه فالظاهر تمامية دلالة المكاتبة على التخيير. وإطلاقها ـ الناشئ من ترك الاستفصال ـ يعم المتفاضلين كالمتكافئين ، والتعليل المستفاد من قوله : «من باب التسليم» يقتضي تعميم الحكم لجميع موارد التعارض.

الرواية الخامسة : معتبرة سماعة المتقدمة في التوضيح ، رواها ثقة الإسلام عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عثمان بن عيسى والحسن بن محبوب جميعا عن سماعة. وهذا السند موثق أو صحيح. والتعبير عنه بالحسن أو الموثق ـ كما في كلام العلامة المجلسي (٢) ـ لا بدّ أن يكون من جهة إبراهيم بن هاشم ، مع أنّ المحكي عن الوجيزة توثيقه.

وأما الدلالة فقد تقدمت في التوضيح إجمالا ، وأنّ سؤال سماعة : «كيف يصنع؟» يكون عن حكم واقعة ورد فيها حديثان مختلفان ، وكلا الراويين من أهل دينه ، وأجاب عليه‌السلام بإرجاء الواقعة إلى ملاقاة الإمام عليه‌السلام حتى يسأله عن حكمها ، وبالتوسعة في الفترة الفاصلة بين الواقعة وبين الملاقاة ، والمقصود بهذه الرخصة التخيير في العمل بكل منهما شاء.

وأورد على الاستدلال بها تارة : بأن موردها دوران الأمر بين المحذورين «حيث إن أحد الخبرين يأمر والآخر ينهى ، والعقل يحكم فيه بالتخيير بين الفعل والترك ، وقول الإمام عليه‌السلام : فهو في سعة لا يدل على أزيد منه» (٣).

وأخرى : بأنّها ـ مضافا إلى اختصاصها بالتمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام ـ تكون من أدلة التوقف لا من أدلة التخيير ، لقوله عليه‌السلام : يرجئه (٤).

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٤٢٥ و ٤٢٤

(٢) مرآة العقول ، ١ ـ ٢١٨

(٣) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٤٢٥ و ٤٢٤. (٤) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٦٣

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ويشكل الأوّل أوّلا : بالفرق الموضوعي بين مسألة الدوران بين المحذورين وبين مورد الموثقة بوجهين ، فلا يصح حمل قوله عليه‌السلام : «فهو في سعة» على ما يستقل به العقل من التخيير.

أحدهما : أن حكم العقل بالتخيير في العمل في مسألة الدوران يتوقف على العلم بجنس الإلزام والشك في الخصوصيّتين كما مثّلوا له بالحلف على فعل في وقت خاص أو على تركه.

وأمّا إذا دار حكم واقعة بين الوجوب والحرمة والإباحة فهو خارج عن مورد الدوران بين المحذورين ، وتجري فيه البراءة الشرعية كما تقرر في مجاري الأصول. ومفروض سؤال سماعة هو وصول خبرين متعارضين أحدهما يأمر والآخر ينهى ، ومن المعلوم عدم استلزامه للعلم بالإلزام ، لاحتمال كذبهما معا ، وأن يكون حكم الواقعة الإباحة. ولا قرينة في السؤال على حصول العلم بالإلزام الجامع بين الوجوب والحرمة من إخبار المخبرين حتى يندرج في مورد الدوران.

ودعوى «إفادة الحجتين التعبديتين للعلم بالإلزام ، فلا يحتمل معهما الإباحة» ممنوعة بعدم اقتضاء حجية خبر الثقة حصول العلم بمؤداه ، خصوصا مع تعارض الخبرين وتكاذبهما وعدم حجية شيء منهما ، بعد كون الأصل الأولي في تعارض الطرق هو التساقط وعدم نهوض دليل على حجية أحدهما تخييرا بعد.

ثانيهما : أن حكم العقل بالتخيير في مسألة الدوران بين المحذورين منوط بعدم دليل يعين الوظيفة من عموم فوقاني يثبت أحد الحكمين ، أو أصل عملي منجز له كالاستصحاب المثبت للتكليف ، إذ معه لا تصل النوبة إلى التخيير ، وحيث لم يحرز وجود هذا الدليل أو الأصل وعدمه في مورد سؤال سماعة ، فلا سبيل لحملها على مورد الدوران ، فإنّ حمل إطلاق جواب الإمام «عليه‌السلام» : «فهو في سعة» ـ الشامل لمورد وجود الأصل الحاكم وعدمه ـ على صورة عدمه حتى يكون موردا للدوران بين المحذورين بلا وجه.

والحاصل : أن مجرد ورود خبرين متضمنين لطرفي الإلزام لا يقتضي درج المورد في الدوران بين المحذورين حتى تكون السعة إرشادا إلى ما يستقل به العقل ، لما عرفت من اعتبار أمرين في مسألة الدوران ، ولا سبيل لإحرازهما في الموثقة.

نعم لا بأس باستفادة الدوران بين المحذورين من مرسل سماعة بن مهران عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : «قلت يرد علينا حديثان واحد يأمرنا والآخر ينهانا عنه ، قال : لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله ، قلت : لا بد أن نعمل بواحد منهما ، قال : خذ بما فيه خلاف العامة» (١).

وثانيا : أنّ إرادة الحجية التخييرية في موارد الدوران بين المحذورين من قوله عليه‌السلام : «فهو

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٢ ، ص ٨٨

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في سعة» غير ظاهرة ، لأن هذه التوسعة إما أن تدل على الحجية التخييرية وإما ان تدل على نفى منجزية الاحتمال وجعل المكلف معذورا في مخالفة الواقع ، كما يدل عليه حديث السفرة في بحث أصالة البراءة «فهم في سعة حتى يعلموا» إذ لا يراد بالسعة إلّا الإعذار عن الواقع على تقدير المخالفة.

فإن أريد بها جعل الحجية التخييرية ـ كما هو المقصود من الاستدلال بالموثقة ـ فمن المعلوم أنها أجنبية عن التخيير العملي في مسألة الدوران ، إذ العقل إنما يحكم بالتخيير في العمل ونفي الحرج عن الفعل والترك ، وهذا لا ربط له بجعل أحد الاحتمالين حجة والإفتاء به.

وإن أريد بها التوسعة في مقام العمل ـ لا الحجية ـ فلا وجه لحمل الموثقة على مورد الدوران ، فإن التوسعة بمعنى جعل العذر عن مخالفة الواقع لا تختص به ، بل تجري في الشبهات البدوية بعد الفحص كما يظهر من الاستدلال بحديث السعة في الشبهة التحريمية.

وعليه كان اللازم الإشكال ـ على دلالة الموثقة على التخيير ـ بمنع ظهور «فهو في سعة» في جعل الحجية ، بل مساقها مساق حديث السعة. لا حمل الرواية على موارد الدوران بين المحذورين ، إذ لا حكم للعقل فيها بالحجية التخييرية ، بل غايته نفي الحرج عن موافقة كل من الاحتمالين المتكافئين. هذا.

مضافا إلى : أن الأمر بإرجاء الواقعة مانع عن حمل التوسعة على موارد الدوران بين المحذورين ، لامتناع الاحتياط فيها ، مع أنه عليه‌السلام أمر بالإرجاء والتوقف.

ويشكل الثاني : بالمنع من اختصاص الرواية بحال التمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام بما تقدم في خبر الحارث بن المغيرة. والمراد بالموصول في «من يخبره» هو الإمام عليه‌السلام ، إذ لا ترتفع الحيرة بإخبار غيره كما هو واضح ، إلا بدليل آخر يدل على كفاية إخبار الغير عموما أو خصوصا ، وهو مفقود في مورد الموثقة ، وظهور الموصول هنا في الإمام عليه‌السلام كظهور «صاحبك» في خبر سماعة فيه مما لا ينكر.

وأما ما أفاده من كون الموثقة من أدلة التوقف لا التخيير فممنوع بأنها تتضمن حكمين : أحدهما إرجاء الواقعة إلى زمن ملاقاة الإمام عليه‌السلام ، والثاني جعل التوسعة والترخيص في العمل بواحد من الخبرين ، وظاهر الجملة الأولى وإن كان هو الإرجاء ، والتوقف المطلق واقعا وظاهرا بترك الإقدام في الواقعة إلى زمان الملاقاة ، وعدم إسناد شيء من المضمونين إلى الشارع. لكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور بقرينة صراحة الجملة اللاحقة في جعل التوسعة ، ومن المعلوم امتناع الجمع بين التوسعة والتوقف الظاهريين ، للتنافي بينهما ، فلا مناص من الجمع بجعل التوقف ناظرا إلى الواقع ، وعدم إسناد أحد المضمونين إلى الشارع واقعا لئَلا يلزم التشريع ، وجعل التوسعة

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في العمل بواحد من الخبرين ظاهرا ، وهذا هو التخيير الظاهري في حجية أحد الخبرين المتعارضين.

وقد يقال : باختصاص الموثقة بأصول الدين وأجنبيتها عن حكم تعارض الخبرين في الفروع بقرينة قوله عليه‌السلام : «أحدهما يأمر بأخذه» ولو كانت ناظرة إلى الفروع كان الأنسب أن يعبر بالأمر بفعله ، لمناسبة التعبير بالأخذ بالأمور الاعتقادية. وكذا تعبير الإمام عليه‌السلام بـ «يرجئه» فإنّ الإرجاء في الفروع يؤدِّي إلى التفويت عادة ، بخلافه في الاعتقادات.

لكنه غير ظاهر بعد ما عرفت من ورود كلمة «الأخذ» في تعارض الخبرين الدالين على حكمين فرعيّين ، كما في المقبولة ، حيث تكرّر كلمة «الأخذ» فيها ، وموردها الفروع ، وكذا غيرها من أخبار الباب. وأما الأمر بالإرجاء فقد عرفت أنه ناظر إلى الواقع ، وعدم إسناد أحد الحكمين خاصة إلى الشارع ، لا إلى العمل الخارجي.

الرواية السادسة : مرسلة الكافي ، لقوله بعد نقل موثقة سماعة : «وفي رواية أخرى : بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» ودلالة هذه الجملة على التخيير بين المتعارضين تامة.

لكن يشكل الاعتماد عليها من جهة الإرسال وإن كان ظاهر تعبير الكليني «قده» وجود رواية بهذا المضمون غير موثقة سماعة. هذا مع احتمال كون الرواية مضمون إحدى الروايات المسندة المتقدمة ، فلا يحرز التعدد حتى يستند إليها وإن كان الأصل الأوّلي عند بيان الأخبار تعددها.

وأما ما ذكره في ديباجة الكافي من قوله عليه‌السلام : «بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» فالظاهر أنها منقولة بالمعنى ، بل الظاهر أنها إشارة إلى ما ورد من الأخبار في الترجيح بالشهرة وبما وافق الكتاب وبما خالف العامة ، لا أنها رواية مستقلة في قبال سائر الروايات حتى يؤخذ بمفادها ، ولو لم تكن مأخوذة من غيرها فلا يعلم صدرها حتى يكون الحكم بالتخيير مطلقا أو مقيدا بما جاء في الصدر احتمالا.

وأما خبر فقه الرضا عليه‌السلام فدلالته على التخيير تامة. والإشكال في سنده كما هو ظاهر.

لكن في ما تقدم من أخبار التخيير غنى وكفاية لإثبات أصل التخيير. وقد عرفت دعوى شيخنا الأعظم استفاضتها بل تواترها ، فهي روايات معمول بمضامينها في الجملة بشهادة دعوى صاحب المعالم (١) الإجماع على التخيير بعد فقد المرجح الظاهرة في عدم الاعتناء بوجود المخالف كالشيخ في مقدمة التهذيب وإن ذهب في مقدمة الإستبصار إلى التخيير ، بل في العدّة ألحق تعارض الإجماعين بتعارض الخبرين ممّا ظاهره تسلُّم الحكم بالتخيير في الخبرين ، قال في مقدمة الإستبصار : «وإذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين إلّا بعد طرح الآخر جملة لتضادهما ، وبعد التأويل بينهما كان العامل

__________________

(١) معالم الأصول ، ص ٢٤٢

١١٥

ومنها (١) : ما دلّ على التوقف مطلقا (٢).

______________________________________________________

٢ ـ أخبار الوقوف

(١) أي : ومن الطوائف الواردة في علاج تعارض الأخبار ما دلّ على التوقف مطلقا ـ في قبال مطلقات التخيير ـ أي من دون تقييدها بفقد المرجح.

(٢) مثل ما روي عن السرائر نقلا من كتاب مسائل الرّجال ـ مسائل محمد بن علي بن عيسى ـ «حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن زياد وموسى بن محمد بن علي بن عيسى ، قال : كتبت إلى الشيخ موسى الكاظم «أعزّه الله وأيّده» أسأله عن الصلاة .. إلى أن قال : وسألته عن العلم المنقول إلينا من آبائك وأجدادك عليهم‌السلام قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه أو الردّ إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب عليه‌السلام : ما علمتم أنه قولنا فألزموه ، وما لم تعلموه فردّوه إلينا» (١).

وروى الصفار في بصائر الدرجات نحو هذه الرواية عن محمد بن عيسى ، قال «أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث وجوابه بخطِّه ، فقال : نسألك عن العلم المنقول إلينا ...» (٢). والظاهر تعدد المكاتبة ، فإن المكتوب إليه في رواية السرائر هو أبو الحسن الأوّل عليه‌السلام ، وفي الثانية أبو الحسن الثالث عليه‌السلام.

وكيف كان فالرواية تدل على وجوب التوقف عند تعارض الأحاديث إذا لم تكن قرينة على صدور أحدها خاصة. والأمر بالتوقف مطلق غير مقيد بفقد المرجحات الآتية من الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة. وأمّا سند رواية السرائر فهو وإن لم يكن واضحا ، إلّا أن اعتماد ابن إدريس عليها مع بنائه على عدم حجية الخبر الواحد المجرّد عن القرينة القطعيّة كاشف عن إحراز صدورها.

__________________

أيضا مخيّرا في العمل بأيِّهما شاء من جهة التسليم ...» (٣).

وسيأتي الكلام في سائر طوائف الأخبار وأنّها هل تقتضي تقييد مطلقات التخيير أم لا؟

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب ٦ من أبواب المقدمات ، الحديث : ٣٣ ، ص ٦٦ الطبعة الأولى

(٢) جامع أحاديث الشيعة ، الباب ٦ من أبواب المقدمات ، الحديث : ٣٣ ، ص ٦٦ الطبعة الأولى

(٣) الإستبصار ، ١ ـ ٤

١١٦

ومنها (١) : ما دلّ على ما هو الحائط منها (*).

______________________________________________________

ومثل موثقة سماعة المتقدمة في أخبار التخيير ، بناء على إرادة السعة في تأخير الواقعة ـ بعد الأمر بالإرجاء ـ وعدم العمل بالخبرين إلى زمان لقائه عليه‌السلام. ومثل خبر سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام المتقدمة في (ص ١١٣)

وقد عدّ خبر جابر (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام وغيره أيضا كمرسلة ابن بكير (٢) من أخبار التوقف مطلقا. لكنه ليس كذلك ، لاشتمالها على التوقف بعد فقد المرجحات ، لا مطلقا كما هو مراد المصنف «قدس‌سره».

٣ ـ أخبار الاحتياط

(١) أي : ومن تلك الطوائف الأربع ما دلّ على الاحتياط في الخبرين المتعارضين ، والدال على الأخذ بالاحتياط قوله عليه‌السلام في مرفوعة زرارة بعد تكافؤ المرجحات : «إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط» (٣). لكن المرفوعة لا تدل على الاحتياط مطلقا ، بل في صورة تكافؤ المرجحات.

__________________

(*) في تقريرات سيدنا الفقيه الأعظم صاحب الوسيلة «قده» : «والمراد بما دلّ على التوقف أو الاحتياط هو الأخبار الدالة عليهما في مطلق الشبهات ، لا في خصوص المتعارضين ، لعدم ما يدل على أحدهما فيهما. نعم في الأخبار الآمرة بأخذ المرجحات ما يدل على التوقف بعد فقدها ، لكنها ليست دالة على التوقف أو الاحتياط ولو مع وجود المرجحات» (٤).

أقول : أما ما أفاده «قده» بالنسبة إلى الاحتياط فالظاهر أنه كذلك ، إذ لم نعثر على ما يدل على الاحتياط مطلقا في خصوص المتعارضين ، والدال عليه فيهما هو ما عرفته من بعض فقرات مرفوعة زرارة ، وذلك أيضا ليس مطلقا بل هو مقيّد بفقد المرجحات. فإن كان مراد المصنف تلك الفقرة فالتعبير عنها بالطائفة مسامحة ، فلا يبعد أن يريد بالطائفة ما في تقريرات سيدنا الأجل من الأخبار الدالة على الاحتياط في مطلق الشبهات.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٣٧ ، ص ٨٦

(٢) المصدر ، الحديث : ١٨ ، ص ٨٠

(٣) عوالي اللئالي ، ٤ ـ ١٣٣

(٤) منتهى الوصول ص ٢٨٤

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما ما أفاده «قده» من الأخبار العامة الدالة على التوقف في مطلق الشبهات فهو وإن كان محتملا ، لكن احتمال ما ذكرناه من روايتي سماعة ومحمد بن علي بن عيسى لعله أقرب ، إذ الظاهر عدم قصور في دلالتهما على التوقف في الفتوى والسعة في العمل.

هذا ما دلّ من الأخبار على التوقف في تعارض الخبرين مطلقا من غير تقييد بفقد المرجح. وفي بعض الأخبار تقييد الأمر بالإرجاء بما إذا لم يكن لأحد الخبرين مزية ترجحه على الآخر ، كما في مقبولة عمر بن حنظلة ، فإنه عليه‌السلام بعد فرض استواء الحاكمين في الصفات أمر بالنظر في مستندي حكميهما ، والأخذ بالمشهور والموافق للكتاب والمخالف للقوم وما يكون حكّامهم أميل إليه ، وبعد تكافؤ الخبرين في هذه الأمور قال عليه‌السلام : «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» فالحكم بالتوقف متأخر عن وجوه الترجيح.

كما أن ظاهر المقبولة بقرينة قوله عليه‌السلام : «حتى تلقى إمامك» اختصاص الحكم بالإرجاء بزمان الحضور ، خصوصا مع اقتضاء مورد السؤال ـ وهو النزاع المالي ـ رفع الخصومة وقطع مادة التشاجر بين المترافعين ، مما يكون إيقاف الدعوى لمدة قصيرة ـ أي إلى إمكان التشرف واستعلام الواقع ـ ممكنا.

ولأجل اختلاف مضمون المقبولة مع مفاد المطلقات الآمرة بالوقوف عند المتعارضين لم نذكر هذه الرواية في التوضيح المعدّ لبيان مراد الماتن من مطلقات أخبار الوقوف.

وكيف كان فالظاهر أن أخبار التخيير معارضة بأخبار الوقوف بالتباين ، ومن المعلوم إناطة حجية أحد الخبرين المتعارضين تخييرا بتقديم أخبار التخيير بنحو من الجمع الدلالي بين الطائفتين بعد ما عرفت من وجود الأخبار المعتبرة سندا في كلتيهما.

وقد تصدّى الأصحاب «رضوان الله عليهم» للجمع بينهما أو تقديم أخبار التخيير مطلقا ، أو في عصر الغيبة. وقد حكى المحدث البحراني وجوها ثمانية للجمع بينهما ، وناقش فيها (١) ، وإخبار الثاني من تلك الوجوه جمع منهم شيخنا الأعظم ، وهو حمل أخبار الوقوف على التمكن من رفع الشبهة والوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، وحمل أخبار التخيير على زمان تعذر الوصول إليه عليه‌السلام ، وهو محكي عن الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج ، فراجع.

كما أن القائلين بالتخيير اختلفوا في كيفية تقديم أخباره على أخبار الوقوف ، فذهب المحقق الآشتياني ووافقه شيخنا المحقق العراقي «قدهما» إلى حكومتها على أخبار الوقوف العامة ، واختار

__________________

(١) الدرر النجفية ، ص ٥٦ إلى ٥٨

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المحقق الرشتي أخبار التخيير من جهة الجمع الدلالي بين النص والظاهر (١) ، والمحكي عن المجلسي «قدهما» الجمع بحمل الأمر بالوقوف على الاستحباب.

وكيف كان فالمعزي إلى المشهور هو القول بالتخيير بين الخبرين المتعارضين ، بل ادعى في المعالم الإجماع عليه.

وقد وجّه المحقق النائيني فتوى المشهور بالتخيير بما حاصله : أن الأخبار على طوائف أربع :

منها : ما دلّ على التخيير مطلقا أي في زمن الحضور والغيبة كخبر الحسن بن الجهم.

ومنها : ما دلّ على التوقف كذلك بناء على وجوده في الأخبار كما حكي.

ومنها : ما دلّ على التخيير في زمن الحضور كخبر الحارث بن المغيرة.

ومنها : ما دلّ على التوقف في زمن الحضور كما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة.

والنسبة بين مطلقات التخيير ومقيّداته وإن كانت هي العموم والخصوص كالنسبة بين مطلقات الوقوف ومقيِّداته ، إلّا أنه لا تحمل المطلقات على المقيدات ، إذ حمل المطلق على المقيد في المثبتين مشروط بكون المطلوب فيهما صِرف الوجود حتى يتحقق التنافي الموجب للحمل ، والمفروض كونهما انحلاليين ، والمقصود هو حكم الخبرين المتعارضين بنحو مطلق الوجود.

والنسبة بين المطلقات هي التباين ، لكن لما لم يعمل بإطلاق أدلة التخيير في زمان الحضور صار الإطلاق معرضا عنه وغير مراد ، فكأنه من أوّل الأمر كان دليل التخيير مختصا بزمان الغيبة ، وحينئذ تنقلب النسبة التباينية التي كانت بين مطلقات التوقف والتخيير إلى الأعم والأخص المطلق ، لصيرورة مطلقات التخيير بالإعراض المزبور أخص من إطلاقات أدلة التوقف ، فتخصّص إطلاقات التوقف وتكون النتيجة التخيير في زمان الغيبة والتوقف في زمان الحضور.

هذا ما حكاه سيدنا الأستاذ في مجلس الدرس عن المحقق النائيني «قدهما» وهو مغاير لما في تقريرات العلامة الكاظمي «قده» من وجهين :

أحدهما : أن النسبة بين مطلقات الوقوف والتخيير هي العموم من وجه ، وقد تكرر هذا التعبير في موضعين من التقرير (٢) ، ولكن السيد الأستاذ «قده» صرّح بأن مراد المحقق النائيني هو ما ذكرناه من أن النسبة بينهما هي التباين.

وثانيهما : أن النسبة بين مقيِّدات التخيير والتوقف هي التباين كما في التقرير ، ولكن تخلص من التعارض بينهما بقوله : «ولا يهمنا البحث عن رفع التعارض بين ما دلّ على التوقف والتخيير في زمان الحضور ، فإنّه لا أثر له. مضافا إلى أنه لم يعلم العمل بما دلّ على التخيير في زمان الحضور ...». ولكن

__________________

(١) بدائع الأفكار ، ص ٤٢٢

(٢) فوائد الأصول ، ٤ ـ ٢٨٤

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

سيدنا الأستاذ لم يتعرض لحكم تعارض المقيدات ، واقتصر على الإعراض عن مطلقات التخيير وعدم العمل بها في عصر الحضور.

أقول : أمّا الوجه الأوّل ـ أعني النسبة بين مطلقات التخيير والتوقف ـ فالظاهر أن التعارض بينهما تبايني كما أفاده سيدنا الأستاذ «قده». لكن يمكن تقريب العموم من وجه المذكور في التقريرات أيضا ، بأن يقال : إنّ مفاد أخبار التخيير هو الحكم الأصولي أعني حجية أحد الخبرين تخييرا ، لا التخيير في المسألة الفرعية ، والتخيير في الحجية معقول في جميع موارد التعارض سواء أكان الحكم إلزاميا أم ترخيصيا ، ولا مانع من حجية أحدهما في دوران الأمر بين المحذورين ، بأن دلّ أحدهما على وجوب فعل والآخر على حرمته. وأخبار الوقوف تعمّ الفتوى والعمل ، فإنّ الوقوف هو السكون وعدم المضي ، وإطلاقه شامل للفتوى والعمل ، ولكنه لا يجري في الدوران بين الوجوب والحرمة ، لأنه مورد اللابدية العقلية ، ويتعذر فيه الاحتياط.

وعليه فأخبار الوقوف أعم من أخبار التخيير ، لشمولها للحكم الأصولي والفرعي ، وأخص منها ، لاختصاصها بغير مورد الدوران بين المحذورين. وأخبار التخيير أخص من أخبار الوقوف ، لدلالتها على الحكم الأصولي ، وأعم منها لشمولها لموارد الدوران ، ومادة الاجتماع هي تعارض الخبرين في غير الوجوب والحرمة ، فمقتضى أخبار التخيير حجية أحد الخبرين ، ومقتضى أخبار الوقوف التوقف عن الفتوى والعمل بالاحتياط.

وهذا التوجيه وإن كان صحيحا خصوصا بملاحظة موثقة سماعة الدالة على حجية أحد الخبرين تخييرا مع كون أحدهما أمرا والآخر نهيا.

لكن يبعِّده ما أفاده المحقق النائيني في مسألة أصالة التخيير من قوله : «وما ورد من التخيير في باب تعارض الأمارات إن كان المراد منه التخيير في المسألة الأصولية وهو التخيير في أخذ أحد المتعارضين حجة وطريقا إلى الواقع في مقام الاستنباط فهو أجنبي عمّا نحن فيه. وإن كان المراد منه التخيير في المسألة الفقهية أي التخيير في العمل فيكون من التخيير العقلي التكويني ، لا تعبدي شرعي ...» (١).

وعليه فحيث إن التخيير في المقام هو الأخذ بأحدهما بما أنه حجة شرعا ، فلا يكاد يجري في مسألة الدوران ، فإنّ الأثر المترقب من الحجية وهو الحركة على طبقها حاصل قهرا ، لعدم خلوّ المكلف تكوينا من الفعل والترك. وعليه فكون النسبة بين المطلقات هي التباين أولى من العموم من وجه.

__________________

(١) فوائد الأصول ، ٣ ـ ١٦٤

١٢٠