منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الظاهري بالعبادة ، فانه محل الكلام في كل منهما.

وعليه فهذه المسألة ليست من جزئيات مسألة الإجزاء كما زعمه بعض الأصوليين ، لما عرفت من وجود جهة الافتراق بين المسألتين.

الثاني : أنّ هذه المسألة لا تبتني على مسألة جواز بناء المجتهد على رأيه السابق وعدم جوازه ، مطلقا أو على تفصيل ، بأن يقال : إنّه بناء على عدم جواز بنائه عليه ، ووجوب النّظر في أدلّة مسألة واحدة كلّما احتمل ظفره بشيء لم يطلع عليه سابقا ، فإذا تبدّل رأيه اتّجه البحث في صحة الأعمال السابقة الواقعة على طبق الاجتهاد السابق ، وعدم صحتها. وأمّا بناء على جواز البناء على الاجتهاد السابق ، لما في تجديد النّظر من العسر والحرج ، فلا يبقى موضوع لاضمحلال الرّأي السابق حتى يبحث عن حكمه من مضيّ آثاره أو نقضها.

وجه عدم ابتناء هذه المسألة على مسألة وجوب تجديد النّظر وعدمه هو : تحقق موضوع مسألتنا هذه حتى بناء على عدم وجوب تجديد النّظر ، إذ قد ينتفي الرّأي السابق بواسطة الظفر بحجة لم يظفر عليها سابقا قصورا لا تقصيرا ، أو استظهار معنى آخر من رواية بعد مذاكرته مع أقرانه ، فتبدل رأيه ولو بأن يتردّد في نظره السابق ، وما أكثر عدول الفقهاء عن آرائهم ، فالمحكي أن العلامة (قده) تعد آراؤه في كثير من المسائل الخلافية بعدد كتبه.

ولا يخفى أنّ موضوع البحث هو ما إذا صحّ إطلاق الاجتهاد على الرّأي السابق ، بأن كان بعد استفراغ الوسع بما يحصل معه الاطمئنان بالحكم الشرعي بالفحص عن الأخبار والنّظر في المتعارضات والمخصصات وغير ذلك مما لا بد منه للفقيه. وإلّا فلو لم يكن فحصه في الأدلة مورثا للاطمئنان بحكم الشارع ـ أو موجبا للظن به بناء على حجية الظنون الاجتهادية ـ لما صحّ إطلاق تبدل الرّأي على اجتهاده الثاني ، بل اللازم أن يقال : يجب عليه الاجتهاد فعلا واستنباط الحكم من أدلة الفقه.

وحيث اتّضح محلّ النزاع في هذه المسألة فنقول : ان المصنف (قده) حكم بلزوم تطبيق الأعمال اللاحقة على الاجتهاد الثاني بلا إشكال ، وبالنسبة إلى الأعمال اللاحقة

٤٦١

بالآخر (١) أو بزواله (٢) بدونه ، فلا شبهة (٣) في عدم العبرة به في الأعمال اللاحقة ولزوم (٤) اتّباع الاجتهاد اللاحق مطلقا (٥) أو الاحتياط فيها (٦) وأمّا الأعمال السابقة (٧) الواقعة على

______________________________________________________

فصّل بين القول بطريقية الأمارات وموضوعيتها ، وذكر للمسألة صورا أربع سيأتي بيانها (ان شاء الله تعالى).

(١) أي : بالرأي الآخر ، وهو الرّأي اللاحق ، وقوله : «بتبديل» متعلق بـ «اضمحلال».

(٢) أي : بزوال الرّأي الأوّل بدون تبدّله برأي آخر ، لعدم حصول رأي له بعد ، كما إذا زال اجتهاده السابق لشبهة ألقيت عليه ، وبقي مترددا في حكم المسألة.

(٣) جزاء «إذا اضمحل» وبيان حكم الاضمحلال ، والوجه في عدم العبرة بذلك الرّأي الأوّل هو : سقوطه عن الحجية ، فيكون تطبيق الأعمال اللاحقة على الاجتهاد السابق تطبيقا لها على غير الحجة ، فلا يمكن الاكتفاء بها في نظر العقل حتى إذا كانت مطابقة للواقع ، إذ لا بد من حجة يستند إليها حين العمل حتى يحصل الأمن من عقوبة المولى. وعليه فلا بد من تطبيقها على الفتوى الثانية أو الاحتياط إن أمكن.

(٤) معطوف على «عدم العبرة» يعني : لا شبهة في لزوم متابعة الرّأي الثاني ـ إذا استنبط حكم المسألة مرّة أخرى ـ أو الاحتياط إن كان متردّدا بعد.

(٥) يعني : سواء أكان الاجتهادان قطعيّين أم ظنّيين أم مختلفين ، وسواء أكان مورد تبدل الرّأي في الموضوعات أم في الأحكام.

(٦) أي : الاحتياط في الأعمال اللاحقة إن لم يحصل له رأي بعد.

(٧) هذا شروع في بيان صور المسألة بالنسبة إلى حكم الأعمال السابقة على زوال الرّأي الأوّل.

الصورة الأولى : أن يكون الاجتهاد الأوّل موجبا للقطع بالحكم ، ثم زال وتبدل برأي آخر. ومقتضى القاعدة حينئذ ترتيب آثار البطلان على الأعمال اللاحقة المخالفة للاجتهاد الأوّل ، فإن كانت عبادة كالصلاة التي أتى بها بدون جلسة الاستراحة مثلا ـ وأفتى لا حقا بوجوبها ـ وجبت إعادتها. وإن كانت معاملة وكان العوضان أو أحدهما موجودا

٤٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بحيث يكون أحدهما أو كلاهما موردا للابتلاء فعلا ـ كما إذا اشترى لحم حيوان قطع اثنان من أوداجه ، وكانت فتواه الأولى كفاية قطعهما في التذكية ، وكان ذلك اللحم موجودا حال فتواه الثانية ، وهي عدم كفاية قطعهما ولزوم فري الأوداج الأربعة في التذكية ـ فاللازم ترتيب آثار البطلان على تلك المعاملة.

هذا إجمال الصورة الأولى ، والمستفاد من المتن اعتبار أمور فيها :

الأوّل : ثبوت الرّأي الأوّل بالقطع لا بحجة شرعية من أمارة ـ بناء على الالتزام بالحكم الظاهري في الأمارات ـ أو أصل عملي ، فإنّ حجية القطع حيث إنّها ذاتية غير قابلة للجعل فلا حكم شرعا في مورده ، غايته أنّ القاطع معذور في مخالفة الواقع ، فلا مجال للقول بصحة الأعمال السابقة التي هي آثار الاجتهاد المفيد للقطع ، لفرض انكشاف الخلاف وكون الحكم الشرعي مخالفا لقطعه ، ولا حكم مماثل مجعول حتى يدّعى الإجزاء اعتمادا على ذلك الأمر الظاهري.

الثاني : يعتبر أن يكون الرّأي الأوّل المقطوع به مخالفا للاحتياط بأن كان رأيه عدم وجوب جلسة الاستراحة ، أو كفاية فري الودجين في التذكية أو صحّة العقد بالفارسي ، ووقع العمل على طبق هذا الرّأي ، وإلّا فلو عمل بمقتضى الاحتياط ـ لا بما يقتضيه الرّأي ـ كان صحيحا بلا شبهة. كما أنّه إذا كانت الفتوى الأولى مطابقة للاحتياط ووقع العمل على طبقها لم يبق مجال للبحث ، لفرض حصول عمل واجد لما يحتمل دخله في صحته وفاقد لما يحتمل مانعيّته عنها كما إذا أفتى أوّلا باعتبار العربية في العقد ، ثم عدل إلى كفاية العقد بالفارسية ، فعقد بالعربية سابقا عملا بالاجتهاد ، أو كان رأيه كفاية العقد بالفارسي ، ولكنه لم يعمل بمقتضاه وعقد بالعربية ، فإنّ العمل لأجل مطابقته للاحتياط صحيح على كل حال.

الثالث : يعتبر أن يكون الحكم الّذي هو مورد تبدّل الرّأي أو زواله ـ ممّا له أثر يختلف عن أثره بعد العدول ، توضيحه : أنّ الأعمال السابقة إمّا أن تكون قابلة للتدارك ، وإمّا غير قابلة له. ومثال الأوّل ما إذا أتى بالصلاة في الوقت على طبق الاجتهاد الأوّل فاقدة لجزء ، لاعتقاده عدم جزئيّته ، وتبدّل رأيه قبل خروج الوقت واعتقد بجزئيته كما إذا اعتقد بكفاية

٤٦٣

وفقه (١) المختل فيها (٢) ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد (٣) ، فلا بد من معاملة البطلان معها (٤) فيما لم ينهض دليل على صحة العمل فيما إذا اختل (٥) فيه لعذر كما نهض في الصلاة

______________________________________________________

التسبيحات الأربع في الأخيرتين مرّة واحدة ، ثم عدل إلى اعتبار الثلاث.

أو عقد بالفارسية على امرأة وتزوّج بها ، ثم تبدل رأيه إلى اعتبار العربية فيه ، مع كون المرأة المعقودة في حبالته ، ففي هذا الفرض يقع الكلام في جواز ترتيب آثار الصحة على العقد السابق بعد تبدّل رأيه ، وعدم جوازه وأنّه لا بد من ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد اللاحق ، فيجب عليه إعادة الصلاة وتجديد العقد على المرأة.

ومثال الثاني : ما إذا صلّى صلاة العيد جماعة ثم عدل إلى عدم مشروعيتها كذلك ، ولكن انقضى زمان أدائها ، والمفروض عدم القضاء فيها ، فإنّه لا يترتّب على هذا العدول أثر أصلا ، وحكم صلاة عيد آخر تكليف مستقل لا ربط له بالسابق.

وكذا إذا عقد على امرأة بالفارسية ، ثم عدل إلى اعتبار العربية في العقد ، لكن ماتت المرأة قبل العدول أو طلّقها ، وهكذا ، فإنه لا يترتب أثر على هذا العدول.

هذا ما يتعلّق بالصورة الأولى.

(١) أي : على وفق الاجتهاد الأوّل ، وهذه الجملة تدلّ على الأمر الثاني مما يعتبر في الصورة الأولى أعني به عدم كون العمل الصادر على مقتضى الاجتهاد الأوّل موافقا للاحتياط ، فإذا كان ذلك العمل فاقدا لبعض ما يعتبر دخله في صحته كان موردا لهذا البحث ، والحكم ببطلانه.

(٢) هذا الضمير وضمير «صحتها» راجعان إلى الأعمال السابقة ، وقوله : «المختل» صفة للأعمال.

(٣) أي : الاجتهاد اللاحق ، وقوله : «بحسب ، في صحتها» متعلقان بـ «اعتبر».

(٤) أي : مع الأعمال السابقة ، وقوله : «فيما لم ينهض» متعلّق بـ «معاملة».

(٥) أي : إذا اختل ما اعتبر في صحتها ، وضمير «فيه» راجع إلى الموصول في «فيما إذا» والأولى إسقاط «فيما» إذ المراد بالموصول هو العمل المذكور في العبارة ، ويرجع

٤٦٤

وغيرها (١) ، مثل (٢)

______________________________________________________

إليه ضمير «فيه» ، فالأولى سوق العبارة هكذا : «فيما لم ينهض دليل على صحة العمل إذا اختل فيه» والمراد بالعذر هو الاجتهاد السابق.

وحاصل المقصود هو تقييد الحكم ببطلان الأعمال السابقة ، ببيان : أنّ مقتضى القاعدة عدم حجية الفتوى الأولى ، ولزوم ترتيب آثار البطلان عليها ، إلّا إذا قام دليل من الخارج على عدم وجوب الإعادة ، وقد وردت أدلّة ثلاثة على عدم وجوب الإعادة ، أحدها في خصوص الصلاة وهو حديث «لا تعاد» النافي لوجوب إعادة الصلاة فيما كان الخلل فيها من غير الأمور الخمسة المستثناة ، لكن بشرط أن يكون الخلل عن عذر كنسيان وخطأ ، والمفروض شموله للمقام ، لكون الاجتهاد خطأ.

ثانيها : حديث رفع التسعة وغيره ، لأنّ منها «رفع الخطأ» ومدلوله رفع حكم الفعل إذا وقع خطأ ، وهذا شامل للصلاة وغيرها ، مثلا وجوب جلسة الاستراحة ممّا أخطأ المكلّف فيه لخطإ اجتهاده ، فيشك في وجوبها ، ومقتضى «رفع الخطأ» هو عدم وجوبها ، فلا تجب إعادة الصلاة لأجل الإخلال الخطائي بها.

ثالثها : الإجماع على إجزاء العبادات السابقة الواقعة بمقتضى الاجتهاد الأوّل المنكشف خطاؤه وعليه فهذه الأدلّة توجب رفع اليد عما تقتضيه القاعدة الأوّليّة من وجوب إعادة الأعمال السابقة القابلة للتدارك.

(١) أي : غير الصلاة من سائر العبادات ، كما إذا أدّى اجتهاده السابق إلى تحقق الغروب باستتار القرص فأفطر قبل ذهاب الحمرة ، ثم تبدّل رأيه واختار اعتبار ذهاب الحمرة في تحقق الليل ، فانه لا يجب قضاء الصوم.

(٢) التعبير بالمثل لأجل عدم خصوصية في حديث «لا تعاد» في الدلالة على عدم بطلان الصلاة بالإخلال بغير الخمسة ، مثل ما دلّ على بطلانها بالزيادة العمدية وعدم بطلانها بالزيادة والنقيصة السهويّتين. وعلى كلّ لا بد من فرض دلالة الحديث على الإخلال الخطائي حتى يصلح للاستدلال به هنا على عدم بطلان الصلاة المأتيّ بها على طبق الاجتهاد السابق.

٤٦٥

«لا تعاد» (١) وحديث الرفع (٢) ، بل الإجماع على الإجزاء في العبادات. وذلك (٣) فيما كان بحسب الاجتهاد الأوّل قد حصل القطع بالحكم (٤) وقد اضمحلّ واضح ، بداهة أنه (٥) لا حكم معه (٦) شرعا ،

______________________________________________________

(١) وهو صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة ، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ، ثم قال : القراءة سنة والتشهد سنة ، فلا تنقض السنة الفريضة» (١).

(٢) مورد الاستدلال هو «رفع الخطأ أو ما أخطئوا» الوارد في عدة روايات.

(٣) مبتدأ خبره «واضح» أي : ومعاملة البطلان واضحة في الصورة الأولى المتقدمة وهي ما إذا كان الاجتهاد الأوّل مفيدا للقطع بالحكم الشرعي ثم تبيّن خطاؤه. وقد تقدم بيان هذه الجهة بقولنا : «الأوّل : ثبوت الرّأي الأوّل بالقطع لا بحجة شرعية ... إلخ».

(٤) أي : والحال أنّه قد اضمحلّ الاجتهاد الأوّل.

(٥) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لبطلان الأعمال السابقة في الصورة الأولى ـ في غير العبادات التي عرفت ورود الدليل الثانوي المقتضي للإجزاء وعدم الإعادة فيها ـ وحاصل التعليل : أنّه لا وجه لتوهّم الإجزاء ، إذ بعد انكشاف الخلاف لا أمر حقيقة ولا ظاهرا. أمّا عدم الأمر واقعا فلأجل انكشاف الخلاف ، وأمّا عدم الأمر ظاهرا ، فلأنّ لزوم متابعة القطع حكم عقلي ومن شئون حجيّته الذاتيّة ، فلا أمر من الشارع بمتابعته حتى يتحقق أمر ظاهري يقتضي سلوكه الإجزاء عن الواقع ، وإنّما يتجه هذا في الأمارات بناء على كون حجيتها بمعنى وجوب العمل بها طريقيا أو إنشاء الحكم المماثل. ولو كانت حجيتها بمعنى اعتبار حجية القطع لها من حيث التنجيز والتعذير كانت كالقطع في عدم وجود الأمر الظاهري في موردها.

وعلى كلّ فالقطع السابق وإن أوجب زواله بطلان العمل المطابق له ، إلّا أنّه موجب لمعذورية العامل به ، وعدم مؤاخذته على مخالفة الواقع.

(٦) أي : لا حكم شرعي مع القطع.

__________________

(١) الوسائل ، ج ٤ ، الباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث : ٤ ، ص ١٢٤

٤٦٦

غايته (١) المعذوريّة في المخالفة عقلا.

وكذلك (٢) فيما كان هناك طريق معتبر شرعا عليه بحسبه (٣) ، وقد ظهر

______________________________________________________

(١) أي : غاية ما في القطع هو المعذورية العقلية في المخالفة من دون حكم ظاهري فيه أصلا.

(٢) معطوف على قوله : «فيما كان بحسب» يعني : وكذلك لا بدّ من معاملة البطلان فيما إذا ثبت الاجتهاد السابق بأمارة معتبرة ثم تبيّن خطاؤها. وهذا إشارة إلى الصورة الثانية من صور تبدل الرّأي ، وبيانه : أنّ الاجتهاد الأوّل إذا كان موجبا للظن بالحكم الشرعي ـ الناشئ من أمارات معتبرة غير علمية ـ فمقتضاه كالصورة الأولى هو بطلان الأعمال السابقة ، لكن لا على جميع المباني في حجية الأمارات ، بل بناء على مبنيين :

أحدهما : حجيتها من باب الطريقية الصرفة بلا جعل حكم تكليفي في موردها.

وثانيهما : حجيتها من باب الطريقية مع الالتزام بجعل أحكام طريقية لها.

فبناء على كل من هذين المسلكين في حجية الأمارات تشترك الأمارة غير العلميّة مع القطع في بطلان الأعمال السابقة ـ في غير العبادات التي قامت أدلة على الإجزاء فيها ـ والوجه في البطلان أمّا بناء على الطريقية المحضة فلوضوح عدم حكم تكليفي ظاهري مماثل للواقع حتى يندرج في إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي. وأمّا بناء على جعل أحكام طريقية فلأنّ الحكم الطريقي الناشئ عن مصلحة في سلوك الأمارة لا يمسّ كرامة الواقع ولا يجبر مصلحته ، فالواقع باق على حاله وتجب موافقته بعد خطأ الاجتهاد الأوّل.

ولا فرق في الحكم ببطلان الأعمال السابقة بين تعلق الاجتهاد الأوّل بنفس الحكم كوجوب صلاة الجمعة تخييرا ثم رجوعه إلى وجوبها تعيينا ، وبين تعلقه بمتعلق الحكم ، كما إذا أفتى بكون الصلاة مركّبة من تسعة أجزاء ثم رجع إلى أنّها عشرة أجزاء مثلا.

والوجه في عدم الفرق بينهما هو : وحدة كيفية اعتبار الأمارة على الحكم ومتعلقه ، إذ بناء على الطريقية المحضة في الأمارات لا حكم أصلا إلّا الحكم الواقعي ، ولا موضوع إلّا ما هو الموضوع واقعا ، من غير تبدّل فيهما بقيام الأمارة على الخلاف.

(٣) أي : بحسب الاجتهاد الأوّل ، وضميرا «عليه ، خلافه» راجعان إلى الحكم.

٤٦٧

خلافه بالظفر (١) بالمقيّد أو المخصّص (٢) أو قرينة المجاز (٣) أو المعارض (٤) بناء (٥) على ما هو التحقيق من اعتبار الأمارات من باب الطريقية ، قيل (٦)

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «ظهر» يعني : يكون الظفر بالمقيد المخصّص باعثا على اضمحلال الاجتهاد الأوّل. مثلا كان رأيه السابق موضوعية مطلق الالتزام النفسانيّ في باب النذر ـ ولو بدون التلفظ به ـ لوجوب الوفاء به ، ثم تبدّل رأيه ـ للظفر بالمقيد ـ إلى اشتراطه بالتلفظ به ، وأنّه لا يجب ترتيب الأثر على النذر ما لم يتلفظ بالصيغة المعتبرة فيه.

(٢) كما إذا أفتى بوجوب صلاة الجمعة تعيينا ، ثم ظفر بما يدلّ على وجوبها تخييرا في عصر الغيبة ، وكون وجوبها تعيينا مختصّا بعصر الحضور.

(٣) كما إذا خصّ الحكم بتطهير الآنية بالظروف الصغار المعدة للأكل والشرب التي يسهل تناولها ونقلها من مكان إلى آخر ، ثم ظفر على قرينة المجاز ، واستقرّ رأيه على إلحاق القدور الكبار ونحوها بالآنية وإن لم يصدق عليها الإناء عرفا.

(٤) وهو كثير في أبواب الفقه ، كما إذا أفتى بإباحة الخمس للشيعة استنادا إلى نصوص ، ثم ظفر بما يتعارضها مما يدل على وجوب أداء الخمس ، ولزوم حمل إباحة الخمس على معنى آخر.

(٥) قيد لقوله : «وكذلك فيما كان هناك طريق» يعني : أنّ الحكم ـ في هذه الصورة الثانية ـ بالبطلان منوط بالقول بطريقية الأمارات ، لا الموضوعية وجعل الحكم المماثل ، وقد عرفت توضيحه.

(٦) أي : سواء قيل بإنشاء أحكام طريقية أم لا ، والاحتمالات على القول بالطريقية ثلاثة ، أوّلها : القول بالطريقية المحضة ، حيث لا تتضمن أدلة اعتبار الأمارة إنشاء حكم ظاهري أصلا ، فتكون حجية الأمارة كحجية القطع في تنجيز الواقع وإيصاله إلى المكلف ، أو التعذير عنه لا غير.

ثانيها : أن تتضمن أدلة اعتبار الأمارة إنشاء طلبيّا بداعي تنجيز الواقع أو التعذير عنه ، فالشارع وإن قال : «صدّق العادل» إلّا أنّ مفاد هذا الإنشاء تنجيز الواقع ونفي العذر عمن خالفه بعد إخبار الثقة ، وعلى هذا الاحتمال لا حكم ظاهري أيضا ، كالاحتمال الأوّل ، فالمؤدّى هو الواقع عند المصادفة ، وحكم صوري عند المخالفة ، فالحجية هنا كما في

٤٦٨

بأنّ قضية اعتبارها إنشاء أحكام طريقية أم لا ، على (١) ما مرّ منّا غير مرة ، من (٢) غير فرق بين تعلقه (٣) بالأحكام أو بمتعلقاتها ، ضرورة (٤) أنّ كيفيّة اعتبارها فيهما على نهج واحد (٥).

______________________________________________________

الصورة الأولى بمعنى التخيير والتعذير.

ثالثها : أنّ تتضمن أدلّة اعتبار الأمارة إنشاء طلبيا بداعي جعل الداعي بعنوان إيصال الواقع ، فلا محالة يكون مقصورا على صورة مصادفة الواقع ، فالواصل إلى المكلف بالأمارة ليس هو الواقع بل عنوانه ، ولذا لا حكم ظاهري في صورة المخالفة حتى يشترك مع القول بالموضوعية ، فإنّ الحكم المماثل بناء على القول بالموضوعية يكون في كلتا حالتي موافقة الواقع ومخالفته (١).

(١) متعلق بقوله : «لا» في قوله : «أم لا» إذ مختار المصنف في حجية الأمارات هو الطريقية المحضة ، وكونها كالحجة الذاتيّة من دون جعل حكم ظاهري. نعم كان مبناه (قده) في مباحث القطع تنزيل الأمارة منزلته ، لكنه عدل عنه في أوائل بحث الأمارات ، وأنكر التعبد الشرعي فيها ، وقد تقدم في الفصل السابق نقل بعض كلامه ، فراجع.

(٢) متعلق بقوله : «وكذلك فيما كان» يعني : لا فرق في بطلان الأعمال السابقة بين تعلّق الاجتهاد بنفس الحكم أو بمتعلّقه ، لوحدة المناط فيهما ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «وبيانه : أن الاجتهاد الأوّل إذا كان موجبا للظن بالحكم الشرعي ... إلخ».

(٣) أي : تعلّق الاجتهاد الأوّل بالأحكام كوجوب الجمعة أو بالمتعلّقات كالصلاة بدون جلسة الاستراحة ، والعقد بالفارسية ، والتذكية بفري الودجين ، وغير ذلك.

(٤) تعليل لعدم الفرق ، وقد عرفت توضيحه ، ومحصله وحدة المناط.

(٥) خبر «أن كيفية» أي : أنّ اعتبار الطريقية في الأحكام ومتعلّقاتها يكون على نهج واحد. وهذا الكلام تمهيد لردّ ما يستفاد من ظاهر عبارة الفصول من التفصيل في وجوب إعادة الأعمال السابقة بين المتعلّقات وبين الأحكام بوجوبها في الأحكام دون المتعلّقات فان كان اجتهاده متعلّقا بالأحكام كوجوب صلاة الجمعة ونجاسة عرق الجنب من

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٢٠٤

٤٦٩

ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما (١) كما في الفصول (٢)

______________________________________________________

الحرام فلاقاه شيء وجبت إعادة الأعمال السابقة الواقعة على طبقه. وإن كان اجتهاده متعلّقا بالموضوعات ـ ككون أجزاء الصلاة عشرة وكون العقد بالفارسية مؤثّرا ونحوهما ـ لم تجب إعادة الأعمال التي أتى بها على وفقه. هذا ما استظهره المصنف من كلام الفصول.

وهو لا يخلو من إجمال كما يقف عليه من لاحظه ، وسيأتي نقل عبارته للوقوف على مرامه ، وقد حكي أنّ الشيخ الأعظم (قده) استوضح المراد من صاحب الفصول بتوسط السيّد العلامة الزاهد الرّباني الحاج السيّد علي الجزائري (قده) ولم يحصل له من بيانه ما يرفع الإجمال ، بل قيل إنه تردّد في مضمون عبارة نفسه ، إلّا أنّه قال : «ما كتبته سابقا صحيح».

(١) أي : بين الأحكام ومتعلقاتها.

(٢) قال فيها : «فصل : إذا رجع المجتهد عن الفتوى انتقضت في حقه بالنسبة إلى مواردها المتأخرة عن زمن الرجوع قطعا ، وهو موضع وفاق. ولا فرق في ذلك بين أن يكون رجوعه عن القطعي إلى الظنّي أو من الظني إلى القطعي أو من أحدهما إلى مثله ... وأما بالنسبة إلى مواردها الخاصّة التي بنى عليها قبل رجوعه عليها ، فان قطع ببطلانها واقعا ، فالظاهر وجوب التعويل على مقتضى قطعه فيها بعد الرجوع ، عملا بإطلاق ما دلّ على ثبوت الحكم المقطوع به ، فإنّ الأحكام لاحقة لمواردها الواقعية لا الاعتقادية ، فيترتب عليه آثاره الوضعيّة ما لم تكن مشروطة بالعلم. ولا فرق في ذلك بين الحكم وغيره. وكذا لو قطع ببطلان دليله واقعا وإن لم يقطع ببطلان نفس الحكم ، كما لو زعم حجية القياس فأفتى بمقتضاه ثم قطع ببطلانه ... إلى أن قال :

وإن لم يقطع ببطلانها ولا ببطلانه ، فان كانت الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى ، فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق ، فيترتب عليها لوازمها بعد الرجوع ، إذ الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين ولو بحسب زمانين ، لعدم دليل عليه. ولئلا يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيين عن الشريعة السمحة ، لعدم وقوف المجتهد غالبا على

٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

رأي واحد ، فيؤدّي إلى الاختلال فيما يبني فيه عليها من الأعمال. ولئلا يرتفع الوثوق في العمل من حيث إنّ الرجوع في حقه محتمل ، وهو مناف للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد المتأخر فيها ... إلى أن قال : ولأصالة بقاء آثار الواقعة ، إذ لا ريب في ثبوتها قبل الرجوع بالاجتهاد ، ولا قطع بارتفاعها بعده ، إذ لا دليل على تأثير الاجتهاد المتأخر فيها ... إلى أن قال :

وبالجملة : فحكم رجوع المجتهد في الفتوى فيما مرّ حكم النسخ في ارتفاع الحكم المنسوخ عن موارده المتأخرة عنه ، وبقاء آثار موارده المتقدمة إن كان لها آثار.

وعلى ما قرّرنا فلو بني على عدم جزئية شيء للعبادة أو عدم شرطيّته ، فأتى بها على الوجه الّذي بنى عليه ، ثم رجع ، بنى على صحة ما أتى به ، حتى أنّها لو كانت صلاة وبنى فيها على عدم وجوب السورة ثم رجع بعد تجاوز المحلّ بنى على صحتها من جهة جميع ذلك. أو بنى على صحتها في شعر الأرانب والثعالب ، ثم رجع ولو في الأثناء إذا نزعها قبل الرجوع ... فلا يلزمه الاستئناف. وكذلك القول في بقية مباحث العبادات والمعاملات وساير العقود والإيقاعات ، فلو عقد أو أوقع بصيغة يرى صحتها ثم رجع بنى على صحتها واستصحب أحكامها من بقاء الملكة والزوجية والبينونة والحرية وغير ذلك. ومن هذا الباب حكم الحاكم ، والظاهر أنّ عدم انتقاضه بالرجوع موضع وفاق ...». إلى أن قال : «ولو كانت الواقعة مما لا يتعين أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغيّر الحكم بتغير الاجتهاد ، كما لو بنى على حليّة حيوان فذكّاه ، ثم رجع ، بنى على تحريم المذكى منه ... إلى أن قال : لأنّ ذلك كله رجوع عن حكم الموضوع ، وهو لا يثبت بالاجتهاد على الإطلاق ، بل ما دام باقيا على اجتهاده ، فإذا رجع ارتفع ، كما يظهر من تنظير ذلك بالنسخ» انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

وليكن ما أفاده على ذكر منك لتحقيق ما يستفاد من كلامه من أوّله إلى منتهاه. ولو فرض أنّ مقصوده ما استظهره المصنف منه من التفصيل بين الأحكام ومتعلقاتها ـ بالإجزاء إذا كان الاجتهاد السابق متعلقا بمتعلقات الأحكام ، وبعدم الإجزاء إذا كان متعلقا بنفس الحكم الشرعي ـ فقد استدل عليه بوجوه أربعة أشار الماتن إلى اثنين منها.

٤٧١

«وأنّ (١) المتعلقات لا تتحمّل اجتهادين ، بخلاف الأحكام» إلّا (٢) حسبان أن الأحكام قابلة للتغير والتبدل ، بخلاف المتعلّقات والموضوعات (٣). وأنت خبير بأنّ الواقع واحد فيهما (٤) ، وقد عيّن أوّلا بما (٥) ظهر خطؤه ثانيا.

______________________________________________________

(١) معطوف على «التفصيل» وبيان له ، وهو إشارة إلى أوّل أدلة صاحب الفصول على مدعاه ، وقد تقدم في كلامه المنقول بقوله : «فان كانت الواقعة مما يتعيّن في وقوعها أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق ... إذ الواقعة الواحدة لا يحتمل اجتهادين ولو بحسب زمانين».

ومحصل هذا الاستدلال : أنّ الوقائع التي هي محطّ الفتوى لا تتحمّل اجتهادين ولو بحسب زمانين ، لأنّ فيها واقعا محفوظا لا يتغيّر باجتهاد المجتهدين. بخلاف الأحكام ، فإنّها تتحمّل اجتهادين ، لكثرة موارد عدول المجتهد عن رأي إلى آخر. هذا توضيح كلام الفصول على ما استظهره المصنف منه ، وله تقريب آخر نذكره في التعليقة.

(٢) متعلق بقوله : «ولم يعلم وجه ...» وهذا إشارة إلى أوّل أدلّة صاحب الفصول. وقد عرفت توضيحه بقولنا : «ومحصل هذا الاستدلال : أن الوقائع ... إلخ».

(٣) الظاهر أنّ المراد بهما هنا واحد وهو ما يتعلّق به الحكم الشرعي تكليفيا أم وضعيا ، كالصلاة والعقد وفري الأوداج الأربعة بشرائطه ، وغير ذلك.

(٤) أي : في الأحكام والمتعلقات ، وهذا إشكال المصنف على عبارة الفصول ، ومحصله : بطلان الفرق بين الموضوع والحكم بما أفاده الفصول ، وذلك لأنّ الواقع في كلّ من الموضوع والحكم واحد ، إذ مفروض الكلام هو اعتبار الأمارات غير العلمية على الطريقية لا الموضوعية ـ التي توجب حدوث ملاك في نفس المؤدّى بقيام الأمارة ـ حتى تختلف الأحكام باختلاف الآراء والاجتهادات. ومقتضى الطريقية هو وجوب إعادة الأعمال السابقة على طبق الاجتهاد الثاني مطلقا سواء أكان الاجتهاد متعلقا بالموضوع أم بالحكم ، فإذا انكشف خطأ الاجتهاد المتعلق بالموضوع وجب ترتيب آثار البطلان على الأعمال السابقة ، كانكشاف خطأ الاجتهاد المتعلّق بالحكم كما لا يخفى.

(٥) الباء للسببية أو الظرفية ، والمعنى على الأوّل : أنّ الواقع عيّن باجتهاد ظهر خطاؤه ،

٤٧٢

ولزوم (١) العسر والحرج والهرج والمرج (٢) المخلّ بالنظام والموجب للمخاصمة بين الأنام ، لو قيل (٣) بعدم صحة العقود (٤) والإيقاعات (٥) والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأوّل الفاسدة (٦) بحسب الاجتهاد الثاني ، ووجوب (٧) العمل على طبق الثاني من (٨) عدم ترتيب الأثر على المعاملة أو (٩) إعادة العبادة

______________________________________________________

وعلى الثاني : أنّ الواقع عيّن في حكم أو متعلق حكم ، وقد ظهر خطاؤه. والأمر سهل.

(١) بالرفع مبتدأ خبره «لا يكون» ، وهذا إشارة إلى دليل ثان اعتمد عليه المحقق الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ صاحب الفصول ، وقد تقدّم فيما نقلناه عنه بقوله : «ولئلا يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيين عن الشريعة السمحة ...» وحاصله : أنّ البناء على بطلان الأعمال السابقة ولزوم إعادتها ـ إن كانت عبادة ـ يوجب العسر المخلّ بالنظام ، ويبعث على المخاصمة بين الأنام ، وهذا محذور عقلي باطل عقلا وشرعا ، وكل ما يوجب ذلك باطل أيضا ، فلا بد من البناء على صحة الأعمال السابقة حتى لا يلزم هذا المحذور العقلي.

(٢) هاتان الكلمتان غير مذكورتين في كلام الفصول ، وإنّما المذكور فيه خصوص العسر والحرج.

(٣) قيد لـ «لزوم العسر والحرج» والمعنى واضح.

(٤) كما إذا اشترى دارا بعقد فارسي ، وآجرها ، وتزوّج بامرأة بالفارسية ، فلو بنى على بطلان هذه العقود والآثار المترتبة عليها لزم اختلال النظام قطعا.

(٥) كما لو طلّق زوجة بالفارسية وتزوّجها رجل آخر ومضت مدّة مديدة ، فإنّ الالتزام ببطلان ما وقع على طبق الاجتهاد السابق مستلزم للاختلال.

(٦) هذا و «الواقعة» صفتان لـ «العقود والإيقاعات والعبادات» ، وقوله : «بحسب» متعلق بـ «الفاسدة».

(٧) معطوف على قوله : «بعدم صحة العقود» يعني : أنّ العسر يلزم لو قيل بعدم صحة العقود ، وبوجوب العمل على طبق الاجتهاد الثاني.

(٨) بيان للعمل على طبق الاجتهاد الثاني.

(٩) معطوف على «عدم ترتيب» أي : من إعادة العبادة.

٤٧٣

لا يكون (١) إلّا أحيانا.

______________________________________________________

(١) خبر «ولزوم» كما تقدم التنبيه عليه ، وإشكال على دليل صاحب الفصول ، وهو يرجع إلى وجهين :

أحدهما : أنّ الدليل أخصّ من المدعى ، لأنّ العسر لا يلزم دائما بل أحيانا ، ضرورة أنّ الإعادة إنما تلزم إذا لم تكن الفتوى الأولى مطابقة للاحتياط ، وإلّا فلا وجه للإعادة ، كما إذا صلّى مع جلسة الاستراحة وعدم لبس وبر الأرنب ، أو عقد بالعربية ، أو تزوج بامرأة أجنبيّة لم يكن بينهما رضاع ناشر للحرمة قطعا ، وغير ذلك. وإذا لم تكن الفتوى السابقة موافقة للاحتياط فرجع عنها إلى ما يوافق الاحتياط ، وكان زمان العمل بتلك الفتوى قصيرا ، أو الأعمال الواقعة على طبقها قليلة ، أو كان المكلّف فارغ البال ومتعوّدا على العبادات ، لم تكن الإعادة حينئذ عسرية ، ومن المقرّر في محله كون العسر الرافع للتكليف شخصيا لا نوعيا.

فعلى تقدير لزوم الحرج لا بدّ من الاقتصار على مورده ، ولا وجه للالتزام بعدم وجوب الإعادة عليه إذا لم يلزم منها حرج ولا عسر. وحيث كان أصل العسر فرضيّا وتقديريّا فمعلوله وهو عدم بطلان الأعمال السابقة فرضيّ أيضا.

ثانيهما : أنّ ما أفاده الفصول من لزوم العسر والحرج ـ لو قيل ببطلان الاجتهاد المتعلّق بالموضوعات ـ منقوض بالالتزام ببطلان الاجتهاد في الأحكام ، لعدم اختصاص العسر والحرج اللازمين من إعادة الأعمال السابقة بما إذا كان الاجتهاد السابق في المتعلقات ، للزومه من إعادتها في تبدل الاجتهاد المتعلق بالأحكام أيضا ، كما إذا أفتى بوجوب صلاة الجمعة فرجع إلى حرمتها ، أو أفتى بوجوب القصر في المسافة التلفيقية فرجع إلى وجوب التمام أو الجمع بينهما ، وغير ذلك ، فإنّ الحكم بإعادتها أداء أو قضاء مستلزم للعسر والحرج المنفيين في الشريعة.

والحاصل : أنه لا وجه للحكم بعدم العبرة في تبدّل الرّأي في متعلقات الأحكام بدعوى «لزوم العسر لو قيل ببطلان الأعمال السابقة» فإنّه منقوض بحكمه ببطلانها في تبدل الرّأي في نفس الأحكام.

٤٧٤

وأدلّة (١) نفي العسر لا ينفي إلّا خصوص ما لزم منه العسر فعلا (٢) ، مع (٣) عدم اختصاص ذلك بالمتعلّقات ، ولزوم (٤) العسر في الأحكام كذلك أيضا (٥) لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثاني في الأعمال السابقة ، وباب الهرج والمرج (٦) ينسدّ بالحكومة وفصل الخصومة.

وبالجملة (٧) : لا يكون التفاوت بين الأحكام ومتعلقاتها ،

______________________________________________________

(١) هذا تقريب للوجه الأوّل من الإشكال على صاحب الفصول ، وحاصله ـ كما تقدم ـ أنّ أدلّة نفي العسر والحرج تنفي العسر والحرج الفعليّين ، فكلّ مورد لزم فيه عسر ارتفع التكليف به ، وكل مورد لم يلزم فيه عسر فلا وجه لارتفاع التكليف الأوّلي فيه ، وهذا معنى أخصيّة الدليل من المدعى أي نفي الإعادة مطلقا.

(٢) أي : العسر الشخصي ، ولا عبرة بالعسر النوعيّ.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الإشكال ، وهو النقض بما التزم به من بطلان الأعمال السابقة في تبدل الاجتهاد في الحكم.

(٤) معطوف على «عدم» ومبيّن له ، أي : مع لزوم العسر في الأحكام.

(٥) أي : كالمتعلقات ، وقوله : «كذلك» أي ، : المخلّ بالنظام ، والأولى تقديمه على «في الأحكام».

(٦) قد عرفت أنّ صاحب الفصول لم يذكرهما. وعلى فرض الاستدلال بلزومهما يجاب عنه بعدم لزومهما ، لانسداد بابهما بالحكومة ، فإنّ حكم القاضي نافذ على المتخاصمين وقاطع للجدال والخصومة ، فلا يلزم من ترتيب آثار البطلان على الأعمال السابقة العسر الموجب للمخاصمة بين الأنام. مثلا إذا قلّد الورثة في مقدار الحياة ، وأفتى المجتهد بأنها ثلاثة أشياء ، ثم عدل عن رأيه إلى أنها أربعة أشياء ، فللولد الأكبر مطالبة سائر الورثة بالشيء الرابع ، ولو نازعوه رفع أمرهم إلى الحاكم الشرعي ليحكم بينهم بما يراه.

(٧) هذا حاصل ما أورده المصنف على الوجه الأوّل من كلام الفصول ، وكان المناسب التعرض له قبل بيان الدليل الثاني أعني نفي العسر والحرج.

٤٧٥

بتحمل (١) الاجتهادين وعدم التحمّل بيّنا (٢) ولا مبيّنا بما يرجع إلى محصّل في كلامه ، زيد في علوّ مقامه ، فراجع وتأمل (*).

______________________________________________________

وكيف كان فحاصل هذه الجملة هو : أنّ كلام الفصول ـ من عدم تحمّل المتعلّق لاجتهادين وتحمّل الحكم لهما ـ مجمل في نفسه ، إذ المفروض أنّ صاحب الفصول كغيره من الأصحاب يقول بحجية الأمارات على الطريقية دون السببية ، ومن المعلوم عدم الفرق في تبدل الرّأي بين تعلقه بالحكم وبمتعلقه.

(١) هذا و «عدم التحمل» متعلقان بـ «التفاوت» وبيان له.

(٢) خبر «لا يكون» و «بما» متعلّق بـ «مبيّنا» والفرق بين البيّن والمبيّن هو : أنّ كلام صاحب الفصول ليس بنفسه واضح المراد ، ولم يوضحه أيضا أحد من معاصريه أو غيرهم من الأعلام حتى يرتفع الإجمال عنه. وعليه فكلمة «بيّن» بصيغة الصفة المشبّهة ، و «مبيّنا» بصيغة اسم المفعول.

__________________

(*) ما أفاده (قده) من الإشكال على الوجهين المتقدمين في عبارة الفصول متين ، إلّا أن الكلام في صحة النسبة وتمامية ما استظهره المصنف منها من التفصيل بين الحكم ومتعلقه ، وقد نفي سيدنا الفقيه صاحب الوسيلة (قده) هذا الاستظهار ، واستفاد هو من عبارة الفصول التفصيل بين العقود والإيقاعات والعبادات مما يتوقف وقوعه صحيحا على الاستناد بحجة فتجزي ، وبين غيرها من الأحكام التي لا يتوقف وقوعه صحيحا على الاستناد بحجة فلا تجزي (١).

وينبغي البحث في مقامين ، أحدهما : فيما يمكن أن يستظهر من كلام صاحب الفصول.

وثانيهما : في تحقيق أدلته على مدعاه.

أمّا المقام الأوّل ، فمحصّله : أنّه لا يخلو كلام الاستظهارين المتقدمين من تأمل ، أمّا التفصيل بين الأحكام ومتعلّقاتها ، فلأنّه يردّه عموم عنوان كلامه وهو قوله : «فان كانت الواقعة مما يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى ، فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق» وقوله : «ولو كانت الواقعة مما لا يتعيّن أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغير الحكم بتغير الاجتهاد» وليس هذا موهما للتفصيل بين الحكم والمتعلق كما قيل.

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ٣٧٢ إلى ٣٧٤

٤٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مضافا إلى تصريحه قبل سطرين من هذا الكلام في بيان موارد العدول عن رأي إلى آخر بعدم الفرق بين الحكم ومتعلقه بقوله : «ولا فرق في ذلك بين الحكم وغيره».

وأمّا التفصيل بين العبادات والعقود والإيقاعات وبين الأحكام كما استظهره سيّدنا الفقيه الأصفهاني فهو وإن كان مقتضى الأمثلة التي ذكرها صاحب الفصول لكل من القسمين ، إلّا أنّ عموم العنوان لا يلائمه.

وتحقيق مراد صاحب الفصول من التفصيل منوط بالنظر في تقسيم الوقائع إلى ما يتعيّن أخذه بمقتضى الفتوى وما لا يتعيّن أخذه بمقتضاها ، وقد فسّر بوجهين :

الأوّل : ما أفاده سيدنا الفقيه صاحب الوسيلة من : أنّ الأعمال الصادرة من المكلفين على قسمين ، قسم يتوقّف صحته على الاستناد إلى حجّة من اجتهاد أو تقليد أو احتياط ، وذلك كالعبادات والعقود والإيقاعات. وقسم لا يتوقف وقوعه على الاستناد إلى حجة ، بل هو بحيث لو وقع يصير موضوعا لحكم شرعي يترتب عليه كقطع حلقوم حيوان قابل للتذكية ، فإنّ هذا القطع يتحقق كيف ما كان ، لكنه يكون موضوعات للحكم بالتذكية عند من تكون التذكية بنظره قطع الحلقوم ، ولا يكون موضوعا لها عند من يعتبر فيها قطع الأوداج الأربعة (١).

الثاني : ما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) ببيان أبسط ، وهو : «أن المراد مما وقع في العنوان من تعين الوقوع شرعا بأخذه بمقتضى الفتوى وعدم تعينه بأخذه بها : أنّ الواقعة التي لا بقاء لها لا تقع صحيحة إلّا بمقتضى الفتوى ، فهذا الوجود الوجداني لا يقع شرعا إلّا صحيحا على الفرض ، فلا ينقلب. بخلاف ما له بقاء ، فانه لا يتعيّن ، لإمكان الانقلاب فيه بتجدد الرّأي. وليس المراد أن وقوعه شرعا لا يكون منوطا بالفتوى ليحمل على إرادة الموضوعات الواقعية ، بل عدم تعيّن وقوعها وتمحضها في الصحة ، بل لها تعيّن آخر بتجدد الرّأي ، وإلّا فلو فرض عدم تبدل الرّأي فيها وقعت صحيحة نافذة» (٢)

أقول : الظاهر أن البيان الثاني أقرب إلى مقصود صاحب الفصول من البيان الأوّل ، فإنّ ظاهر عنوان الفصول وإن كان موافقا للاستظهار الأوّل ، إلّا أن قوله بعده : «كما لو بنى على حلية حيوان فذكّاه ثم رجع بنى على تحريم المذكى منه» يدل على لزوم الاستناد في كلا القسمين إلى حجة ثم يرجع عنها.

وعليه فيكون الفارق بين القسمين في بقاء مصب الرّأي ومتعلق الحكم تارة وانتفائه أخرى.

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ٣٧٣

(٢) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٢٠٥

٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

والفرق بينهما كما أفاده المحقق الأصفهاني هو : أنّ الأوّل ما لا يقتضي بانقضاء الزمان ، بل له بقاء وإن تغير حكمه ، كالحيوان الّذي بنى على حلّيته فذكاه ، فإنّه باق ، والمفروض أن حكم هذا الموضوع الباقي هي الحرمة. وأمّا التذكية فهي مبنيّة على حليته ، وهو على الفرض فعلا محرّم. وكعرق الجنب من الحرام وملاقيه ، فإنّهما موضوعان مرّ عليهما الزمان مرّتين ، وحكمهما فعلا النجاسة ، فكيف يعامل معهما معاملة الطاهر؟ وكالمرأة المرتضعة بعشر رضعات ، فإنّها باقية وحكمها فعلا الحرمة.

والثاني : ما ينقضي بانقضاء الزمان ، وليس للزمان عليه مروران كالصلاة بلا سورة ، أو الواقعة في شعر الأرانب والثعالب ، أو الواقعة فيما بنى على طهارته. وكذا العقد الفارسي والإيقاع كذلك مثلا ، فحيث لا بقاء لها بل لها ثبوت واحد ، وهي على الفرض وقعت صحيحة فلا دليل على انقلابها فاسدة بعد فرض وقوعها صحيحة. وهذا معنى أن الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين.

والفرق بين العقد الفارسي والعقد على المرتضعة بعشر رضعات هو : أنّ محطّ الفتوى هو العقد في الأوّل ، وقد مضى صحيحا فلا ينقلب فاسدا ، ومحطّ الفتوى في الثاني هي المرأة المرتضعة ـ إذ النقص فيها لا في العقد ـ ومصبّ الرّأي باق فعلا ، والمفروض تغير حكمها ، فلا انقلاب ، بل انتهاء أمد حكمها الأوّل ، فهي بالإضافة إلى الرّأي الثاني موضوع آخر.

وهذا البيان المستفاد من عبارة صاحب الفصول يشهد بعدم كون مقصوده من الاستدلال على مدعاه «بعدم تحمل الواقعة الواحدة لاجتهادين» التفصيل بين الأحكام والمتعلقات حتى يرد عليه ما في المتن من عدم الفرق في هذه الجهة بين الأحكام ومتعلّقاتها على الطريقية. فإنّ الإيراد وإن كان صحيحا في نفسه ، إذ لا تفاوت بين الاجتهاد في الحكم والموضوع على الطريقية ، إلّا أنّ صاحب الفصول لم يقصد به هذا التفصيل ، وإنّما يقصد به التفرقة بين نفس الوقائع من حيث بقاء المتعلق في عمود الزمان وعدمه. هذا مجمل الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني : فنقول فيه : إنّ أدلة صاحب الفصول على هذا التفصيل لا تخلو من نظر.

أمّا الأوّل ـ وهو عدم تحمل الواقعة الواحدة لاجتهادين ـ فهو مجمل جدّاً ، فإنّه بناء على الطريقية في الأمارات ـ كما هو مختاره أيضا ـ ينكشف فساد الأعمال التي رتّبها على الاجتهاد الأوّل ، غايته كونه معذورا في مخالفة الواقع. نعم بناء على موضوعية قيام الأمارة لحدوث مصلحة في قبال الواقع

٤٧٨

وأمّا بناء (١) على اعتبارها (٢) من باب السببية والموضوعية فلا محيص عن

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «بناء على ما هو التحقيق» والأولى حذف «أما».

(٢) أي : اعتبار الأمارات ، وهذا إشارة إلى الصورة الثالثة من صور مسألة اضمحلال

__________________

يتجه ترتيب آثار الصحة على الأعمال السابقة المطابقة للرأي المعدول عنه.

وأمّا قياس تبدل الاجتهاد بباب النسخ فليس بشيء ، لكونه مع الفارق ، إذ في النسخ يرتفع الحكم الواقعي المنسوخ من حين ورود الناسخ ، ولا يمسّ كرامة حال قبل وروده ، فامتثال الحكم المنسوخ قبل زمان الناسخ إطاعة لما هو حكمه واقعا لا ظاهرا ، ومن حين ورود ، الناسخ تتبدل الوظيفة الواقعية بغيرها. ولا يجري هذا الكلام في تبدل الاجتهاد ، فلو أفتى باعتبار خمس عشرة رضعة في نشر التحريم ، وتزوج امرأة ارتضعت معه عشر رضعات ، ثم رجع إلى نشر الحرمة بعشر رضعات ، لزم ترتيب آثار البطلان من حين وقوع العقد لا من حين العدول.

وكذا الحال في العقد بالفارسي ، فإنّ العقد وإن لم يكن له بقاء ، إلّا أنّ نفس العدول عنه إلى اعتبار العربية يوجب الحكم ببطلان ما بنى عليه ، إلّا مع قيام الدليل على الإجزاء ، ولذا لم يظهر الفارق بين العقد الفارسي وبين العقد على المرتضعة بعشر رضعات في الحكم بإجزاء الأوّل دون الثاني ، فان العقد وإن تصرّم ، إلّا أنّ المعقود عليه بذلك العقد الفاسد باق حسب الفرض ، فهو كالمرتضعة بعشر رضعات في الحكم.

وأمّا الثاني وهو لزوم العسر والحرج فقد تقدم جوابه في المتن بأنّه أخص من المدعى.

وأمّا الثالث وهو وثوق المقلّد في مقام العمل بفتوى المجتهد ففيه : أنّه وجه استحساني كما صرّح به بعده ، لوضوح لزوم تبعية المقلد لفتوى المجتهد ، واحتمال عدوله عنها لا يكفي في ترك العمل بها ، لمخالفته لأصالة عدم العدول.

وأمّا الرابع ـ وهو استصحاب آثار الواقعة ـ ففيه ما لا يخفى ، إذ لا مجال له مع الدليل الحاكم مخالفا كان أم موافقا ، والمفروض اقتضاء طريقية الأمارات لعدم الإجزاء ، عند انكشاف الخلاف ، فإنّ المأتي به سابقا لم يكن هو الواقع بل تخيل الواقع ، ولا عبرة به.

هذا ، وفي كلامه مناقشات أخرى تعرض لها سيّدنا الفقيه الأصفهاني (قده) فراجع تقرير بحثه الشريف.

٤٧٩

القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل ، عبادة كان أو معاملة ، وكون (١) مؤدّاه ـ ما لم يضمحل ـ حكما حقيقة (٢).

وكذلك (٣) الحال إذا كان بحسب الاجتهاد الأوّل مجرى الاستصحاب أو البراءة النقليّة ، وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف ، فإنّه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال ، وقد مرّ في بحث الإجزاء تحقيق

______________________________________________________

الرّأي ، وحاصله : أنّ الاجتهاد الأوّل إن كان مستندا إلى الأمارات غير العلمية ـ وبنينا على اعتبارها من باب السببية ـ فلا بد من الالتزام بصحة الأعمال السابقة الواقعة على طبق الاجتهاد السابق ، سواء أكانت عبادة أم معاملة ، إذ بناء على الموضوعية يكون مؤدّى الأمارة حكما حقيقة ، ويصير تبدل الرّأي من صغريات تبدل الموضوع كصيرورة المسافر حاضرا ، إذ المفروض حدوث مصلحة في نفس قيام الأمارة توجب العمل بها ، فلا تكليف بالواقع حتى يبحث عن لزوم تداركه واستيفاء مصلحته عند قيام أمارة أخرى وعدم لزومه ، لكون تبدل الرّأي من قبيل تبدل الموضوع ، لا من قبيل انكشاف الخلاف ، إذ المفروض عدم اعتبار الأمارة لأجل طريقيتها للواقع ، بل للمصلحة في العمل بها.

فإنّ مصلحة الصلاة واقعا ليست مطلوبة ، وإنّما المطلوب هو ما قامت عليه الأمارة. وكذا في العقد بالفارسية ، فإنّ مصلحة العقد الفارسي كانت إلى زمان قيام أمارة أخرى على اعتبار العربية فيه ، فيجب العقد بالعربية للآثار المستقبلة ، لا بالنسبة إلى ما مضى.

(١) معطوف على «صحة» أي : لا محيص عن القول بكون مؤدّى الاجتهاد الأوّل حكما حقيقة ، وإذا اضمحل كان الحكم الحقيقي هو الثاني.

(٢) سيأتي في آخر هذا الفصل منافاة الحكم بصحة العمل مطلقا لما تقدم في بحث الإجزاء ، فانتظر.

(٣) معطوف على «لا محيص عن القول بصحة العمل» يعني : كالقول باعتبار الأمارات من باب السببية في صحة الأعمال السابقة ، يكون الحال إذا كان ... وهو إشارة إلى الصورة الرابعة ، وهي ما إذا كان الاجتهاد الأوّل مستندا إلى أصل عملي تعبدي ، لا إلى دليل

٤٨٠