منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

رجوعه (١) إليه فيها إنّما هو لأجل اطّلاعه على عدم الأمارة الشرعية فيها ، وهو عاجز عن الاطّلاع على ذلك ، وأمّا تعيين ما هو حكم العقل ، وأنّه (٢) مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط فهو (٣) إنما يرجع إليه ، فالمتّبع ما استقل به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده ، فافهم (٤) (*).

______________________________________________________

إحداهما بالخصوص من الأدلّة ، فإنّه بناء على استقلال العقل بوجوب الموافقة القطعية يجب الجمع بين الصلاتين ، وبناء على كفاية الموافقة الاحتمالية يكتفي بإحداهما مخيّرا بينهما ، وهذه مسألة عقلية ربما يخالف المقلّد مقلّده فيها.

(١) هذا الضمير وضمير «هو» راجعان إلى غير المجتهد ، وضميرا «إليه ، اطلاعه» راجعان إلى المجتهد. ومرجع ضميري «فيها» في الموضعين والمشار إليه في «ذلك» هو موارد فقد الأمارة.

(٢) يعني : وأنّ حكم العقل مع عدم الأمارة الشرعية هو البراءة أو الاحتياط فهو ... إلخ.

(٣) يعني : فالجاهل إنّما يرجع إلى ما هو حكم العقل ، فالمتّبع ما استقل به عقله ولو كان ذلك على خلاف ما استقل به عقل مجتهده ، كما عرفت في مثال وجوب الموافقة القطعية وعدمه في موارد العلم الإجمالي بالتكليف.

(٤) لعله إشارة إلى ضعف هذا الدفع ، لكونه خلاف مقتضى أدلّة رجوع الجاهل إلى العالم.

مضافا إلى : أنّ الرجوع إليه في موارد فقد الحجج الشرعية ليس رجوعا إليه في تمييز موارد فقد الحجج الشرعية ليكون المتّبع هو ما يحكم به عقله لا عقل المجتهد ، فانه

__________________

(*) فان قلت : يمكن الاستدلال على جواز تقليد المجتهد الانسدادي بوجه آخر ، وهو عدم القول بالفصل ، كما استدلّ به المصنف فيما سيأتي من نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي على الحكومة ، وأيّ فارق بين المقامين؟ فليكن دليل نفوذ حكمه دليلا على جواز تقليده أيضا.

قلت : فرق بين المقامين ، إذ المناط في باب التقليد على ما يقتضيه سيرة العقلاء هو صدق رجوع الجاهل إلى العالم ، والمفروض عدم كون الانسدادي على الحكومة عالما ، والأدلّة اللفظية لا تدل

٤٠١

وكذلك (١) لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان

______________________________________________________

خلاف الضرورة والوجدان ، خصوصا إذا كان الجاهل ممّن لا حظّ له من العلم أصلا ، فالجاهل يعتمد على آراء المجتهد من أوّل رسالته العملية إلى آخرها بعنوان أنّها أحكام شرعية ووظائف فعلية ، وليس تقليده منه على نحوين ، أحدهما : كونه من رجوع الجاهل إلى العالم ، وثانيهما : كونه من رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة بموارد فقد الأمارة ، حتى يتجه ما في المتن من أنّ اللازم على المقلّد مراجعة عقله وتعيين وظيفته ، وعدم حجية حكم عقل المجتهد عليه.

وإلى : أنّه أخص من المدعى ، لتوقفه على التفات العامي إلى أن الحكم الواقعي للمورد مما لا سبيل لإحرازه ، لعدم النص ، أو إجماله أو تعارضه مع نصّ آخر ، فيشك ، فيرجع إلى القادر على تعيين ما هو حكم العقل ، وأمّا مع غفلته عن حكم الواقعة فلا موضوع للأصل في حقه حتى يرجع لتعيينه إلى المجتهد.

٤ ـ نفوذ قضاء المجتهد المطلق الانفتاحي

(١) معطوف على قوله : «كما لا إشكال في جواز العمل» يعني : كما لا خلاف ولا إشكال في جواز تقليد المجتهد المطلق الانفتاحي الّذي استنباط جملة وافية من الأحكام

__________________

على أزيد من هذا البناء العقلائي ، وبعد فقد المناط لا معنى لإلحاق غير العالم بالعالم بالإجماع المركّب. وهذا بخلاف نفوذ الحكم ، فإنّ ثبوت الولايات ـ ومنها منصب القضاء ـ إنّما هو بجعل تعبّدي شرعي ولا ربط له ببناء العقلاء ، وقد جعل المنصب في مثل المقبولة لعنوان «العارف بالحرام والحلال» وهذا العنوان وإن لم يصدق على الانسدادي على الحكومة ، إلّا أنّ التوسعة والتضييق في عنوان «العارف بالأحكام» بمكان من الإمكان ، ومن المعلوم أنّ الإجماع المركّب ـ لو تمّ في نفسه ـ كان كاشفا عن عدم موضوعية خصوص العارف بالأحكام ، وأنّ الموضوع أعمّ منه وممن لا تحيّر له في وظيفته.

وعليه فالفرق بين باب التقليد والحكومة هو كون الأوّل إمضائيّا متوقفا على وجود موضوعه والثاني تعبديا قابلا للتوسعة والتضييق.

٤٠٢

باب العلم والعلمي [أو العلمي] له مفتوحا.

______________________________________________________

بحيث صدق عليه عنوان «العارف بالأحكام والفقيه في الدين» ، كذلك لا إشكال في نفوذ قضائه وحرمة نقض حكمه. وهذا إشارة إلى المبحث الرابع من مباحث المقام الأوّل ، والكلام هنا أيضا في موضعين ، أحدهما : في نفوذ قضاء المجتهد المطلق الانفتاحي ، وثانيهما : في نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي.

وقبل بيانهما لا بأس بتقديم أمر ، وهو : أنّ ثبوت منصب القضاء للمجتهد ـ وكذا ولايته على القصّر والجهات العامة ـ خلاف الأصل الأوّلي المقتضي لعدم نفوذ حكم أحد على غيره ، فلا بد لإثبات ذلك من دليل ، وقد دلّ على ثبوت خصوص منصب القضاء نصوص كمعتبرة أبي خديجة : «ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا [قضائنا] فاجعلوه بينكم ، فاني قد جعلته قاضيا» ، وكمقبولة عمر بن حنظلة ، وفيها «ينظران إلى رجل منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما بحكم الله استخف وعلينا ردّ».

ودلالتهما على جعل هذا المنصب الشامخ للمجتهد ـ في الجملة ـ واضحة بعد ظهور «عرف أحكامنا» في اعتبار أمرين :

أحدهما : كون القاضي عارفا فعلا بأحكامهم عليهم‌السلام ، أخذا بظهور «عرف» في المعرفة الفعلية ، وعدم كفاية وجود المبدأ شأنا بوجود ملكة الاستنباط.

وثانيهما : اعتبار معرفة جميع أحكامهم عليهم‌السلام أخذا بظهور الجمع المضاف في العموم الحقيقي أو العرفي. ولمّا لم يكن التحفظ على هذين الظهورين يقع الكلام في كيفية التصرف في ظهور المقبولة كما سيأتي.

إذا اتضح هذا فلنشرع في توضيح ما أفاده المصنف في الموضعين :

أمّا الموضع الأوّل ـ وهو ثبوت منصب القضاء للمجتهد المطلق الانفتاحي ـ فحاصله : أنّه لا إشكال في نفوذ حكمه في المرافعات كعدم الإشكال في حجية فتواه على الجاهل ، وذلك لأنّ هذا المجتهد الانفتاحي عالم بالأحكام الشرعية أو بموارد قيام الحجج عليها ، فيشمله قوله عليه‌السلام : «عرف أحكامنا» وبعد فعلية موضوع هذا المنصب ترتب عليه

٤٠٣

وأمّا إذا انسدّ عليه (١) بابهما ، ففيه إشكال على الصحيح (٢) من تقرير المقدمات على نحو الحكومة ، فإنّ (٣) مثله ـ كما أشرت آنفا ـ ليس ممّن يعرف الأحكام ، مع أنّ معرفتها معتبرة في الحاكم كما في المقبولة.

______________________________________________________

محموله وهو نفوذ القضاء.

وأمّا الموضع الثاني فسيأتي.

(١) أي : إذا انسدّ على المجتهد باب العلم والعلمي ففي نفوذ حكمه إشكال. وهذا شروع في الموضع الثاني ، واقتصر المصنف هنا على بيان عدم نفوذ قضاء الانسدادي بناء على تقرير المقدمات على الحكومة ، واستشكل «قده» أوّلا في نفوذ قضائه ، ثم صحّحه بوجهين اعتمد على ثانيهما ، وسيأتي بيان الكل «إن شاء الله تعالى».

(٢) لم يتعرّض المصنف في مسألة نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي للتفصيل بين الكشف والحكومة كما تعرض للتفصيل بينهما في مسألة جواز تقليده ، واقتصر في نفوذ قضائه على الكشف بمنع أصل المبني ، حيث قال : «ففيه إشكال على الصحيح» يعني : أنّ أصل القول بالكشف غير سديد ، لأنّ مقدمات الانسداد ـ على فرض تماميتها في نفسها ـ تنتج حجية الظن على الحكومة ، مع أنه سيظهر حكم قضاء الانسدادي الكشفي ممّا أفاده بناء على الحكومة.

(٣) يعني : فإنّ مثل المجتهد الّذي انسدّ عليه باب العلم والعلمي ـ بناء على الحكومة ـ ليس ممن يعرف الأحكام. وهذا أوّل ما أفاده حول عدم نفوذ قضائه ، وهو مبني على الجمود على الظهور الأوّلي في قوله عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة : «وعرف أحكامنا» لما تقدم في صدر هذه المسألة من ظهور هذه الجملة في أمرين ، أحدهما : عدم كفاية الاقتدار على الاستنباط ، ولزوم المعرفة الفعلية بالأحكام. وثانيهما : ظهور الجمع المضاف في معرفة جلّ الأحكام أو كلّها ، وحيث إنّ القائل بالحكومة يعترف بانسداد باب المعرفة بالأحكام عليه ، فلا موضوع لمنصب القضاء.

وعليه فهذه الدعوى مبتنية على مقدمتين :

أولاهما : اعتراف القائل بالحكومة بجهله بالأحكام الفرعية.

٤٠٤

إلّا أن يدّعي (١)

______________________________________________________

ثانيتهما : إناطة منصب القضاء في المقبولة بمعرفة الأحكام فعلا.

(١) هذا شروع في إثبات نفوذ حكم المجتهد الانسدادي على الحكومة بأحد وجهين :

الأوّل : الإجماع المركب ، بمعنى أنّ الفقهاء بين من يقول بنفوذ حكم المجتهد مطلقا سواء أكان انفتاحيا أم انسداديّا ، وبين من ينكر نفوذ حكمه أيضا مطلقا بلا تفصيل بين الانفتاحي والانسدادي. وعليه فالمجتهد الانسدادي على الحكومة وإن لم يكن عارفا بالأحكام حتى يشمله قوله عليه‌السلام : «وعرف أحكامنا» إلّا أنّ حكمه في المرافعات نافذ ببركة عدم القول بالفصل ، إذ إنكار نفوذ حكمه مخالفة للإجماع المركب ، وهي كمخالفة الإجماع البسيط ممنوعة ، لكونها طرحا للدليل بلا مجوّز.

ولكن ردّه المصنف بأنّ دعوى عدم القول الفصل وإن لم تكن بعيدة ، لإمكان تحققها ، إلّا أنّ الحجة على الحكم هو الإجماع البسيط وهو هنا القول بعدم الفصل ، فلو كان اختلاف الأصحاب على قولين كاشفا عن نفي القول الثالث كان حجة ، لأوله إلى الإجماع البسيط أعني نفي القول الثالث ، وأمّا إذا لم يكن اختلافهم على قولين كاشفا عن الإجماع على نفي القول الثالث ، فلا عبرة به ، لعدم ثبوت هذا الإجماع ـ الّذي هو الحجة ـ بمجرّد عدم الفصل في كلماتهم ، وعليه فلا يمكن تصحيح قضاء الانسدادي بهذا الوجه.

الوجه الثاني لنفوذ حكم الانسدادي هو : إدراجه في موضوع منصب القضاء ، وجعله فردا عرفيّا لقوله عليه‌السلام : «وعرف أحكامنا». وتقريبه : أنّ «أحكامنا» وإن كان جمعا مضافا ظاهرا في العموم واستغراق جميع الأحكام الشرعيّة كما تقدم بيانه ، إلّا أنّ العارف بجملة معتدّ بها منها يصدق عليه أيضا أنّه عارف بالأحكام ، لا «أنّه عارف ببعض الأحكام» فان هذا الخطاب كسائر الخطابات الشرعية ملقاة إلى العرف ، وهم المخاطبون بها ، ومن المعلوم أنّ العارف بجملة وافية من الأحكام ـ مع كثرتها وسعتها ـ عارف بنظرهم بأحكامهم عليهم‌السلام. والمجتهد الانسدادي على الحكومة وإن كان باب العلمي منسدّا عليه ، إلّا أنّه يعرف كثيرا من الأحكام ، وهي موارد الإجماعات المسلّمة والأخبار المتواترة وأخبار الآحاد المحفوفة بالقرائن القطعية وغيرها ، فإذا صدق عليه «راوي الحديث ، والعارف بالأحكام» ثبتت له ولاية الحكم ، فينفذ قضاؤه وإن انسدّ عليه باب العلم بمعظم

٤٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الفقه.

وبالجملة : فالمعرفة في المقبولة ظاهرة في معرفة الأحكام واستحضارها فعلا ، لا مجرّد وجود ملكة الاستنباط ، كما أنّ لفظ «أحكامنا» ظاهر بدوا في الجميع. ولكن لمّا كان الجمود على ظاهرهما ممتنعا وموجبا للغوية جعل منصب القضاء ، لعدم إحاطة غير المعصوم عليه‌السلام بجميع الأحكام معرفة فعلية ، فلا بد من التصرف في أحد هذين الظهورين لئلا يبقى الخطاب إنشاء محضا غير واصل إلى مرتبة الفعلية من جهة عدم الموضوع. ويدور الأمر حينئذ بين التصرف في ظهور «المعرفة» بحملها على الملكة ولو لم يستنبط صاحبها بعد حكما واحدا ، والتصرف في الأحكام بحملها على جملة معتدّ بها منها بحيث يصدق عليها الاستغراق العرفي.

ولمّا كان ظهور المعرفة في الإحراز الفعلي أقوى من ظهور الأحكام في جميع الأحكام ، فيتصرّف في ظاهر الثاني ، وتحمل «الأحكام» على الجملة المعتد بها منها.

ويؤيّد هذا التصرف منع أصل ظهور الجمع في المقبولة في الاستغراق الحقيقي من أوّل الأمر ، وذلك لأنّ الرّواة الذين كانوا مراجع في زمان صدور الروايات لم تكن لهم الإحاطة بجميع الأحكام قطعا ، فإنّ مثل عبد الله بن أبي يعفور «رضوان الله تعالى عليه» الّذي لا ريب في فقاهته في الدين وكونه مصداقا للعارف بأحكامهم عليهم‌السلام أرجعه الإمام عليه‌السلام إلى محمّد بن مسلم (١). وعبد الله بن أبي يعفور «ثقة ثقة ، جميل في أصحابنا ، كريم على أبي عبد الله عليه‌السلام ...» (٢). وهل تصح دعوى قصور المقبولة عن شمولها لمثل عبد الله بن أبي يعفور من جهة عدم معرفته الفعلية بجميع الأحكام؟

والحاصل : أنّ ملاحظة تراجم الرّواة المرجوح إليهم في عصر صدور المقبولة تشهد بأنّ المراد من العارف بالأحكام هو العالم بجملة معتدّ بها منها ، لا غير. نعم لا يصدق عنوان «العارف بالأحكام» على من له ملكة مطلقة ولكنه لم يستنبط شيئا ، أو استنبط جملة يسيرة غير معتدّ بها.

والنتيجة : نفوذ حكم المجتهد الانسدادي ـ على الحكومة ـ إذا علم بجملة وافية من

__________________

(١) الوسائل ، ١٨ ـ ١٠٥ ، الحديث : ٢٣

(٢) رجال النجاشي ، ص ١٤٧

٤٠٦

عدم القول بالفصل (١) ، وهو (٢) وإن كان غير بعيد ، إلّا أنّه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل (٣).

إلّا أن يقال (٤) : بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الإجماعات والضروريّات من الدين أو المذهب ، والمتواترات ، إذا كانت (٥) جملة

______________________________________________________

الأحكام.

(١) هذا أوّل الوجهين ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «الأوّل : الإجماع المركب ... إلخ»

(٢) هذا الضمير وضمير «انه» راجعان إلى عدم القول بالفصل ، وهذا إشارة إلى ردّ الإجماع المركب المتقدّم بقولنا : «ولكن رده المصنف بأن دعوى عدم القول بالفصل ... إلخ».

(٣) والمفروض أنّ المطلوب هو الحجة على عدم الفصل ليكون دليلا على عدم مشروعية إبداع القول الثالث.

(٤) الأولى إبداله بـ «أو يدعى» أو بـ «أو يقال» حتى يكون معطوفا على «أن يدعى». وكيف كان فهذا إشارة إلى الوجه الثاني الدال على صحة نفوذ قضاء الانسدادي على الحكومة ، وقد عرفت تقريبه بقولنا : «الوجه الثاني لنفوذ حكم الانسدادي هو إدراجه في موضوع منصب القضاء ...».

ولا يخفى أنّ الإشكال على المقبولة من ناحيتين ، إحداهما : من جهة جملة «وعرف أحكامنا» ، وثانيتهما : من جهة جملة «فإذا حكم بحكمنا» وهذه الجهة الثانية سيأتي الكلام فيها «إن شاء الله تعالى» والمقصود فعلا رفع الإشكال من الناحية الأولى.

(٥) يعني : إذا كانت موارد الإجماعات وغيرها جملة يعتدّ بها ، بأن كانت الأحكام عشرة آلاف مثلا ، والأحكام المعلومة بالإجماع المحصل ونحوه ألفا أو ألفين ، فإنّ نسبة المعلوم إلى الجميع وإن كان نسبة الخمس أو العشر ، إلّا أن عدد الألف في نفسه كثير. وليس المراد من الجملة المعتد بها أكثر الأحكام ، إذ لازمه كون الانسدادي انفتاحيا ، ولم يلتئم مع قوله : «وإن انسدّ باب العلم بمعظم الفقه» فإنّ المراد بالمعظم هو أكثر الأحكام الشرعية.

٤٠٧

يعتدّ بها وإن انسدّ باب العلم بمعظم الفقه ، فإنّه يصدق عليه (١) حينئذ : أنّه ممّن روى حديثهم عليهم‌السلام ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم عرفا حقيقة (٢) (*).

وأمّا قوله (٣) عليه‌السلام في المقبولة : «فإذا حكم بحكمنا»

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير «أنه» راجعان إلى المجتهد الّذي انسدّ عليه باب العلم والعلمي على الحكومة. وضمير «فانه» للشأن ، وإن أمكن رجوعه إلى المجتهد ، وقوله : «أنه ممن روى» فاعل «يصدق».

(٢) يعني : لا مسامحة ، إذ لو كان صدق «العارف بالأحكام» على هذا الانسدادي من باب مسامحتهم في مقام التطبيق لم يكن معتبرا قطعا ، فقوله : «حقيقة» إشارة إلى أنّ إطلاق «العارف بالأحكام» على هذا الانسدادي يكون من باب توسعة العرف في نفس المفهوم ، وعدم حصر مصداقه في من استنبط كل واحد واحد من الفروع.

(٣) هذا إشارة إلى الجهة الثانية من الإشكال على نفوذ حكم المجتهد الانسدادي بناء على الحكومة ، وحاصلها : أن قوله عليه‌السلام في المقبولة : «عرف أحكامنا» وإن شمل هذا الانسدادي ، لكفاية معرفته بجملة وافية من الأحكام ويثبت له منصب القضاء ، إلّا أنّه يشكل ثبوت هذا المنصب له من جهة أخرى ، وهي قوله عليه‌السلام بعد اعتبار معرفة الأحكام : «فإذا حكم بحكمنا ولم يقبل منه فانما بحكم الله استخف وعلينا ردّ» لظهور «بحكمنا» في كون حكم الحاكم من أحكامهم عليهم‌السلام ، والإذعان بهذه الإضافة منوط بإحراز أنّ ما ينشئه الحاكم لفصل الخصومة بقوله : «حكمت بكذا وكذا» هو من أحكامهم عليهم‌السلام ، فإن كان المقضيّ به من أحكامهم عليهم‌السلام كان قضاء الحاكم نافذا ، وإلّا فلا عبرة به.

__________________

(*) أو يقال : إنّ ضيق المعرفة يضيّق دائرة الأحكام ، لاختصاصها بالعلم ، ومن المعلوم عدم حصول العلم بجميع الأحكام لأحد غير الإمام عليه‌السلام. وقرينيّة ضيق المحمول على تضيق الموضوع عقلية ، وهي توجب إرادة خصوص الأحكام التي يمكن العلم بها ، وهي قليلة ، فمن علم جملة من الأحكام جاز له التصدي للقضاء ، ولا يعتبر في نفوذ قضائه العلم بجميع الأحكام ، فتأمل.

٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وحيث إنّ الانسدادي ـ بل الانفتاحي على وجه ـ لا علم له بأن ما ينشئه هو من أحكامهم عليهم‌السلام ، كان قضاء الانسدادي شبهة موضوعية لقوله عليه‌السلام : «فإذا حكم بحكمنا» ومن المعلوم عدم تكفل الدليل لبيان أن ما في الخارج موضوع له أم لا ، إذ لا بدّ من إحراز موضوعيته للدليل بوجه آخر كما هو واضح. وحينئذ لا سبيل لتصحيح حكم الانسدادي وتنفيذه.

وبالجملة : ظاهر إضافة الحكم إليهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» هو اندراج حكم الحاكم في أحكامهم «عليهم الصلاة والسّلام» ، وبدون معرفة الأحكام لا يقدر على أن يحكم بحكمهم عليهم‌السلام. وعليه فلا ينفذ حكم المجتهد الانسدادي على الحكومة. وإن أمكن دعوى نفوذ قضائه بناء على الكشف ، لاقتضاء المقدمات حجية الظن شرعا ، وصيرورته عارفا بالأحكام ، لمعرفته بالحكم المماثل المجعول على طبق ما ظنّه من الحكم.

وقد دفع المصنف هذا الإشكال بأن قوله عليهم‌السلام : «فإذا حكم بحكمنا» ليس ظاهرا في كون المقضيّ به حكمهم عليهم‌السلام حتى يشكل حكم الانسدادي من جهة كونه شبهة موضوعية للمقبولة ، حيث إن هذه الجملة تحتمل أمرين :

أحدهما : ما استظهره المتوهّم ، وقد تقدم بيانه.

ثانيهما : أن يراد إسناد ما يحكم به المجتهد إليهم صلوات الله عليهم» ، لكونه منصوبا من قبلهم عليهم‌السلام والمعنى : «فإذا حكم المجتهد كان حكمه بسبب حكمنا بنيابته وانتصابه عنّا» فإنّ منصب القضاء على ما يظهر من مثل صحيح سليمان بن خالد : «اتّقوا الحكومة ، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي» (١) يختص بهما ، فلا يشرع لغيرهما إلّا بإذنهما خصوصا أو عموما كنوّاب الغيبة ، فإنّ المأذون من قبلهما ينطبق عليه عنوان الوصي ولو عناية كوكيل الوصي ، فيكون المجتهد ممن عهد إليه هذا المنصب ، غايته أنّ عهده في طول عهد الوصي ومن فروعه ، وظاهر الرواية المتقدّمة نفي الولاية العرضيّة عن غير النبي والإمام عليهما‌السلام لا نفي الولاية الطولية الحاصلة بالإذن.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٣ ، ص ٧

٤٠٩

فالمراد (١) أنّ مثله (٢) إذا حكم كان

______________________________________________________

وحيث كان نفوذ قضاء المجتهد مستندا إلى النصب صحّ إسناد قضائه إليهم عليهم‌السلام ، فكما يصحّ إسناد حكم الوالي إلى السلطان ـ وإن لم يكن السلطان حاكما به مباشرة بل ولو لم يطّلع عليه أيضا ـ فكذلك يصحّ أن يستند قضاء الفقيه الجامع للشرائط إلى الأئمة عليهم‌السلام ، لكونه منصوبا عنهم عليهم‌السلام.

وعليه فيكون الباء في «بحكمنا» للسببية حينئذ ، ومن المعلوم أن هذا الإسناد مجازي ، لفرض صدور الحكم من المجتهد الّذي هو فاعل مختار ، ولا ينطبق عليه ضابط المسبب التوليدي حتى يكون إسناد حكم الفقيه إلى الإمام صحيحا بلا عناية التسبيب كما يصح إسناد الإحراق إلى الملقي في النار.

والظاهر من «حكم بحكمنا» هو هذا الاحتمال الثاني ، لا الأوّل حتى يشكل نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي. والشاهد على إرادة هذا المعنى الثاني هو : أن حكم المجتهد قد يكون في الشبهة الحكمية كنزاع الورثة في خروج منجزات المريض من الأصل أو من الثلث ، فمراجعتهم إلى القاضي إنما هو لاستعلام الحكم الشرعي الكلي وهو فتواه في المسألة ، وقد يكون حكم المجتهد في الشبهات الموضوعية كملكيّة دار لزيد وزوجية هند لعمرو ، ومن المعلوم أنّ كل واحد من هذه الأحكام الجزئية ليس حكما لهم عليهم‌السلام ، فإنّ شأنهم بيان الأحكام الكلية على نحو القضايا الحقيقية ، وأمّا خصوص مالكية زيد لهذه الدار فليس حكما صادرا منهم عليهم‌السلام حتى ينطبق عليه «فإذا حكم بحكمنا» بناء على الاحتمال الأوّل.

وحينئذ فإمّا أن يلتزم بالمعنى الثاني ، وإمّا باختلال أمر القضاء في الموضوعات الخارجية ، وحيث إنه لا سبيل للالتزام بالأخير فلا بد أن يراد من «بحكمنا» نصب المجتهد للقضاء ، ومنع هذا المنصب إيّاه.

(١) هذا دفع التوهم ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «وقد دفع المصنف هذا الإشكال بأنّ قوله عليهم‌السلام : فإذا حكم بحكمنا ليس ظاهرا في كون المقضيّ به ... إلخ».

(٢) أي : مثل هذا المجتهد الانسدادي الّذي صدق عليه أنّه عارف بأحكامهم عليهم‌السلام.

٤١٠

بحكمهم (١) حكم ، حيث كان منصوبا منهم ، كيف (٢)؟ وحكمه غالبا يكون في الموضوعات الخارجية ، وليس مثل ملكية دار لزيد أو زوجية امرأة له من (٣) أحكامهم ، فصحة (٤) إسناد حكمه إليهم عليهم‌السلام إنّما هو لأجل كونه من المنصوب من قبلهم (*).

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ نفوذ قضاء المجتهد إنّما ينشأ من حكمهم أي من نصبهم وإعطائهم هذا المنصب الشامخ للمجتهد ، ولو لا هذا النصب لم يكن قضاء المجتهد نافذا أصلا.

وعليه فليس المراد من «بحكمنا» الأحكام الشرعية الفرعية من وجوب فعل وحرمة آخر حتى يشكل بأنّ المجتهد حيث لا يعلم بمطابقة مستنبطاته وآرائه لتلك الأحكام الواقعية فلا ينفذ قضاؤه لكونه شبهة موضوعية لقوله عليه‌السلام : «فإذا حكم بحكمنا». بل المراد من «بحكمنا» بنيابته عنّا وبنصبنا إياه لهذا المنصب الشامخ.

(٢) غرضه إقامة الشاهد على أنّ المتعيّن في معنى «بحكمنا» هو المعنى الثاني لا الأوّل الّذي توهّمه المتوهم ، يعني : كيف لا يكون المراد من «بحكمنا» هذا المعنى الثاني؟ والحال أن حكم المجتهد غالبا يكون في الموضوعات الخارجية لا الشبهات الحكمية الكلية حتى يتوهم إرادة الوجوب والحرمة من «بحكمنا» ، لوضوح أنّه في الشبهات الموضوعية لا حكم لهم عليهم‌السلام حتى يقضي به المجتهد ، وإنّما شأنهم بيان الأحكام الكلية خاصة. وهل يلتزم القائل ـ بظهور «بحكمنا» في الأحكام الفرعية التي صدرت منهم عليهم‌السلام ـ باختصاص قضاء المجتهد بالشبهات الحكمية دون الموضوعات الخارجية؟

(٣) خبر «وليس مثل» وهو واضح ، إذ لم يقل الإمام عليه‌السلام : «هذه الدار لزيد» حتى يكون حكم المجتهد مطابقا أو مخالفا له.

(٤) هذا نتيجة كون المقصود من «بحكمنا» هو المعنى الثاني لا الأوّل ، وقد عرفت توضيحه.

__________________

(*) لا يخلو من خفاء ، فإنّ هذا المعنى يقتضي إرادة نفس الحكم والقضاء من مدخول الباء ، لكونه منصوبا من قبلهم عليهم‌السلام ، لا إرادة المقضيّ به وهو الحكم الجزئي في مورد الترافع ، مع أنّ

٤١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الظاهر من «بحكمنا» هو : أنّ ما يقضي به الحاكم في الواقعة لا بد أن يكون حكمنا حتى يشمله دليل جعل المنصب.

وبعبارة أخرى : فرق بين أن يقال : «قضاء العارف بالأحكام قضاؤهم عليهم‌السلام ، لأنّه منصوب من قبلهم» وأن يقال : «ما قضى به المجتهد يكون منهم عليهم‌السلام» فإنّ كونه منهم منوط بمعرفة أحكامهم التي وقع عليها القضاء.

والظاهر أنّ المقبولة تكون في مقام تشريع نفوذ حكم القاضي الشيعي الّذي صدر عن الموازين المقرّرة عندهم عليهم‌السلام في باب القضاء ، بأن لا يصدر عن القياس والاستحسانات المعوّل عليها عند العامة. وربّما يؤيّد هذا الاستظهار ما ذكر بعده من الجمل لتفريع حرمة نقضه وردّه على قوله : «فإذا حكم بحكمنا». فمحصله : «أنّ الراوي لحديثنا إذا عرف أحكامنا بالنظر فيها ، فحكم بالموازين التي عندنا ، فذلك حكمنا الّذي لا يجوز رده والاستخفاف به» وهذا المعنى ينطبق على حكم المجتهد في الشبهات الحكمية والموضوعية.

واستشهاد المصنف «بأن حكم الحاكم في الشبهات الموضوعية كملكية دار لزيد على أن المراد من ـ بحكمنا ـ هو أنّه منصوب من قبلنا» لا يشهد له ، لالتئام هذا الكلام مع ما ذكرناه أيضا ، فإنّ المجتهد إذا حكم في شبهة موضوعية على طبق الموازين المقرّرة في كتاب القضاء كان حكمه حكمهم عليهم‌السلام ، لانبعاثه عن رواياتهم وموازينهم صلوات الله عليهم» في باب القضاء.

هذا تمام الكلام في المجتهد المطلق الّذي استنباط جملة وافية من الأحكام.

وأمّا من لم يستنبط شيئا من الأحكام ففي ثبوت الأحكام المتقدّمة له وعدمه خلاف ، لا بأس بالإشارة إليه في طي جهات :

الجهة الأولى : في جواز رجوعه إلى الغير في عمل نفسه ، والمنسوب إلى المشهور العدم ، وإلى السيد المجاهد في المناهل الجواز. والصحيح هو الأوّل ، لأن مقتضى تنجز الأحكام الواقعية عليه بالعلم الإجمالي بها أو الاحتمال هو لزوم الخروج عن تبعة العقوبة على مخالفة تلك التكاليف المنجزة ، ولا محيص حينئذ عن تحصيل العلم بالمؤمّن وهو الوظيفة العملية ، ومن المعلوم توقف العلم المزبور على الاجتهاد الفعلي وعدم حصوله بمجرّد وجود الملكة ، فإذا لم يجتهد فعلا فهل يجوز أن يقلّد الغير في أعماله أم لا؟ فعن الشيخ الأعظم «قده» دعوى الاتفاق على عدم جواز تقليد غيره ،

٤١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لأنّ حجية رأي الغير في حقه أوّل الكلام ، والأصل عدم الحجية ، وذلك لانصراف أدلّة حجية الرّأي على الغير عمّن له ملكة الاجتهاد. ولأنّ الجزم بالامتثال يتوقّف على اجتهاده والعمل برأي نفسه ، ولا يحصل بالتقليد ، لاحتمال تخطئته للغير في فتواه.

فلا يصغى إلى ما قيل : «من جواز رجوعه إلى الغير ، لأنّ مجرّد وجود الملكة لا يجعل المتصف بها عالما بالأحكام ، فهو بعد جاهل بها ، فيجوز له تقليد غيره ، لكونه من رجوع الجاهل إلى العالم» وذلك لما عرفت من الشك في حجية فتوى الغير بعد التمكن من العلم بالمؤمّن الواجب عقلا تحصيله ، والمفروض كون رأي الغير في حقه مشكوك المؤمّنية.

فان قيل : إنّ مقتضى عدم حجية رأي الغير بالنسبة إلى واجد الملكة هو عدم حجيته لفاقدها أيضا مع التمكن من تحصيلها ولو بعد سنين بالدراسات الممتدة في أزمنة متمادية ، وهذا مما لا يلتزم به.

قلنا : إن القياس مع الفارق ، لأنّ واجد الملكة قادر فعلا على تحصيل العلم بالوظيفة الفعلية ، بخلاف فاقدها ، فإنّ إيجاب ذلك عليه مساوق لوجوب الاجتهاد عينا مع وضوح كونه كفائيّا كما هو مقتضى آية النفر. كما لا يشمله الأمر بالسؤال من أهل الذّكر ، فإن المخاطب بالسؤال هو الجاهل ، وذو الملكة لا يصدق عليه الجاهل حتى يطلب منه السؤال ، لاحتمال كونه مخطّئا للعالم الّذي يرجع هو إليه ، بل قد لا يكون المسئول عالما بنظره ، فيكون من رجوع العالم إلى الجاهل.

والمقام نظير من يكون مديونا جاهلا بمقدار الدين ، لكنه مضبوط في دفتره ، بحيث إذا رجع إليه علم مقداره تفصيلا ، فهل يجوز له عقلا أن يقتصر في معرفة مقداره على إخبار من يحتمل كذبه ولا يطمئن بصدقة مع التمكن من العلم تفصيلا بمقداره؟ فان من المعلوم عدم حكم العقل بفراغ ذمته عن ذلك الدين إلّا بمراجعة الدفتر المزبور.

وإن شئت فقل : إنّ رجوعه إلى غيره إمّا من رجوع الجاهل إلى الجاهل في نظره ، وإمّا من رجوع العالم إلى الجاهل ، فالتمسك بأدلة التقليد على جواز رجوع واجد الملكة إلى غيره تمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية ، إذ المفروض احتمال تخطئة واجد الملكة لغيره في الفتوى ، فلا يكون ذلك الغير عالما بنظره.

ولا وجه أيضا لاستصحاب جواز رجوعه إلى الغير الّذي كان ثابتا قبل حصول الملكة له ، وذلك لعدم حجيته في تبدل الحال الموجب للشك في بقاء الموضوع.

٤١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الجهة الثانية : في جواز رجوع الغير إلى صاحب الملكة قبل التصدّي للاستنباط ، وعدمه. وملخص الكلام فيها : أنّ الحق عدم الجواز ، إذ لا موضوع لجواز الرجوع مع فرض عدم الاستنباط ، لكون موضوعه «العالم والفقيه وأهل الذّكر» ونحوها ، ولا يصدق شيء منها على من لم يستنبط بعد ، فإنّ الفتوى جهة تقييدية في الحكم بجواز التقليد ، فبدونها لا موضوع لجواز التقليد أصلا ، لظهور «الفقهاء» في رواية الاحتجاج و «عرف أحكامنا» في المقبولة وغيرهما من العناوين في الفعلية كسائر العناوين المأخوذة في حيّز الخطابات ، فأدلّة رجوع الجاهل إلى العالم كلّها أجنبية عن رجوع الجاهل إلى واجد الملكة المجردة عن الاستنباط الفعلي ، ومع الشك في عالميّته لا يجوز الرجوع إليه ، لكون الشبهة مصداقية ، وقد تحقق في محله عدم جواز التمسّك بالدليل فيها.

وأمّا إذا اجتهد في بعض الأحكام دون الجملة المعتد بها التي يصدق معها العارف بالأحكام ، فهل يجوز تقليده في ذلك البعض أم لا؟ بعد وضوح حجية رأيه في عمل نفسه.

قد يقال : إنّ السيرة العقلائية تقضي بجواز الرجوع إليه من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، حيث إنّ استنباط بقية الأحكام وعدمه لا دخل له بحجية ما استنبطه.

وردّت بأنّ الأدلّة اللّفظيّة رادعة عن السيرة ، إذ لا يصدق عليه عنوان «الفقيه والعالم بالأحكام» إلا بعد استنباط جملة معتدّ بها من الأحكام.

ونوقش في هذا الرد بأنّ الأدلة اللفظية لا مفهوم لها ، وأنها غير رادعة عن السيرة (١).

وأنت خبير بأنّ السيرة لم تثبت في ظرف وجود من استنباط كثيرا من الأحكام. ولو بني على ثبوتها فلا بد من رادعية الأدلة اللفظية لها ، لأنّ تلك الأدلّة في مقام التحديد الموجب المفهوم. فدعوى عدم المفهوم لها حيث تكون رادعة للسيرة غير مسموعة. وأمّا كونها في مقام التحديد فلأنّها تبيّن موضوع جواز الرجوع ، وأنّ موضوعه هو الفقيه والعالم بالأحكام ونحوهما ممّا لا يصدق على من استنبط شيئا قليلا من الأحكام. ولا أقلّ من الشك في اعتبار السيرة مع هذه الأدلة اللفظية ، ومن المعلوم قضاء الأصل بعدم الحجية.

فالمتحصل : أنّه لا سبيل لإثبات جواز الرجوع إلى من استنبط قليلا من الأحكام. ولهذا الكلام تتمة سيأتي في التعليقة المرتبطة بأحكام المتجزّي.

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، ١ ـ ٣٢

٤١٤

وأمّا التجزّي في الاجتهاد ، ففيه مواضع من الكلام (١) :

الأوّل : في إمكانه (٢) ،

______________________________________________________

أحكام التجزّي في الاجتهاد :

١ ـ إمكانه وقوعا

(١) قد تقدم في صدر هذا الفصل أنّ الكلام يقع في مقامين ، أحدهما في الاجتهاد المطلق ، وثانيهما : في المتجزي ، وقد انتهى الكلام في المقام الأوّل ، فيقع البحث فعلا في المقام الثاني ، وفيه مواضع ثلاثة كما أشير إليها ثمة ، أوّلها في إمكانه وامتناعه.

(٢) هذا إشارة إلى الموضع الأوّل. اعلم : أنّه وقع الخلاف بين الأعلام في إمكان التجزّي وعدمه ، والمصنف «قده» أثبت إمكانه بوجهين :

الأوّل : شهادة الوجدان بإمكان التجزي ، حيث إنّ أبواب الفقه مختلفة مداركها سهولة وصعوبة ، فربّ حكم اختلفت فيه الأقوال وتضاربت أدلته وتعارضت أخباره ، وربّ حكم كان مدركه رواية واحدة ظاهرة الدلالة وتامة السند ، ومن المعلوم أنّ الاستنباط في الأوّل أصعب منه في الثاني.

وكما تختلف نفس مدارك الأحكام ، كذلك تختلف الأشخاص في الاطّلاع على مداركها ، فبعضهم ماهر في مدرك بعض أبواب الفقه كالعبادات ، لكثرة ممارسته فيها ، واطّلاعه على وجوه الجمع بين أخبارها المتعارضة ، وليس له مهارة في أبواب المعاملات ، لتوقف استنباط أحكامها على جملة من القواعد العامّة التي لم تكن له قدرة وافية على تنقيحها وتعيين حدودها وموارد جريانها. وبعضهم بالعكس. ومن المعلوم أنّ الاختلاف في الجهتين المتقدمتين ـ أعني به اختلاف المدارك سهولة وصعوبة ، واختلاف الأشخاص في الاطّلاع والمهارة في الأدلة ـ يستلزم التجزي في الاجتهاد ، بأن يكون الماهر في مدارك العبادات دون غيرها قادرا على استنباط أحكام العبادات فحسب ، والماهر في المعاملات مثلا متمكنا من استنباط أحكامها دون أحكام العبادات ، ولا نعني بالتجزي إلّا القدرة على استنباط بعض الأحكام.

٤١٥

وهو (١) وإن كان محلّ الخلاف بين الأعلام ، إلّا أنّه لا ينبغي الارتياب فيه (٢) حيث (٣) كان أبواب الفقه مختلفة مدركا ، والمدارك (٤) متفاوتة سهولة

______________________________________________________

الثاني : حكم العقل الضروري بإمكان التجزي ، لتوقف الاجتهاد المطلق عليه توقف ذي المقدمة على مقدمته الوجودية ، حيث إنّ ملكة استنباط جميع الأحكام لا تحصل إلّا تدريجا ، وإلّا يلزم الطفرة ، وذلك محال ، فلا بد من مسبوقية الاجتهاد المطلق بالتجزي كما هو واضح.

وبهذا أثبت المصنف إمكان التجزّي وقوعا ، ثم تصدى لذكر وجهين من أدلة المانعين وردّهما ، وسيأتي بيانهما.

(١) أي : أنّ إمكان التجزّي محل الخلاف بين الأعلام ، قال في المعالم : «قد اختلف الناس في قبوله ـ أي الاجتهاد ـ للتجزية بمعنى جريانه في بعض المسائل دون بعض ، وذلك بأن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل فقط ، فله حينئذ أن يجتهد فيها ، أولا؟ ذهب العلامة في التهذيب والشهيد في الذكرى والدروس ووالدي «ره» في جملة من كتبه وجمع من العامة إلى الأوّل ، وصار قوم إلى الثاني» (١).

(٢) أي : في إمكان التجزي ، وضمير «أنه» للشأن.

(٣) تعليل لقوله : «لا ينبغي» وهذا هو الوجه الأوّل المتقدّم بقولنا : «الأوّل : شهادة الوجدان بإمكان التجزي» وقد عرفت ابتناءه على مقدمتين :

إحداهما : اختلاف مدارك الأحكام وعدم كونها من سنخ واحد ، فبعضها عقلي ، ومورده الأحكام المبتنية على قاعدة الملازمة والاستلزامات العقلية ، مثل مسألة مقدمة الواجب واجتماع الأمر والنهي وغيرهما ، وبعضها نقليّ ، ومورده غالب الأحكام المستنبطة من الكتاب والسنة ، وهي متفاوتة سهولة وصعوبة.

ثانيتهما : تفاوت الأشخاص في الاطلاع على مدارك الأحكام كثرة وقلّة.

ونتيجة هاتين المقدمتين اقتدار بعض الأشخاص على استنباط بعض الأحكام دون بعضها الآخر ، وهذا هو التجزي.

(٤) هذه الجملة مبيّنة لقوله : «مختلفة مدركا» وليست إشارة إلى أمر آخر ، إذ اختلاف

__________________

(١) معالم الأصول ، ص ٢٣٢

٤١٦

وصعوبة عقلية ونقلية ، مع (١) اختلاف الأشخاص في الاطلاع عليها ، وفي طول (٢) الباع وقصوره بالنسبة إليها ، فربّ شخص كثير الاطلاع وطويل الباع في مدرك باب بمهارته (٣) في النقليات أو العقليات (٤) ، وليس (٥) كذلك في آخر ، لعدم (٦) مهارته فيها وابتنائه عليها. وهذا (٧) بالضرورة ربما يوجب

______________________________________________________

المدارك محصور في تفاوتها بالسهولة والصعوبة ، وكون بعضها عقليا وبعضها نقليا ، وليس غير هذين التفاوتين تفاوتا آخر حتى يكون مطويا في قوله : «مختلفة مدركا» ولا يكون مندرجا في قوله : «والمدارك متفاوتة».

(١) هذا إشارة إلى المقدمة الثانية التي يبتني الدليل الأوّل على إمكان التجزي عليها.

(٢) معطوف على «في الاطلاع» وضميرا «عليها ، إليها» راجعان إلى المدارك.

(٣) متعلق بـ «كثير الاطلاع» يعني : أنّ سبب كثرة اطّلاعه وطول باعه هو مهارته في النقليات من الإحاطة بالأخبار وتتبعه فيها وفي أقوال الفقهاء ، وتنقيح المسائل الأصولية المتعلقة بها من حجية الخبر الواحد ، واعتبار ظواهر الألفاظ ، ومسألة تخصيص العام بالمنفصل أو المتصل ، وحمل المطلق على المقيد ، وتأسيس الأصل في تعارض الخبرين ، وما يتعلق به من انقلاب النسبة إذا تعددت الخصوصات ، وغير ذلك مما يتعلّق باستنباط الأحكام من الكتاب والسنة.

(٤) كمسألة مقدمة الواجب والضد واجتماع الأمر والنهي ، واقتضاء النهي للفساد ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ودفع الضرر المحتمل ، وغير ذلك.

(٥) يعني : وليس ذلك الشخص ـ الماهر في النقليات ـ كثير الاطّلاع وطويل الباع في مدرك باب آخر.

(٦) تعليل لقوله : «وليس كذلك» أي : لعدم مهارة ذلك الشخص في العقليات أو النقليات ، والمفروض ابتناء ذلك الباب على العقليات أو النقليات ، فقوله : «وابتناؤه» معطوف على «عدم مهارته» يعني : ولابتناء ذلك الباب على النقليات أو العقليات.

(٧) هذه نتيجة الدليل الأوّل ، فاختلاف المدارك والأشخاص يوجب التجزي في ملكة الاجتهاد.

٤١٧

حصول القدرة على الاستنباط في بعضها (١) ، لسهولة مدركه ، أو لمهارة الشخص فيه (٢) مع صعوبته مع عدم القدرة على ما ليس كذلك (٣). بل يستحيل (٤) حصول اجتهاد مطلق عادة (٥) غير مسبوق بالتجزي ،

______________________________________________________

(١) أي : بعض أبواب الفقه ، وضمير «مدركه» راجع إلى «بعضها».

(٢) أي : يكون التجزّي لأجل مهارة الشخص في مدرك بعض أبواب الفقه وإن كان ذلك المدرك صعبا. وعليه فالتجزي لا يكون في خصوص الأحكام التي تكون مداركها واضحة ، بل قد يكون في المدارك الصعبة ، فيستنبط المتجزّي الحكم الشرعي لأجل مهارته وتضلّعه في المستند ، كما إذا كانت المسألة من المعاملات المبتنية غالبا على معرفة عدّة من القواعد العامة ، وقد أتقنها المتجزي ، وهو مع ذلك عاجز عن استنباط أحكام العبادات من جهة كثرة أخبارها وتعارضها ، وعدم تمكنه من علاجه بالجمع بينها.

(٣) أي : مع عدم قدرة المجتهد على استنباط بعض أبواب الفقه مما ليس مدركه سهلا مع عدم مهارته فيه.

(٤) هذا هو الوجه الثاني الدالّ على إمكان التجزي ، بل يدلّ على وقوعه خارجا ، ببيان : أنّه لا إشكال في وجود المجتهد المطلق خارجا كما تقدم في المقام الأوّل ، والمفروض أن وجوده متوقف على كونه متجزيا أوّلا ، ثم يقتدر تدريجا على استنباط جميع الأحكام أو معظمها ، فلا بد من وجود المتجزّي خارجا ثم صيرورته مطلقا. وقد تقدم توضيح هذا الوجه بقولنا : «الثاني حكم العقل الضروري بإمكان التجزي ...».

(٥) هذا الدليل يتضمن عقدين أحدهما إثباتي ، وهو : أن حصول ملكة مطلقة بدون سبقها بالملكة المتجزّية محال عادي ، والثاني سلبي ، وهو : أن حصول ملكة مطلقة غير مسبوقة بالتجزي ليس محالا عقليا. أمّا العقد السلبي فلأنّ حصول الاجتهاد المطلق غير المسبوق بالتجزي ليس من المحالات الأوّليّة كاجتماع الضدين والمثلين والنقيضين ، فإنّ المسائل الفقهية في عرض واحد ، ولا تقدّم لبعضها رتبة على بعض آخر حتى يكون التمكن من استنباط بعضها مقدّمة للقدرة على استنباط بعضها الآخر ، ويستحيل تحقق الاجتهاد المطلق بدون سبق التجزي كاستحالة وجود ذي المقدمة بدون وجود مقدمته ، مع

٤١٨

للزوم (١) الطفرة. وبساطة الملكة (٢)

______________________________________________________

أن حصول ملكة مطلقة دفعة بإفاضة ربّانية بمكان من الإمكان ، فإنّ الفضل بيده تعالى يؤتيه من يشاء.

وأمّا العقد الإثباتي فلأنّ محطّ الكلام هو الملكات الاكتسابية الحاصلة بإتقان العلوم النظرية ـ التي لها دخل في القدرة على الاستنباط ـ فلا محالة تتوقف الملكة المطلقة على حصولها متجزّئة أوّلا ، ثم تتقوّى وتشتد وتزداد تدريجا إلى أن يتمكّن صاحبها من استنباط جميع الأحكام أو جلّها.

(١) تعليل لقوله : «يستحيل» والطفرة قد تكون محالا عقليا وقد تكون محالا عاديا ولا منافاة حينئذ بين دعوى الاستحالة العاديّة وتعليلها بالطفرة.

ثم إنّ ظاهر المتن فرض لزوم الطفرة المحال بناء على كون التفاوت بين الملكة المطلقة مع الملكة المتجزية بالشدة والضعف كالسواد الشديد مع السواد الضعيف ، فالملكة من مقولة الكيف وهي أمر بسيط ذو شدة وضعف. ولكن الظاهر جريان محذور الطفرة حتى بناء على كون تفاوت الملكة المطلقة مع المتجزّية بالزيادة والنقصان ، كما اختاره المحقق الأصفهاني «قده» ، فإنّ الزيادة أيضا تكون بالتدريج ، وإلّا لزم الطفرة عند عدم سبق الزائد بالناقص (*).

(٢) تعرّض المصنف بعد إثبات إمكان التجزّي لوجهين من الوجوه التي استدل بها

__________________

(*) قال «قده» : «وأمّا أنهما متفاوتتان بالزيادة والنقصان فلأنّ معرفة كل علم من العلوم النظرية توجب قدرة على استنباط طائفة من الأحكام المناسبة لتلك المبادئ ـ كالأحكام المتوقفة على المبادئ العقلية أو المتوقفة على المبادئ اللفظية ـ فالقدرة الحاصلة على استنباط طائفة غير القدرة الحاصلة على استنباط طائفة أخرى. لا أن معرفة بعض المبادئ توجب اشتداد القدرة الحاصلة بسبب مباد أخر. والأقوائية كما تكون بالشدة والضعف كذلك بالزيادة والنقص ، فإنّ التشكيك غير الاشتداد. وما يختص بالشدة والضعف هو الاشتداد الّذي هو الحركة من حدّ إلى حدّ.

وعليه فليس التجزّي منافيا لبساطة الملكة ، بتوهم : أن البسيط لا يتجزّأ ولا يتبعض. فان كل قدرة بسيطة ، وزيادتها توجب تعدد البسيط لا تبعض البسيط» (١) فراجع كلامه متدبرا فيه

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٩٥

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المانعون ، هذا أوّلها ، وحاصله : أن ملكة الاجتهاد ـ كسائر الملكات الحاصلة للنفس ـ كيف نفساني بسيط غير قابل للتجزية والتقسيم من التنصيف والتثليث وغيرهما ، وإنّما القابل للتقسيم هو الكمّ ، وحينئذ فيدور أمر الملكة دائما بين الوجود والعدم ، ولا يعقل أن تتحقق مبعّضة ، فلا يقال : «ان لفلان نصف ملكة الشجاعة» أو «نصف ملكة الاجتهاد». وعليه فالمتصدّي للاستنباط إمّا مجتهد مطلق وإمّا غير مجتهد أصلا ، والالتزام بإمكان وجود الملكة المتجزّية مساوق للمحال وهو قابلية البسائط للتجزية والتقسيم ، فينحصر الاقتدار على الاستنباط في فرد واحد وهو الاجتهاد المطلق ، هذا.

وقد ردّ المصنف هذا الوجه بما حاصله : أنّ التجزي في الاجتهاد ليس بمعنى قابلية ملكة الاستنباط للتنصيف أو التثليث ، فإنّه غير معقول ، لما تقدم من كونها أمرا بسيطا من الكيفيات النفسانيّة. بل المراد أنّ متعلق القدرة في المتجزي أضيق دائرة من متعلقها في المجتهد المطلق ، نظير ما إذا كان هناك جوهران أسودان يكون أحدهما قليلا يصبغ مائة ثوب ، والآخر كثيرا يصبغ ألف ثوب ، فإنّ كلّا منهما جوهر تام ، غاية الأمر أنّ المصبوغ بأحدهما أكثر أفرادا من المصبوغ بالآخر.

وعلى هذا فالمقصود بالتجزي هو أنّ ملكة الاجتهاد تكون بمعنى القدرة على الاستنباط ، ومتعلّق هذه القدرة يختلف قلّة وكثرة ، والقدرة تتعدد بتعدد متعلقاتها بعد ما عرفت من اختلاف مدارك الأحكام ، وابتناء استنباط بعض الأحكام على مبادئ عقلية ، وبعضها على مبادئ نقلية ، وهكذا. والقدرة أمر بسيط ، لكن القدرة على فعل لا تستلزم القدرة على فعل آخر ، كما هو الحال في التمكن من الأفعال الخارجية ، فإنّ القدرة على الأكل غير القدرة على المشي ، وهما غير القدرة على التكلم.

والحاصل : أنّ بساطة الملكة لا تمنع عن حصولها بالنسبة إلى استنباط بعض أبواب الفقه ، لقابليّتها للشدة والضعف ، فانّ كانت شديدة سمّيت بالاجتهاد المطلق ، وإن كانت ضعيفة سمّيت بالتجزي. وعليه فلا مانع من إمكان التجزي من ناحية بساطة مقولة الكيف. هذا ما يتعلق بالوجه الأوّل ، وسيأتي بيان الوجه الثاني.

٤٢٠