منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأن الّذي جاء به أولى به ، فلا بدّ أن تكون العبرة بظاهر الكتاب ، فإنه القابل للعرض عليه ، دون ما يخالف واقعا ما هو المراد الواقعي من الكتاب ، إذ لا علم بهذا المراد الواقعي حتى تعرض الأخبار عليه.

الثانية : ما ورد في باب ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، من الأمر بأخذ ما يوافق الكتاب وطرح ما يخالفه كمصحح عبد الرحمن وغيره مما تقدم في (ص ١٤٠) ، فإن الظاهر من هذه الطائفة كون موردها الخبرين المفروض اعتبارهما لو لا التعارض ، خصوصا ما اشتمل منها على كونهما خبري ثقتين ، فهذه الطائفة تعدّ من المرجحات ، ويكون المراد بمرجحية الموافقة موافقة أحد الخبرين لظاهر الكتاب ، وهذا يلتئم مع فرض موافقة الخبرين له في مورد الترجيح بالمرجح المتأخر عنه رتبة وهو مخالفة القوم ، إذ لا مانع من موافقة الخبرين لظاهرين يمكن التصرف فيهما أو في أحدهما.

وعلى كلّ فمثال الترجيح بموافقة الكتاب ما إذا ورد حديث يدل على حرمة سمك خاص ، وآخر يدل على حليته ، ودلّ الكتاب الشريف بمقتضى إطلاق الآية الكريمة «أحل لكم صيد البحر» على حلِّيته ، أخذ بما يدلّ على الحلية ، لموافقته لإطلاق الكتاب المجيد.

هذا ما يتعلق بالترجيح بموافقة الكتاب في الجملة. وفي بعض الأخبار ضمّ «السُّنة» إلى الكتاب كما في المقبولة ، وفي بعضها الترجيح بمخالفة العامة أيضا ، وسيأتي وجه الجمع بينهما في التنبيه الثاني.

وأما الأخبار الراجعة إلى مخالفة العامة فهي أيضا على طائفتين :

إحداهما : ما ورد في لزوم مخالفتهم وترك موافقتهم ، سواء كان هناك خبر آخر مخالف لهم أم لا ، كخبر العيون عن علي بن أسباط ، قال : «قلت للرضا ـ عليه‌السلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته ، وليس في البلد الّذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، قال ، فقال : ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإن الحق فيه» (١). ومفروض سؤال الراوي إعواز النصوص وانسداد طريق السؤال من فضلاء الأصحاب ، فأمر عليه‌السلام بالاستفتاء من فقيه البلد ومخالفة فتواه مهما كانت ، معلّلا مطلوبية مخالفتهم بأن الحق في خلافهم.

ونحوه خبر عبيد بن زرارة عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «ما سمعت منِّي يشبه قول الناس فيه التقية ، وما سمعت منِّي لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه» (٢). ولم يفرض في هذه الرواية وجود خبر

__________________

(١) الوسائل ، ١٨ ـ ٨٢ ، الحديث : ٢٣

(٢) الوسائل ، ١٨ ـ ٨٨ ، الحديث : ٤٦

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

موافق للعامة وآخر مخالف لهم حتى يقدّم المخالف عند التعارض ، بل أمر عليه‌السلام ـ بنحو الضابطة الكلية ـ بحمل ما يسمعه من الإمام عليه‌السلام عند شباهته بآراء العامة على التقية ، وعدم صدوره بداعي بيان الحكم الواقعي.

ومن المعلوم أن مفاد هذين الخبرين ونحوهما أجنبي عن باب ترجيح أحد الحديثين على الآخر ، بحيث كان كل منهما حجة لو لا المعارضة حتى إذا كان موافقا للعامة. ولا بد أن يراد بالأمر بمخالفة فتوى فقيه البلد ، أو حمل ما يشبه قول العامة على التقية إمّا فرض تفرُّد العامة بشيء واتّخاذهم له طريقا وشعارا لهم بحيث يعرفون به ، وكان ما عند الخاصة غيره ـ كما اختاره المحقق الأصفهانيّ «قده» (١) ـ وفي مثله لا ريب في عدم حجية الخبر الموافق لهم. وإمّا فرض احتفاف الخبر بقرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه صدر تقية كما استفادة المحقق النائيني «قده» (٢). وإن كان الأوّل أولى ، إذ ربما تختفي القرائن مع كون مضمون الخبر مطابقا لما تفرّدت العامة به.

ثانيتهما : ما ورد في علاج المتعارضين من تقديم ما خالف العامة على ما وافقهم ، كما تقدّم في مصحّح عبد الرحمن : «فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه» وكذا في خبر الحسن بن الجهم عن العبد الصالح «عليه‌السلام» المتقدم في (ص ١٤٠) ، وفي غيرهما من الأخبار. ومورد الترجيح بهذه الأخبار هو أن يكون هناك خبران متكافئان في أصل ملاك الحجية صدورا وظهورا وجهة ، غير أنّ أحدهما موافق للعامة والآخر مخالف لهم ، فتكون كثرة الأحكام المشتركة بيننا وبينهم موجبة لاحتمال صدور كل من الخبر الموافق والمخالف بداعي بيان الحكم الواقعي وجريان أصالة الجد في كل منهما ، فينحصر المانع عن الحجية الفعلية في التعارض ، وقد حكم عليه‌السلام بترجيح الخبر المخالف ، وأنّ الموافق منهما مشتمل على ما يوجب ضعف الملاك ، والمخالف مشتمل على ما يوجب قُوّته ، فيرجح.

وقد تحصل من هذا البحث الطويل الذيل : أنّ المرجِّح هو موافقة الكتاب ومخالفة العامة كما هو مقتضى كثير من أخبار الباب ، فالمرجحات المنصوصة منحصرة بهذين المرجحين مع الترتيب بينهما بتقديم موافقة الكتاب والسنة على مخالفة العامة ، بمعنى وجوب العرض أوّلا على الكتاب والسنة ، ومع عدم وجدان الحكم فيهما يرجع إلى الترجيح بمخالفة العامة كما هو ظاهر مصحح عبد الرحمن.

ويتعين تقييد إطلاقات التخيير بهما ، ولا محذور في هذا التقييد ، إذ لا يلزم حمل تلك المطلقات

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٦٨

(٢) فوائد الأصول ، ٤ ـ ٢٩١

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

على الفرد النادر بعد تقييدها بهذين المرجحين. نعم يلزم ذلك لو قيل بالتعدي عنهما إلى مرجحات أخرى ، أو إلى مطلق ما يوجب القرب إلى الواقع على ما استفاده جمع من الأجلة من تلويحات أخبار الباب. وإلّا فمع الاقتصار في الترجيح على الأمرين المذكورين تبقى موارد كثيرة لأخبار التخيير.

ومنه ظهر عدم الوجه في حمل الأخبار الآمرة بالترجيح بهما على الاستحباب. مضافا إلى إباء بعض الألسنة عن هذا الحمل كالتعليل بأنّ ما خالفهم فيه الرشاد.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : أن الترجيح في الجملة ـ مما عليه الأصحاب وإن اختلفت كلماتهم في الترجيح ببعض الوجوه أو في ترتيبها ، وسيأتي كلام ثقة الإسلام في الترجيح بالشهرة وبموافقة الكتاب ومخالفة العامة في التوضيح من (ص ١٩٣). وقال الشيخ في العدّة : «وأما الأخبار إذا تعارضت وتقابلت ، فإنه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيح ، يكون بأشياء ، منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنة المقطوع بها والآخر مخالفا ، فإنه يجب العمل بما وافقهما وترك ما خالفهما ...» ثم رجّح بموافقة إجماع الفرقة وبصفات الراوي ... إلى أن قال : «فإن كان رواتهما ثمّ متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامة وترك العمل بما يوافقهم ...» (١).

واعترض عليه المحقق بأن الترجيح بمخالفة العامة مستند إلى رواية رويت عن الصادق «عليه‌السلام» «وهو إثبات لمسألة علمية بخبر الواحد» (٢).

وأورد عليه بعدم انحصار المدرك في رواية واحدة ، لاستفاضة الأخبار ، بل تواترها على الترجيح بمخالفة العامة.

وقد يوجّه كلام المحقق بأن أخبار الترجيح بهذا المرجح كلها منقولة عن رسالة القطب الراوندي ـ التي صنّفها في بيان أحوال أحاديث أصحابنا وصحتها ـ عن الإمام الصادق عليه‌السلام بسند معتبر. إلّا أن هذه الرسالة لم تثبت نسبتها إلى القطب ثبوتا شائعا كما ادعاه الفاضل النراقي في المناهج ، فلا حجية فيما نقل عنها ، وينحصر مستند الترجيح بمخالفة العامة في المقبولة ، ومرسل الاحتجاج عن سماعة بن مهران ، وحيث لا اعتبار بالثانية فيتجه مدعى المحقق ـ بناء على مبناه ـ من قصور خبر الواحد عن إثبات مسألة علمية (٣).

أقول : لا تخلو الشبهة التي أبداها الفاضل النراقي من وجه ، فإنّ هذه الرسالة وإن روى عنها المحدثان المجلسيان في الروضة والبحار (٤) ، وكذا صاحب الوسائل. لكنها ليست في اشتهار النسبة

__________________

(١) عدّة الأصول ، ١ ـ ٥٥

(٢) معارج الأصول ، ص ١٥٦

(٣) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٦٧

(٤) روضة المتقين ، ٦ ـ ٤٢ ، بحار الأنوار ، ٢ ـ ٢٣٥ ، الحديث : ١٧ إلى ٢٠

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إلى مؤلِّفها الجليل على حدِّ سائر الأصول المنسوبة إلى مؤلفيها ، بل ليست كسائر مصنفات القطب الراوندي في تواتر النسبة أو اشتهارها كالخرائج وفقه القرآن. لكن الظاهر كفاية وجود سند معتبر متصل بين أرباب الجوامع الثلاثة المتأخرة ـ وهي الوسائل والبحار والوافي ـ وبين مؤلف هذه الرسالة ، ولا يعتبر شيوع النسبة حتى يكون عدمه قادحا في الاستناد إليها.

وقد شهد المحدث الحرّ العاملي بأنّ الكتب التي روى عنها في الوسائل إمّا متواترة عن مؤلِّفيها ، وإمّا قامت القرائن على صحتها ، قال في الفائدة الرابعة من الخاتمة : «في ذكر الكتب المعتمدة التي نقلت منها أحاديث هذا الكتاب ، وشهد بصحتها مؤلفوها وغيرهم ، وقامت القرائن على ثبوتها ، وتواترت عن مؤلِّفيها أو علمت صحة نسبتها إليهم بحيث لم يبق فيها شك ولا ريب ... ثم عدّ كثيرا من المصادر ... إلى أن قال : وغير ذلك من الكتب التي صرّحنا بأسمائها عند النقل منها» (١) ثم قال في الفائدة الخامسة : «في بيان بعض الطرق التي نروي بها الكتب المذكورة عن مؤلفيها ، وإنما ذكرنا ذلك تيمّنا وتبرّكا باتصال السلسلة بأصحاب العصمة عليهم‌السلام ، لا لتوقف العمل عليه ، لتواتر تلك الكتب ، وقيام القرائن على صحتها وثبوتها ...» (٢).

وظاهر هذه الكلمات يوجب الوثوق بوجود طريق معتبر للشيخ الحرّ «ره» إلى كلِّ كتاب نقل منه في الوسائل خصوصا مع دعوى قيام القرائن على صحتها وثبوتها.

لكن في النّفس دغدغة من ذلك بالنسبة إلى رسالة القطب الراوندي ، لعدم كونها من الكتب المتواترة عن مؤلفيها قطعا ، والقرينة التي ادّعاها صاحب الوسائل مجهولة الكنه عندنا ، إذ ربما لا تكشف بنظرنا ـ لو ظفرنا بها ـ عن حجة شرعية خصوصا مع خلوِّ إجازة العلامة لبني زهرة وكلمات جمع آخرين من عنوان هذه الرسالة ونسبتها إلى الشيخ الجليل القطب الراوندي كما نسبوا كتاب الخرائج وقصص الأنبياء إليه ، وإن كان عدم التصريح بهذه الرسالة غير كاشف عن عدم تأليفها ، لعدم كون العلامة ولا ابن شهرآشوب بصدد استقصاء جميع مؤلّفات القطب.

والنتيجة : أن المدار في حجية الخبر هو الوثوق الشخصي ، والظاهر حصوله من اعتماد الأجلّة كالمجلسيين والمحدث الحرّ العاملي على «رسالة الفقهاء» المنسوبة إلى القطب الراوندي ، وبهذه الملاحظة عبّرنا عن رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله بالمصحح لا بالصحيح كما هو المتداول على الألسن.

وبذلك ظهر عدم تمامية توقف المحقق في الترجيح بمخالفة العامة ، مع أنه لو فرض انحصار المدرك بمقبولة ، عمر بن حنظلة ، أمكن إثبات مسألة علمية بخبر الواحد الجامع لشرائط الحجية.

__________________

(١) الوسائل ، ٢٠ ـ ٣٦

(٢) الوسائل ، ٢٠ ـ ٤٧

١٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأمر الثاني : أن أخبار الترجيح ـ كما تقدمت في توضيح المتن ـ مختلفة المضامين.

فمنها : ما اشتمل على الترجيح بموافقة الكتاب ثم بمخالفة العامة كمصحح عبد الرحمن.

ومنها : ما اقتصر فيه على الترجيح بموافقة الكتاب والسنة كما في خبر الميثمي المروي عن العيون ـ بناء على كونه من أخبار الترجيح ـ في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشيء الواحد : «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنها : ما اقتصر فيه على الترجيح بمخالفة العامة كخبر الحسن بن الجهم.

ونسبة أخبار الترجيح بكل منهما على الانفراد مع مصحح عبد الرحمن هي نسبة المطلق إلى المقيد ، ومن المعلوم اقتضاء الصناعة التقييد ، كاقتضائها تقييد مرجحية الكتاب بما دلّ على العرض على الكتاب والسنة ، فيكون نتيجة التقييد العرض أوّلا على الكتاب والسنة ، وثانيا على أخبار العامة أو آرائهم على حسب اختلاف الروايات.

الثالث : اختلف أخبار الترجيح بمخالفة العامة في كون المناط مخالفة أخبارهم أم مخالفة العامة بقول مطلق الشامل لرأيهم وروايتهم ، ففي مصحح عبد الرحمن : «فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه». وفي خبر الحسن بن الجهم : «خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه» فمدار الترجيح بمقتضى مصحح عبد الرحمن هو مخالفة أخبارهم ، كما أنه بمقتضى خبر الحسن بن الجهم مخالفة القوم ، الظاهر في رعاية ديدن القوم في المسألة بحيث يصح أن يقال : «مسلك القوم كذا وكذا». ومن المعلوم أن النسبة بين المصحّحة وخبر الحسن بن الجهم عموم من وجه ، لاجتماعهما في كثير من الأحكام الشرعية التي تطابقت آراؤهم مع أخبارهم فيها ، فكل من الخبرين يرجح الخبر المخالف لهم ، وافتراقهما فيما إذا كان الحكم في أخبارهم أمرا ، وكانت فتاواهم مخالفة لها ، وفيما إذا أفتى مفتيهم بشيء مع خلوِّ أخبارهم عنه ، لعدم وفاء أخبارهم بجميع أبواب الفقه. كما يظهر من تصريح أبي حنيفة في محاورته مع أبي عبد الله عليه‌السلام بالإفتاء بما أدى إليه رأيه والقياس فيما لا يعثر عليه في الكتاب والسنة.

وعلى كلّ فمقتضى مصحح عبد الرحمن الأخذ بما خالف أخبارهم سواء أفتى به فقهاؤهم أم لا ، ومقتضى خبر الحسن بن الجهم ترجيح الخبر المخالف لآرائهم سواء طابقت أخبارهم أم لا ، فيتعارض الخبران فيما إذا كان هناك خبران متعارضان أحدهما موافق لأخبارهم والثاني موافق

١٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لآرائهم ، وذلك عند مخالفة آرائهم لرواياتهم.

ويرتفع الإشكال بأن أخبار العلاج ناظرة إلى طرح الخبر الموافق للقوم من جهة عدم جريان أصالة الجدِّ فيه ، فالمناط هو ملاحظة ما يتّقى ويخاف من مخالفته سواء أكان رأيا أم رواية ، وإن كان شيوع فتاوى أبي حنيفة وغيره في عصر الإمام الصادق عليه‌السلام ومن بعده من الأئمة عليهم‌السلام يستفاد منه موضوعية مخالفة آرائهم لا رواياتهم.

وأما مصحح عبد الرحمن المتكفل للأخذ بما خالف أخبارهم فالظاهر أن المقصود منه التنبيه على طرح الأخبار التي يروونها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكونها موضوعة مجعولة كما يستفاد من مرفوعة أبي إسحاق الأرجاني ، قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن يدين الله بدين إلّا خالف عليه الأُمّة إلى غيره إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الشيء الّذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّا من عندهم ليلتبسوا على الناس» (١).

وعليه فالأمر بطرح ما وافق من أخبارنا أخبارهم والأخذ بخلافه يكون للتنبيه على أن أخبارهم غالبا غير صادرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هي مجعولة وضعها مرتزقة الحديث إبطالا لما تقوله العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين».

والحاصل : أن اللازم في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر عرضهما على أخبار العامة وآراء فقهائهم ، فإن كانت آراؤهم مطابقة لأخبارهم أخذ بالخبر المخالف. وإن كانت مخالفة لها فالظاهر لزوم مراعاة زمان صدور الرواية ، وأن الرائج فيه هو عملهم بالخبر الّذي يروونه أم برأيهم الفاسد المستند إلى القياس والاستحسان ونحوهما ، فإن كان المعمول به هو الخبر كان مناط الترجيح عرض المتعارضين على أخبارهم ، وإن كان هو الرّأي كان الترجيح بما يخالف آراءهم.

وكيف كان فتقديم أحد الخبرين المتعارضين بمخالفة العامة يحتاج إلى تفحص تام في آراء علمائهم ورواياتهم ، لأنّ أعصار أئمة الجور مختلفة من حيث ترويج مذهب من مذاهبهم دون آخر ، وكذلك أحكام قضاتهم مختلفة باختلاف علماء كل عصر من أعصارهم ، والأئمة الطاهرون «عليهم‌السلام» كانوا معهم في أدوار متفاوتة ، فربما كان الحكم مشهورا في عصر دون آخر ، فحمل أحد الخبرين المتعارضين على التقية يتوقف على ملاحظة الرّأي السائد المتداول في عصر الإمام المعصوم عليه‌السلام الّذي صدر منه الحكم الشرعي ، فلو كان رأي أبي ليلى مثلا رائجا في عصر

__________________

(١) الوسائل ، ١٨ ـ ٨٣ ، الحديث : ٢٤

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الإمام الصادق عليه‌السلام كما يظهر من رواية خالد بن بكير في باب الوصية (١) ، وكان الشائع في عصر إمام آخر رأيا آخر لم تقتض روايات الترجيح بمخالفة العامة أن يعامل مع الخبر المروي عن ذلك الإمام عليه‌السلام معاملة الخبر المروي عن الصادق عليه‌السلام الموافق لروايات العامة أو لرأيهم.

قال شيخنا الأعظم «قده» : «فقد حكي عن تواريخهم : أنّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم على فتوى أبي حنيفة وسفيان الثوري ورجل آخر ، وأهل مكة على فتاوى ابن أبي جريح ، وأهل المدينة على فتاوى مالك ، وأهل البصرة على فتاوى عمارة وسوادة ، وأهل الشام على فتاوى الأوزاعي والوليد ، وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد ، وأهل خراسان على فتاوى عبد الله بن المبارك الزهري ، وكان فيهم أهل الفتاوى من غير هؤلاء كسعيد بن المسيّب وعكرمة وربيعة الرّأي ومحمد بن شهاب الزهري ، إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة سنة خمس وستين وثلاثمائة كما حكي».

والحاصل : أن كون مخالفة العامة مرجِّحة لأحد المتعارضين أو مميِّزة للحجة عن غير الحجة يتوقف على تتبع آرائهم وأخبارهم وملاحظة عصر صدور الخبرين حتى يظهر أنّ الإمام المعصوم عليه‌السلام كان مستطيعا على بيان الحكم الواقعي أم مضطرّا إلى موافقة القوم.

الرابع : قد عرفت أن المرجحين المنصوصين هما موافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة مع الترتيب بينهما ، وكل منهما مرجح مستقل. وهذا هو ظاهر مصحح عبد الرحمن. نعم جمع الإمام عليه‌السلام في المقبولة في الترجيح بهما بعد الترجيح بالشهرة ، وهذا ربما يستفاد منه كون المجموع مرجحا واحدا ، فلا بد من اجتماعهما في أحد الخبرين المتعارضين كي يقدّم على غيره ، فلو كان أحدهما في أحد الخبرين لم ينفع في مقام الترجيح.

لكن الظاهر عدم قرينية ذكرهما معا على كونهما مرجحا واحدا ، وذلك لأنه عليه‌السلام بعد قول عمر بن حنظلة : «جعلت فداك إن رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد» ومن المعلوم أنه عليه‌السلام جعل مخالفة العامة ـ بعد موافقة الخبرين للكتاب والسنة ـ مرجِّحا مستقلا ، فلا بد أن تكون موافقة الكتاب والسنة مرجحة مستقلة أيضا ، ولو لم تكن هذه مرجحة مستقلة لكان انضمامها إلى مخالفة العامة من باب ضمِّ الحجر إلى جنب الإنسان ، غاية الأمر أنه عليه‌السلام فرض أحد الخبرين جامعا لكلا المرجحين والآخر فاقدا لهما ، وبعد سؤال الراوي عن الواجد لأحد

__________________

(١) التهذيب ، ٩ ـ ٢٣٦ ، كتاب الوصية ، باب الزيادات ، الحديث : ١٢

١٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المرجحين أمر عليه‌السلام بالأخذ بما يخالف العامة (١).

الخامس : ورد في الأخبار العلاجية طائفة تتضمن الترجيح بالأحدثية ، فإذا تعارض خبران قُدِّم المتأخر منهما صدورا ، ومن المعلوم أن هذه الطائفة معارضة لما تقدم من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ثم التخيير عند تكافئهما ، ضرورة أن النسبة بين رواية الترجيح بالأحدثية وتلك الروايات هي العموم من وجه ، إذ الأحدثية ترجِّح الخبر المتأخر سواء كان موافقا للعامة أم مخالفا لهم ، ومخالفة العامة أيضا ترجِّح الخبر المخالف لهم سواء أكان متقدما أم متأخرا ، فإذا كان الخبر السابق مخالفا للعامة والحادث موافقا لهم فمقتضى الترجيح بالأحدثية هو الأخذ بالحادث ، ومقتضى الترجيح بمخالفة العامة هو الأخذ بالسابق وعدم الاعتناء بالحادث. وعليه فاللازم علاج التعارض بعد بيان تلك الأخبار.

فمن هذه الطائفة خبر المعلّى بن خنيس ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيِّهما نأخذ؟ فقال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي ، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم» (٢). والظاهر من مورد السؤال صورة اختلاف الأحاديث وتعارضهما كما هو صريح مرسل الحسين بن المختار (٣) ، وقد حكم عليه‌السلام بالأخذ بالخبر المتأخِّر صدورا ، وعلّل ذلك بـ «أنّا لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم».

ومنها : موثق محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : قلت له : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتهمون بالكذب ، فيجيء منكم خلافه؟ قال : إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (٤). ودلالة قوله عليه‌السلام : «إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» على لزوم الأخذ بالأحدث وترك الحديث المتقدِّم صدورا واضحة ، خصوصا مع التعليل بجريان النسخ في الأحاديث كما في آيات الذّكر الحكيم. وظاهر سؤال محمد بن مسلم : «لا يتهمون بالكذب» عدم القطع بصدور الخبرين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ الخبر القطعي لا يحتمل فيه الكذب حتى يتهم راويه به ، فالموثقة تدل على تعين الأخذ بالأحدث عند تعارض الخبرين في الأخبار الآحاد الظنية.

ومنها : خبر أبي عمرو الكناني ، قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا عمرو أرأيت لو

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٤١٧

(٢) الوسائل ، ١٨ ـ ٧٨ ، الحديث : ٨

(٣) الوسائل ، ١٨ ـ ٧٧ ، الحديث : ٧

(٤) المصدر ، الحديث : ٤

١٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك ، أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأيِّهما كنت تأخذ؟ قلت بأحدثهما وأدع الآخر ، فقال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى الله إلّا أن يعبد سرّا ، أما والله لئن فعلتم ذلك ، إنه لخير لي ولكم ، أبى الله عزوجل لنا في دينه إلّا التقية» (١). ودلالته على العمل بالأحدث ظاهرة ، فإنه عليه‌السلام قرّر قول الراوي : «قلت : بأحدثهما وأدع الآخر» بأنّه مصيب ، ومورد الخبر ما إذا كان الحديث المتأخر موافقا للعامة ، بقرينة تعليله عليه‌السلام للزوم الأخذ بالأحدث بقوله : «أبى الله إلّا أن يعبد سرّا» وقوله : «أبى الله عزوجل لنا في دينه إلّا التقية».

هذه عمدة ما دل على تعيين العمل بأحدث الخبرين المتعارضين.

والجواب العام عن هذه الأخبار ـ بعد الغض عما سيأتي من قصور بعضها سندا وبعضها دلالة ـ هو إعراض الأصحاب عنها وعدم كون الأحدثية موجبة لترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر ، إلّا ما يظهر من الصدوق في وصية الفقيه في باب «أن الرجلين يوصى إليهما ، فينفرد كل واحد منهما بنصف التركة» وذكر فيه حديثين ، ثم قال : «لست أُفتي بهذا الحديث ، بل أفتي بما عندي بخطِّ الحسن بن علي عليهما‌السلام ولو صحّ الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه‌السلام ، وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس ، وبالله التوفيق» (٢).

وتفصيل الكلام أما الخبر الأوّل ـ وهو خبر المعلّى ـ فلا يخلو من إشكال في سنده ودلالته. أمّا السند فلعدم ثبوت وثاقة إسماعيل بن مرار إلّا كونه من رجال تفسير علي بن إبراهيم القمي. وأما الدلالة فالظاهر من قوله عليه‌السلام : «فإن بلغكم» هو البلوغ بوجه معتبر كما قوّيناه في أخبار «من بلغ» لا مطلق وصول الحديث وإن كان ظنيا حتى يعم الأخبار الآحاد التي بأيدينا. وعليه يختص تقديم الأحدث بالقطعيين.

مضافا إلى : أن التعليل بـ «انّا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم» يحتمل فيه أمران :

أحدهما : ما أفاده العلامة المجلسي : من إرادة الجواز من السعة ، قال «قده» : «قوله عليه‌السلام فيما يسعكم ، أي : يجوز لكم القول والعمل به تقية أو لمصلحة أخرى» (٣).

وثانيهما : ما أفاده المحقق الأصفهانيّ «قده» بقوله : «وهي بقرينة امتداد الحكم إلى أن يبلغ عن

__________________

(١) الوسائل ، ١٨ ـ ٧٩ ، الحديث : ١٧

(٢) الفقيه ، ٤ ـ ٢٠٣ طبع مكتبة الصدوق بطهران

(٣) مرآة العقول ، ١ ـ ٢٢١

١٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحيّ ظاهر في أن الحكم الفعلي أيّا ما كان هو الثاني إلى أن ينكشف حاله ، لا أن وظيفة عامة المكلفين ذلك ولو في غير زمان الحضور الّذي يتفاوت حال الأئمة عليهم‌السلام وشيعتهم من حيث الاتّقاء من الأعداء» (١) ومحصله : أن المقصود من السعة هو التقية ، فهو عليه‌السلام يلاحظ التوسعة عند بيان فتوى مخالفة لفتوى سابقة كي لا يقع الشيعة في الضيق ، وهذا حكم التقية ، ولا ربط له بباب الخبرين المتعارضين. وحيث إنه لا تقية في مثل زماننا فلا معنى للترجيح بالأحدث ، ولا تكون الرواية معارضة لما دلّ على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

لكن يشكل اختصاص لزوم الأخذ بالأحدث بزمان الحضور ، لإباء أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة عن التخصيص ، لأنها علاج لحكم الخبرين المتعارضين ، وكان السؤال لأجل التحيّر والعمل ، فكيف يقيد الترجيح بهما بالأخذ بالأحدث في عصر الحضور؟ فالأولى في ردِّ خبر معلّى ما تقدّم من إعراض الأصحاب عن العمل به بناء على دلالته على أصل الترجيح بالأحدثية.

وأما الخبر الثاني : ـ وهو موثق محمد بن مسلم فجوابه : أن في قوله عليه‌السلام : «ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» احتمالين ، الأول : أن يكون المراد من النسخ معناه الاصطلاحي ، وهو بيان أمد الحكم ، لا ارتفاع الحكم المستمر. الثاني : أن يكون المراد منه معناه اللغوي ـ وهو الإزالة مثل نسخت الشمس الظل ـ فيشمل موارد الجمع العرفي كالتخصيص والتقييد كما أطلق عليهما في بعض الأخبار ، فالمقصود بالنسخ تخصيص العموم المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمخصص المروي عن الإمام عليه‌السلام أو تقييده به.

فعلى الثاني يخرج النسخ الوارد في الموثق عن محل الكلام من لزوم الأخذ بالمتأخر من الخبرين المتعارضين ، إذ لا تعارض بين العام وخاصه وغيرهما من موارد الجمع العرفي حتى يتعين العمل بالأحدث.

وعلى الأول فلا يبعد الحمل على التقية كما احتمله العلامة المجلسي بقوله : «ويحتمل أن يكون ذلك للتقية من المخالفين في نسبة الصحابة إلى النفاق والكذب والوهم ، فإنّهم يتحاشون عنها» (٢).

وعليه فلا مجال للاستدلال به على لزوم العمل بأحدث الخبرين ، لأنه فرع صدورهما ، والمفروض عدم إحرازه بنقل فلان وفلان حتى يكون منسوخا بما ورد من الإمام المتأخر عصره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما الجواب عنه «بأن الموثق أجنبي عن النسخ بالمعنى المصطلح ، فإنه ـ على تقدير إمكانه بعد

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٦٤

(٢) مرآة العقول ، ١ ـ ٢١٦

١٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

انقطاع الوحي ـ يتوقف على كون الحديث الناسخ للحديث النبوي مقطوع الصدور ، فإن ضرورة المذهب قاضية بعدم نسخ الكتاب والسنة بالخبر الظني ، بل هذا مما اتفق عليه الفريقان» (١) فلا يخلو من تأمل ، إذ المناط في الترجيح بالأحدثية هو قوله عليه‌السلام : «ان الحديث ينسخ» وتنزيل إطلاقه على السنة القطعية المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا مقيد ، ومن المعلوم توقف شمول معقد الإجماع ـ على تقدير تحققه وتعبديته ـ لمورد الموثق على إرادة خصوص السنة النبوية القطعية الصدور من جملة «الحديث ينسخ» وأصالة الإطلاق تدفعه ، فمقتضى الموثق الحكم بمنسوخية ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بخبر واحد ونحوه مما لا يوجب القطع بالصدور ـ بما روي عنهم «عليهم‌السلام» بخلافه ، وهذا المعنى ليس مخالفا للإجماع ، بل في كلمات الأصحاب التصريح بجوازه.

قال الشيخ في مسألة نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة : «وأما السنة فإنما تنسخ بالسنة أيضا إذا تساويا في الدلالة ، فإن كانت الأُولى من أخبار الآحاد فعلى مذهبنا ذلك ساقط ، لأنّا لا نعمل بها. وعلى مذهب الفقهاء يجوز نسخها بمثلها ، لأنها إذا كان طريقهما العلم فحكمهما حكم الكتاب. وإن كانا ممّا طريقهما العمل فحالهما أيضا متساوية ، فيجب صحة نسخ إحداهما بالأخرى ، وقد وقع ذلك» (٢).

وقال المحقق : «نسخ الكتاب بالكتاب جائز ، والسنة المتواترة بمثلها ، والآحاد بالآحاد ، كما قيل في ادّخار لحوم الأضاحي وزيارة القبور» (٣) ونحوه في المعالم (٤).

والغرض أن نسخ السنة المتواترة بالخبر الواحد الظني وإن لم يكن جائزا ، إلّا أن قوله عليه‌السلام : «الحديث ينسخ» بمقتضى إطلاقه يدلّ على وقوع النسخ في الأحاديث النبوية أيضا ، ولا ريب في كثرة هذه الأخبار وعدم تواتر جميعها.

والظاهر لزوم حمل الموثق على النسخ بمعنى آخر يعم التخصيص والتقييد أو على التقية. وبهذا يجاب عن الاستدلال به على ترجيح الأحدث من الخبرين ، كما يجاب عن معتبرة منصور بن حازم التي ورد فيها : «فنسخت الأحاديث بعضها بعضا».

وأما الثالث وهو خبر الكناني ، فيرده أوّلا : ضعفه سندا ، لعدم ثبوت وثاقة أبي عمرو الكناني ، فالتعبير عنه بالصحيح كما في بعض الكلمات لعلّه من جهة الاعتماد على سند آخر رواه البرقي في المحاسن عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام وهذا السند

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٤١٧

(٢) عدة الأُصول ، ١ ـ ٤٥

(٣) معارج الأُصول ، ص ١٧١

(٤) معالم الأُصول ، ص ٢١٩

١٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

صحيح ، ولا بدّ أن يكون هشام حاضرا في مجلس المخاطبة فسمع ألفاظ الإمام عليه‌السلام مخاطبا لأبي عمرو ، وإلّا فلو كان المخاطب هو الكناني خاصة ـ كما يظهر من ألفاظ الرواية ـ كان هشام راويا عن الكناني ويعود الإشكال.

وثانيا : ان هذا الخبر أجنبي عن ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الآخر بالأحدثية ، لوجهين :

أحدهما : كون موضوع الترجيح الحكمين المقطوع صدورهما ، لقوله عليه‌السلام : «أرأيت لو حدثتك» وهذا غير قوله عليه‌السلام في خبر معلى : «بلغكم عن الحي» الشامل بإطلاقه لوصول الخبر إلى الشيعة سواء أوجب القطع بكلام الإمام عليه‌السلام أم لا. وأما قوله : «حدثتك» فظاهره السماع من المعصوم عليه‌السلام بلا واسطة ، فلا يشمل ما إذا كان الخبران المتعارضان ظنيين.

ثانيهما : إن الخبر بقرينة تحسين الإمام عليه‌السلام لقول الراوي : «قلت بأحدثهما وأدع الآخر» دليل على أنّ من ألقي إليه الكلام الأخير حكمه الفعلي ذلك سواء أكان واقعيا أم ظاهريا لأجل التقية ، بل لا يبعد قرينية التعليل بقوله عليه‌السلام : «أبى الله إلّا أن يعبد سرّا ...» على أن الأخير صدر تقية ، لورود هذا المضمون في روايات التقية أيضا. وعليه يختص مدلول الخبر بزمان التقية وهو زمان خلفاء الجور ، ولا ربط له بوظيفة الشيعة في جميع الأعصار حتى يجب الأخذ بأحدث الخبرين مطلقا.

والمتحصل من جميع ما تقدّم : أنه لا دليل على الترجيح بالأحدثية بالنسبة إلى هذه الأعصار مما يختلف حال الشيعة فيها عن أزمنة الحضور ، والابتلاء بخلفاء الجور.

١٩٢

نعم (١) قد استدلّ على تقييدها ووجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه (٢) أخر :

منها : دعوى الإجماع (٣) على الأخذ بأقوى الدليلين.

وفيه (٤) : أنّ دعوى الإجماع مع مصير مثل الكليني إلى التخيير ، وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النوّاب

والسفراء ، قال في ديباجة الكافي (٥) : «ولا نجد شيئا أوسع ولا أحوط من

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله : «وليس في الأخبار ما يصلح لتقييدها» وحاصله : أنّه قد استدلّ على تقييد إطلاق أخبار التخيير بوجوه أخر غير ما تقدّم من أخبار الترجيح.

(٢) متعلق بـ «استدلّ» و «وجوب» معطوف على «تقييدها».

(٣) كما أشار إليه الشيخ «قده» في المقام الأوّل ـ وهو وجوب الترجيح ـ بقوله : «ويدلّ على المشهور ـ أي وجوب الترجيح ـ مضافا إلى الإجماع المحقّق» وتعرّض له المصنف «قده» أيضا في صدر هذا الفصل الثالث بقوله : «بل ربما ادعي الإجماع أيضا على حجية خصوص الراجح» ومقصوده من الراجح أقوى الدليلين ، لأنّ فاقد المزيّة مرجوح ، وواجدها راجح وأقوى من فاقدها ، فهو مورد الإجماع دون المرجوح.

(٤) هذا إشكال على الاستدلال بالإجماع على لزوم الأخذ بأقوى الدليلين ، ومحصل الإشكال : إنكار الإجماع وعدم تحققه ، وذلك لأنّ ثقة الإسلام الكليني «ره» مع كونه في عهد الغيبة الصغرى ـ ومخالطته مع نوّابه عجّل الله «تعالى فرجه الشريف ـ ذهب إلى التخيير ، ولم يقل بالترجيح ، ومخالفة هذا العلم المخزن لعلوم أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين» تقدح في دعوى الإجماع ، مضافا إلى مخالفة السيد الصدر من أصحابنا ، والجبائيين من العامة.

(٥) ما هذا لفظه : «فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسمع أحدا تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم‌السلام برأيه إلّا على ما أطلقه العالم بقوله عليه‌السلام : أعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه. وقوله عليه‌السلام : دعوا ما وافق القوم ، فإن الرشد في خلافهم ، وقوله عليه‌السلام :

١٩٣

التخيير» (١) مجازفة (٢) (*).

______________________________________________________

خذوا بالمجمع عليه ، فان المجمع عليه لا ريب فيه. ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كله إلى العالم عليه‌السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه‌السلام : بأيِّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» (١).

(١) أمّا أوسعية التخيير فواضحة ، إذ وجوب الأخذ بأحدهما المعيّن ضيق على المكلف. وأما أحوطيّته فلعدم العلم بالمرجحات في جميع الموارد في زمان صدور الروايات ، لعدم العلم غالبا بفتاوى العامة حتى يحصل العلم في ذلك الزمان بموافقة الروايات أو مخالفتها لفتاواهم ، بل الحاصل لهم لم يكن إلّا الظن ، ومن المعلوم أن الظن بالمرجحية لا يكفى ؛ لأن الأصل عدم حجيته ، فالاحتياط يقتضي العمل بإطلاقات التخيير.

واحتمل بعض المدققين معنى آخر في كلام الكليني ، وهو : «أن غرضه «قده» أنّه لا أحوط من ردِّ علم ذلك إلى العالم ، ولا أوسع من التخيير ، بنحو اللّف والنشر المرتب. لا أنّ التخيير أحوط وأوسع» (٢). وهذا المعنى ـ الّذي هو دقيق في نفسه ـ لا يغاير المعنى الأوّل بل يرجع إليه ، لأنّ أحوطية التخيير إنّما هي لموافقة التخيير لإطلاقاته ، بخلاف العمل بالظّن بوجود المرجح ، فإنّه عمل بمشكوك الحجية ، وهو خلاف الاحتياط ، فاتصاف التخيير بكلّ من الأحوطية والأوسعية كما هو ظاهر العبارة ـ على ما استظهره غير واحد كالشيخ والمصنف «قدهما» ـ صحيح.

(٢) خبر «أن دعوى».

__________________

(*) أقول : لم يظهر من الكليني «قده» ذهابه إلى عدم وجوب الترجيح ، كما لم نعثر على من نسب هذا الخلاف إليه ، كما عثرنا على نسبته إلى السيد الصدر من أصحابنا والجبائيين من العامة ، بل في عبارته التي نقلناها دلالة واضحة على لزوم الترجيح ، فإنّه «قده» تعرض أوّلا لما تضمنته المقبولة من المرجحات ليستند إليها في مقام الترجيح ، فاللازم في الخبرين المتعارضين إعمال المرجحات أوّلا ، فمع العلم بها يجب العمل بالخبر الواجد لها ، وبدونه لا بدّ من العمل بإطلاقات التخيير ثانيا ، وعدم الاعتناء بالظن بوجود المرجح ، لأصالة عدم حجية الظن ، وكون الأخذ به تشريعا محرّما. بخلاف

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٨ طبع دار الكتب الإسلامية طهران.

(٢) نهاية الدراية ٣ ـ ١٦٩.

١٩٤

ومنها (١) : أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو (٢) قبيح عقلا ، بل ممتنع قطعا.

وفيه (٣) : أنّه إنّما يجب الترجيح لو كانت المزيّة

______________________________________________________

(١) معطوف على «منها» أي : ومن الوجوه التي استدلّ بها على لزوم تقييد إطلاقات التخيير بأخبار الترجيح أنه لو لم يجب ... ، قال في البدائع في عداد الأدلة على الترجيح : «الثالث : أن العدول من الراجح إلى المرجوح قبيح عقلا ، بل ممتنع قطعا ، فيجب العمل بالراجح لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح. استدلّ به جماعة من الأعلام من الخاصة والعامة ، كما عن النهاية والتهذيب والمبادي والمنية وغاية المبادي وغيرهم ، بل في الرسالة أيضا الاستدلال به في ضمن كلام له ..» (١).

واعتمد عليه المحقق القمي في القوانين أيضا بقوله : «وإذا حصل الترجيح لإحدى الأمارتين يجب تقديمها لئلا يلزم ترجيح المرجوح».

وهذا الوجه عقلي كما أن الوجه السابق نقلي. ومحصل هذا الوجه : أن ترجيح فاقد المزية على واجدها يوجب ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلا ، فيلزم ترجيح ذي المزية على غيره لئلا يلزم هذا القبح العقلي ، بل الامتناع القطعي.

(٢) الضمير راجع إلى «ترجيح المرجوح».

(٣) هذا جواب الاستدلال المزبور ، وضمير «أنه» للشأن. ولا يخفى أنه قد يناقش في الدليل المتقدم بفرض الكلام تارة في فعل العبد ، وأنّ ترجيح المرجوح من الطرفين على الآخر قبيح أم لا ، وأخرى في فعل الشارع ، وأنّه مع اشتمال أحد الخبرين على مزية تقرّبه إلى الواقع هل يجوز له الترخيص في الأخذ بكل منهما أم يتعين عليه الحكم بحجية

__________________

إطلاقات التخيير ، فإنّه ما لم يحرز مقيِّدها يؤخذ بها ، لكونها حجة. وعليه فعدُّ الكليني مخالفا لوجوب الترجيح غير ظاهر ، بل اللازم عده من القائلين بوجوب الترجيح.

نعم لا بأس بالمناقشة في الإجماع من جهة أخرى ، وهي احتمال مدركيته ، لقوة احتمال كون مدرك المجمعين الروايات والوجوه العقلية التي استندوا إليها في وجوب الترجيح ، وتقييد إطلاقات التخيير بها. وعليه فليس من الإجماعات الكاشفة المعتبرة.

__________________

(١) بدائع الأفكار ، ص ٤٣١.

١٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الراجح فقط. ثم يمنع الصغرى في كل من الفرضين ببيان يخصّه.

لكن ظاهر المتن المناقشة الصغروية بناء على الفرض الثاني ، وهذا هو الصحيح ، لوضوح أن حجية أحد الخبرين المتعارضين تخييرا أو تعيينا أو تساقطهما رأسا موكولة إلى بيان الشارع ، والمكلفون تابعون لما جعله الشارع حجة عليهم. وعليه يكون مقصود المستدل بهذه القاعدة إثبات وجوب العمل بالراجح من جهة أن الترخيص في الأخذ بفاقد المزيّة مندرج في القاعدة الكلية العقلية وهي قبح ترجيح المرجوح على الراجح أو امتناعه.

وكيف كان فأورد المصنف على الاستدلال بهذه القاعدة على وجوب العمل بالراجح بوجهين : أحدهما : عدم صغروية المقام لكبرى قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح عقلا. ثانيهما : عدم صحة الإضراب عن قبح الترجيح إلى امتناعه.

أما الوجه الأوّل فتوضيحه : أن الملاك في حجية الخبر الواحد ـ كما سبق في الفصل المتقدم ـ هو غلبة الإصابة نوعا واحتمال الإصابة شخصا ، ومن المعلوم تحقق هذا المناط في الخبر الراجح والمرجوح. وأقوائية ذي المزية من فاقدها في الحجية منوطة بكون المزية موجبة لتأكُّد مناط حجيته ومقتضيها ، كما إذا كان خبر العادل مثلا غالب الإصابة وخبر الأعدل أكثر إصابة منه في نظر الشارع ، وكما إذا كان أحد المجتهدين أجود استنباطا من الآخر مع صدق «العارف بالأحكام» ـ الّذي هو موضوع جواز التقليد ـ على كل منهما ، غير أنّ المقتضي في الأعلم أشد وآكد.

وأمّا إذا لم تكن المزية موجبة لتأكُّد الملاك فلا وجه للترجيح بها ، فإن ضمّ ما لا دخل له في مناط الحجية إلى الدليل من قبيل الحجر في جنب الإنسان ، وذلك كالكتابة والبصر ، فانهما غير دخيلين في المفتي وان قيل باعتبارهما في القاضي.

وعليه فإن أحرز الدخل المزبور بدليل خارجي لزم ترجيح واجد المزية على فاقدها اعتمادا على ذلك الدليل لا من جهة القاعدة ، فان حجية الراجح من الخبرين المتعارضين كحجية الخبر الواحد في غير حال التعارض موكولة إلى بيان الشارع ، فإذا حكم بتقديم أحد الخبرين المتعارضين بصفات الراوي أو بموافقة الكتاب أو بغيرهما كان ذلك أجنبيا عن حكم العقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح وإن كان مفاده موافقا له.

١٩٦

موجبة لتأكُّد ملاك الحجية (١) في نظر الشارع ، ضرورة (٢) إمكان أن تكون تلك المزيّة بالإضافة إلى ملاكها (٣) من قبيل الحجر في جنب الإنسان (*)

______________________________________________________

وإن لم يحرز الدخل المزبور ـ كما هو مفروض البحث من جهة عدم دلالة أخبار الترجيح على وجوبه ـ فلا وجه لترجيح ذي المزية على فاقدها ، بل اللازم التسوية بينهما ، لاشتمال كل منهما على ملاك الحجية ، ويشك في تأكُّده بالمزية الموجودة في واجدها. ومن المعلوم أن قاعدة «قبح ترجيح المرجوح على الراجح» لا تتكفل إثبات صغراها ، بل لا بد من إحراز الصغرى من الخارج كي يحكم عليها بالقبح. وحيث إنه لم يحرز تأكُّد مناط الحجية بالمزية الموجودة في أحد الخبرين فلا سبيل للتمسك بهذه القاعدة لإثبات الترجيح.

بل الأمر على خلاف مقصود المستدل ، ضرورة أن ترجيح واجد المزية ـ التي لم يثبت مرجحيتها ـ يكون بلا مرجح ، وهو قبيح.

هذا مع الغض عن إطلاقات التخيير الدافعة لاحتمال دخل المزايا في وجوب الترجيح ، وإلّا فبالنظر إليها لا تصل النوبة إلى التمسك بهذه القاعدة العقلية ، لكون الإطلاق بيانا على عدم الدخل. هذا بيان الوجه الأول ، وأما الوجه الثاني فسيأتي.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل الراجع إلى الإشكال الصغروي الّذي أوضحناه بقولنا : «أما الوجه الأوّل فتوضيحه : أن الملاك في حجية الخبر الواحد ... إلخ».

(٢) تعليل للمفهوم المستفاد من الحصر في قوله : «انما يجب لو كانت» يعني : أنّه إذا لم تكن المزيّة موجبة لتأكد ملاك الحجية فلا وجه للترجيح بها ، ضرورة إمكان ... ، وهذا بيان للمناقشة الصغروية ، وحاصله : أنّه بعد وضوح كون وجه مرجِّحية المزيّة هو دخلها في تأكُّد ملاك الحجية في نظر الشارع يلزم إحراز دخلها ، وهو موكول إلى بيان الشارع ، ومع عدم إحراز هذا الدخل يشك في اندراج ذي المزيّة في أقوى الدليلين حتى يلزم ترجيحه على فاقدها.

(٣) أي : ملاك الحجية.

__________________

(*) لكن المقام ليس كذلك ، لأنّه بناء على حجية الأمارات من باب الطريقية وبناء العقلاء كما هو مبنى المصنف «قده» تكون المرجحات المنصوصة موجبة لأشدية ملاك الحجية الّذي هو

١٩٧

وكان (١) (*) الترجيح بها (٢) بلا مرجح ، وهو قبيح كما هو واضح ، هذا.

مضافا (٣) إلى ما هو في الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع (٤) من (٥)

______________________________________________________

(١) يعني : ومع إمكان عدم دخل المزية في ملاك الحجية ، وكونها ـ بالإضافة إلى ملاكها ـ من قبيل الحجر في جنب الإنسان يكون الترجيح بهذه المزية بلا مرجح ، وهو قبيح.

(٢) أي : بالمزية ، وضمير «وهو» راجع إلى «الترجيح».

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثاني الراجع إلى الإضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع الذاتي ، وحاصله : عدم الوجه في هذا الإضراب الظاهر في استحالة ترجيح غير ذي المزية على ذيها. توضيحه : أن الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية ليس محالا ، إذ المستحيل هو وجود الممكن بلا علّة ، وأما ترجيح الخبر الفاقد للمزية على الواجد لها فليس بمحال ، لكون علّة وجود المرجوح إرادة الفاعل المختار ، غاية الأمر أنه قبيح ، لكونه بدون داع عقلائي مع إمكان إيجاد الراجح. نعم الترجيح بلا مرجح محال بالنسبة إلى الحكيم تعالى شأنه من حيث حكمته جلّت عظمته.

وبالجملة : فترجيح المرجوح على الراجح قبيح عندنا لا محال.

(٤) هذا وقوله : «من الحكم» متعلقان بـ «الإضراب» و «بالقبح» متعلق بـ «الحكم».

(٥) بيان لـ «ما» الموصول ، وتقرير للجواب عن الإضراب المزبور ، وقد عرفت توضيحه ، وملخصه : أن هنا مقامين : أحدهما الترجيح بلا مرجِّح ، ومورده الأفعال الاختيارية ـ التي منها الأحكام الشرعية ـ للشارع ، وهو قبيح لا ممتنع ، حيث إنّ إرادة المرجوح ـ لعدم كونها بداع عقلائي ـ قبيحة عندهم.

والآخر الترجُّح بلا مرجّح بمعنى وجود المعلول بلا علة ، وهو محال.

__________________

الكشف والطريقية ، فإن العلم والعدالة ونحوهما كلها توجب أقوائية الملاك المزبور ، وليست من قبيل الحجر في جنب الإنسان ، فيكون الترجيح بها مع المرجح ، لا بدونه.

(*) الأولى تبديل الواو بالفاء ، بأن يقال : «فكان الترجيح بها بلا مرجح» لأنّ كون الترجيح بها بلا مرجح نتيجة إمكان عدم دخل المزية في ملاك الحجية ، فالتفريع أولى من العطف ، أي : عطف «كان» على «تكون».

١٩٨

أن الترجيح بلا مرجِّح في الأفعال الاختيارية ـ ومنها الأحكام الشرعية ـ لا يكون (١) إلّا قبيحا ، ولا يستحيل وقوعه إلّا على الحكيم تعالى ، وإلّا فهو (٢) بمكان من الإمكان ، لكفاية (٣) إرادة المختار علّة لفعله ، وإنّما الممتنع وجود الممكن بلا علّة ، فلا استحالة (٤) في ترجيحه (٥) لما هو مرجوحٌ مما باختياره.

وبالجملة : الترجيح بلا مرجِّح بمعنى بلا علّة محال (٦) ، وبمعنى بلا داع عقلائيّ (٧) قبيح ليس بمحال ، فلا تشتبه.

______________________________________________________

وما نحن فيه ـ وهو الحكم الشرعي بجواز الأخذ بالمرجوح ـ ليس من هذا المقام ، لعدم كون الأخذ بالمرجوح بلا علّة ، بل يكون مع العلّة وهي إرادة الفاعل المختار ، فهو من قبيل المقام الأوّل أعني كون ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا لا ممتنعا ، فالإضراب من القبح إلى الامتناع الذاتي في غير محله ، لاستلزامه للجمع بين الممتنع الذاتي الّذي لا يتصف بالحسن والقبح ـ وهو الترجُّح بلا مرجِّح بمعنى صدور الفعل من غير علّة مرجِّحة له ـ وبين الترجيح بلا مرجح أي بلا داع عقلائي الّذي هو قبيح لا محال كما لا يخفى.

(١) خبر «ان الترجيح» وضمير «منها» راجع إلى «الأفعال».

(٢) هذا الضمير وضمير «وقوعه» راجعان إلى «الترجيح».

(٣) تعليل لإمكان الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية ، وعدم استحالته ذاتا ، وإنّما المستحيل هو وقوعه منه تعالى عرضا ، لمنافاته لحكمته جلّ وعلا ، كما تقدم آنفا.

(٤) هذه نتيجة جوابه عن الدليل المزبور القائم على وجوب تقديم ذي المزية على غيره ، وحاصلها : أنّ ترجيح المرجوح على الراجح ليس محالا ، بل هو قبيح.

(٥) هذا الضمير راجع إلى «المختار» فهو من إضافة المصدر إلى فاعله ، وضمير «هو» راجع إلى «ما» الموصول الّذي يراد به فعل ، والمراد بـ «مما» الأفعال ، يعني : فلا استحالة في ترجيح المختار لفعل مرجوح من الأفعال التي هي باختياره.

(٦) يعني : وهو أجنبي عن الحكم بترجيح المرجوح على الراجح.

(٧) يعني : كما هو المقصود ، إذ ترجيح فاقد المزية على واجدها قبيح وليس بمحال كما

١٩٩

ومنها (١) : غير ذلك ممّا لا يكاد يفيد الظن (٢) فالصفح عنه أولى وأحسن.

______________________________________________________

تقدم مفصّلا ، فلا يشتبه عليك القبيح ـ وهو ترجيح المرجوح على الراجح ـ بالممتنع وهو وجود المعلول بلا علّة.

(١) أي : ومن الوجوه الأخر التي استدل بها على لزوم تقديم الراجح على المرجوح ما في الرسائل من قوله : «وقد يستدل على وجوب الترجيح بأنّه لو لا ذلك لاختل نظم الاجتهاد ، بل نظام الفقه ، من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعام والمطلق والمقيد وغيرهما من الظاهر والنص المتعارضين». ولكن ردّه الشيخ «قده» بخروج هذه المعارضات عن محل النزاع ، لعدم تحيُّر العرف في الجمع بينهما. وهو في محله.

ومنها : ما قيل : من أن لازم التخيير تساوي العالم والجاهل والعادل والفاسق ، وهما منفيّان بقوله تعالى شأنه : «هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون» و «أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون». وهذا الوجه راجع إلى الترجيح السندي ، فإذا كان أحد سندي الروايتين مشتملا على عالم عادل والآخر على غيره ، فاللازم ترجيح الرواية الأولى على الثانية.

ومنها : أن حكم الشارع بلزوم الأخذ بأحد المتعارضين دائر بين التعيين والتخيير ، والأصل يقتضي التعيينية ، ومقتضاه ترجيح ذي المزية على غيره.

لكن فيه : أن الأصل مرجع حيث لا دليل ، والمفروض وجود الدليل هنا ، وهو إطلاق ما دلّ على التخيير ، إذ المفروض سلامته عن التقييد ، نظير حكومة إطلاق «وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ...» ـ بناء على اعتباره ـ على أصالة التعيينية التي استندوا إليها في وجوب تقليد الأعلم.

ومنها : غير ذلك مما لا ينبغي أن يسطر ، وقد نقلها عنهم المحقق الرشتي ، فراجع البدائع للوقوف عليها.

(٢) أي : الظن بوجوب الترجيح ، فالصفح عنه أولى وأحسن. بل الصفح عنه أولى مطلقا حتى مع الظن بوجوب الترجيح ، لأنّ الظن غير المعتبر لا يجدي ولا يغني من الحق شيئا.

وقد تحصّل مما أفاده المصنف من أول هذا الفصل إلى هنا : أن المرجع في تعارض الخبرين هو إطلاقات التخيير ، ولا يجب الترجيح بشيء من المرجحات الواردة في

٢٠٠