منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بأنّ في الشريعة أحكاما إلزامية يجب الخروج عن عهدتها عقلا ، أو بعلم إجمالي صغير في بعض الموارد ، كالعلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر يوم الجمعة ، فإذا قام دليل على وجوب صلاة الجمعة مثلا وكان الواجب واقعا صلاة الظهر كان هذا الدليل حجة معذّرة ، لكونه موجبا للعذر عن فوت الواقع ، وليس حجة منجّزة ، إذ المفروض تنجزه بمنجز سابق.

إذا عرفت هذين القسمين من الحجة فاعلم : أنّ الحجج القائمة على الأحكام الواقعية ومنها فتاوى المجتهدين ـ معذّرة فقط ، لتنجزها قبل قيام هذه الحجج بالعلم الإجمالي الكبير ، فإذا دار أمر هذه الحجة بين التعيينية والتخييرية ، فالمرجع فيه قاعد الاشتغال دون البراءة ، لكون الشك في الخروج عن عهدة التكليف المنجز.

فالنتيجة : الأخذ بما يقطع معه ببراءة الذّمّة ، وهو في المقام العمل بفتوى الأعلم.

نعم في دوران الحجة التنجيزية بين التعيينية والتخييرية يرجع في تعيينيتها إلى البراءة ، لكون الشك في تعلق الطلب بالخصوصية ، وهو مجرى البراءة كالشك في تعلق الطلب بالمطلق كعتق الرقبة أو بالمقيّد كعتق خصوص المؤمنة ، فتنفى الخصوصية بالإطلاق إن كان ، وإلّا فبأصالة البراءة.

فالمتحصل : أنّ وجوب تقليد الأعلم إمّا يكون من باب الاحتياط أي قاعدة الاشتغال بناء على عدم تمامية الأدلة الاجتهادية القائمة على وجوب تقليد الأعلم تعيينا ، وإمّا يكون حكما اجتهاديّاً بناء على تمامية السيرة العقلائية على وجوب تقليده كذلك ، كما عرفت أنّها أقوى الأدلة وأمتنها.

تكملة :

توافق فتوى الأفضل والفاضل ، واختلافهما

اعلم أنّ فتويي الأفضل والفاضل تارة متوافقتان كوجوب تثليث التسبيحات الأربع في الركعتين الأخيرتين ، وأخرى متخالفتان كوجوب التسبيحات مرّة عند الأفضل ، وثلاث مرّات عند الفاضل ، والمقلّد تارة يعلم بالموافقة ، وأخرى يعلم بالمخالفة ، وثالثة لا يعلم شيئا من الموافقة والمخالفة ، بل يحتمل كلّا منهما.

فإن كان عالما بالموافقة فليس هذا مورد النزاع في وجوب تقليد الأعلم وعدمه ، لأنّ حجية

٥٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فتوى الفقيه تكون بنحو صرف الوجود ، ومع اتفاق الفتويين يكون الجامع بينهما حجة ، نظير الخبرين القائمين على حكم واحد ، فكما أنّه لا يجب على المجتهد أن يستند إلى أحدهما بعينه في استنباط الحكم ، بل يكفيه الاستناد في ذلك إلى الجامع بينهما ، فكذا في الفتويين المتوافقتين بالنسبة إلى العامي. وعليه فالبحث عن موافقة الفتويين قليل الجدوى.

وإن كان المقلّد عالما بمخالفة الفتويين في المسائل المبتلى بها كإفتاء أحدهما بوجوب السورة والآخر بعدمه ، وبطهارة الغسالة ونجاستها ، واعتبار العربية في العقد وعدمه ، وهكذا ، فالمعروف في هذا الفرض ـ بل المدّعى عليه الإجماع ـ هو وجوب تقليد الأعلم عليه ، وقد اختاره الشيخ الأعظم «قده» كما تقدم في صدر المسألة.

ولعلّ الأولى التفصيل بين موافقة فتوى المفضول للاحتياط أو لمن هو أعلم من الأحياء والأموات أو للمشهور بين الأصحاب ، وعدم موافقتها لذلك ، بوجوب العمل بفتوى المفضول في الصورة الأولى ، إلّا بناء على سقوط حجية فتوى الميّت من جميع الجهات حتى من جهة المرجحية ، فتبقى الموافقة للاحتياط مرجحة أو موجبة لعرضية فتويي الفاضل والمفضول ، لكون الاحتياط مؤمنا ، بل لا يبعد حينئذ أن يكون بناء العقلاء على تقديم فتوى المفضول على فتوى الفاضل ، فيصير التقديم اجتهاديّاً لا احتياطيا.

وإن كان المقلد جاهلا بمخالفة الفتويين في المسائل الابتلائية ، بأن يحتمل كلّا من الموافقة والمخالفة ، فينبغي لتوضيح حكمه التعرض لجهتين : إحداهما : ما يقتضيه الأصل العملي ، وثانيتهما : ما يقتضيه الدليل الاجتهادي.

أمّا الجهة الأولى فمحصل الكلام فيها : أنّ مقتضى ما تقدّم من تنجز الأحكام الواقعية بالعلم الإجمالي ـ وكون حجية فتاوى المجتهدين من باب التعذير دون التنجيز ـ هو معذّرية فتوى الأعلم قطعا ، دون فتوى المفضول ، للشك في معذّريتها الموجب لعدم حكم العقل بالاجتزاء بها في فراغ الذمّة وسقوط التكليف ، بل حكمه بذلك مختص بالعمل بفتوى الأعلم ، فهي حجة تعيينية لا تخييرية. وليس المقام من دوران الأمر بين المطلق والمقيد حتى يجري الأصل في عدم وجوب المقيد كما تقدم مفصّلا في «ص ٥٨٠».

وأما الجهة الثانية فملخص البحث فيها : أنّه قيل بعدم الجواز ، استنادا إلى ما استدلّوا به على عدم

٥٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الجواز في صورة العلم بالمخالفة في الفتوى من عدم شمول الأدلة ـ من الإجماع والأقربية ومقبولة ابن حنظلة وغير ذلك ـ لفتوى المفضول.

لكن فيه ما لا يخفى ، لأنّ عدم شمول الأدلّة لصورة العلم بالمخالفة إنّما هو للتعارض المانع عن شمولها للمتعارضين ، بخلاف صورة الجهل بالمخالفة ، لعدم العلم بالتعارض.

نعم بناء على شرطية أعلمية المرجع في جواز التقليد اتّجه الاستدلال المزبور ، إذ لا بد حينئذ في جواز تقليد المجتهد من إحراز أعلميته ، ومع الشك فيها لا يجوز تقليده. لكن استفادة شرطية الأعلمية من الأدلّة في غاية الإشكال ، إذ المستفاد منها اعتبار عدم مخالفة فتواه لفتوى من هو أفضل منه ، لوضوح شمول دليل الاعتبار لفتوى المفضول كشموله لفتوى الأفضل ، والمانع عن حجيتها الفعلية هي المخالفة لفتوى الأفضل.

فالمتحصل : جواز تقليد المجتهد في صورة عدم العلم بمخالفة فتواه لفتوى من هو أعلم منه.

وهنا أبحاث كثيرة لا يسعنا التعرّض لها من أراد الوقوف عليها فليراجع ما علّقناه على تقليد العروة الوثقى.

وينبغي التنبيه على أمور

١ ـ عدم جواز الرجوع إلى المفضول ابتداء

الأوّل : أنّه بعد فرض تمامية أدلة المجوزين هل يجوز للعامي تقليد المفضول بدون الرجوع إلى الأفضل أم لا؟ لأنّ هذه المسألة من المسائل الخلافية التي لا بدّ فيها من الاجتهاد أو التقليد ، فلا بد للعامي العاجز عن الاجتهاد في هذه المسألة من الرجوع فيها إلى الأفضل ، فإن أفتى بجواز تقليد المفضول جاز له تقليده ، وإلّا فالرجوع إليه تشبث بمشكوك الحجية.

نعم إذا رجع إلى المفضول غفلة عن كون المسألة خلافية وكانت فتواه موافقة لفتوى الأفضل ، أو كانت فتوى الأفضل جواز تقليد المفضول صحّ عمله ، بل يصح أيضا مع الالتفات إلى الخلاف في مسألة وجوب تقليد الأعلم ، وتمشّي قصد القربة منه ولو رجاء مع المطابقة المزبورة ، لموافقة عمله في هذه الصور للحجة.

٥٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

٢ ـ تعيّن تقليد الأعلم وان كان المفضول أوثق في الاستنباط

الثاني : أنّه إذا كان المفضول أوثق من الأفضل في الفتوى بحسب الأمور الراجعة إلى الاستنباط ، نظير كونه أكثر فحصا من الأفضل وأبذل جهدا منه ، فهل يتعيّن حينئذ أيضا تقليد الأفضل أم يتخير؟ وجوه ، من مزاحمة الزيادة العلمية للأوثقية ، فيتخير. ومن وجود الوثوق المعتبر في الاجتهاد في الأعلم ، وعدم ثبوت مرجحية أزيد منه ، فيتعين العمل بقول الأعلم. ومن أنّ الأوثقية في الفتوى توجب الأقربية إلى الواقع ، فيتعيّن العمل بقول المفضول.

والأوجه هو الثاني ، لأنّ زيادة الفحص إن كانت دخيلة في الاستنباط وكان الأعلم فاقدا لها فلا يجوز تقليده ، لتقصيره في الاستنباط ، وهو خلاف الفرض. وإن لم تكن دخيلة في الاستنباط فوجودها وعدمها سيّان ، ولا تزاحم الأعلمية.

وإن شئت فقل : انّ مرجحية الأعلمية معلومة ، ومرجحية الأوثقية مشكوكة ، ولا وجه لرفع اليد عن المعلوم بالمشكوك.

نعم بناء على كون مناط تقديم فتوى الأعلم على فتوى المفضول أقربيتها إلى الواقع من فتوى غيره ، وكون الأوثقية في الفتوى موجبة للأقربية تقدم فتوى المفضول. لكنه غير ثابت.

٣ ـ جواز تقليد المفضول إذا أفتى الأعلم به

الثالث : إذا أفتى الأعلم بعدم جواز تقليد المفضول ، فلا إشكال في عدم جواز تقليده ، وإذا أفتى بجواز تقليده فالظاهر جواز تقليده ، ولكن في تقريرات شيخنا الأعظم «قده» حكاية عدم جوازه عن بعض معاصريه. ولم يظهر له وجه وجيه.

فإن كان نظره في ذلك إلى : أنّه يلزم من وجود تقليد الأعلم عدمه ، ففيه : أنّ مورد التقليد مسألة أصولية وهي حجية فتوى المفضول ، وليس مورده نفس الفروع الفقهية حتى يلزم ذلك ، كإفتاء الأعلم بوجوب تثليث التسبيحات الأربع ، وإفتاء المفضول بوجوبها مرّة واحدة ، فهذا التقليد نظير التقليد في مسألة البقاء على تقليد الميّت في أنّ مورد تقليد الحي هناك أيضا حجية قول الميت ، لا نفس الأحكام الفرعية.

٥٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإن كان نظره إلى : أن الرجوع إلى المفضول خلاف حكم العقل بلزوم الرجوع إلى الأعلم ، ففيه : أنّ هذا الحكم العقلي إنّما هو لأجل مؤمّنية فتوى الأفضل من العقوبة ، ومن المعلوم مؤمّنية فتواه مطلقا وإن كانت هي حجية فتوى المفضول.

واحتمال كون ملاك حكم العقل أقربية فتوى الأفضل ، وهو ينافي حجية فتوى المفضول ، مندفع أوّلا بأنّه لم يثبت كون الأقربية ملاك حكم العقل بالحجية وثانيا بعد تسليمه لا طريق إلى إحرازها في خصوص المقام.

فالمتحصل : جواز تقليد المفضول إذا أفتى الأفضل بجوازه.

٤ ـ إذا قلّد أحد المتساويين ثم صار غيره أعلم

الرابع : إذا قلّد أحد المجتهدين المتساويين أو قلّد أعلم الموجودين ثم صار غيره أعلم ، فهل يجب العدول إلى هذا الأعلم ، أم يجب البقاء على تقليد الأوّل ، أم يتخير بينهما؟ وجوه ، فعن الشيخ «قده» في التقريرات ابتناء المسألة على جواز العدول وعدمه ، فعلى الأوّل يجب العدول ، لوجود المقتضي وهو الأعلمية ، وعدم المانع ، إذ لا مانع منه إلّا احتمال حرمة العدول ، والمفروض جوازه ، فيجري فيه ما يدلّ على وجوب تقليد الأعلم.

وعلى الثاني يشكل الأمر ، لتعارض أدلّة الطرفين ، فيحكم بالتخيير بينهما.

لكن الأقوى الرجوع إلى الأعلم ، لوجهين :

أحدهما : أنّ الدليل المعتد به على حرمة العدول ـ وهو الإجماع المحكي عن العلامة والعميدي ـ لمّا كان لبيا ، والمتيقن منه غير المقام ، فلا يصلح للمنع عن العدول ، فيجب الرجوع إلى الأعلم بلا مانع. ولا مجال لاستصحاب حرمة العدول أيضا ، لاحتمال دخل التساوي في موضوع الحرمة ، وهو يوجب الشك في بقاء الموضوع المانع عن جريان الاستصحاب ، نظير احتمال دخل الحياة في جواز التقليد المانع عن جريان استصحاب جواز البقاء على تقليد الميت.

ثانيهما : كون المقام من صغريات التعيين والتخيير في الحجية المعذّرية ، وقد عرفت أنّ مؤمّنية فتوى الأفضل ومعذّريتها قطعية ، بخلاف فتوى المفضول ، فإنّها مشكوكة الحجية والمعذرية.

والحاصل : أنه يجب العدول إلى تقليد من صار أعلم ممن قلّده ، إذ بناء على وجوب تقليد الأعلم

٥٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لا فرق في وجوبه بين الحدوث والبقاء.

وقد تبيّن مما ذكرنا : أنّه إذا قلّد المفضول لتعذر الوصول إلى الأفضل ، ثم تمكّن منه وجب العدول إليه ، من غير فرق فيه بين ما عمل به من المسائل وما لم يعمل به منها.

ثم إنّ هذا كله بناء على وجوب تقليد الأعلم بحسب الدليل الاجتهادي.

وأمّا بناء على كونه أحوط فالظاهر وجوب الأخذ بالاحتياط في المسألة الفقهية ، وذلك لسقوط الاحتياطين في المسألة الأصولية. توضيحه : أنّ جواز العدول مخالف للاحتياط ، للقول بحرمته ، وجواز البقاء أيضا مخالف للاحتياط ، للقول بعدم جوازه ، فكلّ من جواز البقاء والعدول مخالف للاحتياط ، فيسقط الاحتياطان ، وتصل النوبة إلى الاحتياط في المسألة الفقهية إن أمكن ، كوجوب التسبيحات الأربع ثلاثا ومرّة واحدة ، وإلّا كما إذا دار الأمر بين المحذورين كدوران حكم الاستعاذة مثلا بين الوجوب والحرمة فهو مخيّر بين العدول والبقاء.

٥ ـ تقديم الأعلم عند تعارض الأعلمية والأورعية

الخامس : إذا تعارضت الأعلمية والأورعية ففي التخيير بينهما أو تقديم الأعلم أو الأورع؟ وجوه ، أقواها الثاني ، وذلك لأنّ الأورعية إن كانت في الاستنباط ، بأن لا يكون سريع الجزم بالحكم ، بل كان بطيئا متثبّتا ، فمرجعه إلى الأوثقية في الفتوى ، وقد تقدم في التنبيه الثاني حكمه وهو الترجيح بالأعلمية.

وإن كانت في العمل بأن يكون تاركا للشبهات والمكروهات وفاعلا للمندوبات فلا دخل لهذه الأورعية في حجية الفتوى التي لا تتوقف إلّا على العدالة ، ومعرفة ما له دخل في الاستنباط.

٦ ـ العبرة بالأفقهية في كل مسألة لا في جميع المسائل

السادس : هل العبرة في الأفقه بكونه أفقه في جميع المسائل الشرعية أو غالبها ، أم يكفي كونه أفقه ولو في المسألة التي يرجع فيها؟ وجهان ، ففي الفصول : «أظهرهما في كلامهم الأوّل ، وقضية بعض الوجوه السابقة هو الثاني ، وعلى تقديره فالظاهر تعيين الأفقه في البعض بالنسبة إلى البعض الّذي هو أفقه فيه حتى أنّه لو كان أحدهما أفضل في بعض العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد كالعلوم

٥٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العربية وعلم الأصول والرّجال فلا يبعد إلحاقه بالأفقه من هذه الجهة ، لما فيه من مزيد بصيرة في الفقه. ولو كان الآخر أفضل منه في علم آخر من تلك العلوم ، لم يبعد الترجيح بزيادة الأفضلية ، ويكون ما فيه الأفضلية أدخل في الفقه كالأصول بالنسبة إلى النحو والصرف ... والتحقيق : أنّ المرجع في ذلك كله إلى ما يعدّ صاحبه أفقه عرفا ، وضبطه على وجه يستغنى معه من الرجوع إليه متعذر على الظاهر».

أقول : إن كان المستند في وجوب تقليد الأعلم الأدلة اللفظية المشتملة على ألفاظ «الأفقه والأفضل والأعلم» فحيث إنّه ليس لهذه الألفاظ حقيقة شرعية كان المنساق منها عرفا هو الأفقهية في جميع المسائل أو أكثرها. وعليه فيخرج عن موضوع أدلة وجوب تقليد الأعلم المجتهدان اللذان يكون أحدهما أعلم من الآخر في العبادات مثلا ، والآخر أعلم من صاحبه في المعاملات ، إذ ليس واحد منهما أعلم في جميع المسائل أو أكثرها من الآخر حتى ينطبق عليه عنوان الأعلم ، وتشمله أدلّة وجوب تقليده ، فالعامي مخيّر في تقليد أيّهما شاء ، وإن كان الأحوط التبعيض في التقليد بأن يقلّد كلّا منهما فيما هو أعلم فيه من الآخر.

وإن كان المستند في وجوب تقليد الأعلم بناء العقلاء والأصل العقلي ـ أعني به أصالة التعيينية في الحجية المعذرية ـ كان مقتضاهما لزوم تقليد المجتهد الّذي يكون أعلم من غيره في المسائل الابتلائية ولو مسألة واحدة ، فضلا عن أعلميته في باب من أبواب الفقه كالعبادات أو المعاملات ، للعلم بحجية فتواه تعيينا أو تخييرا ، بخلاف فتوى غيره ، فإنّها مشكوكة الحجية ، فلا يكتفي بها عقلا في مقام الامتثال.

٧ ـ المراد بالأعلم هو الأجود استنباطا

السابع : أنّ المراد بالأعلم هل هو أقدر من غيره على تنقيح القواعد التي يستنبط منها الأحكام الفرعيّة كالقواعد الأصولية ، فإذا كان أحد المجتهدين أكثر اقتدارا من غيره على تشييد القواعد الأصولية فهو أعلم ممّن لا يكون مثله في الاقتدار المزبور؟

أم المراد بالأعلم من يحصل له الجزم بالحكم بأن يستنبط الحكم من الأدلّة بنحو الجزم واليقين ، بخلاف غيره ممن يستنبطه من تلك الأدلة بنحو الظن ، فكيفية الاستنباط لا تختلف ، والاختلاف إنّما

٥٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

هو في الإدراك ، لأنّه في أحدهما قطعي وفي الآخر ظنّي.

أم المراد بالأعلم من هو أسرع استنباطا من غيره ، كما إذا فرض أنّ الأعلم يستنبط حكم مسألة في نصف ساعة ، وغيره يستنبطه في ساعة مثلا ، فالمراد بالأعلم حينئذ هو أسرع استنباطا من غيره.

أم المراد به من هو أكثر استنباطا من غيره ، كما إذا فرض أنّه استنبط حكم ألف مسألة ، وغيره استنبط حكم تسعمائة مسألة ، فمن استنبط الألف فهو أعلم ممن استنبط أقل من ذلك ، فالمدار في الأعلمية حينئذ على أكثرية عدد الأحكام المستنبطة فعلا.

أم المراد به من يكون أشدّ مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها ، وتشخيص موارد الأصول حتى لا يجري أصل البراءة مثلا في مورد قاعدة الاشتغال وبالعكس. ولا يجري الأصل المسببي مع وجود الأصل السببي ، وهكذا.

لا سبيل إلى ما عدا الأخير ، إذ في الأوّل : أنّ المدار في الاجتهاد إنّما هو على الاستنباط الفعلي من الأدلة ، دون تشييد المباني وتنقيح القواعد مع عدم الاقتدار على تطبيقها على الفروع ، فإنّه اجتهاد في مقدمات الاستنباط ، وليس اجتهادا في نفس الفروع ، فالأصولي الّذي يستفرغ وسعه في تحرير القواعد الأصولية وتهذيبها ـ ولكنه قاصر عن تطبيقها على الفروع ـ ليس بأعلم ممن يقدر على التطبيق المزبور وإن لم يكن مثله في تحرير القواعد الأصولية.

وفي الثاني : أن الجزم بالحكم المستنبط ليس مناطا للأعلمية ، بل المناط هو القدرة على إقامة الحجة على الحكم ، فمن اقتدر على إقامة الحجة على الحكم دون غيره فهو أعلم ، سواء حصل له الجزم بالحكم أم الظن به ، فلا عبرة بشدة الانكشاف وضعفه.

وفي الثالث : أنّه لا عبرة بأسرعية الاستنباط مع فرض تساويهما في كيفيته واستخراج الفروع من الأصول ، إذ لا دخل لسرعة الاستنباط لا عقلا ولا ببناء العقلاء في أمر التقليد.

وفي الرابع : أنّ كثرة عدد الأحكام المستنبطة ليست مناطا للأعلمية مع فرض كون غيره أجود استنباطا منه ، وإن كان عدد ما استنبطه من الأحكام قليلا ، فانّ مجرد كثرة الاستنباط مع أجوديّة استنباط غيره لا توجب العذر والأمن من العقوبة عقلا بحيث يحكم بالإجزاء ، بل الموجب لهما في نظره هو الأجودية.

فالمتعيّن هو الاحتمال الأخير ، فإنّ الأعلم في سائر الفنون أيضا من يكون أشدّ مهارة في تطبيق

٥٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الكبريات على صغرياتها ، فإنّ الطبيب الأعلم من سائر الأطبّاء عند العرف هو أشدّ مهارة في تطبيق القواعد والكليات الطبية على صغرياتها ، لا من هو أعلم بالكليات مع قصوره عن تطبيقها على مصاديقها ، فإنّ الناس لا يرجع إلى طبيب لا يقدر على تشخيص المرض ولو مع كونه أعلم من غيره في كليّات الطب. وهذا المعنى يراد في المقام أيضا ، لكونه مؤمّنا من العقاب بنظر العقل والعقلاء دون غيره من المعاني المحتملة في الأعلم.

ولعلّ ما عن الشيخ الأعظم «قده» يرجع إلى هذا المعنى الّذي جعلناه متعينا ، قال في التقريرات : «الأعلم من كان أقوى ملكة وأشدّ استنباطا بحسب القواعد المقررة ، ونعني به من أجاد في فهم الأخبار مطابقة والتزاما ، إشارة وتلويحا ، وفي فهم أنواع التعارض ، وتميز بعضها عن بعض ، وفي الجمع بينهما بإعمال القواعد المقررة لذلك مراعيا للتقريبات العرفية ونكاتها ، وفي تشخيص مظان الأصول اللفظية والعملية ، وهكذا إلى سائر وجوه الاجتهاد. وأمّا أكثر الاستنباط وزيادة الاستخراج الفعلي مما لا مدخلية له».

٥٨٩

فصل (١)

اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي ، والمعروف بين الأصحاب الاشتراط (٢) ، وبين العامة

______________________________________________________

تقليد الميت

(١) الغرض من عقد هذه الفصل التعرض لشرطية الحياة في مرجع التقليد وعدمها على تفصيل سيأتي «إن شاء الله تعالى». وليعلم أنّ موضوع الكلام في هذه المسألة ـ بالنظر إلى أدلة الأقوال ـ هو المجتهد القادر على استعلام حكم جواز تقليد الميت وعدم جوازه ، وأمّا العاجز عن استنباطه فهو كالعاجز عن استنباط حكم تقليد الأعلم من الأدلة ، حيث إنّ وظيفته الرجوع إلى ما يستقل به عقله ، فإمّا أن يقطع بتساوي الميت والحي في حجية الفتوى ، وإمّا أن يقطع بتعيّن الرجوع إلى الحيّ ، لدخل الحياة بنظره في مرجع التقليد. وإمّا أن يتردد في دخل الحياة وعدمه فيه ، كما إذا تردد في دخل أفضليته من سائر المجتهدين في مرجعيته.

فعلى الأوّل يجوز تقليد الميت. وعلى الثاني والثالث يجب الرجوع إلى الحي في الأحكام الفرعية ، ولو كانت فتواه في مسألة تقليد الميت الجواز جاز للعامي التعويل على هذه الفتوى والعمل في الفرعيات بفتوى الميت ، لاتصافها بالحجية حينئذ بفتوى الحي.

(٢) يعني : مطلقا ، في قبال التفصيل بين التقليد الابتدائي والاستمراري ، فالمسألة كانت ذات قولين وهما الجواز مطلقا والعدم كذلك ، قال شيخنا الأعظم «قده» : «ومن جملة

٥٩٠

عدمه (١) ، وهو (٢) خيرة الأخباريين وبعض المجتهدين من أصحابنا ، وربما نقل تفاصيل (٣) :

______________________________________________________

الشرائط حياة المجتهد ، فلا يجوز تقليد الميت على المعروف بين أصحابنا ، بل في كلام جماعة دعوى الاتفاق أو الإجماع عليه» (١).

(١) أي : عدم الاشتراط ، لاقتصارهم على تبعية أئمتهم الأربعة ، وهو يدلّ على عدم أهلية غيرهم للتقليد ، مضافا إلى دلالته على حجية آراء الأموات.

(٢) أي : عدم الاشتراط يكون مختار أصحابنا المحدثين وبعض الأصولين كالمحقق القمي في القوانين وجامع الشتات. ولو كان في المسألة إجماع على عدم الجواز لم يقدح فيه مخالفة المحدثين والمحقق القمي. أمّا عدم قدح مخالفة المحدثين فيه فلأنّ التقليد المعتبر عندهم هو أخذ الرواية من المجتهد لا الفتوى التي هي إخبار عن أحكام الله تعالى بحسب الاعتقاد الناشئ من الخبر أو غيره من مقدمات نظرية توجب إذعانه بالحكم الشرعي ، ومن المعلوم أنّه لا يعتبر في جواز العمل بالرواية حياة الراوي ، بل يعتبر فيها شروط أخرى كالضبط والقدرة على النقل بالمعنى وغيرهما.

وعلى هذا لا يكون تجويز الرجوع إلى الأموات كفتاوى ابن بابويه ونحوها مخالفة للاتفاق الّذي ادّعاه جمع من الفقهاء الأصوليين على حرمة الرجوع إلى الأموات ، فان المقصود منه حرمة الرجوع إلى فتاواهم لا إلى رواياتهم ، فلو التزام المحدثون بأنّ التقليد هو العمل بفتوى المجتهد لا أخذ الرواية منه لقالوا بعدم حجية أقوال الأموات كما يقوله أصحابنا اعتمادا على أصالة عدم الحجية ونحوها.

وأمّا عدم قدح مخالفة المحقق القمي فلأنّه «قده» جعل مبنى الجواز انسداد باب العلم ، ووصول النوبة إلى كفاية الظن بالحكم الشرعي ، سواء حصل من رأي الميّت أم الحي ، إذ المفروض حصول الظن بالحكم الواقعي بفتوى كل منهما. وحيث إنّ أصل المبني باطل عنده غيره ـ لانفتاح باب العلمي ـ لم ينفع دليل الانسداد لإثبات حجية آراء الأموات ، وملازمه الاقتصار على فتاوى الأحياء.

(٣) ثلاثة كما يظهر من تقريرات شيخنا الأعظم «قده» أحدها : ما حكي عن الفاضل

__________________

(١) رسالة الاجتهاد والتقليد ، ص ٥٨

٥٩١

منها : التفصيل بين البدوي ، فيشترط ، والاستمراري فلا يشترط (١).

والمختار ما هو المعروف من الأصحاب (٢) ، للشك في جواز تقليد الميت ، والأصل عدم جوازه (٣) ،

ولا مخرج عن هذا الأصل إلّا ما استدلّ به المجوّز على الجواز من وجوه ضعيفة :

______________________________________________________

التوني ، وثانيها : ما حكي عن المحقق الأردبيلي والعلامة ، وثالثها : التفصيل المذكور في المتن ، حكاه السيد صدر الدين في شرح الوافية عن بعض معاصريه ، وهو الّذي قال به المتأخرون من المجوزين لتقليد الأموات مع بعض القيود والتفاصيل.

قال الشيخ ـ بعد حكاية الجواز مطلقا عن المحدثين ومنهم سيدنا الجد المحدث الجزائري «قده» ـ ما لفظه : «ووافقهم التوني إذا كان المجتهد ممّن لا يفتي إلّا بمنطوقات الأدلّة ومدلولاتها الصريحة أو الظاهرة كالصدوقين. وإن كان يفتي بالمداليل الالتزامية غير البيّنة فمنع عن تقليده حيّا كان أو ميّتا. وذهب الأردبيلي والعلامة فيما حكي عنهما إلى الجواز عند فقد المجتهد الحي مطلقا أو في ذلك الزمان ، والفاضل القمي «ره» أناط الحكم مناط حصول الظن الأقوى ، سواء حصل من قول الميت أو الحي فهو من المجوزين مطلقا ...».

وبناء على جواز التقليد الاستمراري توجد تفاصيل سيأتي التعرض لها في التعليقة.

(١) حكى في تقريرات شيخنا الأعظم عبارة السيد الصدر هكذا : «ومال بعض المتأخرين إلى عدم بطلان التقليد بموت المجتهد الّذي قلّده في حياته ، وعدم جواز تقليد الميت ابتداء بعد موته. وهو قريب».

(٢) وهو اشتراط الحياة في مرجع التقليد مطلقا ، بلا فرق بين البدوي والاستمراري ، وغيره من التفصيلين.

(٣) أي : جواز تقليد الميت ، والمراد بهذا الأصل هو أصالة عدم الحجية الجارية في جميع موارد الشك في الحجية ، وتقريب الاستدلال بهذا الأصل كما تقدم في مسألة تقليد الأعلم ، فلا حاجة إلى الإعادة.

٥٩٢

منها : استصحاب (١) جواز تقليده

______________________________________________________

أدلة جواز تقليد الميت

١ ـ استصحاب جواز التقليد

(١) ينبغي تقديم أمر قبل توضيح المتن ، وهو : أنّ هذا الاستصحاب يمكن تقريره بوجوه ، يجري بعضها في كلّ من التقليد البدوي والاستمراري ، ويجري بعضها في التقليد الابتدائي خاصة كما سيظهر «إن شاء الله تعالى».

قال شيخنا الأعظم في تقرير الاستصحاب : «وتقريره من وجوه ، فإنّه تارة يراد انسحاب الحكم المستفتى فيه ، وأخرى يراد انسحاب حكم المستفتي ، وثالثة يراد انسحاب حكم المفتي. فعلى الأخير يقال : إنّ المجتهد الفلاني كان ممن يجوز الأخذ بفتواه ، والعمل مطابقا لأقواله ، وقد شكّ بعد الموت أنّه هل يجوز اتّباع أقواله أو لا ، فيستصحب. كما أنّه يستصحب ذلك عند تغيّر حالاته من المرض والصحة والشباب والشيب ونحوها.

وعلى الثاني يقال : إنّه للمقلّد الفلاني كان الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني ، ونشك في ذلك ، فنستصحب حكمها.

وعلى الأوّل يقال : إنّ هذه الواقعة كان حكمها الوجوب بفتوى المجتهد الفلاني ، ونشك ذلك ، فنستصحب حكمها.

إلى غير ذلك من وجوه تقريراته ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ المكتوب في الرسالة الفلانية كان جائز العمل فنستصحب جواز العمل به بعد الموت».

ولا يخفى أنّ صاحب الفصول قرّر الاستصحاب تارة في حكم المفتي وأخرى في الحكم المستفتى فيه ، وتعرّض للأوّل بتقريبين في التقليد الابتدائي ، وناقش فيه بأنّه لا يمكن تسريته إلى المعدومين في حياة المجتهد ، إذ فيه شبهة التعليق ، وتعرّض للثاني في التقليد البقائي وارتضاه. ولم يتعرض لاستصحاب حكم المستفتي. ولعلّه لاتّحاده حكما مع حكم المفتي.

قال في الفصول : «حجة القول بجواز تقليد الميت أمور ، منها : الأصل ، ومرجعه إلى

٥٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

استصحاب جواز تقليده الثابت حال الحياة ، وهذا قد يعتبر وصفا للمفتي ، نظرا إلى كونه ممن ثبت جواز تقليده حال الحياة ، فيستصحب. وقد يعتبر وصفا لقوله ، نظرا إلى كونه مما ثبت جواز التقليد فيه حال الحياة ، فيستصحب. وحيث إنّ الوصف الأوّل من عوارض النّفس ، والثاني من عوارض القول القائم بها لم يلزم من انعدام الحياة انعدام موضوع الحكم لينافي جريان الاستصحاب» ثم ناقش فيه بما أشرنا إليه.

وهذه العبارة كما ترى ظاهرة في جعل المستصحب حكم المفتي باعتبارين : أحدهما كونه جائز التقليد ، وثانيهما : جواز متابعة رأيه. ولم يتعرض لاستصحاب حكم المستفتي.

وقال بعد جملة من كلامه : «واعلم أنّ ما قرّرناه من المنع من تقليد الميت إنّما هو في تقليده الابتدائي كما هو الظاهر ، وإليه ينصرف إطلاق كلام المانعين. وأمّا استدامة تقليده المنعقد حال حياته إلى حال موته فالحق ثبوتها وفاقا لجماعة ، للأصل ، لثبوت الحكم المقلّد فيه قبل موته ، فيستصحب إلى ما بعد موته» وهذا هو الحكم المستفتى فيه.

وكيف كان فتعرّض المصنف «قده» للاستصحاب في التقليد الابتدائي ناظر إلى فرض المستصحب جواز التقليد الثابت في حق العامي المستفتي ، وإن كان يجري أيضا في تقريره الآخر وهو استصحاب حكم المفتي أعني حجية رأيه ، لكونه فقيها جامعا للشرائط. وأمّا جريان الاستصحاب في نفس الأحكام الفرعية التي أفتى بها المجتهد فقد تعرض له المصنف في التقليد البقائي وفاقا لصاحب الفصول.

إذا اتضح ما ذكرناه فنقول في توضيح المتن : إنّ جواز تقليد المجتهد حال حياته كان قطعيّا لهذا العامي ، وبعد موته يشك في ارتفاع هذا الجواز ، فيستصحب. ويكون المقام من قبيل الشك في رافعية الموجود ، ضرورة أنّ الشك نشأ من الموت.

ثم إنّ هذا الاستصحاب يكون تنجيزيا تارة وتعليقيا أخرى ، فان كان الجاهل مدركا للمجتهد الميت ـ مع كونه مكلّفا لكنه لم يقلّده ـ كان استصحاب جواز تقليده تنجيزيّا ، لفرض أنّ هذا العامي كان مكلّفا بالتقليد وكان هذا الميت في حال حياته جامعا لشرائط المرجعية في الفتوى. وإن كان الجاهل المدرك للمجتهد غير مكلّف بالتكاليف الشرعية ، لكونه صبيّا أو مجنونا في عصر المجتهد كان استصحاب جواز تقليده تعليقيا.

٥٩٤

في حال حياته (١)

ولا يذهب عليك أنّه (٢) لا مجال

______________________________________________________

قال شيخنا الأعظم «قده» : «وربما استدلّ عليه ـ أي على جواز تقليد الميت ـ بعض من انتصره بوجوه ، أقواها وجوه أحدها : الاستصحاب ، لأن المجتهد في حال حياته كان جائز التقليد ولا دليل على ارتفاع الجواز بالموت ، فيستصحب» (١).

(١) هذا الضمير وضمير «تقليده» راجعان إلى المفتي.

(٢) الضمير للشأن ، وهذا جواب الاستدلال بالاستصحاب ، وقد أفاده الشيخ الأعظم «قده» بقوله : «من عدم جريانه فيما يحتمل مدخليّة وصف في عنوان الحكم كالحياة فيما نحن فيه» (٢). وتوضيحه : أنّه قد تقرّر في آخر بحث الاستصحاب اعتبار بقاء الموضوع أي معروض المستصحب ، إذ بدونه لا يصدق «إبقاء ما كان» ولا «نقض ما علم سابقا» على رفع اليد عنه ، فإذا علم بعدالة زيد ثم شك في بقاء عدالة عمرو كان أجنبيّا عن الاستصحاب ، وعليه فإذا علم بارتفاع الموضوع أو شك في بقائه لم يجر الاستصحاب ، لعدم صدق نقض اليقين بالشك في الأوّل ، والشك في صدقه في الثاني.

وفي المقام يكون موضوع جواز التقليد وكذا حجية رأيه هو الرّأي ، لقيامهما بالرأي الرّأي متقوّم بالحياة ، لكون الرّأي هو الإدراك القطعي أو الظني الحاصل للمجتهد من النّظر في الأدلة ، وموطن هذا الإدراك هو الذهن الّذي يكون من القوى الجسمانية التي تذهب بالموت ، بل بالمرض أيضا ، فمع انتفاء الحياة ينتفي الرّأي الّذي هو موضوع المستصحب. ولا ريب في اعتبار بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب بالنظر العرفي الّذي يبنى عليه في باب الاستصحاب ونحوه. نعم بناء على النّظر العقلي الدّقي يكون الرّأي متقوّما بالنفس الناطقة الباقية بعد الموت ، لأنّها من المجردات ، وليست جسما حتى يتطرق إليها البوار والفناء ، فهي روحانية البقاء وإن كانت جسمانية الحدوث.

فان قلت : إنّ منع تقليد الميت ـ لعدم بقاء الرّأي بالنظر العرفي ـ غير سديد ، لأنّه ينافى صحة استصحاب بعض الأحكام الثابتة للمجتهد في حال حياته كطهارة بدنه ونحوها. وجه المنافاة : أنّ الموت لو كان موجبا لانعدام الشخص وصيرورة الميت والحي حقيقتين

__________________

(١) رسالة الاجتهاد والتقليد ، ص ٦٠

(٢) رسالة الاجتهاد والتقليد ، ص ٦١

٥٩٥

له (١) ، لعدم بقاء موضوعه (٢) عرفا ، لعدم (٣) بقاء الرّأي معه ، فإنّه (٤) متقوّم بالحياة

______________________________________________________

متغايرتين لم يجز أيضا استصحاب جواز نظر زوجته إليه مثلا ، لأنّ جواز النّظر إلى الزوج منوط بوجوده ، فلو صار حقيقة أخرى حرم على الزوجة النّظر إليه. وحيث إنّ جواز نظر الزوجة إلى زوجها الميّت من المسلّمات كشف ذلك عن عدم مغايرة الميت للحي بحيث يعدّان حقيقتين متغايرتين ، وأنّهما حقيقة واحدة وموضوع واحد ، ويكون الموت والحياة من الحالات المتبادلة على هذا الإنسان الخاصّ ، لا من مقوّمات الموضوع حتى ينتفي بالموت حقيقة. وعليه فلا بد من تجويز تقليد الميت بقاء.

قلت : لا منافاة بين الحكم بعدم جواز تقليد الميت وبين جواز نظر زوجته إليه ، وذلك لأنّ الأحكام الشرعية المتعلقة بالمكلف تكون على قسمين ، أحدهما : أن تكون ثابتة للشخص باعتبار إدراكاته. ثانيهما : أن تكون ثابتة له باعتبار بدنه وجسمه. فان كان الحكم من القسم الأوّل لم يجز استصحابه بعد الموت وترتيب أثره عليه ، لأنّ الرّأي بنظر العرف ينعدم بالموت ، فلا معنى لاستصحاب جواز تقليده مع عدم موضوعه. وإن كان الحكم من القسم الثاني جاز استصحابه ، لبقاء موضوعه ـ وهو الجسم ـ بعد الموت.

والحاصل : أنّ الحاكم ببقاء الموضوع وارتفاعه في باب الاستصحاب لمّا كان هو العرف ، فلا بد من الرجوع إليه لمعرفة أنّ الموضوع باق أم لا ، والمفروض أنّ العرف يحكم في بعض الموارد بكون الموت والحياة من الحالات المتبادلة على موضوع واحد كالعنبية والزبيبية العارضتين على جسم واحد ، فيستصحب حكم هذا الجسم. ويحكم في بعض الموارد بأنّ الحياة مقوّمة للموضوع كما في المقام ، إذ لا بقاء للرأي بعد الموت ، فلا معنى لاستصحاب جواز تقليده.

(١) أي : لاستصحاب جواز تقليد الميت ، وقوله : «لعدم» تعليل لـ «لا مجال».

(٢) أي : موضوع جواز التقليد ، والمراد بالموضوع هو الرّأي فإنّه حيثية تقييدية في مرجع التقليد ، وقوله : «عرفا» قيد لـ «عدم بقاء» يعني : أنّ عدم بقاء الرّأي يكون بنظر العرف لا بنظر العقل.

(٣) تعليل لقوله : «لعدم بقاء موضوعه عرفا» وضمير «معه» راجع إلى الموت.

(٤) أي : فإنّ الرّأي الّذي هو موضوع جواز التقليد متقوّم بالحياة بنظر العرف.

٥٩٦

بنظر العرف ـ وإن لم يكن كذلك (١) واقعا ـ حيث (٢) إنّ الموت عند أهله موجب لانعدام الميت ورأيه.

ولا ينافي ذلك (٣) صحة استصحاب بعض أحكام حياته كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه (٤) ، فإنّ (٥) ذلك إنّما يكون فيما لا يتقوّم بحياته عرفا بحسبان (٦) بقائه ببدنه الباقي بعد موته ، وإن احتمل (٧) أن يكون

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم يكن الرّأي متقوّما بالحياة بنظر العقل ، فـ «واقعا» يعني عقلا.

(٢) تعليل لقوله : «فانه متقوم بالحياة» وضمير «أهله» راجع إلى العرف.

(٣) أي : ولا ينافي عدم بقاء الرّأي بالموت صحّة استصحاب ... ، وهذا إشارة إلى توهم مقايسة استصحاب بقاء الرّأي باستصحاب طهارته ونجاسته ، وقد عرفته بقولنا : «فان قلت : ان منع تقليد الميت لعدم بقاء الرّأي بالنظر العرفي ... إلخ».

(٤) الضمائر من «حياته» إلى هنا راجعة إلى المفتي ، والمقصود من استصحاب طهارته ما إذا كان بدنه طاهرا من الخبث قبل الموت فشكّ في إصابة قذارة به ـ غير النجاسة الناشئة من الموت ـ فإنّه يصحّ استصحاب تلك الطهارة إن كان لها أثر شرعي كعدم وجوب تطهير بعض المواضع قبل غسله بالأغسال الثلاثة.

(٥) أي : فإنّ صحة استصحاب بعض أحكام حال حياته إنّما يكون في الأحكام غير المتقومة عرفا بالرأي والإدراكات ، وهذا تعليل لقوله : «ولا ينافى» ودفع للتوهم المزبور ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «قلت : لا منافاة بين الحكم بعدم جواز تقليد الميت ... إلخ».

ثم إن هذا الوهم وجوابه مذكوران في تقريرات شيخنا الأعظم «قده».

(٦) أي : باعتقاد العرف بقاء موضوع الحكم بجواز نظر زوجته إليه بعد الموت ، وعدم اعتقادهم بقاء الرّأي بعد الموت ، ومن المعلوم أنّ المناط في بقاء معروض المستصحب هو العرف ، لا العقل ، ولا الموضوع الدليلي.

(٧) يعني : يحتمل دخل الحياة عقلا في عروض هذه الأحكام ، فإنّ الزوجية عارضة على الزوج الحي ، فلا بد من دوران أحكام الزوجية ـ كجواز النّظر ـ مدار الزوج حال حياته ، ولازمه عدم جواز الاستصحاب حتى في مثل جواز نظر الزوجة إلى زوجها الميّت بمجرد

٥٩٧

للحياة دخل في عروضه (١) واقعا. وبقاء (٢) الرّأي لا بدّ منه في جواز التقليد قطعا ، ولذا (٣) لا يجوز التقليد فيما إذا تبدّل الرّأي أو ارتفع لمرض أو هرم

______________________________________________________

الموت. إلّا أنّ المصحّح لهذا الاستصحاب هو بقاء الموضوع بنظر العرف ، وأنّ جسد الزوج بعد زهوق الروح هو عين جسده قبل زهوق الروح ، وأنّ عروض الزوجية حال الحياة كاف في بقائها وبقاء أحكامها حال الممات.

(١) أي : عروض ما لا يتقوم بحياة المفتي كطهارته ونجاسته غير المتقومتين بالحياة.

(٢) الواو للحالية ، أي : والحال أنّ بقاء الرّأي لا بدّ منه في جواز التقليد ، لكون الرّأي موضوعا له. وغرضه أنّ بقاء التقليد لا يمكن قياسه بجواز نظر الزوجة إلى زوجها ـ بعد موته ـ بالاستصحاب ، للفرق بينهما بأنّ الجواز في النّظر متقوّم بالجسد الباقي بعد الموت إلى مدة ، بخلاف الرّأي ، فإنّه يزول بالموت ، والمفروض موضوعية الرّأي لجواز التقليد.

(٣) أي : ولأجل لزوم بقاء الرّأي ولابديّته في جواز التقليد قطعا لا يجوز التقليد في موارد تبدّل الرّأي ، وغرضه إقامة الشاهد على اعتبار بقاء الرّأي في جواز التقليد ، وافتراق المقام بنظر العرف عن الأحكام المتعلقة بالجسد ، سواء كان مع الروح أم بدونه. وقد ذكر المصنف موردين قام الإجماع على بطلان التقليد وحرمته فيهما مع أنّ المجتهد حيّ يرزق.

الأوّل : ما إذا تبدل رأيه ، كما إذا كان قائلا بكفاية تسبيحة واحدة في الركعتين الأخيرتين ، ثم عدل إلى اعتبار التثليث ، فإنه لا يجوز للمقلد العمل بالرأي الأوّل لمجرّد أنّه رأي استنبطه من الأدلّة ، بل عليه الرجوع إلى الرّأي الثاني ، وأنّ الرّأي الأوّل قد انعدم ، والمدار في التقليد هو الرّأي الفعلي.

الثاني : ما إذا ارتفع فيه رأي المجتهد لمرض أو هرم ملازم للنسيان ونحوه من عوارض أيام المشيب ، فإنّه لا يجوز للمقلد العمل بالرأي السابق ، بل عليه الاحتياط أو العدول إلى مجتهد آخر. وفرق ارتفاع الرّأي مع تبدّله هو حدوث رأي آخر في التبدل ، وهو كثير في المجتهد ، فإنّ كثرة اشتغاله وشدّة قوة استنباطه ربما توجب مزيد بصيرة له بالأدلّة ، فيستظهر منها ثانيا غير ما استنبطه أوّلا. وهذا بخلاف ارتفاع الرّأي ، فإنّه يضمحلّ الرّأي

٥٩٨

إجماعا (١).

وبالجملة (٢) : يكون انتفاء الرّأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه (٣) ، ويكون حشره في القيامة إنّما هو من باب إعادة المعدوم (٤) وإن لم يكن (٥)

______________________________________________________

بالنسيان من دون استنباط آخر يوجب تأكد الرّأي الأوّل أو تبدله برأي آخر.

والحاصل : أنّه لو لم يكن للرأي دخل موضوعي في جواز التقليد لم يكن وجه لارتفاعه بارتفاع الرّأي أو تبدله ، وعليه فلا موضوع لتقليد الميت.

(١) قيد لقوله : «لا يجوز التقليد».

(٢) هذا إلى قوله : «لا يقال» تقرير آخر لما أفاده بقوله : «ولا يذهب عليك انه لا مجال له لعدم بقاء موضوعه ... إلى قوله : إجماعا».

(٣) أي : موضوع الرّأي الّذي هو موضوع جواز التقليد ، والمراد بالموضوع هو الحياة.

(٤) وامتناع إعادته عند بعض من القضايا الضرورية كما في منظومة الحكيم السبزواري «ره» وهي محل بحث عندهم ، وعلى كلّ لا يرتبط المعاد الجسماني به. قال المحقق الطوسي «قده» في التجريد في مسألة صحة العدم على العالم : «والإمكان يعطي جواز العدم ، والسمع دلّ عليه. ويتأوّل في المكلف بالتفريق كما في قصة إبراهيم عليه‌السلام».

وعلى هذا فيصدق هلاك المكلف بتفرّق أجزائه ، ويكون إعادته بتأليفها كما في سؤال إبراهيم «على نبيّنا وآله وعليهم‌السلام» عن كيفية إحياء الموتى في دار الآخرة ، وأمره تعالى إيّاه بأخذ أربعة من الطير وتقطيعها وتفريق أجزائها ، ومزج بعض الأجزاء ببعض ، ووضعها على الجبال ، ثم أمره بدعائها إليه ، فميّز الله تعالى أجزاء كل طير عن الآخر ، وجمع أجزاء كل طير حتى كملت البينة التي كانت عليها أوّلا ، ثم أحياها (١) ، هذا.

مضافا إلى بقاء الأجزاء الأصلية التي لا تتلاشى بالموت ، ولا يعرض عليها الخراب.

(٥) أي : وإن لم يكن الرّأي منتفيا بالموت حقيقة ، لأنّ الرّأي لا يكون متقوما بالحياة في نظر العقل ، بل هو متقوّم في نظره بالنفس الناطقة الباقية التي لا تفنى بالموت ، لأنّها من المجرّدات ، قال سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلقتم للبقاء لا للفناء» وليس الموت إلّا الانتقال من دار إلى دار ، ومن نشأة دنيوية إلى نشأة أخرى برزخية كما قال جلّ

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد للعلامة ، ص ٣١٧ ، نشر مكتبة المصطفوي ، قم المقدسة.

٥٩٩

كذلك حقيقة ، لبقاء موضوعه وهو النّفس الناطقة (١) الباقية حال الموت ، لتجرده. وقد عرفت في باب الاستصحاب أن المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا يجدي (٢) بقاء النّفس عقلا في صحة الاستصحاب

______________________________________________________

وعلا : «ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون». وعلى هذا فموضوع الرّأي وهو النّفس الناطقة باق ، ولا يرتفع بالموت ، ومقتضاه جواز تقليد الميت.

إلّا أنّ المرجع في تشخيص موضوع الاستصحاب هو العرف ، لا العقل. وقد عرفت أنّ موضوع الرّأي عرفا هو الحياة ، فلا مجال لاستصحاب جواز التقليد بعد الموت أصلا.

(١) قال العلامة في تعريفها : «فإنّ الجوهر إما أن يكون مفارقا في ذاته وفعله للمادة وهو المسمّى بالعقل ، أو مفارقا في ذاته لا في فعله ، وهو النّفس الناطقة ، فإنّها مفارقة للمادة في ذاتها وجوهرها دون فعلها ، لاحتياجها إلى الآلة في التأثير» (١). فالنفس في أوّل حدوثها بحدوث الجسم ـ بمقتضى كونها جسمانية الحدوث روحانية البقاء ـ إنسان طبيعي يحتاج إلى مادة جسمانية تدبّرها ، فهي حينئذ عقل هيولاني وبالقوة ، فإذا خرجت من القوة إلى الفعل وأدركت الكليات صارت عقلا بالفعل ، وهي في هذه المرحلة غير مرهونة بمادة ، وتكون خارجة عن المواد ودار الفساد ، فلذا لا خراب لها بخراب البدن.

وعلى هذا فمدركات المجتهد وآراؤه إن كانت كلّية فهي قائمة بالعاقلة المجردة عن المادة. وإن كانت جزئية أو كلية منبعثة عن مدارك جزئية ـ من آية خاصة أو رواية مخصوصة ـ لا قيام لهما إلّا بالخيال أو الوهم المدركين للصور الجزئية والمعاني الجزئية ، فكذلك ، لاتحاد الملكات مع النّفس ، لما تقرر في محله من أن قوى النّفس الباطنية من شئون النّفس ومراتبها ، فانها في بساطتها كل القوى. هذا مجمل الكلام ، وان شئت التفصيل فراجع ما أفاده المحقق الأصفهاني «قده» في المقام مبنيّا على كلام صدر المتألهين.

والمقصود من هذا الموجز إثبات بقاء آراء المجتهد بعد الموت لتجردها ، والمانع عن الاستصحاب إنّما هو اعتبار النّظر العرفي فيه لا العقلي.

(٢) هذا متفرع على قوله : «ان المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف».

__________________

(١) شرح التجريد ، ص ١٠٠ و ١٥٠

٦٠٠