منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأمّا ابن أبي عمير فقد أشرنا إلى بعض موارد روايته عن المجاهيل ممن روى عنه صفوان أو أحمد بن محمّد بن أبي نصر. وإن شئت الوقوف على غيرهم ، فراجع ترجمته في معجم رجال الحديث في باب محمّد وابن أبي عمير (٦) ١ ـ ٢٢ ـ ١٠١).

وأمّا رواية هذه العدة عن الذين نصّوا على ضعفهم ، فقد روى أحمد (١) وصفوان (٢) وابن أبي عمير (٣) ويونس بن عبد الرحمن (٤) عن علي بن أبي حمزة البطائني ، بل روى ابن أبي عمير كتب البطائني كما في رجال النجاشي (ره) (٥). وقد نقل الكشي عن ابن مسعود عن علي بن الحسن بن فضال في شأن البطائني : «انه كذاب متهم».

وقد روى خمسة من أصحاب الإجماع ـ وهم يونس بن عبد الرحمن والحسن بن محبوب وعثمان بن عيسى وحماد بن عيسى وعبد الله بن المغيرة (٦) ـ عن عمرو بن شمر الّذي ضعّفه النجاشي (٧).

وروى يونس (٨) وأحمد بن محمّد بن أبي نصر (٩) في موارد عديدة عن المفضّل بن صالح الّذي ضعّفه النجاشي.

وروى صفوان وابن أبي عمير عن يونس بن ظبيان الّذي عبّر النجاشي عنه بأنه «ضعيف جدّاً» على ما حكاه عنه في معجم رجال الحديث (١٠).

وروى ابن أبي عمير عن علي بن حديد الّذي ضعّفه الشيخ في كتابيه بقوله : «ضعيف جدّاً» (١١) وروى عن الحسين بن أحمد المنقري الّذي ضعّفه النجاشي (١٢).

وروى زرارة عن سالم بن أبي حفصة الّذي تضافرت الروايات في ذمه وإضلاله (١٣). مع أن زرارة أفقه أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام كما في عبارة الكشي.

وغير هذه مما يقف عليها المتتبع في روايات أصحاب الإجماع ، ومعه كيف تتجه دعوى أن هؤلاء لا يروون إلّا عن ثقة موثوق به؟

وأمّا المقام الثاني ـ وهو مراسيل أصحاب الإجماع وعدم اعتماد جمع من الأصحاب عليها

__________________

(١) لاحظ معجم رجال الحديث ، ٢ ـ ٥٨٧ طبع النجف الأشرف

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ١٠٤ ، الحديث : ١. (٣) معجم رجال الحديث ، ١١ ـ ٥٠٢ و ٥٠٤ و ٥٠٥

(٤) المصدر ، ص ٥١٠. (٥) رجال النجاشي ، ص ١٧٥

(٦) مستدرك الوسائل ، ٣ ـ ٥٨٠ ، لاحظ مصادر الروايات في معجم رجال الحديث ١ ـ ٨١

(٧) رجال النجاشي ، ص ٢٠٤

(٨) تهذيب الأحكام ١٠ ـ ٤٠ ، الحديث. (٩) راجع معجم رجال الحديث ٢ ـ ٥٩٠

(١٠) لاحظ معجم رجال الحديث ، ١ ـ ٧٨ و ٧٩

(١١) التهذيب : ٧ ـ ١٠١ ، الحديث : ٤٣٥ ، الاستبصار ، ٣ ـ ٩٥ ، الحديث : ٣٢٥

(١٢) لاحظ معجم رجال الحديث ، ١ ـ ٧٨ و ٧٩. (١٣) لاحظ معجم رجال الحديث ، ١ ـ ٧٨ و ٧٩

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فكثيرة :

فمنها : ما رواه الشيخ عن محمّد بن يعقوب بسنده عن ابن بكير عن رجل : «قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إنّي قلت لامرأتي ...» وما رواه بطريقه عن ابن فضال عن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : لا يكون الظهار إلّا على مثل موضع الطلاق» ثم قال الشيخ : «أوّل ما في هذه الأخبار أنّ الخبرين منهما وهما الأخيران مرسلان ، والمراسيل لا يعترض بها على الأخبار المسندة ...» (١).

ومنها : ما رواه في التهذيب عن ابن فضال عن ابن بكير عن عبد الأعلى مولى آل سام ... ثم قال : «فأوّل ما فيه أنه موقوف غير مسند إلى أحد من الأئمة عليهم‌السلام ، وما كان هذا حكمه لا يعترض به الأخبار الكثيرة المسندة ...» (٢) ومنها : ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار عن محمّد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، ثم قال فيهما : «فأوّل ما فيه أنّه مرسل ، وما هذا سبيله لا يعارضه به الأخبار المسندة» (٣).

ومنها : ما رواه فيهما عن محمّد بن علي بن محبوب عن العباس عند عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام. قال في التهذيب : «وهذا خبر مرسل» وفي الاستبصار : «فأوّل ما في هذا الخبر أنه مرسل» (٤).

هذه بعض عبارات الشيخ في اعتذاره عن طرح مراسيل أصحاب الإجماع ، وتعليله بقوله : «وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة» صريح في عدم صلاحية الرواية المرسلة للاعتماد عليها حتى إذا كان مرسلها أحد أصحاب الإجماع. وهل يبقى وثوق بتمامية ما اختاره هو من رجال الكشي وما ادعاه في العدّة من أن هؤلاء لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة؟

وأما من تأخر عنه فكلماتهم مختلفة ، فمنهم من حكم بصحة الخبر المسند الّذي وقع في طريقه بعض هؤلاء كما تقدم عن العلامة والشهيد والعلامة الطباطبائي (قدس‌سرهم) ، وأما المرسل فلا ، ومنهم من لم يعتن بهذا الإجماع إما مطلقا أو في خصوص المرسلات.

__________________

(١) الاستبصار ، ٣ ـ ٢٦١ ، الحديث : ٩٣٥

(٢) مستدرك الوسائل ، ٣ ـ ٧٦٤

(٣) معجم رجال الحديث ، ١ ـ ٧٦

(٤) معجم رجال الحديث ، ١ ـ ٧٦

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فمنهم المحقق في المعتبر ، حيث قال : «ولو احتج بما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا ... كان الجواب الطعن في السند ، لمكان الإرسال. ولو قال : مراسيل ابن أبي عمير يعمل بها الأصحاب ، منعنا ذلك ، لأن في رجاله من طعن الأصحاب فيه ، وإذا أرسل احتمل أن يكون الراوي أحدهم» (١). وهذه العبارة وإن كانت ناظرة إلى عدم اعتنائه بمرسلات ابن أبي عمير ، إلّا أن المستفاد منه عدم ركونه إلى مطلق مسنداته ، لعدم كون جميع رجاله من الثقات ، بل فيهم الضعفاء الذين طعن فيهم علماء الرّجال. وبهذا تكون مرسلاته شبهة موضوعية لعموم شهادة الشيخ من قوله : «لا يرسلون إلّا عن ثقة» لأنه لمّا كانت مسنداته بين صحيحة وضعيفة فلا يمكن الحكم بصحة مرسلاته ، لاحتمال أن يكون من أرسل عنه ضعيفا ، فيبقى تحت أصالة عدم الحجية ، في غير ما علم بخروجه عنها.

وقال الشهيد في محكي الذكرى في مضمرة لزرارة ـ ومضمراته تبلغ ٧٨ موردا كما في معجم رجال الحديث ـ «رواية زرارة موقوفة» وهذا كاشف عن عدم اعتماده على الإجماع مطلقا حتى بالنسبة إلى المراسيل.

وقال الشهيد الثاني في المسالك في الإشكال على الاستدلال بالمقبولة : «والرواية نصّ في المطلوب ، لكن قد عرفت ما في طريقها ، فإن تمّ الاستدلال بها لانجبار ضعفها بالشهرة فهي العمدة» (٢) وهذا صريح في عدم اعتماده على الإجماع في الحكم بوثاقة كل من روى عنه هؤلاء.

نعم قد يدعى اعتبار مرسلات ابن أبي عمير خاصة ، لقول النجاشي : «أصحابنا يسكنون إلى مراسيله» (٣) فإنّ السكون هو العمل ، والمراد به الحجية ، بحيث يكون معقد الإجماع حجية مراسيلهم ، والحجية حكم شرعي أصولي ، فيكشف الاتفاق عن رضا الشارع بذلك ، أو أنه شهادة إجمالية بوثاقة كل من روى عنه ابن أبي عمير مرسلا ، وإن كان يسند عن غير الثقة أيضا.

لكنه ممنوع بما تقدم من المحقق وغيره من أنّه لو كان جميع رجال ابن أبي عمير من الثقات ـ في رواياته المسندة ـ أمكن دعوى حجية مراسيله من جهة اقتصاره على الرواية عن الثقات ، وحيث اتضح ضعف عدّه منهم لم يبق سبيل لإحراز وثاقة كل رجل روى عنه ابن أبي عمير مرسلا.

وقد تحصل من جميع ما ذكرناه : أن الأخذ بظاهر إجماع الكشي والشيخ في حق أصحاب الإجماع غير متيسِّر ، لعدم عمل الشيخ ولا غيره بهذه الشهادة العامّة ، لتصريحه بضعف علي بن حديد

__________________

(١) المعتبر ص ٣٤

(٢) مسالك الأفهام ، ٢ ـ ٤٣٩

(٣) رجال النجاشي ، ص ٢٢٩

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وهو ممّن روى عنه بعض أصحاب الإجماع ، وبضعف المرسلات مهما كان مرسلها. وحينئذ فإمّا أن يتأمّل في أصل هذا الإجماع وردّ علمه إلى مدّعيه ، وإمّا يخصّص بمقدار قيام الحجة على روايتهم عن الضعفاء وفي المراسيل أيضا ، ويؤخذ به في غيرها ، فيعوّل عليه في توثيق المجاهيل الّذين روى هذه العدة عنهم. وإمّا أن يؤخذ به في موارد انفرادهم بالرواية دون موارد التعارض.

والمتعيّن ـ بحسب الظاهر ـ هو الأوّل ، ولا مجال للالتزام بالتخصيص ، وذلك أما أوّلا : فلأنّ قول الكشّي : «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن جماعة» وقول الشيخ ممّن عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة» آب عن التخصيص والتقييد ، لوضوح كثرة ثقات الرّواة وعدم انحصارهم في العدة المنعقد عليهم الإجماع ، وإنما المقصود بيان فضيلة ومنقبة تختص بهم ولا يشاركهم فيها غيرهم ، لأنّ غير هؤلاء كما رووا عن الثقة كذلك رووا عن غيره ، فالعصابة التي سوّت بين مراسيل هؤلاء وبين مسانيد غيرهم كأنّهم أخبروا عن قضية خارجية ، وهي اقتصار هذه العدة الجليلة على الرواية عن الثقات خاصة ، فإذا ثبت ـ باعتراف الشيخ وغيره ـ رواية هؤلاء عن الثقات والضعفاء كسائر الرّواة كشف ذلك عن عدم تحقق هذه الخصوصية فيهم.

ولعلّه لهذا ذهب صاحب الرياض وغيره إلى أنّ المفهوم من العبارة وثاقة نفس هذه العدة ، دون توثيق الوسائط ، ولا التعبد بصحة روايتهم.

فان قلت : لا وجه لطرح هذه الشهادة الإجمالية كلّية لمجرد قيام الدليل على روايتهم عن الضعفاء أحيانا ، بل لا بد من الأخذ بها وتخصيصها بموارد قيام الحجة على الخلاف ، فانها نظير التوثيق العام الّذي استفادة بعض الأجلة من مقدمتي تفسير علي بن إبراهيم القمي وكامل الزيارات ، حيث لا منافاة بينه وبين تخصيصه بمن ثبت ضعفه عند الأصحاب. وليس ذلك إلّا لأنّ حمل العام على الخاصّ توثيق عرفي جرت عليه سيرة العقلاء في محاوراتهم. وما أكثر العمومات ـ في الخطابات الشرعية ـ المخصِّصة بقرائن منفصلة حتى قيل : ما من عام إلّا وقد خصّ. وعليه فاللازم الأخذ بظاهر كلامي الكشي والشيخ وتخصيصه بموارد ثبت فيها روايتهم عن الضعفاء وبالمراسيل.

قلت : فرق بين المقام وبين العمومات الشرعية الصادرة من باب ضرب القانون ، فإن طريقة التقنين جرت على بيان العام بنحو القضية الحقيقية ـ حتى لو كان الموضوع معدوما في ظرف التشريع ـ ثم بيان المخصِّصات حسب الحاجة. وهذا الأمر لا يجري في المطلقات الواردة في جواب السائل عن وظيفته الفعلية المبتلى بها ، ولذا التزم الفقهاء في موارد بالمعارضة بين المطلق والمقيد

١٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مدّعين قوّة الإطلاق وإباءه عن التقييد.

والمقام من هذا القبيل ، لما عرفت من أن إخبار العصابة بهذه الصفة لأصحاب الإجماع نشأ من تتبعهم في رواياتهم ، والنّظر في تثبتهم في أمر الحديث بحيث اختصوا بالرواية عن الثقات والإرسال عنهم ، وهذه الشهادة تنخرم حتى لو ظفرنا برواية واحدة لكل واحد منهم رواها عن ضعيف أو مجهول الحال ، فإذا روى عن مجهول لم يبق اطمئنان بوثاقته ، لاحتمال كونه ضعيفا واقعا. خصوصا مع عدم اعتماد النجاشي والشيخ وغيرهما من أساطين علم الرّجال على هذا الإجماع وعدم حكمهم ـ بنحو الكبرى الكلية ـ بوثاقة الرّجال الّذين روى عنهم أصحاب الإجماع.

وأما النقض بتخصيص عموم شهادة كامل الزيارات والتفسير فموقوف على استظهار التوثيق العام ، وهو ممنوع أيضا ، لما تقرر من روايتهما عن الضعفاء ، والمجهولين أيضا.

وأما ثانيا فلأنه لو فُرِض منع قوة الظهور أو نصوصيته في الحصر وقابليته للتخصيص ، فانما يجوز ذلك في خروج أفراد قليلة لا في التخصيص الكثير الموهِن لاعتبار أصالة العموم عند العقلاء. وتوضيحه : أن المناط في التخصيص المستهجن إما الكثرة النوعية وإما الفردية.

فإن قلنا بالأوّل ـ كما ذهب إليه شيخنا الأعظم (قده) في قاعدة لا ضرر ـ فلزوم محذور تخصيص الأكثر واضح ، لأن روايات هذه العدة بين مسندة ومرسلة ، والمفروض خروج مرسلاتهم طُرّاً عن دائرة الحجية ، كما صرّح به مدّعي الإجماع ـ وهو الشيخ ـ وغيره كالمحقق والشهيد ، وخروج جملة من مسانيدهم أيضا ، لما ثبت من وقوع الضعفاء المتهمين بالكذب والوضع في طرقهم إلى الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، وقلّة رواية بعضهم كزرارة ومحمّد بن مسلم عن غير المعصوم مباشرة ، فلم تنفعهما هذه الشهادة العامة لتصحيح الواسطة بينهما وبينه عليه‌السلام ، والباقي تحت عموم «لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة» هو القليل بحسب النوع أي ما كان روايتهم عن المعصوم عليه‌السلام بواسطة ، وكانت الرُّواة ثقات أو مجهولين.

وإن قلنا بالثاني توقّف ذلك على التتبع التام حتى يظهر أن مراسيلهم ومسانيدهم التي رووها عن الضعفاء تبلغ حدّا يمنع التخصيص أولا ، لكن في ما ذكرناه أوّلا من إباء نفس العبارة عن التخصيص كفاية.

ولعلّه لأجل هذا التخصيص الكثير عدل بعض الأجلة عن استظهار التوثيق العام من عبارتي علي بن إبراهيم وابن قولويه ، والاقتصار على توثيق مشايخهم الذين رَوَيا عنهم بلا واسطة.

١٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبما ذكرناه ظهر الإشكال في الأخذ بآخر كلام الشيخ في العُدّة «من حجيّة روايات هذه العدة فيما إذا لم يكن معارض لها سواء رووا مسندا أم مرسلا» وذلك لأنّ مأخذ هذا الكلام ـ ظاهرا ـ هو كلام الكشي ، حيث لا تعرّض فيه لحكم معارضة أخبار أصحاب الإجماع بروايات الآخرين ، كما ذكرناه في أوّل البحث. وحيث عرفت تعذُّر الاعتماد عليه لم يختلف حكم انفراد هذه العدة بالرواية ـ مسندا أو مرسلا ـ عن حكم تعارض روايتهم مع رواية غيرهم.

وأما احتمال عدول الشيخ عما ذهب إليه في كتابي الأخبار ـ من الحكم بضعف علي بن حديد وطرح المراسيل ـ إلى ما أفاده في العُدّة من قوله : «لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة ...» لأنّه (قده) ألّف التهذيب والاستبصار قبل كتاب العُدّة كما يظهر من قوله في بحث الخبر الواحد : «وقد ذكرتُ ما ورد عنهم عليهم‌السلام من الأحاديث المختلفة التي تختص بالفقه في كتابي المعروف بالاستبصار ، وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث ، وذكرتُ في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها ... إلخ» (١). وعليه فتوثيقه العام في العُدّة ناسخ لما صنعه في الكتابين ، فلا بد من الأخذ بشهادته في العُدّة من اعتبار جميع مسنداتهم ومرسلاتهم.

فممنوع ، إذ المستفاد من العبارة سبق تأليف التهذيب والاستبصار على تأليف كتاب العُدّة ، ولا دلالة فيها على عدوله عما صنعه في الكتابين من ترجيح بعض الأخبار على بعض ، فإنّ هذا الترجيح أو التخيير ممّا لا بدّ منه عند اختلاف الأخبار ، ولا أدري كيف يتوهم من مجرد تأخر تأليف العُدّة عدولُه عن مبناه المعمول به في كتابي الأخبار؟ ولو فُرِض عدولُه عنه للزم التنبيه عليه في نفس الكتابين في كل موضع حكم بطرح مراسيل أصحاب الإجماع ، وعدم الاقتصار على دعوى إجماع الطائفة على التسوية بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم.

هذا كله مضافا إلى أن من الأصحاب من يحكم بوثاقة الرّجل استنادا إلى أُمور قاصرة عندنا عن إثباتها ، مثل كون الراوي شيخ إجازة أو وكيلا عن الإمام المعصوم عليه‌السلام ، أو كونه من أصحاب الصادق عليه‌السلام إلّا من ثبت ضعفه ، أو كونه من رجال محمّد بن أحمد بن يحيى ولم يستثن من رواياته ، أو كونه كثير الرواية عن المعصوم عليه‌السلام ، أو كونه صاحب أصل أو كتاب ، وغير ذلك مما تحقق عدم صلاحيته لإِثبات الحُسن فضلا عن الوثاقة.

فالنتيجة : أن رواية صفوان عن عمر بن حنظلة لا تقتضي وثاقة عمر ولا حُسنه ، والله تعالى هو

__________________

(١) عدة الأُصول ، ١ ـ ٥٢

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العالم بحقائق الأُمور.

وللاعتماد على عمر بن حنظلة وجه آخر أفاده في قاموس الرّجال ـ بعد نقل الأخبار المادحة ـ بقوله : «قلت : ومستند خيار الرؤية منحصر بروايته» (١).

والظاهر أنّ مقصوده هو رواية عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل اشترى أرضا على أنها عشرة أجربة ، فلمّا افترقا ومسح المشتري الأرض وجدها خمسة أجربة ، فقال «عليه‌السلام» : إن شاء استرجع فضل ماله ، وإن شاء ردّ البيع ...» (٢).

لكن لم أظفر في هذه العجالة على من استدل بها على مشروعية خيار الرؤية ، ولا في بيع الأراضي من الجواهر ، بل استدل الشيخ وغيره بصحيح جميل بن درّاج وغيره (٣). فراجع المكاسب هذا.

مضافا إلى : أنه لو فرض استنادهم إلى رواية عمر بن حنظلة ـ بما أن المدرك منحصر فيها ـ لم ينفع ذلك للاعتماد على روايته هنا ، فإن عمل الأصحاب وإن كان جابرا لضعف السند ، لكنه قاصر عن إثبات وثاقة رواتها ، لاحتمال ظفرهم بقرينة على صدورها فعوّلوا عليها. وعليه فعمل المشهور برواية ضعيفة ـ بعد إحراز استنادهم إليها ـ لا يكشف عن وثاقة رواتها حتى يعتمد على سائر رواياتهم ، بدعوى كون التوثيق العملي كالقولي ، لما عرفت من أن فتوى المشهور على طبق رواية لازم أعم لوثاقة الراوي.

والحاصل : أن الوجوه المستدل بها على اعتبار الرّجل أو وثاقته لا تخلو من شيء. والمعتمد في قبول روايته في بيان مرجحات تعارض الخبرين والاستناد إليها هو توصيفها بالمقبولة وتلقّي الأصحاب لها بالقبول ، بل اقتصر الشهيد في الدراية للتمثيل بالمقبولة على هذه الرواية ، قال «قده» في أقسام الحديث : «ثامن عشرها المقبول ، وهو ما تلقوه بالقبول والعمل بالمضمون من غير التفات إلى صحته وعدمها ، كحديث عمر بن حنظلة في حال المتخاصمين» (٤). ونحوه عبارة الشهيد الثاني بالنسبة إلى المقبولة ورواية أبي خديجة ، حيث قال : «وفي طريق الخبرين ضعف ، لكنهما مشتهران بين الأصحاب ، متّفق على العمل بمضمونهما بينهم ، فكان ذلك جابرا للضعف عندهم» (٥).

وهذه الشهادة كافية لإثبات صغروية المقبولة لكبرى جبر ضعف السند بعمل الأصحاب ، ومن المعلوم أن اعتماد جُلِّ الأصحاب على رواية شخص ـ مع تفاوتهم في توثيق الرّجال واختلاف

__________________

(١) قاموس الرّجال ، ٧ ـ ١٨٤

(٢) الوسائل ، ج ١٢ ، الباب ١٤ من أبواب الخيار ، الحديث : ١ ، ص ٣٦١

(٣) المصدر ، الباب ١٥ ، الحديث : ١ وغيره.

(٤) الدراية ، ص ٤٤

(٥) مسالك الأفهام ، ٢ ـ ٤٣٧

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مبانيهم فيه ـ يكشف بنحو الإنّ عن ظفرهم بقرينة على صدورها من المعصوم عليه‌السلام ، وهو موجب للاطمئنان الشخصي بالصدور ، والمختار في حجية الخبر الواحد هو الوثوق به الأعم من الخبري والمخبري.

وهذا الوجه وإن كان قاصرا عن إثبات وثاقة عمر بن حنظلة ، ولأجله لا يُعامَل مع سائر رواياته معاملة المقبولة ، إلّا أن المقصود حجية روايته في المقام من جهة العمل بمضمونها ، وسيأتي عن المحقق الآشتياني «قده» استناد الفقهاء إليها في مسائل أربعة.

هذا ما يتعلق بالجهة الأولى وهي سند المقبولة.

وأما الجهة الثانية ـ وهي فقه المقبولة ـ فنقول في تقريبه : إنّها تشتمل على فقرات :

الفقرة الأولى : قول عمر بن حنظلة : «منازعة في دين أو ميراث» ظاهر المنازعة هو الترافع والخصومة لا السؤال عن الفتوى. ثم إنّ النزاع في الدين والميراث يتصور تارة بنحو الشبهة الحكمية ، كما إذا اختلفا في الضمان بأحد موجباته كالمقبوض بالعقد الفاسد ، فإن كان موجبا للضمان كان المشتري ضامنا لما قبضه ومديونا للمالك ببدله. وإن لم يكن موجبا للضمان لم يكن المشتري ضامنا.

والنزاع في الدين بنحو الشبهة الموضوعية كالاختلاف في أداء دين ثابت ، وعدمه.

والنزاع في الميراث بنحو الشبهة الحكمية كما إذا اختلف الورّاث في مقدار الحبوة ، وكما إذا اختلفوا في خروج منجزات المريض من الأصل أو الثلث ، ومنشأ هذا الاختلاف هو اختلاف الروايات.

والنزاع في الإرث بنحو الشبهة الموضوعية ، كما إذا ادّعى بعض الورثة ـ الّذي كان ممنوعا من الإرث بالكفر ـ إسلامه قبل القسمة ، وأنكره سائر الورثة.

وعليه فالنزاع في الدين والميراث وإن كان قابلا لكل من الشبهة الحكمية والموضوعية ، إلّا أن ظاهر قول عمر بن حنظلة : «وكلاهما اختلفا في حديثكم» كون النزاع في الدين والميراث بنحو الشبهة الحكمية ، وأن منشأه اختلاف الأحاديث ، إذ لو كانت الشبهة موضوعية تعيّن الاستناد فيها إلى الأمارة المعتبرة فيها كالبيِّنة لا إلى الأحاديث.

الفقرة الثانية : قوله : «فتحا كما إلى السلطان» ظاهر هذه الكلمة أن تحاكم المتنازعين ـ اللذين هما من الإمامية ، بقرينة قوله : من أصحابنا ـ إلى سلطان الجور كان في زمان عدم بسط يد الإمام المعصوم عليه‌السلام ، فتخيّل المتنازعان جواز الرجوع إلى السلطان وقضاة المخالفين ، فرَدَع الإمام عليه‌السلام عن الرجوع إليهم ، لأن التحاكم إليهم تحاكم إلى الطاغوت ، وأنّ المأخوذ بحكمه سُحت

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإن كان حقا ثابتا.

ولعل الوجه فيه : أن آخذ المال مأمور بالاحتياط في الأموال ، لكونه من الموارد الثلاثة التي انقلب الأصل فيها إلى الاحتياط ، فأخذ المال بحكم السلطان مخالف لوجوب الاحتياط.

ولا يُنافي سُحتية المال المأخوذ بحكمه ما تقرر في محله من «جواز الرجوع إلى الجائر إذا توقف إنقاذ الحق على الرجوع إليه» وذلك لعدم انحصار إنقاذ الحق في الرجوع إلى الجائر في مفروض هذه الرواية ، لقول عمر بن حنظلة : «فإن كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا» الظاهر في عدم الاضطرار ـ الرافع للمحظور ـ إلى الترافع إلى الجائر ، وإمكان حلّ النزاع بالمراجعة إلى رجل من أصحابنا.

الفقرة الثالثة : قوله عليه‌السلام : «ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإني قد جعلته عليكم حاكما». تدل هذه الجملة على أن منصب القضاء لهم عليهم‌السلام بالأصالة ، وتتوقف مشروعية قضاء غيرهم على النصب ولو بنحو العموم. وصدر هذه الجملة يدل على الموضوع أعني من له أهلية القضاء وفصل الخصومة ، وهو الراوي لحديثهم والناظر في حلالهم وحرامهم والعارف بأحكامهم ، ولا تنطبق هذه الأوصاف إلّا على المجتهد الّذي استنبط جملة وافية من الأحكام من أدلتها المعهودة ، وسيأتي في بحث الاجتهاد والتقليد إن شاء الله تعالى مزيد توضيح له ، فانتظر.

الفقرة الرابعة : قوله عليه‌السلام : «فلم يقبل منه» لا يخفى أن عدم القبول تارة يكون لأجل الجحود وإنكار وجوب إنفاذ حكم الحاكم الجامع للشرائط ، وأُخرى يكون لعدم العمل على طبقه مع الاعتقاد بوجوب إنفاذه واتّباعه كبعض العصاة المعترف بوجوب الصلاة والصيام مع تركهما تكاسلا. فإن كان عدم القبول للجحود فهو كجحود سائر الأحكام الضرورية موجب للارتداد. وإن كان عدم القبول في مقام العمل ـ لا بحسب الاعتقاد ـ كان المراد بقوله عليه‌السلام : «على حدِّ الشرك بالله» بُعده عن رحمته تعالى.

والظاهر إرادة هذا المعنى. ولا ينافي عدم العمل إطلاق الاستخفاف عليه ، لأن ترك إنفاذ الحكم نوع استخفاف به.

ثم إنه يستدل بهذه الفقرة على نفوذ حكم الحاكم الجامع للشرائط على كل أحد حتى حاكم آخر ، وانتقاض الفتوى بالحكم ، كما إذا ترافع شخصان على بيع شيء من المائعات ـ وقد لاقى عرق الجنب من الحرام مثلا عند من يرى طهارته ، فحكم الحاكم بطهارته وبصحة بيعه ، وكونه مملوكا لمن

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

يكون المائع عنده وإن كان أحد المترافعين مجتهدا يرى نجاسة عرق الجنب من الحرام ، أو كان مقلِّدا لمن يقول بنجاسته ، فإن الحكم الكلي يبطل في خصوص الواقعة الجزئية التي وقع النزاع والخلاف في حكمها حتى أدّى إلى الترافع.

الفقرة الخامسة : قول عمر بن حنظلة : «قلت : فان كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا ... إلى قوله عليه‌السلام : ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» ظاهر تقريره عليه‌السلام جواز اختيار كل واحد من المترافعين حكما لحلِّ الخصومة ، وعدم اختصاص هذا الحق بالمدعى ، وفي صورة تعارض الحاكمين اللذين هما من أهل النّظر والاستدلال رجّح الإمام عليه‌السلام حُكمَ الحاكم الأعدل الأفقه الأصدق في الحديث والأورع ، ولم يحكم بنفوذ أسبق الحكمين زمانا. وهذه الجملة إحدى جهات البحث والإشكال كما سيأتي.

الفقرة السادسة : قول عمر بن حنظلة : «فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر ... إلى قوله عليه‌السلام ... وقع في المحرمات ..» بعد أن رجّح الإمام عليه‌السلام حكمَ الأعدل الأفقه سأل الراوي عن فرض استواء الحاكمين في الصفات ، فأخذ عليه‌السلام في ترجيح أحد الحكمين بالنظر في مستنديهما ، وجعل المرجِّح الأول شهرة الرواية بين الأصحاب ، وعلّل الترجيح به بأمرين ، أحدهما : كون المجمع عليه مما لا ريب فيه إما حقيقة وإما بالإضافة إلى غيره ، وثانيهما : كونه بيِّن الرُّشد ، وأنّ غيره إمّا مشتبه ينبغي ردُّه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإمّا بيِّن غيُّه يجب الاجتناب عنه.

الفقرة السابعة : قوله عليه‌السلام : «وهلك من حيث لا يعلم» المراد بهذه الهلكة هي العقوبة ، ولازمه إيجاب الاحتياط ، إذ الحرام الواقعي ما لم يجب الاحتياط فيه لا يوجب العقوبة عليه ، فإنّ استحقاقها مترتب على العصيان ، وهو متوقف على مخالفة التكليف المنجز بالحجة من العلم أو العلمي ، ومع عدم وصول التكليف بالحجة إلى العبد يقبح على المولى العقاب عليه ، لأنه بلا بيان ، فلا بدّ أن يكون تنجز التكليف بسبب إيجاب الاحتياط في الشبهات سواء أكانت الشبهة ناشئة من فقد الحجة أم تعارضها أم إجمالها ، فمقتضى هذه الجملة وجوب الاحتياط في تعارض الخبرين لا التخيير ولا الترجيح.

وأما الجهة الثالثة ـ وهي المناقشة في الاستدلال بالمقبولة على ترجيح أحد الخبرين المتعارضين المتفاضلين ـ فقد قال فيها شيخنا الأعظم «قده» : «وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الإشكال بل الإشكالات ـ من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة وقطع المنازعة

١٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فلا يناسبها التعدد ، ولا غفلة أحد الحكمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه ، ولا اجتهاد المترافعين وتحرِّيهما في ترجيح مستند أحد الحكمين على الآخر ، ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الآخر ، مع بعد فرض وقوعهما دفعة ، مع أن الظاهر حينئذ تساقطهما والحاجة إلى ثالث ـ ظاهرة بل صريحة في وجوب الترجيح بهذه المرجحات بين المتعارضين ، فإن تلك الإشكال لا تدفع هذا الظهور بل الصراحة»

وزاد المصنف في الحاشية إشكالا خامسا ، وحكي عن السيد الصدر إيرادا سادسا.

أما ما أفاده المصنف «قده» فهو : أن الأمر في تعيين الحاكم واختياره إنما هو بيد المدّعي ، فينفذ حكم من اختاره في الواقعة ، لا حكم من اختاره المنكر وإن كان أفضل ، مع أن مفروض الرواية تفويض الأمر إلى حاكمين (١).

وأمّا ما حكي عن السيد الصدر فهو : أن اللازم على من يسأل عن حكم المتعارضين أن يجيب بالترجيح بأحد المرجحات ، مع أن الراوي سأل مرّة عن حكمهما فأجاب عليه‌السلام بالترجيح المتعلق بالسند ، ثم فرض التساوي فيه فأجاب بترجيح المشهور على الشاذ ، فيشكل الأمر بأنّ الراوي إن فرض التساوي في الوجوه الأخر غير السند ثم فرض التساوي فيه أيضا كان الجواب التوقف أو التخيير ليس إلّا ، دون الترجيح بالشهرة. وإن لم يفرض التساوي فيهما كان الجواب العمل بما هو أقوى ظنّا من الآخر ، لا بما هو أصح سندا منه ، لأن صحة السند لا تفيد الظن مطلقا كما إذا كانت في مقابل الشهرة ومعلومات أحكام الإمامية.

وتفصّى السيد الصدر عنه وعن سائر الإيرادات ببناء الترجيح على الاستحباب دون الوجوب. لكنه كما ترى ، فإنه فرع سلامة ظهور المقبولة في أصل الترجيح حتى تصل النوبة إلى إقامة القرينة الصارفة لظهور الأمر بالأخذ في الوجوب إلى الاستحباب ، وأما مع فرض مخالفة بعض الفقرات للمشهور أو المجمع عليه يوهن الأخذ بالظهور بالمرّة ، قيل بوجوب الترجيح أم باستحبابه.

وكيف كان فأورد المحقق الميرزا الرشتي على ما أفاده شيخنا الأعظم «قدهما» ـ من عدم قدح الإشكالات في دلالة المقبولة ظهورا أو صراحة على وجوب الترجيح ـ بأنه مع مخالفة بعض فقراتها لإجماع الإمامية وإعراضهم عنها لا مجال للاستدلال بها ، ولذا سلك «قده» طريقا آخر للتفصّي عن الإشكالات ، وقال ما محصله : ينحسم ما عدا الإشكال الأوّل ـ أعني به تعدد الحاكم ـ بارتكاب أحد أمرين :

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٧٠

١٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأول : إخراج الواقعة من المخالفة والمخاصمة المفتقرة إلى القضاء بحملها على السؤال عن حكم المسائل الخلافية المتعلقة بالأموال ، فيكون الحديث دليلا على تشريع القضاء في الشبهات الحكمية ، لا على ترجيح أحد الحكمين في واقعة جزئية على الآخر.

الثاني : تخصيص المأمور بالمرجحات بالمجتهد ، ولا بعد فيه في ذلك العصر. وترجيح الفتوى عند الاختلاف وإن كان بالأعلمية لا بسائر الصفات ، لكنه لا يقدح في الاستدلال بالرواية ، إذ الرواية والفتوى والحكومة كانت في العصر السابق متحدة المناط ، لأن رواة ذلك العصر كانت روايتهم فتواهم وبالعكس. وكذا الحكومة ، ولذلك تكون سائر المرجحات دخيلة في الفتوى أيضا.

وأما إشكال تعدد الحاكم المدلول عليه بقوله : «فرضيا أن يكونا الناظرين ..» فلا بد من تأويله ، ولا يبعد أن يكون المراد «فرضيا أن يكون أحدهما ناظرا في أمرهما فاتفق تعارض حكمهما أي فتواهما» (١).

وقريب منه ما أفاده المحقق الميرزا الآشتياني في الشرح وفي كتاب القضاء ، (٢) ، والمصنف في أحد وجهيه في الحاشية.

لكن يشكل حمل صدر المقبولة على كون رجوع المترافعين لمجرد الاستفتاء واستعلام الحكم الشرعي الكلي ، فإنّ عوامّ الشيعة في عصر الحضور وإن كان لهم الرجوع إلى الأئمة عليهم‌السلام لتحصيل العلم بالأحكام وإلى الرّواة الثقات ، كما أرجعوا عليهم‌السلام جماعة إلى أجلة صحابتهم كزرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وزكريا بن آدم ويونس وغيرهم. وهذه الإرجاعات تكون تارة بلسان أخذ الرواية ، وأخرى بلسان أخذ معالم الأحكام منهم ، سواء أكان بنقل ألفاظ الرواية أم ببيان مضمونها أو تطبيق أصل من الأُصول المتلقّاة منهم على المورد. إلّا أن الكلام في إباء صدر المقبولة عن هذا الحمل ، لظهور كلمة «الحكومة» ـ المتكررة فيها ـ في الحكومة المصطلحة وفصل النزاع لا مجرد الاستفتاء. مضافا إلى قرائن أُخرى.

منها : قول السائل : «بينهما منازعة في دين أو ميراث» فإن المنازعة ظاهرة أوّلا في كون الرجوع إلى القاضي والسلطان لحسم مادة التشاجر ، لأن حكمه فاصل للنزاع نافذ عليهما ، بحيث لا ينقطع النزاع بمجرد السؤال عن الحكم الكلّي ، لاحتمال بقاء المرافعة معه من جهة مخالفة أحد المتخاصمين لرأي الحاكم اجتهادا أو تقليدا.

__________________

(١) بدائع الأفكار ، ص ٤٣٥

(٢) بحر الفوائد ، ٤ ـ ٤٤ ، كتاب القضاء ، ص ٢٤٧٨

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ومنها : أنّ تشديد النكير على الترافع إلى سلطان الجور والقاضي المنصوب من قبله لحلّ المرافعات بقوله عليه‌السلام : «من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم به فإنما يأخذه سحتا ، وإن كان ثابتا ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت» يدلّ على أن مقصود عمر بن حنظلة من الرجوع إلى قضاة الجور ليس مجرد الاستفتاء من جهة كون الشبهة حكمية ، بل غرضه فصل النزاع المنوط بإنشاء الحكم من قبل الحاكم ثم تنفيذه ، وهو عليه‌السلام لعلمه بمرام السائل حرّم عليه الترافع إلى حكّامهم وأرشده إلى من يصلح الرجوع إليه بقوله : «ينظر إلى من كان منكم قد روى حديثنا ...».

ومنها : أن الرجوع إلى رواة أحاديثهم لأخذ الحكم الكلي منهم لا يناسبه التعبير بقوله «عليه‌السلام» : «فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف» بل المناسب له كما ورد في بعض الأخبار الإرجاعية : «لا يجوز لك أن ترده» أو «ما أدّى فعنّي يؤدي» ونحوهما كقوله : «لا عذر لأحد من شيعتنا التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا». ومن المسلّم عدم توقف أخذ الرواية من الثقة على جعل الشارع ، بل يكفي فيه الوثاقة والأمانة في النقل ، بخلاف منصب القضاء المنوط بالنصب ولو بنحو العموم ، هذا.

وقد اعترف المحقق الآشتياني «قده» بورود صدر المقبولة في الحكومة المصطلحة ، ولأجله تمسّك الفقهاء بها في كتاب القضاء في مسائل :

منها : حرمة الترافع إلى غير الفقيه الإمامي إلّا فيما توقف أخذ الحق على الرجوع إليه.

ومنها : كون المأخوذ بحكمه سحتا وإن كان الآخذ محقّا.

ومنها : حرمة الترافع إلى العامي ، بل المتجزي.

ومنها : لزوم تنفيذ حكم الحاكم وكون رده كفرا. ومعه كيف يتجه حملها على المراجعة إليهم لمجرد الاستفتاء؟

وأما تأويل قوله : «فرضيا أن يكونا الناظرين» إلى : أن يكون المراد «فرضيا أن يكون أحدهما ناظرا» فهو وإن كان محتملا ، لكنه ينافيه قوله بعده : «فاختلفا في ما حكما» الظاهر في كون كليهما ناظرا في الأمر لا واحد منهما. والإشكال في الترافع إلى حاكمين لا يقتضي هذا الحمل ما لم يكن شاهد عليه كما هو واضح.

وعليه ، فالحق ما أفاده شيخنا الأعظم من ظهور صدر المقبولة في التحكيم. وهذه الإشكالات لا توجب وهنا في الاستدلال بها على وجوب الترجيح ، إذ لو سلِّم إعراض الأصحاب عنها فإنما هو

١٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عن بعض جمل الرواية. وأما ما يتعلق بترجيح أحد الخبرين فلا إعراض عنها ، وقد تقرر في محله إمكان التفكيك في الحجية ، وأن الرواية المشتملة على جمل أعرض الأصحاب عن بعضها ليست بأسوإ حالا من العامين من وجه ، لبنائهم على حجية كل منهما في مورد الافتراق ، وعدم حجيتهما في مورد الاجتماع ، مع أن البناء على صدور بعض مدلولي العامين من وجه دون بعض أشد محذورا من التفكيك بين فقرات رواية واحدة.

وقد أجاب المصنف «قده» في الحاشية عن الإشكالات المتقدّمة في كلام الشيخ الأعظم بإخراج الترافع من باب المدعي والمنكر إلى صورة التداعي ، فإنه كما يتجه به الرجوع إلى حاكمين ـ من جهة أن لكل منهما لكونه مدعيا تعيين الحاكم بنظره ـ كذلك تنحل به سائر الإشكالات. قال «قده» : «أما التعدد فلعدم تراضيهما على واحد ، بل المفروض رفع كلّ أمره إلى واحد. وأمّا غفلة الحكمين ـ مع أنّ لزومها ممنوع ، لإمكان اطّلاع كلّ على قدح في سند ـ فمثلها غير عزيز. وأمّا تحرِّيهما في سند الحكمين فلا يبعد كل البعد بعد عدم نفوذ أحد الحكمين من الحكمين على واحد منهما ، لعدم تمكين واحد منهما الآخر في تعيين من اختاره من الحكمين. وأما حكم أحدهما بعد الآخر فلا ضير فيه أصلا ، حيث لم يكن حكم الأوّل نافذا على من عليه ، حيث لم يرض به ، مع أنه يمكن هذا ، لعدم الاطلاع على صدور الحكم من الآخر. وأما تساقطهما فهو مطلقا ممنوع ، والمسلّم منه إنما هو صورة تساوي الحكمين. وأما غيره هذه الصورة فيمكن الاستناد إلى الرواية في جواز التحرّي والاجتهاد في حكم المسألة المتنازع في حكمهما بالرجوع إلى ملاحظة صفات الحكمين أو صفات ما استندا إليه من الروايتين ...» (١).

والوجوه المذكورة في كلامه وإن لم تخل من قوة ، إلّا أن تنزيل المقبولة على صورة التداعي ـ حتى يثبت لكل منهما حق تعيين الحاكم ـ تأويل فيها بلا موجب ، فإنه ـ مضافا إلى ظهور «وكلاهما اختلفا في حديثكم» في كون الشبهة حكمية لا موضوعية ، إذ ليس اختلاف الأحاديث المأثورة عنهم عليهم‌السلام موجبا للتشاجر في الشبهة الموضوعية ، بل الاختلاف فيها مستند إلى تعارض البينات والأمارات المعتمدة في تلك الشبهات ـ يكون إطلاق الأمر بتقديم حكم الأفقه بقوله عليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ...» الناشئ من ترك الاستفصال عن حال القضية المتنازع فيها من كونها من باب المدعي والمنكر أو التداعي محكّما ، ولا وجه لحمله على صورة التداعي خاصة ، مع بعده في نفسه في مثل الميراث وإن جرى في الدين ، هذا.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٧١

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مضافا إلى : أن صريح كلام عمر بن حنظلة رضاهما بالحاكمين ، وهو لا يلتئم مع توجيه الرجوع إليهما بقوله : «فلعدم تراضيهما على واحد» وقوله : «بعد عدم نفوذ أحد الحكمين من الحكمين على واحد منهما ، لعدم تمكين واحد منهما الآخر في تعيين من اختاره».

والظاهر جواز التمسك بالمقبولة ، وعدم ورود الإشكالات المذكورة في عبارة الشيخ ـ أو بعضها ـ عليه بلا حاجة إلى التفصي عنها تارة بإرادة الرجوع إلى الحاكمين للاستفتاء ، وأخرى بالحمل على باب التداعي.

وذلك أما الإشكال الأول ـ وهو تعدد الحاكم ـ ففيه : عدم اختصاص المحذور بالمقبولة ، لوروده في خبري داود بن الحصين والنميري أيضا ، ففي الأول : «في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه اختلاف ، فرضيا بالعدلين واختلف العدلان بينهما .. عن قول أيِّهما يمضي الحكم؟ فقال عليه‌السلام : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر». وفي الثاني : «فيتفقان على رجلين يكونان بينهما حكما فاختلفا فيما حكما ...». ولا ريب في شمول إطلاق تنفيذ حكم الأفقه منهما لما إذا كان مسبوقا بحكم الفقيه.

والعمدة في المقام هي أن أمر تعيين الحاكم بيد المدعي ، لكونه مطالبا بحقه ، وهذا لا ينافي رضاه بالترافع إلى حاكم آخر يرضى به المنكر أيضا. وليس وجوب إنفاذ حكم الفقيه الجامع للشرائط مجمعا عليه حتى عند تراضي الخصمين بالترافع إلى حاكمين لتكون المقبولة معارضة بالإجماع.

قال في المستند : «إذا كان مجتهدان متساويان ، فالرعية بالخيار فيهما في الترافع إليهما ، لبطلان الترجيح بلا مرجح. ولو تفاوتا في العلم فهل يتعين الأعلم أم لا؟ قال في المسالك والمفاتيح : فيه قولان مبنيّان على وجوب تقليد الأعلم وعدمه. قال في التحرير : يكون بالخيار للمدعي مع التعدد مطلقا. ثم قال : ولو تراضيا بالفقيهين واختلف الفقيهان نفذ حكم الأعلم الأزهد. وذهب جماعة إلى الأول ، بل هو الأشهر كما في المسالك ، وبعضهم نفي الخلاف عنه عندنا ...» إلى أن قال بعد التعرض لأدلة تقديم حكم الأعلم والجواب عنها : «وظهر مما ذكرنا أن الحق اختصاص ترجيح الأعلم بمورد النصوص ، وهو ما إذا اختلف المترافعان أوّلا في الاختيار كما في المقبولة ، أو اتفقا على رجلين فاختلفا كما في الروايتين كما هو ظاهر الفاضل في التحرير ، وأن اللازم ترجيحه حينئذ أيضا هو الأعلم والأعدل معا ...» (١).

وقال في الجواهر : «نعم لو فرض أن المتخاصمين قد حكّموا رجلين فصاعدا في أمرهم

__________________

(١) مستند الشيعة ، ٢ ـ ٥٢٢

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فاختلف الحكم الصادر منهم في ذلك رجح بالمرجحات المذكورة ...» (١).

والمقصود أن بطلان رأي المتأخرين إجماعيا حتى يكون الترجيح بالصفات ثم بمستند حكميهما مخالفا للإجماع وموهونا بإعراض الأصحاب عنه.

وأما الإشكال الثاني ـ وهو غفلة كل من الحاكمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه ـ ففيه : عدم استلزام تعارض حكميهما للغفلة عن المعارض الواضح ، فإنّ الحديثين وإن كانا مشهورين كما صرّح به السائل بعد الترجيح بالصفات ، إلّا أن عدم اعتناء كل من الحاكمين بما استند إليه الحاكم الآخر يمكن أن يكون لخلل في دلالته أو في جهته ، فإن مجرد شهرة الروايتين رواية لا يوجب قطعية دلالتهما وجهتهما.

وأما توجيه غفلة الحاكمين بما تقدّم في كلام المصنف ـ من إمكان قدح كلّ في سند الآخر ، أو عدم كون الأخبار في عصر الصادقين عليهم‌السلام مدوّنة في جوامع الأخبار كالكتب الأربعة التي بأيدينا ، فتتفق الغفلة عن المعارض حينئذ ـ فينافيه مورد المقبولة ، حيث فرض الراوي شهرة الروايتين وموافقتهما للكتاب ومخالفتهما للعامة ، وميل قضاتهم إلى إحداهما بُرهة وإلى الأخرى تارة أخرى.

وأما الإشكال الثالث ـ وهو اجتهاد المترافعين وتحرِّيهما في ترجيح مدرك الحكمين ـ فالظاهر عدم لزومه أصلا ، وذلك لأن عمر بن حنظلة ـ بعد فرض تساوي الحاكمين في الصفات ـ سأل عن صورة تعارض حكميهما لاختلاف مستنديهما ، وأجاب عليه‌السلام بقوله : «ينظر إلى ...» وهذا ظاهر في بيان ضابطة كلية من أنه متى ترافع الخصمان إلى حاكمين واختلفا في الحكم فاللازم النّظر في مدركيهما ، وليس المأمور بالنظر نفس المترافعين كي يشك بأنّ تفويض التحري إليهما مخالف للإجماع ، وذلك لأن «ينظر» مبني للمجهول ، وليس مبنيا للفاعل كما كان في الأفعال المتقدّمة مثل «انظروا إلى ، اختار رجلا ، فرضيا أن يكونا» ونحوها. ولا يبعد أن يكون عدوله عليه‌السلام عن الفعل المبني للفاعل إلى المبني للمفعول للتنبيه على أن التحقيق في مستند الحكمين وظيفة المجتهد القادر على النّظر في مدرك الحكمين ، وعلى ترجيح أحدهما على الآخر.

وأما الإشكال الرابع ـ وهو ندرة تقارن الحكمين زمانا ، ولزوم تنفيذ الأسبق منهما ، لا الترجيح بالصفات وبالمستند ـ ففيه : أنه إن أمكن حمل الترجيح بالصفات على ما أفاده المحقق الآشتياني من «أن تعين الترجيح عند الاختلاف في كلِّيِّ الواقعة أوجب الأخذ بالراجح في شخص الواقعة

__________________

(١) جواهر الكلام ، ٤٠ ـ ٤٦

١٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المختلف فيها ، لا أن الرجوع الفعلي صار سببا لذلك كما هو ظاهر» (١) فهو ، إذ الترجيح بالصفات يكون قاعدة عامة في كل مورد اختلف نظر الحاكمين فيه ، وأنه لا عبرة بنظر المفضول عند مخالفته لرأي الفاضل كما هو الحال في باب التقليد أيضا ، وهذا أجنبي عن صدور حكمين من الحاكمين خارجا حتى يجب تنفيذ السابق كي يشكل مع ما في المقبولة من الترجيح بصفات الحاكم أو بمرجحات الرواية.

وإن تعذّر هذا الحمل ـ بدعوى ظهور كلام السائل في علاج اختلاف الحكمين في مرافعة شخصيّة ، لا السؤال عن حكم كلّي الواقعة ـ فالإنصاف أن الإشكال الرابع لا يخلو من وجه ، إذ مع كون الغالب تعاقب الحكمين زمانا وندرة تقارنهما يتعيّن تنفيذ حكم السابق وإلغاء اللاحق ، لا الترجيح بالصفات ، لإطلاق أدلة حرمة نقض حكم الحاكم من الإجماع المنقول البالغ حدّ الاستفاضة ، وقوله عليه‌السلام في المقبولة : «فارضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته حاكما» وقوله : عليه‌السلام فيها : «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فبحكم الله استخفّ وعلينا ردّ» وغير ذلك مما استدل به على وجوب إنفاذ الحكم وحرمة ردِّه (٢).

إلا أن يقال : باختصاص أدلة حرمة نقض الحكم بما إذا كان الحاكم واحدا ـ كما هو الغالب ـ أو توافقهما في الحكم إذا كان الترافع إلى اثنين ، وعدم شمولها للمقام أعني تراضي الخصمين بحاكمين. أما الإجماع فمع تسليمه ـ والغض عمّا حكي عن العلامة «قده» من نفوذ قضاء الأعلم الأزهد ـ لا إطلاق له لمورد تراضي الخصمين بحكمين ، فالمتيقن منه صدور الحكم عن حاكم واحد.

وأما قوله عليه‌السلام : «فإنّي قد جعلته حاكما» فكذلك ، لظهوره في نصب من له أهلية القضاء بنحو العموم ، والضمير في «به ، جعلته» راجع إلى «رجل أو الموصول ، والمقصود إرجاع المترافعين إلى رجل واحد. وليس ناظرا إلى بيان حكم تعدد الحاكمين واختلافهما حتى يتمسك به على وجوب تنفيذ الحكم السابق وإلغاء اللاحق. وأمّا حكم صورة تعدد الحاكم واختلافهما في القضاء فهو مذكور في الجملة اللاحقة له أعني الترجيح بالصفات ، ومع احتفاف حرمة الرد بالترجيح بالصفات لا يبقى إطلاق في حكمه عليه‌السلام بوجوب إنفاذ الحكم لصورة تراضي الخصمين بحاكمين.

ومما ذكرنا ظهر أجنبية الاستدلال بالهرج والمرج على حرمة نقض حكم الحاكم عن المقام ، إذ مع تعيين الوظيفة ـ وهي تقديم أحد الحكمين بصفات الحاكم ووجوب تنفيذه ـ تنحسم مادة النزاع ، ولا مجال لدعوى الهرج والمرج.

__________________

(١) كتاب القضاء ، ص ٤٧٩

(٢) كتاب القضاء ، ص ٥٥

١٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وقد تحصل من جميع ما ذكرناه أن الإشكالات التي أوردها شيخنا الأعظم على صدر المقبولة غير واردة عليها. ومع العجز عن التفصّي عنها فهي ـ كما قال «قده» ـ غير قادحة في الاستدلال بها على وجوب الترجيح.

وأما الجهة الرابعة : ـ وهي المرجحات المنصوصة في المقبولة ـ فهي الترجيح بالصفات وبالشهرة وبموافقة الكتاب وبمخالفة العامة.

أما الترجيح بالصفات فقد تقدّم في توضيح المتن اختصاصه بباب الحكمين ، وعدم شموله للراويين بما هما راويان لحديثين.

فالمهم التعرض لمرجحات أحد الخبرين على الآخر كما صنعه الإمام عليه‌السلام بعد فرض السائل استواء الحاكمين في الصفات ، وهي الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

وقد يقال : بعدم ارتباط المقبولة بمرجحات الخبرين ، لأنها في مقام بيان مرجحات الحكمين دون مرجحات الخبرين ، وذيلها وهو «فإن كان الخبران عنكم مشهورين» وإن كان ظاهرا بدوا في السؤال عن الخبرين ، وأجيب عن مرجحاتهما. لكن وحدة السياق تقتضي كون مرجحاتهما مرجحات الحكم أيضا ، بمعنى كونها مرجحات الخبرين من حيث كونهما مستندين للحكم لا من حيث خبريتهما. نظير الأعدلية وغيرها من الصفات ، فإنها مرجحات للشخص من حيث كونه حاكما لا راويا للحديث حتى تعدّ من مرجحات الخبرين.

لكنه غير ظاهر ، فإنّ وحدة السياق وإن اقتضت اختصاص المرجِّحات بالخبرين المتعارضين في باب القضاء ، إلّا أن التعليلات الواردة فيها تقتضي التعدي إلى مطلق الخبرين المتعارضين سواء كانا في دين أو ميراث أو نحوهما من الماليات أم في أبواب العبادات مثلا. كتعليل الأخذ بالمشهور بأمرين وهما : كونه مما لا ريب فيه ، وكونه بيِّن الرشد. وتعليل الأخذ بما خالف القوم بأن ما خالفهم فيه الرشاد ، أو «فإن الحق فيه» كما في خبر العيون. وتعليل الأخذ بما وافق الكتاب في خبر السّكوني بـ «ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا». ومن المعلوم أن عدم الريب في الخبر المجمع عليه لا يختص بباب القضاء ، بل هو شأن الخبر المشهور في جميع الأبواب. كما أن التعليل بكون الرشد في خلافهم آب عن التقييد. وعليه فهذه التعليلات صالحة للتعدي من مورد السؤال في المقبولة إلى سائر موارد تعارض الخبرين.

إنما الكلام في كون الشهرة من المرجحات أو من مميزات الحجة عن غيرها؟ قد يقال بالثاني نظرا إلى أن المذكور في المقبولة هو الأخذ بالمجمع عليه ، والمراد به الخبر الّذي أجمع الأصحاب

١٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على صدوره من المعصومين عليهم‌السلام ، وذلك لتعليل الأخذ به بأمرين : أحدهما قوله عليه‌السلام : «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» وثانيهما : تطبيق الأمر البيِّن رشده على الخبر المجمع عليه. وعليه يكون الخبر المعارض له ساقطا عن الحجية ، لما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنة ، فإن المراد بالسنة هو مطلق الخبر المقطوع صدوره عن المعصوم عليه‌السلام لا خصوص النبوي ولا ينافي هذا فرض الراوي شهرة كلتا الروايتين ، فإن الشهرة بمعنى الوضوح ، ومنه قولهم : شهر فلان سيفه ، فمعنى شهرتهما أنهما قد رواهما جميع الأصحاب وعلم صدورهما من المعصوم «عليه‌السلام» (١).

والحاصل : أن الخبر الشاذ المقابل للمشهور مقطوع العدم أو موثوق بعدمه ، فلا يعمه أدلة حجية الخبر.

لكن يمكن أن يقال : أن كلمة «المجمع عليه» وإن كان ظاهرا في اتفاق الكل على رواية ، ولذا استدل بعضهم بها على حجية الإجماع على ما حكاه المجلسيان «قدهما» (٢) ، وكذا «المشهور» الظاهر في الوضوح ، ومقتضاهما كون الشهرة من مميزات الحجة عن غيرها. إلّا أنه يشكل الالتزام به في المقبولة ، لقرينة فيها ، وهي شمول إطلاق تقديم حكم الأعلم الأفقه الأصدق على غيره لما إذا كان مستند حكمه خبرا مشهورا أم غير مشهور ، ولو كان عدم اعتبار الخبر غير المشهور ـ الّذي استند إليه الأفقه احتمالا ـ قطعيا لما صحّ تنفيذ حكم الأفقه مطلقا ، بل كان اللازم التنبيه على مدرك حكمه ، فهو عليه‌السلام كما أمر بالنظر في ما يفضل به أحدهما على الآخر من الصفات ، فكذا كان من المناسب التنبيه على مستنديهما ، بأن لا يكون أحدهما خبرا شاذا في قبال مستند الآخر ، فعدم التنبيه عليه ـ مع بعد الإهمال من هذه الجهة ـ كاشف عن صلاحية الخبر غير المشهور للاستناد إليه ، وعدم كونه مقطوع البطلان.

وعليه فالمراد بالمشهور هو المستفيض من حيث النقل ، لا من حيث العمل بمضمونه. وهذا المقدار لا يوجب الوثوق بعدم حجية الخبر الشاذ المقابل له ، وذلك «لأن مفاد الأخبار الدالة على حجية خبر الثقة كفاية وثاقة الراوي في قبول خبره ، من دون إناطته بالوثوق الفعلي بخبره ، فلا يضر عدم الوثوق الفعلي أو الظن بعدمه. كما أن بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة من حيث كونه لو خلي وطبعه مفيدا للظن بالصدور.

ولو سلِّم أن الشهرة موجبة للقطع بصدور المشهور فإنما هو في الشهرة رواية وعملا ، لا الأولى

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٤١٣

(٢) روضة المتقين ، ٦ ـ ٣١ ، مرآة العقول ، ١ ـ ٢٢٥

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فقط. وأما الوثوق الفعلي بصدوره فلا يمنع عن الوثوق الفعلي بصدور ما يقابله ، بل لا يمنع القطع بصدوره عن القطع بصدور ما يقابله ، ولذا فرض الراوي الشهرة في الخبرين. مع أن فرض القطع بالصدور أو الوثوق به في الطرفين يمنع عن إعمال مميِّزات الصدور عن عدمه بموافقة الكتاب ومخالفة العامة» (١).

نعم مقتضى ارتكازية العلة وهي «أنّ المجمع عليه لا ريب فيه» هو إرادة الشهرة الفتوائية والروائيّة معا ، لأن مجرد كثرة نقل الرواية في كتب الحديث مع الإعراض عنها وعدم العمل بها لا يناسب التعليل بعدم الريب فيه ، بل فيه مع الإعراض كل الريب والخلل ، فلا بد أن يراد بكون الخبر مشهورا شهرته من حيث الفتوى أيضا ، فإن المناط في اعتبار الرواية استنادهم إليها في الفتوى وعدم إعراض القدماء عنها ، وإلّا كان ذلك كاشفا عن خلل في صدورها أو دلالتها أو جهتها. هذا بعض الكلام في مرجحية الشهرة.

وأما موافقة الكتاب ومخالفة العامة فهما ـ كما سيظهر إن شاء الله تعالى ـ مرجحان طوليّان ، وقد حكم عليه‌السلام بتقديم حكم الحاكم المستند إلى خبر موافق للكتاب ومخالف للقوم ، وحيث إن الترجيح بهما واقع بعد فرض الراوي شهرة كلا الخبرين ، فالتعدي منهما إلى مطلق الخبرين المتعارضين حتى الآحاد يتوقف على إلقاء خصوصية المورد.

لكن يسهل الأمر من جهة اشتمال النصوص على هذين المرجحين بنحو الانفراد والانضمام ، ولتوضيحه نقول : إن الأخبار المشتملة على تقديم الخبر الموافق للكتاب على طائفتين :

الأولى : ما ورد لتمييز الحق عن الباطل ، كالأخبار المتقدمة في (ص ١٤٢) مما اشتمل على أن المخالف للقرآن زخرف وباطل ونحوهما ، فإن المخالفة بقول مطلق يراد بها التباينيّة ، وهذا المعنى لا تعلّق له بباب ترجيح أحد المتعارضين على الآخر ، بل الخبر لو كان بلا معارض لوجب طرحه إذا كان مخالفا للكتاب.

هذا بناء على الغض عما استظهره المصنف من هذه الأخبار في تخصيص عموم الكتاب بالخبر الواحد ، ثم أمر بالفهم فيه من إرادة المخالفة ثبوتا لا إثباتا ، حيث قال : «مع قوة احتمال أن يكون المراد أنهم عليهم‌السلام لا يقولان بغير ما هو قول الله «تبارك وتعالى» واقعا وإن كان على خلافه ظاهرا شرحا لمرامه وبيانا لمراده من كلامه تعالى ، فافهم». لما في هذا الحمل من الإحالة على المجهول ، مع أن موافقة الكتاب جعلت معيارا لصدق الخبر بعد عرضه على الكتاب ، ومخالفته مناطا لكذبه

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٦٦

١٨٠