منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

مع عدم مساعدة العرف عليه (١) ، وحسبان (٢) أهله أنّها غير باقية ، وإنّما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها ، فتأمل (٣) جيدا.

لا يقال (٤) : نعم ، الاعتقاد والرّأي وإن كان يزول بالموت ، لانعدام موضوعه (٥) ، إلّا أنّ حدوثه (٦) في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته كما هو الحال في الرواية (٧).

______________________________________________________

(١) أي : على بقاء النّفس ، لأنّ العرف يعتقدون بفناء الإنسان بجميع شئونه ، لأنّ الهلاك الحقيقي لكل شيء ، يقتضي انعدامه بتمام شئونه ، لا بوار الجسد وبقاء النّفس.

(٢) معطوف على «عدم» يعني : ومع حسبان. ثم إنّ الإيجاز الّذي يراعيه المصنف «قده» رعاية كاملة يقتضي حذف «أهله» والاقتصار على «وحسبانه». وضمير «أهله» راجع إلى العرف ، وضميرا «أنها ، انعدامها» راجعان إلى النّفس.

(٣) الظاهر أنّ الأمر بالتأمل لأجل الإمعان في المسألة وعدم خلط الأنظار العرفية الساذجة بأنظار أهل المعقول حتى لو كانت ملتئمة مع الخطابات الشرعية ، فلا يقصد من الأمر بالتأمل القدح في اعتراضه على الاستدلال بالاستصحاب.

(٤) غرض المستشكل تسليم زوال الرّأي بارتفاع الحياة ، لتقومه بها ، لكن مع ذلك يمكن إثبات جواز تقليد الميت بدعوى كفاية حدوث الرّأي حال الحياة في جواز تقليده حال موته كما هو الحال في الرواية ، حيث إنّ حياة الراوي ليست شرطا مطلقا ـ حدوثا وبقاء ـ في جواز نقل الرواية عنه ، بل حياته حال نقل الرواية كافية في جواز نقلها بعد موته ، فليكن جواز التقليد كذلك أيضا ، يعني : أنّ حدوث الرّأي في حال الحياة علّة محدثة ومبقية لجواز تقليده بعد موته ، بلا حاجة إلى وجود الرّأي الفعلي حتى نحتاج في إثباته إلى الاستصحاب.

(٥) أي : موضوع الرّأي. والجملة من قوله : «الاعتقاد» إلى هنا بيان لقوله : «نعم» والاختصار يقتضي الاقتصار على كلمة «نعم» بأن يقال : «نعم ، إلّا أن حدوث الرّأي ...»

(٦) أي : حدوث الرّأي بالاستنباط كاف ... إلخ.

(٧) حيث لا يعتبر في صحة الرواية وجوازها حياة الراوي.

٦٠١

فإنّه يقال (١) : لا شبهة في أنّه لا بدّ في جوازه من بقاء الرّأي والاعتقاد ، ولذا لو زال بجنون وتبدّل ونحوهما لما جاز (٢) قطعا (٣) كما أشير إليه آنفا. هذا (٤) بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.

وأمّا الاستمراري فربما يقال : بأنّه (٥) قضية استصحاب الأحكام

______________________________________________________

(١) هذا جواب الإشكال ، وحاصله : أنّ قياس التقليد على نقل الرواية مع الفارق ، وتوضيحه : أنّ رواية الأحاديث لا تتوقف إلّا على الحياة آناً ما ، بخلاف جواز التقليد ، لكون الرّأي والاعتقاد جهة تقييدية لجواز رجوع العامي إلى المجتهد ، ومن المعلوم أنّ كل حكم تابع لموضوعه وجودا وعدما ، وإلّا لم يكن موضوعا ، وهذا خلف. ولذا لو زال الرّأي بجنون أو هرم أو مرض ، أو تبدّل بالرأي الآخر لما جاز تقليده قطعا ، لا ابتداء ولا بقاء ، فإنّ بطلان التقليد بالجنون وغيره من العوارض ليس لدليل تعبدي ، بل من جهة اعتبار بقاء الرّأي في جواز التقليد.

ومع هذا الترتب كيف يدّعى كفاية حدوث الرّأي في حال الحياة لجواز التقليد إلى الأبد؟ فإنّه مساوق لبقاء الحكم بدون موضوع ، وهو في الاستحالة كبقاء المعلول بلا علّة.

(٢) هذا الضمير المستتر وضمير «جوازه» راجعان إلى التقليد ، وضمير «زال» راجع إلى الرّأي.

(٣) مع أنّ النّفس الحيوانية باقية ، وإنّما الخلل في الناطقة العاقلة التي هي أوّل ما خلق الله ، فإذا لم يجز التقليد لمجرد زوال الرّأي مع بقاء موضوعه فعدم جوازه بانعدام موضوعه أولى.

(٤) أي : ما ذكرناه إلى هنا كان بالنسبة إلى التقليد الابتدائي للميّت ، وقد عرفت عدم الدليل عليه لا من الاستصحاب ولا من باب قياسه بالرواية.

(٥) أي : بأنّ عدم اشتراط الحياة في التقليد الاستمراري هو مقتضى استصحاب الأحكام التي قلّده العامي فيها. وهذا الاستصحاب هو انسحاب الحكم المستفتى فيه إلى ما بعد موته. أمّا استصحاب حكم المستفتي ـ أعني به أنه كان للعامي أن يقلّد هذا الميت ، وكذا استصحاب حكم المفتي أعني به أنّ المجتهد كان ممن يجوز الاعتماد على قوله ـ

٦٠٢

التي قلّده فيها (١) ، فإنّ (٢) رأيه وإن كان مناطا لعروضها وحدوثها ، إلّا أنّه (٣)

______________________________________________________

فقد تقدم في التقليد الابتدائي منعه ، لعدم بقاء الموضوع. وما أفاده هناك كان موافقا لما في تقريرات شيخنا الأعظم.

وأمّا استصحاب الحكم المستفتى فيه الّذي حكاه الماتن عن القائلين بجواز التقليد البقائي فقد تقدم حكايته عن الفصول ، وتقريبه أن يقال : إنّ الأحكام التي قلّده فيها ـ من وجوب صلاة الجمعة وجلسة الاستراحة وجزئية السورة وحرمة العصير العنبي المغلي قبل ذهاب ثلثيه ونجاسة عرق الجنب من الحرام وصحة البيع المعاطاتي وغير ذلك ـ كانت معلومة في زمان حياة المجتهد وصارت مشكوكة البقاء بعد موته ، فتستصحب ، فيقال : ان وجوب جلسة الاستراحة باق على حاله ، وكذا غيره.

فان قلت : إنّ هذه الأحكام الفرعية لا يمكن استصحابها كعدم إمكان استصحاب جواز التقليد ، لأنّ منشأ حدوث هذه الأحكام هو الرّأي المفروض زواله بالموت ، ولا معنى لاستصحاب نفس الحكم مع انعدام موضوعه المقوّم له عرفا. وعليه يشترك هذا التقرير مع التقريرين المتقدمين في عدم جريان الاستصحاب ، لانتفاء الموضوع.

قلت : إنّ الرّأي وإن كان له دخل في حدوث الأحكام ـ في نظر المجتهد ـ بالضرورة ، إلّا أنّ دخله في وجودها يكون بنحو الواسطة في الثبوت ، لأنّ الرّأي علّة لعروض الأحكام ـ كالوجوب ـ لموضوعاتها كصلاة الجمعة وجلسة الاستراحة ، من دون دخل موضوعي للرأي في ثبوت الأحكام حتى يكون مقوّما لموضوع الحكم كي يرتفع الحكم بانتفاء الرّأي. هذا تقريب استصحاب الأحكام الفرعية ، وسيأتي بيان مناقشة المصنف فيه.

(١) أي : في الأحكام ، فإن كان التقليد عبارة عن نفس العمل ، فالمستصحب خصوص الأحكام التي عمل بها في زمان حياة المجتهد. وإن كان عبارة عن مجرد الالتزام فالمستصحب جميع الأحكام ، إلّا إذا التزم بالعمل ببعض فتاواه ، فيختص حينئذ مجرى الاستصحاب بذلك البعض.

(٢) أي : فإنّ رأي المفتي. وهذا إشارة إلى وهم تقدم بيانه بقولنا : «فان قلت : ان هذه الأحكام الفرعية ... إلخ» ، وضميرا «حدوثها ، عروضها» راجعان إلى الأحكام.

(٣) أي : إلّا أنّ الرّأي من أسباب العروض ، وهذا إشارة إلى دفع الوهم المزبور ، وقد

٦٠٣

عرفا من أسباب العروض لا من مقوّمات الموضوع والمعروض.

ولكنه لا يخفى أنّه (١) لا يقين بالحكم شرعا سابقا ،

______________________________________________________

تقدم بقولنا : «قلت : ان الرّأي وان كان له دخل في حدوث الأحكام ... إلخ».

(١) هذا الضمير وضمير «لكنه» للشأن ، وهذا جواب الاستدلال باستصحاب بقاء الأحكام الفرعية على جواز البقاء على تقليد الميت ، وقد أجاب عنه بوجوه ثلاثة هذا أوّلها ، ومحصّله : انتفاء ركن اليقين بالحدوث في الأحكام التقليديّة حتى يجري فيها الاستصحاب. توضيحه : أنّ جواز التقليد وحجية الرّأي والفتوى إمّا أن يكون حكما عقليا مستقلا كما سبق بيانه في أوّل فصول التقليد بقوله : «ان جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة يكون بديهيّا جبليا فطريا لا يحتاج إلى دليل» وإمّا أن يكون حكما شرعيّا ، وهو لا يخلو من أحد وجهين كما أشار إليه في المتن :

أحدهما : أن يكون مفادها الطريقية المحضة وهي المنجزية والمعذرية ، فكما أنّ القطع طريق وحجة على الواقع عقلا ، فكذا الأمارة غير العلميّة تكون حجة شرعية أي منجّزة للواقع ومعذّرة عنه. وعلى هذا لا تقتضي أدلّة اعتبار الأمارة إنشاء حكم ظاهري مماثل للمؤدّى حتى يكون الحكم الفعلي في حق من قامت الأمارة عنده هذا الحكم المماثل لا نفس الحكم الواقعي.

وثانيهما : أن يكون مفادها جعل حكم مماثل للمؤدّى ، فأدلّة الإفتاء والاستفتاء تقتضي إنشاء حكم فعلي في حق المقلد مماثل لما أفتى به المفتي.

فهذه احتمالات ثلاثة. فعلى الأوّل لا مجال لاستصحاب الأحكام الفرعية التي قلّده فيها حال حياته ، وذلك لعدم اليقين السابق بثبوت هذه الأحكام في الشريعة ، فإنّ حكم العقل بمتابعة العامي لفتوى الفقيه يكون منجّزا لتلك الأحكام على تقدير إصابة الفتوى للواقع ، ومعذّرا عنها على تقدير الخطاء ، فلا يقتضي قبول فتوى المجتهد التعبد بحكم شرعي ظاهري في قبال الحكم الواقعي المجعول لفعل المكلف حتى يكون اليقين بذلك الحكم الظاهري مصحّحا لاستصحابه بعد موت المفتي.

نعم يجري الاستصحاب في الأحكام التي أفتى المجتهد بها بناء على ما أفاده

٦٠٤

فإنّ (١) جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضية الفطرة كما عرفت (٢) فواضح (٣) ،

______________________________________________________

المصنف من التوسعة في دائرة الاستصحاب بعدم اعتبار خصوص اليقين بالثبوت ، وكفاية اليقين التقديري ، وسيأتي مزيد توضيح له (إن شاء الله تعالى).

وهذا الكلام يجري في الاحتمال الثاني أعني به كون جواز التقليد حكما شرعيا ، لكن لا مجال للاستصحاب من جهة كون الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية لا جعل حكم ظاهري شرعي.

وبناء على الثالث ـ وهو الالتزام بجعل المماثل ـ يجري الاستصحاب ، لأنّ المستصحب ـ كحرمة العصير العنبي ووجوب جلسة الاستراحة ونحوهما مما أفتى به الفقيه ـ حكم فعلي شرعي ظاهري تيقّن المكلف بجعله شرعا وشك في بقائه بعد موت المفتي ، فيستصحب.

لكن ناقش المصنف في هذا الاستصحاب بما تقدم في التقليد الابتدائي من أنّ هذه الأحكام الفرعية متقوّمة بالرأي ، والمفروض زواله عند الموت بنظر العرف ، فلا مجال لاستصحاب الأحكام الفرعية التي قلّده العامي فيها.

هذا محصل ما أفاده ، وفي كلامه نقاط يأتي بيانها في تطبيق المتن.

(١) تعليل لقوله : «لا يقين بالحكم» وهذا إشارة إلى نفي الحكم الشرعي ، وأنّ فتاوى المجتهد كلها منجزات للأحكام الواقعية أو معذّرات عنها ، فليست فتاوى الفقيه أحكاما واقعية ، لعدم إحراز مطابقتها للواقع ، ولا ظاهرية ، لعدم الالتزام بالحكم الظاهري الشرعي في مؤدّيات الأمارات ، بل العقل يحكم بمتابعة فتوى المجتهد ، لأنّها أقرب إلى الواقع ـ في حق العامي ـ من غيره ، وحيث إنه لم يكن يقين بالحكم الشرعي فلا يجري فيه الاستصحاب ، لانهدام أوّل ركنيه.

(٢) في الفصل الأوّل من مباحث التقليد ، حيث قال : «ان جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة يكون بديهيا جبليا فطريا».

(٣) يعني : فإنّ عدم جريان الاستصحاب فيه واضح ، لاختلال أوّل أركانه وهو اليقين.

٦٠٥

فإنّه (١) لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف والعذر فيما أخطأ ، وهو واضح. وإن كان (٢) بالنقل فكذلك على ما هو التحقيق من أنّ قضية الحجية شرعا ليست إلّا ذلك (٣) ، لا (٤) إنشاء أحكام شرعية على طبق مؤدّاها ، فلا (٥) مجال لاستصحاب ما قلّده ، لعدم (٦) القطع به سابقا ، إلّا على ما

______________________________________________________

(١) أي : فإنّ حكم العقل بجواز التقليد إلّا التنجيز والتعذير.

(٢) معطوف على «ان كان بحكم العقل» يعني : إن كان جواز التقليد بالنقل ـ كالأخبار المتواترة إجمالا على جواز رجوع العامي إلى الفقيه الجامع للشرائط ـ فجواز التقليد يكون أيضا بمعنى منجّزية فتوى المجتهد ومعذّريتها ، ففتوى الفقيه كسائر الأمارات المعتبرة شرعا ، حيث إنّ معنى حجيتها كونها كالقطع في التنجيز والتعذير والتجري والانقياد ، وليس مفاد أدلّة اعتبارها إنشاء أحكام فعلية مماثلة لمؤدياتها حتى يكون اليقين السابق بتلك الأحكام الظاهرية والشك اللاحق في بقائها موردا للاستصحاب.

(٣) أي : التنجيز والتعذير ، يعني : أنّ مقتضى الحجية الشرعية ومفاد قول الشارع : «خبر الواحد حجة وفتوى الفقيه حجة» ونحوهما هو أنهما منجّزان للواقع في ظرف الإصابة ، فيستحق العبد المؤاخذة لو خالف التكليف الإلزاميّ ، وأنّهما معذّران للمكلف في ظرف الخطأ إذا عمل المكلف بهما ، وأنّ فوت الواقع عنه لا يوجب ذمّا ولا لوما. وقد تقدمت عبارة المصنف الصريحة في هذا المعنى في مواضع ، منها بحث التخطئة والتصويب من مباحث الاجتهاد ، فراجع.

(٤) معطوف على قوله : «قضية الحجية شرعا» يعني : ليس مقتضى الحجية الشرعيّة إنشاء أحكام ظاهرية حتى يقال : إنّها معلومة سابقا ، فتستصحب إذا شك في ارتفاعها بموت المفتي.

(٥) هذا متفرع على قوله : «ان قضية الحجية شرعا ليست إلّا ذلك».

(٦) تعليل لقوله : «فلا مجال» والوجه في عدم المجال هو عدم القطع بالحكم الشرعي الفعلي في موارد فتاوى المجتهد ، لانحصار الحكم ـ بناء على مسلك التنجيز والتعذير ـ في

٦٠٦

تكلّفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب (١) ، فراجع. ولا دليل (٢) على حجية رأيه السابق في اللاحق.

______________________________________________________

الحكم الواقعي ، وهو غير مقطوع به في فتوى المجتهد ، لاحتمال خطائها وعدم إصابتها للواقع ، وإذا لم يكن يقين بثبوت الحكم الواقعي كوجوب جلسة الاستراحة فلا موضوع للاستصحاب المتقوّم باليقين والشّك.

(١) يعني : في التنبيه الثاني ، حيث قال في آخر كلامه : «ولكن الظاهر أنّه ـ أي اليقين بالثبوت ـ أخذ كشفا عنه ومرآة لثبوته ، ليكون التعبد في بقائه ...». وحاصله : أنّ اليقين في الاستصحاب أخذ طريقا ومرآة ، وأدلّة الاستصحاب في مقام جعل بقاء شيء على تقدير ثبوته ، لا بقائه على تقدير العلم بثبوته حتى يشكل جريانه هنا بعدم اليقين بالحدوث.

وعليه فمؤدّى الأمارة ـ كخبر الثقة وفتوى الفقيه ـ لمّا كان وجوب صلاة الجمعة مثلا فهو باق على حاله على تقدير ثبوته واقعا ، فيكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء شيء على تقدير حدوثه.

وفي المقام نقول : إنّ وجوب صلاة الجمعة مثلا ـ الّذي أفتى به المجتهد وقلّده العامي فيه ـ باق على حاله بعد الموت على تقدير ثبوته ، وكذا سائر الأحكام الفرعية.

والمتحصل : أنّه لا بأس بجريان الاستصحاب في الأحكام الفرعية الثابتة بالاجتهاد لموضوعاتها ، فإنّ الاجتهاد أمارة على تلك الأحكام ، فعلى تقدير ثبوتها يشك في بقائها بعد الموت ، فتستصحب على تقدير ثبوتها.

(٢) هذه الجملة ترتبط ظاهرا بقوله : «وإن كان بالنقل فكذلك على ما هو التحقيق ... فلا مجال لاستصحاب ما قلده» ويكون المقصود من قوله : «ولا دليل» الإشارة إلى منع تقريب آخر لجواز البقاء على تقليد الميت.

أمّا تقريب أصل جواز البقاء فهو : أنّ استصحاب الأحكام الفرعية وإن لم يكن صالحا لإثبات جواز البقاء ، لعدم اليقين بالثبوت. إلّا أنّ إطلاق دليل حجية رأي المجتهد ـ كما سيأتي بيانه ـ لحال موته كاف في إثبات جواز تقليده بعده.

٦٠٧

وأمّا (١) بناء على ما هو المعروف بينهم من كون قضية الحجية الشرعية جعل مثل ما أدّت إليه من الأحكام الواقعية التكليفية (٢) أو الوضعيّة شرعا في (٣) الظاهر ، فلاستصحاب (٤) ما قلّده من الأحكام وإن كان مجال (*) ،

______________________________________________________

وأمّا تقريب منعه فهو : أنّه لا إطلاق في أدلّة حجية الفتوى ليؤخذ به على حجية فتواه بعد موته ، لما سيأتي في الوجه الآتي وهو الاستدلال بالإطلاقات.

وعلى هذا كان ترك هذه الجملة هنا أولى ، إذ المقصود الاستدلال بالاستصحاب ، فلو فرض وجود إطلاق في أدلة الإفتاء والاستفتاء لما وصلت النوبة إلى التمسك باستصحاب الأحكام الفرعية. ولعلّنا لم نقف على مراده من كلامه زيد في علوّ مقامه.

(١) معطوف على قوله : «كذلك» في قوله : «وإن كان بالنقل فكذلك» يعني : إن كان جواز التقليد وحجية فتوى الفقيه ثابتا بالأدلّة النقليّة فبناء على كون مفاد الحجية الشرعية إنشاء الحكم المماثل فالاستصحاب وإن كان يجري ظاهرا لاجتماع أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء. إلّا أنّه بعد التأمل في المرتكزات العرفية لا يجري أيضا كما لا يجري فيما إذا كانت الحجية الشرعية بمعنى التنجيز والتعذير.

والوجه في جريانه هنا هو : أنّ الرّأي بالنظر العرفي البدوي علّة لعروض الحكم الظاهري كالوجوب على موضوعه كجلسة الاستراحة ، فيقال : «ان جلسة الاستراحة واجبة على المقلّد قطعا ، لأنّ رأي المجتهد أدّى إليه» فالرأي حيثية تعليلية لعروض الحكم على موضوعه ، لا حيثية تقييدية ، فلو زال الرّأي بالموت لم يقدح في بقاء نفس الوجوب على معروضه أعني جلسة الاستراحة.

وأمّا وجه عدم جريان الاستصحاب فيه فسيأتي (إن شاء الله تعالى).

(٢) كوجوب جلسة الاستراحة وحرمة العصير الزبيبي كالعنبي ونحوهما. والأحكام الوضعيّة كحصول التذكية بفري الودجين أو بغير الحديد ، والملكية بالمعاطاة ، وغير ذلك.

(٣) متعلّق بـ «جعل مثل» أي : دلالة أدلّة حجية الفتوى على جعل الحكم الظاهري الشرعي المماثل لما أفتى به المجتهد.

(٤) جزاء قوله : «وأمّا بناء» وقد تقدم تقريب جريان الاستصحاب آنفا.

__________________

(*) ما أفاده (قده) من تمامية ركن اليقين بالحدوث بناء على الالتزام بجعل المماثل لا يخلو من

٦٠٨

بدعوى (١) بقاء الموضوع عرفا ، لأجل كون الرّأي عند أهل العرف من أسباب العروض (٢) ، لا من مقوّمات المعروض (٣).

______________________________________________________

(١) متعلّق بـ «مجال» وبيان له ، وقوله : «لأجل بيان لقوله : «بقاء الموضوع عرفا». وكلمة «أهل» مستغنى عنها ، لكفاية العرف في الدلالة على المقصود.

(٢) العروض هنا بمعنى الثبوت ، لا بمعناه المصطلح ـ المقابل للواسطة الثبوتية والإثباتية ـ فالمعنى : أن الرّأي يكون من الوسائط الثبوتية ، لكونه سببا لعروض الأحكام على موضوعاتها ، إذ لا تتصف صلاة الجمعة بالوجوب الفعلي الظاهري المقطوع به إلّا بعد أداء استنباط المجتهد إليه ، ولولاه لما كانت صلاة الجمعة واجبة بالوجوب الفعلي الظاهري. لكن هذا الرّأي ليس مقوّما للحكم ، فلو زال بالموت أو بآفة أخرى كالنسيان والجنون كان الحكم باقيا إلّا مع الدليل التعبدي على عدم جواز عمل المقلد بالرأي الزائل بالهرم والمرض ونحوهما.

(٣) وهو الحكم الشرعي الظاهري المماثل لما أفتى به المجتهد كالوجوب المحمول

__________________

شيء ، تقدم التعرض له في التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب ، ومحصله : أنّ الحكم الظاهري المماثل المجعول إن كان فعليّا مطلقا سواء أصابت الأمارة أم أخطأت فالعلم بالحكم الفعلي وإن كان حاصلا وموجبا لصحة استصحابه بعد الموت بلا إشكال. لكنه مساوق للتصويب الّذي لا نقول به.

وإن كان فعليّا مقيّدا بصورة الإصابة ـ لا مطلقا ـ فهو وإن كان حكما ظاهريا مماثلا للواقع ومنجّزا له على تقدير الإصابة ، لكنه حيث لا يعلم مطابقته للواقع فلا يقين بأصل حدوثه كي يستصحب.

وعليه فالقائل بطريقية الأمارات ـ ومنها فتوى الفقيه ـ لا يجديه القول بالحكم المماثل في تصحيح جريان الاستصحاب ، إذ لا تفاوت بين مبنى الطريقية المحضة وبين هذا المسلك ، فإن تمّ توجيهه المذكور في التنبيه الثاني لاستصحاب مؤديات الأمارات جرى الاستصحاب في الحكم المستفتى فيه سواء أكانت الحجة الشرعية بمعنى التنجيز أم بمعنى جعل المماثل ، وإلّا فلا.

وكان المناسب التعرض للوجهين لجعل المماثل في التوضيح استيفاء لشقوق المسألة ، لكن حيث إنّ المصنف أجمل الكلام ولم يفصّل بين الوجهين تعرضنا له في التعليقة.

٦٠٩

إلّا أنّ الإنصاف عدم كون الدعوى (١) خالية عن الجزاف ،

______________________________________________________

على صلاة الجمعة وجلسة الاستراحة. ولو كان الرّأي مقوّما لنفس الحكم بحيث كان الحكم دائرا مداره حدوثا وبقاء كان زائلا بالموت ، ولكن المفروض أنّ الحكم يتقوم بنفس موضوعه وهو صلاة الجمعة وجلسة الاستراحة ، لا بالرأي ، وإنّما يكون الرّأي علّة لعروض الوجوب على صلاة الجمعة ، وهو يبقى حتى عند زوال الرّأي بالموت ، ولو شك في بقائه وتبدله برأي آخر في تلك النشأة جرى الاستصحاب.

(١) أي : دعوى «كون الرّأي من أسباب العروض لا من مقوّمات المعروض» وهذا جواب الاستدلال بالاستصحاب على تقدير كون المستصحب نفس الأحكام الفرعية التي أفتى الفقيه بها.

ومحصل ما أفاده : أنّ كون الرّأي من أسباب العروض خاصة ممنوع ، لكونه دخيلا في الأحكام الفرعية كالأصولية بنظر العرف قطعا أو احتمالا ، فكما أنّ حجية الحجج كخبر العدل والاستصحاب ونحوهما متقوّمة بالإحراز بحيث يكون الشك في الإثبات مساوقا للقطع بعدم حجيتها ، فكذلك الأحكام الفرعية ، فإنّها أحكام لموضوعاتها بحسب رأي المجتهد ، لا مطلقا حتى يكون تبدل الرّأي موجبا لارتفاع الحكم عن موضوعه ، بل يكون من ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ، إذ ليس الموضوع صلاة الجمعة مطلقا ، بل الموضوع صلاة الجمعة التي أدّى استنباط الفقيه إلى وجوبها ، والمفروض زوال هذا الرّأي ، فيزول الحكم بزواله. ومن المعلوم أنّ احتمال دخل الرّأي في موضوع الأحكام الفرعية ـ كالقطع بدخله ـ في عدم جواز إجراء الاستصحاب معه ، لأنّ القطع ببقاء الموضوع معتبر في الاستصحاب ، ومع احتمال الدخل لا يبقى قطع ببقاء الموضوع ، فلا يجري الاستصحاب في الأحكام الفرعية الظاهرية التي أفتى الفقيه بها.

وبعبارة أخرى : أنّ مفاد أدلة التقليد وإن كان إنشاء حكم مماثل لما أفتى به المجتهد ، وهذا الحكم المماثل الظاهري فعلي بلا ريب ، والمقلد لذلك المجتهد يصير قاطعا بالحكم الفعلي ، إلّا أنّ قطعه بوجوب صلاة الجمعة مثلا ـ وبعدم وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ـ ليس بقول مطلق ، فإنّ المقلّد عالم بوجوب الجمعة في رأي مجتهده ، لفرض اقتضاء أدلة التقليد جعل الحكم المماثل لما يراه المجتهد حكما فعليا ، ومن المعلوم أنّ

٦١٠

فإنّه (١) من المحتمل ـ لو لا المقطوع (٢) ـ أنّ الأحكام التقليدية (٣) عندهم أيضا (٤) ليست أحكاما لموضوعاتها بقول مطلق بحيث (٥) عدّ من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه بسبب تبدّل الرّأي ونحوه ، بل (٦) إنّما كانت

______________________________________________________

هذا الحكم الفعلي يتقوّم بالرأي ، فما دام الرّأي باقيا يكون المقلد عالما بالحكم الفعلي المماثل ، وإذا زال الرّأي بالموت ـ بنظر العرف وإن كان باقيا عقلا ـ لم يكن المقلّد عالما بالحكم الفعلي ، ولا معنى للاستصحاب حينئذ.

(١) الضمير للشأن ، وهذا تعليل وبيان لكون الدعوى المزبورة جزافية ، وقد تعرّض لهذا المطلب شيخنا الأعظم (قده) في التقريرات بقوله : «انّ في مجاري الأدلّة الظنية حكمان ، حكم واقعي تعلق به ظنّ المجتهد ثابتا للأشياء الواقعية كالخمر والعصير ونحوهما من غير مدخلية ظنّ المجتهد فيها ، وإلّا لزم التصويب. وحكم ظاهري ... إلخ».

(٢) الأولى أن يقال : «المقطوع به». والترديد بين الاحتمال والقطع لا يخلّ بالمقصود وهو عدم جريان الاستصحاب ، فإنّ اللازم في جريانه إحراز بقاء الموضوع ، وبدونه لا يجري ، سواء علم بارتفاعه أم شكّ فيه.

(٣) وهي الأحكام الفرعيّة التي تكون مورد التقليد سواء أكانت تكليفية كوجوب صلاة الجمعة ، أم وضعية كالملكية الحاصلة بالمعاطاة ، والزوجية الحاصلة بالعقد الفارسي.

(٤) يعني : كالأحكام الأصولية كالحجية ، فإنّ الرّأي كما يكون موضوعا لجواز التقليد ، فكذلك يكون موضوعا للأحكام التقليدية الفرعية ـ قطعا أو احتمالا ـ وقد عرفت كفاية احتمال الدخل الموضوعي في منع جريان الاستصحاب.

(٥) بيان لـ «قول مطلق» ومعنى كون الأحكام التقليدية أحكاما لموضوعاتها بقول مطلق بنظر العرف هو : ما تقدّم من كون موضوع وجوب صلاة الجمعة نفس الصلاة ، والوجوب عارض عليها بواسطة الرّأي ، فإذا زال الرّأي بمرض ونحوه بقي الوجوب الفعلي بحاله ، لكون الرّأي واسطة للعروض ، لا مقوّما للمعروض.

(٦) معطوف على «ليست» يعني : أنّ الأحكام التقليدية كالأصولية إنّما كانت أحكاما

٦١١

أحكاما لها (١) بحسب رأيه ، بحيث عدّ (٢) من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدّل (٣). ومجرّد (٤) احتمال ذلك يكفي في عدم صحة استصحابها ، لاعتبار (٥) إحراز بقاء الموضوع ولو (٦) عرفا ، فتأمّل جيّدا.

هذا كله مع إمكان (٧) دعوى أنّه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال

______________________________________________________

بحسب رأي المفتي في أنّ الرّأي مقوّم للموضوع.

(١) أي : لموضوعات الأحكام التقليدية ، وضمير «رأيه» راجع إلى «المفتي».

(٢) نائب الفاعل هنا وفي «عدّ» المتقدم هو ارتفاع الحكم.

(٣) أي : عند تبدّل رأي المجتهد برأي آخر.

(٤) أي : ومجرّد احتمال كون الأحكام التقليدية أحكاما لموضوعاتها بحسب رأيه يكفي لمنع جريان الاستصحاب ، فلا حاجة إلى القطع به.

(٥) تعليل لكفاية مجرّد الاحتمال في عدم صحة جريان الاستصحاب ، وحاصله : أن اعتبار إحراز بقاء الموضوع كاف في عدم جريانه.

(٦) لا حاجة إلى كلمة «ولو» لما تحقق في خاتمة الاستصحاب من كون المناط بقاء الموضوع العرفي لا الدليلي ولا العقلي ، فالأولى إسقاطها.

(٧) هذا إشكال آخر على التمسك باستصحاب الأحكام التقليدية لجواز البقاء على تقليد الميت ، حيث كان الوجه السابق ناظرا إلى عدم إحراز بقاء الموضوع بالموت ، لاحتمال كون الرّأي من المقوّمات لا من أسباب العروض ، أو دعوى القطع عرفا بتقوم الحكم بالرأي. وهذا الوجه ناظر إلى دعوى القطع بارتفاع الرّأي بالموت شرعا بمعونة الأولويّة القطعيّة ، ومن المعلوم أنّه مع القطع بحكم الشارع بزوال الرّأي بالموت لا يبقى مجال للاستصحاب حتى لو فرض اتّحاد مسلك العرف مع العقل ببقاء الرّأي لبقاء النّفس الناطقة.

وكيف كان فحاصل هذا الوجه الّذي إشارة إليه في التقليد الابتدائي أيضا هو : دعوى الأولويّة القطعية على عدم جواز البقاء على تقليد الميت ، ببيان : أنّ عدم جواز البقاء على تقليد المفتي بعد زوال الرّأي الهرم أو المرض يستلزم عدمه في حال الموت بالأولوية ،

٦١٢

الرّأي بسبب الهرم أو المرض إجماعا لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعا ، فتأمل (١).

______________________________________________________

لأنّ الموت يلحقه بالجمادات ، بخلاف المرض والهرم ، فإنّهما لا يوجبان ذلك ، لأنّ النّفس لا زالت مدبّرة لشئون البدن ، لكن حصل اختلال في بعض القوى ، والموت يوجب تعطيل كل القوى.

(١) لعله إشارة إلى منع الأولوية ، حيث أنّ الموت يوجب تجرّد النّفس الناطقة عن ظلمة المادة وغشاوتها ، فتنكشف لديها الحقائق ، بخلاف المرض والهرم ، فإنّ النّفس الناطقة لتعلّقها بالبدن العنصري واشتغالها بتدبيره لا تتمكن من توسيط القوى الحسّاسة الجسمانية لإدراك الحقائق ، فإذا فارقت النّفس الناطقة والقوّة العاقلة هذا البدن وانقطعت علقتها عنها أدركت الأشياء على الوجه الأتم ، إذ لا مانع لها من الإدراك حينئذ.

أو إشارة إلى ما حكي عن المحقق القوچاني ، وهو : أنّ للعرف حيثيتين يختلف بهما أنظارهم ، إحداهما : كونهم من أهل العرف مع قطع النّظر عن تدينهم بشريعة.

وثانيتهما : كونهم متدينين بشريعة من الشرائع السماويّة. وما أفيد من انتفاء الرّأي بالموت عرفا إنّما هو بالنظر إلى الحيثية الأولى ، لا الحيثيّة الثانية ، فإنّهم ـ بعد أن أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببقاء النّفس ـ قد فهموا بقاءها ، وهم يخطّئون نظرهم الأوّل ويعتقدون بقاءها. وحينئذ يكون الرّأي المتقوّم بالنفس مشكوك البقاء ، لأنّه إن كان مخالفا للواقع فقد ارتفع بالموت ، وإن كان مطابقا له فهو باق ، فيستصحب ، ويثبت المطلوب وهو جواز البقاء على تقليد الميت.

أو إشارة إلى غير ذلك مما لعله سيأتي في التعليقة.

وقد تحصل من مجموع ما أفاده المصنف من المناقشة في الاستدلال بالاستصحاب على جواز التقليد الاستمراري وجوه ثلاثة :

أوّلها : اختلال ركن اليقين بالحدوث ، لأنّ جواز التقليد حكم عقلي ليس فيه جعل حكم ظاهري ، بل هو منجّز على تقدير الإصابة ومعذّر على تقدير الخطأ كالعلم.

ثانيها : أنّه لو التزمنا بما ذهب إليه المشهور في حجية الأمارات ـ من جعل أحكام

٦١٣

ومنها (١) : إطلاق الآيات الدالة على التقليد.

______________________________________________________

مماثلة لمؤدّياتها ـ منعنا الاستصحاب بوجه آخر ، وهو : أنّ الحكم الفعلي الظاهري يتقوم بالرأي المفروض زواله بالموت ، ولا أقلّ من احتمال دخل الرّأي في هذا الحكم الفعلي حدوثا وبقاء. ولا مجال لاستصحاب الحكم مع احتمال انتفاء موضوعه فضلا عن القطع بالانتفاء.

ثالثها : أنّ الأولويّة القطعية دلّت على انتفاء الرّأي بالموت بنظر الشارع ، للإجماع على بطلان تقليد الفقيه المبتلى بآفة كثرة النسيان والمرض المزيل للرأي.

هذا تمام كلام المصنف فيما يتعلّق بالتمسّك بالاستصحاب لإثبات جواز التقليد الابتدائي والبقائي. وسيأتي الكلام في سائر الوجوه (إن شاء الله تعالى).

٢ ـ إطلاق الأدلة اللفظية

(١) معطوف على قوله : «منها : استصحاب جواز تقليده في حال حياته» وظاهر العطف يقتضي كون هذا الوجه من الوجوه الضعيفة المستدل بها على التفصيل بين تقليد الميت ابتداء واستدامة ، مع أنّ التمسك بالإطلاقات دليل القول بجواز تقليد الميت مطلقا ولو ابتداء. وتقريب الاستدلال هو : أنّ آية النفر تدل ـ بإطلاقها ـ على وجوب الحذر بإنذار المنذر سواء بقي حيّا إلى زمان عمل المنذر أم لا ، قال في التقريرات : «لو فرضنا أنّ المجتهد قد أنذر في حال حياته ولم يتّبعه المقلّد عصيانا ، ثم بدا له بعد موته اتّباعه ، فهل ترى عدم صدق الإنذار في مثله؟ وليس ذلك من التقليد الاستمراري ، بل هو تقليد بدوي ، إذ المفروض عدم الأخذ بالفتوى في حال الحياة وعدم العمل بها أيضا ...» (*).

وأمّا آية السؤال فتدلّ على صدق السؤال على مراجعة كتب الأموات ، وكذا تدلّ أيضا على وجوب القبول إذا سأل ومات المسئول بعد الجواب لئلا يلغو وجوب السؤال.

وأمّا آية الكتمان فتدلّ أيضا على وجوب الإظهار وحرمة الكتمان ، وهو يلازم وجوب القبول سواء بقي من أظهر الحق حيّا أم مات.

وناقش المصنف في الاستدلال بإطلاقات الكتاب بما سبق في الاستدلال بها على

__________________

(*) إلّا على القول بكون التقليد مجرّد الالتزام ، إذ التقليد حينئذ استمراري لا بدوي.

٦١٤

وفيه : ـ مضافا إلى ما أشرنا إليه (١) من عدم دلالتها عليه ـ منع (٢) إطلاقها على تقدير دلالتها (٣) ، وإنّما هو (٤) مسوق لبيان أصل تشريعه (٥) كما لا يخفى.

ومنه (٦) قد انقدح حال إطلاق ما دلّ من الروايات على التقليد.

______________________________________________________

أصل جواز التقليد ، وجواز تقليد المفضول من وجهين :

الأوّل : عدم دلالة هذه الآيات على جواز التقليد شرعا ، لاحتمال إرادة تحصيل العلم مقدّمة للعمل ، لا العمل بقول أهل العلم تعبدا كما هو المطلوب في باب التقليد.

الثاني : أنّه لا إطلاق فيها حتى يتمسّك بها لإثبات جواز تقليد الميت ، لكون الآيات مسوقة لبيان أصل مشروعية التقليد ، فهي مهملة من هذه الجهة ، ومن المعلوم أنّ استفادة الإطلاق منوطة بكون المتكلّم في مقام بيان مرامه من الجهة التي يراد التمسك بإطلاق كلامه لها.

(١) يعني : في الفصل الأوّل من مباحث التقليد ، حيث قال : «وأمّا الآيات فلعدم دلالة آية النفر والسؤال على جوازه ، لقوة احتمال أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم لا الأخذ تعبدا ...» والمقصود من عدم الدلالة عليه إنكار أصل ارتباط الآيات بباب التقليد ، لا نفى دلالتها على جواز تقليد الميت كما هو واضح. وضمير «عليه» راجع إلى «التقليد».

(٢) مبتدأ مؤخّر خبره «فيه» المقدّم ، وهذا إشارة إلى المناقشة الثانية في التمسك بإطلاق الآيات ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «الثاني : أنّه لا إطلاق فيها حتى يتمسك بها لإثبات ... إلخ».

(٣) الضمائر في «دلالتها» في الموضعين ، وفي «إطلاقها» راجعة إلى الآيات.

(٤) الأولى أن يقال : «هي مسوقة» لئلا يتوهم رجوع الضمير إلى الإطلاق ، فانه (قده) بصدد منع الإطلاق لا تقريره وتثبيته ، والأمر سهل بعد وضوح المطلب.

(٥) أي : تشريع التقليد ، وليست في مقام بيان شرائط المفتي والمستفتي حتى يتمسك بالإطلاق لرفضها.

(٦) يعني : ومن كون الآيات المباركات مسوقة لبيان أصل تشريع التقليد ـ في قبال من

٦١٥

مع إمكان (١) دعوى الانسباق إلى حال الحياة فيها (٢).

______________________________________________________

يقول بوجوب الاجتهاد عينا على عامّة المكلفين أو بوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بالأحكام ـ ظهر حال إطلاق الأخبار الدالّة على جواز التقليد بطوائفها المتعددة ، فإنّها كالآيات مهملة من هذه الحيثية ، لعدم كونها في مقام بيان ما له دخل في التقليد من شرائط المرجع وما يصح التقليد فيه وغير ذلك حتى يكون الإطلاق نافيا لكلّ ما شكّ في اعتباره في تحقق التقليد.

وما أفاده المصنف حول الأخبار فيه جهة اشتراك مع الآيات وجهة افتراق. أمّا جهة الاشتراك فهي ما عرفت من دلالة الأخبار على جواز التقليد في الجملة ، كالآيات بناء على دلالتها على مشروعية أصل التقليد ، وقد تقدم تفصيل ذلك في الفصل الأوّل من مباحث التقليد.

وأمّا جهة الافتراق فهي أنّه يمكن دعوى ظهور الأخبار المتقدمة في اعتبار الحياة في المفتي ، فهي أدلّ على شرطية الحياة من الدلالة على جواز تقليد الميت ، وذلك فإنّ مثل «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، ورواة أحاديثهم ، وكل مسنّ في حبّهم» ونحوها من العناوين الواردة في الروايات المتقدمة منصرفة إلى الأحياء من العلماء ، لأنّ ظهور العناوين المشتقة كقوله عليه‌السلام : «صائنا لنفسه» في من يكون متصفا فعلا بالصفات المذكورة ـ لا من كان متصفا في زمان بصيانة نفسه مع خروجه حين التقليد عن أهلية الاتصاف بها للموت ـ مما لا مساغ لإنكاره ، فإنّها نظير قوله : «احترم الفقيه العادل أو تواضع له» فهل يحتمل أحد أن يراد بالفقيه مطلق الفقيه سواء كان حيّا أم ميّتا؟

وعلى هذا فروايات باب الإفتاء والاستفتاء تكون دليلا بظهورها الإطلاقي على اعتبار الحياة في جواز التقليد ، ويتوقّف شمولها للميّت على مئونة زائدة ثبوتا وإثباتا ، فكيف يتمسك بإطلاقها على مشروعية تقليد الميّت؟

(١) هذا جهة افتراق الأخبار ـ الدالة على جواز التقليد ـ عن الآيات المستدل بها عليه ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «وأمّا جهة الافتراق فهي أنّه ... إلخ».

(٢) أي : في الروايات.

٦١٦

ومنها (١) : دعوى أنّه لا دليل على التقليد إلّا دليل الانسداد ، وقضيته (٢) جواز تقليد الميت كالحي بلا تفاوت بينهما أصلا كما لا يخفى.

وفيه : أنّه لا تكاد تصل النوبة إليه (٣) ، لما عرفت من دليل العقل والنقل

______________________________________________________

٣ ـ دليل الانسداد

(١) يعني : ومن الوجوه الضعيفة ـ المستدلّ بها على جواز تقليد الميّت مطلقا ابتداء واستمرارا ـ دليل الانسداد الّذي اعتمد عليه المحقق القمي (قده) قال في القانون المصدّر بقوله : «لا يشترط مشافهة المفتي في العمل بقوله» ما لفظه : «فالحق أن يقال : نحن مكلّفون في أمثال زماننا ، وسبيل العلم بالأحكام مسند ، والتكليف بما لا يطاق قبيح ، فليس علينا إلّا تحصيل الظّنّ بحكم الله الواقعي ، فإذا تعيّن المظنون فهو ، وإن تردّد بين أمور فالمكلف به هو أحدها» إلى أن قال : «والحاصل : أنّه ـ أي العامي ـ مكلف بما ظهر عنده وترجّح في نظره أنّ قوله هو حكم الله في نفس الأمر ، إمّا بالخصوص ، وإمّا بكونه أحد الأمور المظنون كون واحد منها حكم الله في نفس الأمر. والحياة بمجرّدها لا يوجب الظن له بكونه حكم الله في نفس الأمر هو ما قاله الحي. وكذلك الأعلميّة إذا لم ينحصر الأمر في الأعلم كما أشرنا سابقا. فالمعيار هو ما حصل به الرجحان ، فقد يحصل ذلك في الحي ، وقد يحصل في الميّت».

ومقتضى هذا الكلام تعيّن الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع سواء أكان قول الحي أم قول الميّت.

وناقش المصنف فيه بمنع أصل المبنى ، وعدم وصول النوبة إلى دليل الانسداد ، لأنّ باب التقليد مفتوح للعامي ، لما تقدم في الفصل الأوّل من دلالة الفطرة والأخبار على مشروعيّة التقليد في حق العامي. كما أنّ مقتضى أصالة التعيين تعيّن الرجوع إلى الحي ، فهذا الوجه ساقط.

(٢) يعني : ومقتضى دليل الانسداد جواز تقليد الميّت كالحي ، لأنّ المدار على الظن سواء حصل من قول الحي أم الميّت.

(٣) أي : إلى دليل الانسداد ، لأنّ من مقدّماته انسداد باب العلم والعلمي ، والمفروض

٦١٧

عليه [فيه].

ومنها (١) : دعوى السيرة على البقاء ، فإنّ المعلوم من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام عدم رجوعهم عما أخذوه تقليدا بعد موت المفتي.

______________________________________________________

انفتاح باب التقليد ـ أي حجية الفتوى ـ على العامي ، فلا موضوع لدليل الانسداد حتى يقال : باشتراك الميّت للحي في إفادة فتواه للظن بالواقع ، وكون الحجة على المقلّد هو هذا الظن من أيّهما حصل.

٤ ـ سيرة المتشرعة

(١) أي : ومن الوجوه الضعيفة المستدلّ بها على التفصيل بين التقليد الابتدائي والبقائي هو السيرة المستمرة إلى زمن المعصومين عليهم‌السلام على العمل بفتاوى المجتهدين وآرائهم بعد موتهم. قال في التقريرات : «ومنها : السيرة ، فإنّ جريان عادة السلف والخلف على بقاء تقليد المجتهدين بعد موتهم أمر معلوم لا ينبغي أن ينكر ، وإلّا لوصل إلينا العدول ، لتوفّر الدواعي من كثرة ابتلاء الناس بموت المجتهدين ، ولم يعهد إلى الآن من أهالي أعصار الأئمة العدول إلى تقليد الحي بعد موت المجتهد» ثم أجاب عنه بما سيأتي.

وناقش المصنف فيه بما حاصله : أنّ محلّ الكلام هو أخذ قول الغير وفتواه تعبّدا ، ولم تثبت السيرة على بقاء الأخذ به بعد موت المجتهد. وعمل أصحاب الأئمة المعصومين (عليهم الصّلاة والسّلام) بالروايات الواصلة إليهم من الرّواة أجنبي عن السيرة المدّعاة على البقاء على تقليد الميّت ، إذ الأصحاب كانوا يأخذون الروايات من الرّواة للعمل بظواهرها من دون دخل لرأي الناقل فيه أصلا ، ومن المعلوم عدم كون هذا من التقليد المصطلح المبحوث عنه.

وتوضيحه ـ كما في تقريرات الشيخ الأعظم ـ هو : «أنّ الناس في زمن الأئمة (عليهم‌السلام) كانوا بين أصناف ثلاثة ، فمنهم من كان يأخذ معالم دينه من الإمام بلا واسطة. ومنهم من كان يأخذ بروايات الموثّقين من أصحابهم ، وبفتاواهم التي هي بمنزلة الرواية ويجتهد

٦١٨

وفيه : منع السيرة فيما هو محلّ الكلام (١). وأصحابهم (٢) عليهم‌السلام إنّما لم يرجعوا عما أخذوه من الأحكام لأجل أنّهم (٣) غالبا إنّما كانوا يأخذونها ممن ينقلها عنهم عليهم‌السلام بلا واسطة أحد (٤)

______________________________________________________

فيها. ومنهم من كان يأخذ منهم الفتوى ويعمل بها تعبّدا.

ونحن ندّعي أنّ أغلب الناس ـ لو لم يكن كلهم ـ كانوا بين القسمين الأوّلين ، وإن كان الثاني منهما أغلب ، لسهولة الاجتهاد في ذلك الزمان ، وإمكان تحصيل العلم أو الظن المعتمد. وأيّ دليل على أنّ الفرقة الثالثة قد استمرّوا على تقليد مجتهديهم بعد موتهم ، وعلمه الإمام يردعهم؟

مضافا إلى : أنّ تقليد هؤلاء أيضا ربما يفارق تقليد عوامنا لعلمائنا ، من حيث إنّ ذلك التقليد كان أخذا من الواسطة ، فلا يقاس به الأخذ ممن يفتي بظنونه الاجتهادية من دون الاستناد إلى السماع عن الإمام ، لأنّ الأخذ ممن سمع عن الإمام أو ممّن سمع عن المجتهد من عدول زماننا ليس من التقليد له في شيء».

(١) وهو التقليد بمعنى الأخذ بآراء الفقيه ، لا الأخذ برواية الحكم عن الإمام عليه‌السلام فإنّ السيرة على العمل بما يحكيه المجتهد عن الإمام حتى بعد موته ثابتة ، لكنّها أجنبية عن التقليد المتداول في هذه الأعصار.

(٢) هذا بيان الفرق بين التقليد في زماننا والتقليد في عصر الحضور ، والسيرة الممضاة بتقريرهم عليهم‌السلام هي العمل برواية الرّواة بعد حياتهم ، لا العمل بآرائهم الظنية.

(٣) أي : أن الأصحاب المعاصرين الأئمّة عليهم‌السلام غالبا كانوا يأخذون الأحكام من رواة الأحاديث بلا واسطة إذا كان الراوي سمع قول الإمام مشافهة ، أو مع واسطة إذا سمعه الراوي بواسطة راو آخر. وعلى كلّ ـ أي سواء نقل الراوي قول الإمام إلى السائل بلا واسطة أو مع واسطة ـ لم يكن في جوابه للسائل إعمال نظر غالبا ، لاقتصار الرّواة على نقل نفس الأحكام ، إمّا بعين ألفاظ المعصوم وإما بالمعنى.

(٤) كأغلب الرّواة المعاصرين للأئمة عليهم‌السلام والحاضرين في بلد سكناهم كالمدينة والكوفة وسامراء وطوس.

٦١٩

أو معها (١) ، من دون دخل رأي الناقل فيه أصلا. وهو (٢) ليس بتقليد كما لا يخفى ، ولم يعلم (٣) إلى الآن حال من تعبّد بقول غيره ورأيه أنّه (٤) كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته.

[ومنها (٥) : غير ذلك مما لا يليق أن يسطر أو يذكر].

______________________________________________________

(١) كالشيعة المتفرقين في البلاد ، فإنّهم كانوا يأخذون الأحكام من الرّواة. وكبعض أجلّة الرّواة ممن كان لا يحضر مجلس الإمام المعصوم إجلالا له ، وإنّما كان يقف على الباب ينتظر خروج الأصحاب حتى يسألهم عما حدّثهم الإمام عليه‌السلام ، وهذا طور آخر من معرفة الإمام المعصوم عليه‌السلام بمقام نورانيته وكونه فاعل ما به الوجود.

(٢) هذا الضمير وضمير «فيه» راجعان إلى الأخذ ، أي : أخذ الأحكام من الرّواة ـ الّذين لا دخل لنظرهم في الحكم أصلا ـ ليس بتقليد اصطلاحي ، حتى تكون سيرة المعاصرين للأئمة عليهم‌السلام على العمل بالأحكام التي رواها زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهما بعد موتهم دليلا على جواز العمل بآراء الفقهاء بعد موتهم.

(٣) هذا إشارة إلى عدم إحراز السيرة في البقاء على تقليد الأموات ، وقد تقدم في عبارة التقريرات بعنوان الفرقة الثالثة من عوامّ الشيعة ، وهم الذين كانوا يأخذون الفتوى من فقهاء الرّواة ، فإنّه لم يظهر لنا عملهم بتلك الفتاوى بعد موت الفقهاء حتى تكون سيرتهم هذه حجة علينا.

(٤) بيان لـ «حال من تعبّد» أي : لم يعلم رجوعه بعد موته وعدم رجوعه حتى نتمسك بسيرتهم على عدم رجوعهم.

٥ ـ وجوه أخرى على جواز تقليد الميّت

(٥) أي : ومن الوجوه الضعيفة المستدل بها على جواز تقليد الميّت وجوه أخرى ـ غير الوجوه المقدّمة ـ مما لا يليق بالتعرض والجواب عنه ، وفي النسخة المطبوعة أخيرا المصحّحة على النسخة الأصلية أنّ المصنف شطب هذه الجملة.

٦٢٠