منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

لحسنها (١). ولو سلِّم (٢) أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف فلا شبهة في حصول الوثوق بأنّ الخبر الموافق (٣) المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة ، ولا بأس (٤) بالتعدِّي منه إلى مثله (٥) كما مرّ آنفا (٦).

ومنه (٧) انقدح حال ما إذا كان التعليل لأجل انفتاح باب التقية

______________________________________________________

الصدور والدلالة والجهة في كل منهما ، وانحصار المانع عن حجيّتهما الفعلية في التعارض. وأمّا إذا كانت موافقة العامة موجبة لخلل في الصدور أو الجهة صارت مخالفتهم مميِّزة للحجة عن غيرها.

(١) أي : لحسن المخالفة بمعناها الاسمي ، وهذا إشارة إلى الاحتمال الأول.

(٢) يعني : ولو سُلِّم أنّ «الرُّشد في خلافهم» يكون لغلبة الحق ، ووجه التسليم هو ظهور الأمر بأخذ ما وافق الكتاب وما خالف العامة في الطريقية لا النفسيّة. وهذا إشارة إلى الاحتمال الثاني.

(٣) يعني : الموافق للعامة ، و «المعارض» صفة «الموافق».

(٤) غرضه : أنّ التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة بناء على كون مخالفة العامة لأجل غلبة الحق في طرف الخبر المخالف وإن كان صحيحا ، لكنه لا يفيدنا ، لأنّ مقتضاه التعدي إلى مزية توجب أرجحية الصدور ، لا الأقربية إلى الواقع كما هو المقصود ، وقد اتّضح هذا بقولنا : «فلا مانع من التعدي إلى مثل المخالفة من كل مزية ... إلخ».

(٥) هذا الضمير وضمير «منه» راجعان إلى «المخالفة» المؤوّلة إلى الخلاف ، والمراد بالمثل كموافقة أحد الخبرين للاحتياط دون الآخر ، كما إذا دلّ أحدهما على اعتبار تثليث التسبيحات الأربع في الأخيرتين من الرباعية ، والآخر على كفاية الواحدة ، فيقدم الأوّل ـ بعد تكافئهما من جميع الجهات ـ لمجرد موافقته للاحتياط.

(٦) في ردِّ الاستدلال بالتعليل بـ «أن المشهور مما لا ريب فيه» حيث قال : «ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور».

(٧) أي : وممّا ذكرناه في الاحتمال الثاني وهو غلبة الحق في طرف المخالف ... إلخ ، وهذا إشارة إلى الوجه الثالث الّذي أوضحناه بقولنا : «ثالثها : انه بناء على كون التعليل بأن

٢٢١

فيه (١) ، ضرورة (٢) كمال الوثوق بصدوره كذلك (٣) مع الوثوق بصدورهما (٤) لو لا القطع به (٥) في الصدر الأوّل ، لقلة (٦) الوسائط ومعرفتها (*) ، هذا.

______________________________________________________

الرشد في خلافهم ناظرا ...».

(١) أي : في الخبر الموافق.

(٢) تعليل لقوله : «انقدح» وغرضه «قده» أنّ الاحتمال الثالث ـ وهو كون التعليل لأجل انفتاح باب التقية ـ متّحد مع الاحتمال الثاني في اختلال الخبر الموافق لهم من جهة الصدور ، وعدم شمول دليل اعتبار الخبر الواحد له ، وكون مخالفة العامة ـ بناء على هذا الاحتمال ـ من مميِّزات الحجة عن اللاحجة كمخالفتهم بناء على الاحتمال الثاني ، وهو كون مخالفتهم لغلبة الحق في الخبر المخالف لهم المطابق للواقع غالبا ، لا من مرجِّحات إحدى الحجتين على الأخرى ـ كما هو المقصود وظاهر الرواية من حجية كل من الخبرين لو لا المعارضة ـ حتى يستدل بها على التعدِّي عنها إلى غيرها مما يوجب الأقربيّة إلى الواقع.

(٣) أي : تقية ، وضمير «بصدوره» راجع إلى «الخبر الموافق».

(٤) أي : بصدور الخبر المخالف والموافق. وهذا توطئة لبيان كون مخالفة العامة لأجل التقية مميِّزة للحجة عن اللاحجة ، لا مرجِّحة لإحدى الحجتين على الأخرى. توضيحه : أن صدور الروايتين لمّا كان في الصدر الأوّل موثوقا به ـ بل مقطوعا به ـ لقلّة الوسائط ، ومعرفتها أوجب ذلك الوثوق بخلل في جهة صدور الموافق ، وأنه صدر تقية ، فلا يشمله دليل الاعتبار ، فتكون مخالفة العامة حينئذ خارجة عن مرجحات الخبرين ، وداخلة في مميِّزات الحجة عن اللاحجة كما بيّنة في الفصل السابق بالنسبة إليه وإلى موافقة الكتاب.

(٥) أي : بصدورهما ، وقوله : «لو لا القطع» قيد لـ «الوثوق».

(٦) متعلق بـ «القطع» وتعليل له ، وضمير «معرفتها» راجع إلى الوسائط.

فتلخص : أنّ شيئا من الاحتمالات الثلاثة في تعليل الإمام عليه‌السلام بـ : «أن الرشد في خلافهم» لا يجدي في استدلال الشيخ وغيره ممّن يذهب إلى التعدِّي من المرجحات

__________________

(*) قد يمنع التمسك بالتعليل المزبور للتعدي إلى المرجحات غير المنصوصة بما أفاده

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المنصوصة إلى غيرها ، لما في الاحتمال الأوّل من أجنبيّة حسن المخالفة في نفسها عن التعدي إلى كلِّ ما يوجب الأقربية إلى الواقع.

وفي الاحتمال الثاني من أن مقتضى كون الرشد غالبا في مخالفتهم والغيِّ في موافقتهم هو الوثوق بوجود خلل إمّا في صدور الخبر الموافق ، وإمّا في جهته ، ولا مانع من التعدِّي إلى كل ما يوجب ذلك ، لا إلى مزيّة توجب أقربية ذيها إلى الواقع.

وفي الاحتمال الثالث من أنّ الوثوق بصدور الخبرين يقتضي الاطمئنان بصدور الموافق تقية لا لبيان الحكم الواقعي ، والتعدّي لا بدّ أن يكون إلى كل مزية توجب الوثوق بصدور الموافق تقية ، لا إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع من الخبر المقابل له ، هذا.

__________________

المحقق النائيني «قده» من «عدم انطباق ضابط منصوص العلة على قوله عليه‌السلام : فان الرشد في خلافهم ، ولا يصلح أن يكون كبرى كلية ، لأنّ ضابط منصوص العلة هو أن تكون العلة على وجه يصح إلقاؤها على المكلفين ابتداء بلا ضمِّ المورد إليها ، كما في قوله : الخمر حرام لأنه مسكر ، فإنّه يصح أن يقال : كل مسكر حرام بلا ذكر الخمر. وكما في قوله عليه‌السلام : فانّ المجمع عليه مما لا ريب فيه ، فانه يصح أن يقال : خذ بكل ما لا ريب فيه. وهذا بخلاف قوله عليه‌السلام : فإنّ الرشد في خلافهم ، فإنّه لا يصح أن يقال : خذ بكل ما خالف العامة ، لما عرفت من أنّ كثيرا من الأحكام الحقّة توافق العامة ، فلا يمكن أن يرد قوله عليه‌السلام : فان الرشد في خلافهم دستورا كليا للمكلّفين بحيث يكون بمنزلة كبرى كلية ، بل لا بد وأن يكون التعليل بذلك لبيان حكمة التشريع ، وليس من العلة المنصوصة ، فلا يجوز التعدي منها إلى كل مزية مقرِّبة لأحد المضمونين إلى الواقع» (١).

لكن يمكن أن يقال : إنّ ما عبّر به في المقبولة بعد السؤال عن كون أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم هو قوله عليه‌السلام : «ما خالف العامة ففيه الرشاد» وهذه الجملة تنحل إلى صغرى وكبرى ، فالصغرى كون الرشاد في مخالفة العامة ، والكبرى لزوم متابعة الرشاد والحق. وأمّا جملة «فان الرشد في خلافهم» فهي مذكورة في ديباجة الكافي.

وكيف كان ، فإنّ منصوص العلة وإن كان يعتبر فيه كلِّيته حتى يحسن التعليل به ، لكن المدّعى

__________________

(١) فوائد الأصول ، ٤ ـ ٢٨٩.

٢٢٣

مع (١) ما في عدم بيان الإمام عليه‌السلام للكلِّية

______________________________________________________

(١) لا يخفى أنّ المصنف «قده» بعد الفراغ عن أجوبة الوجوه الثلاثة المذكورة ـ التي استدلّ بها على التعدّي عن المرجِّحات المنصوصة ـ أورد إشكالات ثلاثة عامّة على التعدّي ، وجعل كل واحد منها في الحاشية (١) قرينة على الاقتصار على المرجِّحات المنصوصة.

أوّلها : ظهور عدم تعرُّض الإمام عليه‌السلام لضابط كلّي للتعدّي ـ كأن يقول : «خذ بكل مزيّة توجب الأقربيّة إلى الواقع» مع تكرُّر السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين ، وعدم تعرُّضه عليه‌السلام إلّا للمزايا الخاصة ، مع وضوح كثرة الابتلاء بالأخبار المتعارضة ـ في انحصار الترجيح بالمرجحات المنصوصة ، وعدم جواز التعدّي إلى غيرها من المزايا. ولو كان المناط الترجيح بكل مزيّة كان المناسب بيان هذه الكبرى الكلّيّة من أوّل الأمر حتى لا يحتاج السائل إلى تكرير السؤال ، مع أنّه عليه‌السلام قدّم أحد الخبرين بصفات الرّاوي ، وبعد تكافئهما قدّمه بالشهرة ، وبعد قول السائل : «إنهما مشهوران» قدّم ما وافق الكتاب

__________________

انطباقه على المقام ، لما عرفت من دلالة «فيه الرشاد» على كلية الكبرى وكونها ارتكازيا ، ولا يعتبر في إفادة التعليل إلّا ظهور العبارة عرفا فيه ، ولا يلزم تصدير الكلام بلام التعليل ونحوه من الأداة. ولعل تعبير الكليني «قده» استظهاره من المقبولة ، لا لظفره على رواية بهذا اللفظ.

وأما ما أفاده المحقق النائيني «قده» في منع كلية الكبرى من الاشتراك في كثير من الأحكام فهو غير قادح في كليتها ، لأنّ مفروض الكلام جعل مخالفة العامة مرجِّحة لا مميِّزة للحجة عن غيرها ، ولا ريب في أن الرشد في خلافهم في خصوص باب التعارض ، وإلّا فلا يفرض الموافق والمخالف لهم.

وعليه فغرض الشيخ «قده» هو أنّه في صورة موافقة أحد الخبرين للعامة يكون الخبر المخالف لهم أقرب إلى الواقع ، لا أن المخالف لهم يكون قطعي الصدور ، فمعنى كون الرشد في خلافهم أن الرشد الّذي يكون في الخبر المخالف مفقود في الخبر الموافق ، لاحتمال صدوره تقية ، وهذا الاحتمال مفقود في الخبر المخالف ، فيكون أقرب منه إلى الواقع. وعلى هذا تستقيم دعوى كلية العلة وجواز التعدي. والإشكال المتجه على كلام الشيخ هو ما أفاده الماتن.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٧٣.

٢٢٤

كي (١) لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرارا ، وما (٢) في أمره عليه‌السلام (٣) بالإرجاء بعد فرض التساوي فيما ذكره من المزايا المنصوصة من (٤) الظهور في أنّ المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة كما لا يخفى.

______________________________________________________

وخالف العامة ، وبعد استوائهما فيهما قدّم ما يخالف ميل حكامهم إليه ، وبعد استواء الخبرين في هذه الحيثية حكم عليه‌السلام بالتوقف. ومن المعلوم أن هذا الترتيب بين المزايا ثم الأمر بالتوقف ظاهر جدّاً في دخل مرجحات خاصة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر.

هذا بيان الإشكال الأوّل ، وسيأتي الإشكالان الآخران.

(١) تعليل للمنفي ، إذ لو بيّن عليه‌السلام ضابطا كلِّيّا في الجواب لكان السائل غنيّا عن إعادة السؤال مرارا عن وجود المرجِّحات وتساويها في الخبرين ، ولم يبيِّنه ، مع كونه «عليه‌السلام» في مقام البيان ، فالإطلاق المقامي يدلّ على انحصار الترجيح بالمرجحات المنصوصة.

(٢) معطوف على «ما» في قوله : «مع ما في» وإشارة إلى الإشكال الثاني ، وتوضيحه : أنّ الأمر بالتوقُّف وإرجاء الواقعة إلى لقاء الإمام عليه‌السلام ـ مع تساوي الخبرين في المرجحات المذكورة في المقبولة ، وعدم الأمر بالرجوع إلى غير تلك المرجحات من كلِّ مزية توجب أقربيّة ذيها إلى الواقع ـ يدلّ على انحصار المرجح بالمزايا المنصوصة ، إذ لو كان هناك مرجِّح آخر لم يأمر عليه‌السلام بالتوقف وتأخير الواقعة. وعليه فلا وجه للتعدّي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها.

وزاد في حاشية الرسائل عدلا للأمر بالتوقف وهو الإرجاع إلى التخيير بعد مساواة الخبرين في المرجحات المنصوصة كما ورد في مرفوعة زرارة «إذن فتخير أحدهما». والمقصود أن الأمر بالتوقف أو التخيير بعد تكافؤ المرجحات ـ دون تفويض الترجيح بكل مزية إلى المكلف ـ كاشف عن عدم اعتبار ما عدا المزايا المنصوصة.

(٣) في مقبولة ابن حنظلة المتقدمة سابقا التي فرض فيها التساوي في المزايا.

(٤) بيان لـ «ما» الموصول في «مع ما» وفي «وما» وهذا الظهور إطلاقي ناش من عدم

٢٢٥

ثم إنّه (١) بناء على التعدي حيث (٢) كان في المزايا المنصوصة

______________________________________________________

بيان مرجِّح آخر غير المرجحات المنصوصة في المقبولة مع كونه عليه‌السلام في مقام البيان ، واقتضاء المقام له من دون مانع ، والسكوت في مقام البيان بيان. وعليه فلا وجه لما نسب إلى المشهور واختاره الشيخ الأعظم «قده» من التعدي عن المزايا المنصوصة إلى غيرها.

(١) الضمير للشأن ، وهذا إشارة إلى الإشكال الثالث ، ومحصله : أن التعدي عن المرجِّحات المنصوصة يقتضي الترجيح بكل مزيّة وإن لم توجب الظن بالصدور أو الواقع ، وعدم الاقتصار على ما يوجب أحدهما كما عن الشيخ «قده» حيث إنّه لم يلتزم بهذا التعميم ، واقتصر على ما يورث أحدهما.

توضيح ذلك : أن المرجحات المنصوصة على أقسام أربعة :

الأوّل : ما يوجب الظن بالصدور كالأصدقية.

الثاني : ما يوجب الظن بالأقربية إلى الواقع كموافقة الكتاب ، وهو المسمّى بالمرجح المضموني.

الثالث : ما يوجب قرب ذيها إلى صدوره لبيان الحكم الواقعي كمخالفة العامة ، بناء على كون الترجيح بها لأجل صدور الموافق لهم تقية ، وهو المسمّى بالمرجِّح الجهتي.

الرابع : ما يكون الترجيح به تعبدا محضا من دون أن يوجب ظنا بالصدور أو المضمون أو الجهة.

ولا يخفى أنّ إلغاء خصوصيات هذه المرجحات للتعدّي إلى غيرها يقتضي التعدي عن كل مرجِّح منصوص إلى مماثله ، فيتعدى من الأصدقية إلى مثلها مما يوجب الظن بالصدور ، ومن موافقة الكتاب إلى مثلها ممّا يوجب الظن بالأقربية إلى الواقع ، ومن الأورعية إلى مثلها مما لا يوجب الظن بالصدور ولا بالواقع. مع أنّ القائلين بالتعدي لا يلتزمون بهذا التعميم ، بل يقتصرون فيه على ما يوجب الظن بالصدور أو الأقربية ، ولا وجه لهذا الاقتصار مع اقتضاء إلغاء خصوصية كل مرجح منصوص تعميم التعدي.

(٢) هذا تمهيد لبيان تعميم التعدي ولو إلى مزية لا توجب شيئا من الظن بالصدور والأقربية.

٢٢٦

ما لا يوجب الظن بذي المزية (١) ، ولا أقربيّته كبعض صفات الراوي مثل (٢) الأورعيّة أو الأفقهيّة إذا كان موجبهما (٣) مما لا يوجب الظن (٤) أو الأقربية (*)

______________________________________________________

(١) أي : الظن بصدور ذي المزية ، وضمير «أقربيته» راجع إلى «ذي المزية» والمراد بها أقربيّة مضمونه إلى الواقع.

(٢) التعبير بالمثل لدرج الأعدلية في المرجحات التي لا توجب الظن بذي المزية ولا أقربيته ، وقوله : «لبعض» مثال للمنفي وهو «ما لا يوجب الظن».

(٣) بصيغة اسم الفاعل ، والمراد بموجِب الأورعية هو الوقوف عند الشبهات وعدم الاقتحام فيها ، وبذل الجهد وتحمُّل المشقة في العبادات. والمراد بموجب الأفقهية كثرة التتبع في المسائل الفقهية ، أو المهارة في القواعد الأُصولية. وشيءٌ من الأورعية والأفقهية ـ بهذا التقريب ـ لا يوجب الظن بالصدور ولا الأقربية إلى الواقع ، فالترجيح بهما يكون تعبدا محضا.

وبالجملة : فهذان المرجحان ـ بناء على التقريب المذكور ـ لا يوجبان الظن بالصدور والأقربية ، فلا بد من التعدي عنها إلى ما يماثلهما من المزايا التي لا توجب الظن بشيءٍ منهما.

(٤) أي : الظن بالصدور ، و «الأقربية» معطوف على «الصدور» المحذوف ، وقوله : «كالتورع ، كثرة التتبع» : بيان لـ «موجبِهما» وقوله : «مما» خبر «إذا كان».

__________________

(*) كيف يمكن منع مرجحيتهما من حيث الظن والكشف؟ مع أن إيجابهما للظن دائمي أو غالبي ، ضرورة أن الأورعية توجب شدّة الاهتمام في تشخيص الواقع ونقله بمثابة يكون الاطمئنان الحاصل منه أشدّ بمراتب من الاطمئنان الحاصل من اهتمام الورع. وكذا الأفقهية الموجبة لأكثرية الممارسة في مبادئ الاستنباط ـ من الروايات والقواعد والأقوال والتدبر التام فيها ـ من ممارسة غير الأفقه بحيث يحصل من تلك الأكثرية شدة الاطمئنان بصحة الاستنباط ، ولا تحصل من غيرها ، وحصول هذا الاطمئنان من الأورعية والأفقهية مما لا سبيل إلى إنكاره ، فكيف يصح ـ مع ترتب هذا الاطمئنان أو الظن عليهما ـ حمل الترجيح بهما على التعبد؟ والإغماض عن كونهما موجبين للاطمئنان أو الظن.

٢٢٧

كالتورُّع من الشبهات ، والجهد في العبادات (١) وكثرة التتبع في المسائل الفقهية ، أو المهارة في القواعد الأصولية (٢) ، فلا وجه (٣) للاقتصار على التعدّي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الأقربية (٤) ، بل إلى كل مزيّة ولو لم تكن موجبة لأحدهما (٥) كما لا يخفى (*).

وتوهم (٦) «أنّ ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون

______________________________________________________

(١) هذا بالنسبة إلى الأورعية.

(٢) هذا بالنسبة إلى الأفقهية.

(٣) جواب «حيث كان» وجملة الشرط والجزاء خبر «انه».

(٤) يعني : كما ذهب إليه القائل بالتعدي واقتصر عليه.

(٥) أي : لأحد الظن أو الأقربية ، يعني : لا بد من التعدي إلى كل مزية وإن لم تكن موجبة لأحدهما.

(٦) هذا إشارة إلى توهم يورد على التعدي إلى ما يوجب الظن بالصدور ، ومحصله : أنه ـ بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة ـ يتعدى إلى ما يوجب الظن الشأني بالصدور دون الفعلي ، قال شيخنا الأعظم : «وأنت خبير بأن جميع المرجحات المذكورة مفيدة للظن الشأني بالمعنى الّذي ذكرناه ، وهو : أنّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه ، وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين

__________________

(*) يمكن أن يدفع هذا الإشكال بأنّ التعدي إن كان مستندا إلى إلقاء خصوصية المزايا المنصوصة وحملها على المثال كان الإشكال في محله ، لأنّ مقتضى ذلك هو التعدي إلى كل مزيّة وإن لم توجب الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع ، لكون بعض تلك المرجحات كذلك ، والتعدِّي عنه إلى مثله يقتضي الذهاب إلى الترجيح بما لا يوجب الظن بالصدور أو الأقربية.

وإن كان مستندا إلى التعليلات فلا يرد على هذا الإشكال ، بداهة أنّها تقتضي الترجيح بكل مزية فيها حيثية الكشف والطريقية ، دون غيرها مما لا يكون كذلك. وعليه فالمتّجه التعدّي إلى خصوص المزايا الموجبة للظن بالصدور أو الأقربية ، لا إلى كل مزيّة وإن لم توجب ذلك.

٢٢٨

بمرجح (١) بل موجب السقوط الآخر عن الحجية ، للظن (٢) بكذبه حينئذ (٣)» فاسد (٤)

______________________________________________________

فليس في المرجِّحات المذكورة ما يوجب الظن بكذب أحد الخبرين. ولو فرض أن شيئا منها كان في نفسه موجبا للظن بكذب الخبر كان مسقطا للخبر عن درجة الحجية ومخرجا للمسألة عن التعارض ، فيعدّ ذلك الشيء موهنا لا مرجحا».

ومحصل مرامه «قده» : أنه بناء على التعدّي يتعدّى إلى ما يوجب الظن الشأني بالصدور دون الفعلي ، إذ لو كانت المزية موجبة للظن الفعلي به كان ذلك موجبا للظن الفعلي بكذب المعارض الفاقد لتلك المزية ، ومن المعلوم أن هذا الظن الفعلي بالكذب يوجب خروجه عن الحجية ، ولازم ذلك خروج الظن بالصدق عن كونه مرجِّحا لإحدى الحجتين على الأُخرى ، واندراجه فيما يُميِّز الحجة عن اللاحجة ، وهذا أجنبي عن مورد البحث.

ولا يلزم هذا الإشكال لو كان المناط في التعدي إلى الظن بالصدور هو الظن الشأني ، بمعنى : أنه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه ، وحينئذ لا يخرج الظن بالصدور من باب الترجيح ، ولا يندرج في ما يتميز به الحجة عن اللاحجة.

وقد أجاب المصنف عن هذا التوهم بوجهين سيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

(١) لأنّ الترجيح عبارة عن تقديم أحد المقتضيين على الآخر ، فوجود مقتضي الحجية في كلا الخبرين ضروري ، والمرجِّح يوجب فعليّة الحجية في واجده ، والمفروض أن الظن بصدق ذي المرجِّح ينفي مقتضي الحجية في الآخر ، وهو أجنبي عن تعارض الخبرين اللذين فيهما مقتضي الحجية.

(٢) تعليل لسقوط الآخر عن الحجية ، وهذا السقوط هو دعوى المتوهم ، لأنّ الظن الفعلي بالكذب ـ كما مرّ آنفا ـ ناف لمقتضي حجيته.

(٣) أي : حين الظن بكذب الخبر المعارض الفاقد للمزية.

(٤) خبر «وتوهم» ودفع له ، ومرجع هذا الدفع إلى وجهين ، أحدهما يرجع إلى منع الكبرى ، وهو كون الظن بالكذب قادحا في الحجية. والآخر إلى منع الصغرى ، وهو كون الظن بصدور ذي المزية ملازما للظن بكذب فاقد المزيّة.

٢٢٩

فإنّ الظن (١) بالكذب لا يضرّ بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعا ، وإنّما يضر فيما أخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه (٢) ،

______________________________________________________

أمّا الأوّل فتوضيحه منوط بالإشارة إلى أن الظن ـ المنوط به حجية خبر الواحد ـ هو النوعيّ أو الشخصي ، إذ محتملاته ثلاثة ، لأنّ حجية الخبر إمّا أن تكون من باب حصول الظن الشخصي منه ، وإما من باب الظن النوعيّ منه ، وعلى الثاني فإمّا أن يكون الظن النوعيّ مقيّدا بعدم قيام ظنّ على خلافه من شهرةٍ أو خبرٍ آخر ، وإمّا أن لا يكون مقيّدا بعدم الظن على الخلاف ، فالحجة هو الخبر المفيد للظن نوعا سواء كان على خلافه ظن أم لم يكن.

وهذا الأخير هو المنسوب إلى شيخنا الأعظم «قده» ومن المعلوم أنّه يختلف حكم الظن بصدور واجد المزيّة ـ من حيث كونه موجبا للترجيح أو لسقوط الخبر الفاقد للمزيّة عن الحجية ـ باختلاف هذه المباني.

وعليه نقول : إنّ الظن بكذب الخبر لا يقدح في حجيته إذا كان اعتباره من باب الظن النوعيّ كما عليه الشيخ ، وإنّما يقدح في حجيته إذا كان اعتباره من باب الظن الشخصي أو النوعيّ مقيّدا بعدم الظن الشخصي على خلافه ، والمفروض أنّ اعتبار الأخبار يكون من باب الظن النوعيّ غير المشروط بعدم الظن على خلافه.

وعلى هذا فالظن بكذب الخبر الفاقد للمزية لا يوجب سقوطه عن الحجية. فمبنى التوهم حجية الأخبار على أحد الاحتمالين ، وهما حجيتها من باب الظن الشخصي ، وحجيتها من باب الظن النوعيّ المقيّد بعدم قيام الظن على خلافه. ومبنى دفع التوهم هو حجية الأخبار من باب الظن النوعيّ المطلق ، فبطلان التوهم إنّما هو لمنافاته لمبنى الشيخ في حجية الأخبار. هذا توضيح الوجه الأول ، وأما الوجه الثاني فسيأتي.

(١) يعني : فإنّ الظن الشخصي بكذب الخبر الفاقد للمزيّة لا يضرّ بحجيّته ، لعدم كون المدار في حجية الخبر ـ بنظر الشيخ ـ على الظن الشخصي ، ولا على الظن النوعيّ المقيّد بعدم ظنّ على خلافه ، بل المدار على الظن النوعيّ المطلق. وهذا إشارة إلى منع الكبرى ، وقد أوضحناه بقولنا : «أمّا الأول فتوضيحه منوط بالإشارة ...».

(٢) هذا الضمير وضمير «اعتباره» راجعان إلى «الظن نوعا».

٢٣٠

ولم يؤخذ (١) في اعتبار الأخبار صدورا ولا ظهورا ولا جهة ذلك (٢) ، هذا.

مضافا (٣) إلى اختصاص حصول الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما (٤) صدورا ، وإلّا (٥) فلا يوجب (٦) الظنُّ بصدور أحدهما ،

______________________________________________________

(١) يعني : والحال أنه لم يؤخذ في اعتبار الأخبار ... إلخ.

(٢) أي : عدم الظن بالخلاف ، وقوله : «ذلك» نائب عن فاعل «يؤخذ».

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثاني وهو منع الصغرى ـ أعني بها : ملازمة الظن بصدور ذي المزية للظن بكذب فاقدها ـ وتقريبه : أن هذه الملازمة تختص بما إذا علم إجمالا بكذب أحد الخبرين ، ضرورة أن الظن بصدق أحدهما ـ مع هذا العلم الإجمالي ـ يوجب لا محالة وهنَ احتمال صدور الآخر ، كالظن بانطباق النجس المعلوم إجمالا على أحد الإناءين اللذين عُلم إجمالا بنجاسة أحدهما ، حيث إن هذا الظن يلازم مرجوحية احتمال انطباقه على الإناء الآخر. وأمّا إذا لم يعلم بكذب أحد الخبرين ، وكان كل منهما في نفسه واجدا لشرائط الحجية ـ كما هو المفروض في تعارض الخبرين ـ فالملازمة التي هي أساس الصغرى ممنوعة ، لإمكان صدورهما مع حمل أحدهما على التقية ، أو حمل كلّ منهما على خلاف ظاهره. وعليه فلا يحصل الظن بصدور أحدهما دون الآخر.

ولا يخفى أن المناسب تقديم هذا الجواب على الوجه الأوّل ، بأن يقال : «بالمنع أوّلا من حصول الظن بالكذب مطلقا إذا ظنّ بصدق ذي المزيّة ، لإمكان صدورهما معا وعدم إرادة ظهورهما. وثانيا : عدم مانعية الظن بالكذب عن حجية الخبر الفاقد للمزيّة بناء على حجية الأخبار من باب الظن النوعيّ».

(٤) هذا الضمير في الموضعين راجع إلى الخبرين.

(٥) يعني : وإذا لم يعلم بكذب أحد الخبرين ، وكان كل منهما مشمولا لدليل الاعتبار ـ كما هو المفروض في تعارض الخبرين ـ فالملازمة ممنوعة كما تقدم آنفا.

فالمتحصل : أنّه في الخبرين المتعارضين ـ المشمول كل منهما لدليل الحجية مع فرض عدم العلم الإجمالي بكذب أحدهما ـ لا يحصل الظن بصدور أحدهما دون الآخر.

(٦) يعني : فلا يوجب الظّنُّ بصدور أحدهما الظّن بكذب الآخر. وعليه فمفعول «يوجب» محذوف قد علم من العبارة.

٢٣١

لإمكان (١) صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما (٢) أو فيهما (٣) ، أو إرادته (٤) تقية كما لا يخفى (*).

نعم (٥) لو كان وجه التعدي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «فلا يوجب» وضمير «صدورهما» راجع إلى الخبرين.

(٢) أي : في أحد الخبرين ، كما إذا ورد في خبر «أكرم الأمراء» وفي آخر «لا تكرم الأمراء» وكان المراد من الثاني خلاف ظاهره ، بأنّ أريد أمراء السُّوء.

(٣) أي : في الخبرين معا ، كما في مثل «ثمن العذرة سحت» و «لا بأس ببيع العذرة» بناء على عدم إرادة الظهور الإطلاقي في كل من الخبرين.

والحاصل : أنّ عدم إرادة الظهور في أحدهما أو كليهما لا ينافي صدورهما.

(٤) معطوف على «عدم» يعني : أو مع إرادة الظهور تقيّة ، إذ في موارد التقية يكون الظاهر مرادا لكن لا بالإرادة الجدّية ، لعدم كون الداعي بيان الواقع.

(٥) هذا استدراك على قوله : «ثم إنّه بناء على التعدي ... إلخ» ومحصله : أن وجوب التعدي إلى كل مرجح وإن لم يوجب شيئا من الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع مبنيّ على كون الوجه في التعدّي هو الروايات المشتملة على المرجحات. وأمّا إذا كان الوجه فيه الإجماع المدّعى على لزوم تقديم أقوى الدليلين على الآخر ، بدعوى مصداقية ذي المزية للقاعدة المعروفة ـ وهي أقوى الدليلين ، وصغرويته لتلك الكبرى ـ فاللازم حينئذ الاقتصار على خصوص المزايا الموجبة القوّة أحد الدليلين من حيث الدليليّة والطريقية ، وعدم التعدّي إلى المزايا التي لا توجب ذلك وإن أوجبت قوّة ذي المزية مضمونا ، وذلك لأن الظاهر أو المتيقن من قاعدة «أقوى الدليلين» هو الأقوائية من حيث الدليليّة ، ومن المعلوم أن ما يوجب قوّة المضمون وقربه إلى الواقع لا يستلزم قوّته من حيث الدليليّة ، إذ

__________________

(*) لا يخفى أن منع حصول الظن بالصدور مساوق لإنكار المرجحات السندية الموجبة للظن بالصدور ، فالأولى في الجواب هو الوجه الأوّل أعني به عدم قادحية الظن بالكذب في الحجية بناء على اعتبار الأخبار من باب الظن النوعيّ غير المشروط بعدم قيام ظن على خلافه ، وإن كان في نفس هذا المبنى كلام لا يسعه المقام.

٢٣٢

لوجب الاقتصار على ما يوجب القوّة في دليليته وفي جهة إثباته وطريقيته (١) من دون التعدي إلى ما لا يوجب ذلك (٢) وإن كان موجبا لقوّة مضمون ذيه ثبوتا كالشهرة الفتوائية ، أو الأولوية الظنية ونحوهما (٣) ، فإنّ (٤) المنساق من قاعدة «أقوى الدليلين» أو المتيقّن منها إنّما هو الأقوى دلالة (٥) كما لا يخفى ، فافهم (٦).

______________________________________________________

القوّة من جهة الدليليّة ترجع إلى قرب الخبر من الصدور ، وأمّا قرب مضمونه إلى الواقع بسبب موافقة شهرة فتوائية أو أولويّة ظنية أو غيرهما له فلا يوجب قوّةَ الخبر من حيث الصدور ، بل غايته الوثوق بصدور مضمونه ، وأمّا صدور نفس هذا الخبر فلا يحصل الظن به أصلا كما لا يخفى.

(١) معطوف على «إثباته» وكلاهما بيان لـ «دليليّته» ، وقوله : «إثباته» من إضافة المصدر إلى فاعله.

(٢) أي : ما لا يوجب القوة في الدليليّة والإثبات ، واسم «وإن كان» ضمير راجع إلى ما لا يوجب القوة في الدليليّة ، وضمير «ذيه» راجع إلى الموصول في «ما يوجب القوة».

(٣) كالإجماع المنقول ، فإنّه كالشهرة والأولوية يوجب قوة مطابقة مضمون ذيها للواقع.

(٤) تعليل لقوله : «لوجب الاقتصار» وقد مرّ توضيحه آنفا بقولنا : «وذلك لأنّ الظاهر أو المتيقن من قاعدة أقوى الدليلين ... إلخ».

(٥) المراد بها الظهور لا الدليليّة الشاملة له وللسند والجهة ، لكن المراد من قوله قبل ثلاثة أسطر : «القوّة في دليليّته» هو الصدور ، بقرينة قوله : «وفي جهة إثباته». والعبارة لا تخلو من مسامحة كما نبّه عليه المحقق المشكيني «قده» أيضا. وعلى كل حال : مورد قاعدة «أقوى الدليلين» هو قوّة الظهور ، لا قوة الصدور ولا الأعمِّ منهما.

(٦) لعلّه إشارة إلى منع ظهوره في إرادة الأقوائية من حيث الدليليّة فقط ، وإمكان دعوى ظهوره في الأقوائية من جميع الجهات حتى جهة المضمون.

أو إشارة إلى : أنه يمكن أن يدّعى أن المتيقن من معقد الإجماع هو الترجيح بما يوجب أقوائية الدلالة والظهور ، فلا يشمل ما يوجب قوّة السند.

٢٣٣

فصل (١)

قد عرفت

______________________________________________________

اختصاص أخبار العلاج بموارد التعارض المستقر

(١) الغرض من عقد هذا الفصل هو البحث عن اختصاص حكم التخيير أو الترجيح بتعارض الخبرين ـ وعدم شموله لموارد الجمع العرفي ـ وعدم اختصاصه بباب التعارض وأنه عام له ولموارد الجمع العرفي ، وبيانه : أنّه قد تقدم في الفصول السابقة أن لتعارض الخبرين أحكاما :

منها : أن مقتضى الأصل الأوّلي سقوطهما في المدلول المطابقي ـ بناء على الطريقية ـ ونفي الثالث بأحدهما. ووجوب الأخذ بأحدهما بناء على السببية.

ومنها : أن الأصل الثانوي المستفاد من الأخبار العلاجية هو التخيير مطلقا كما ذهب إليه المصنف ، أو بعد فقد المرجحات كما اختاره الأكثر.

ولا ريب في اختصاص الأصل الأوّلي ـ وهو التساقط ـ بموارد التعارض المستقر الّذي لا يكون جمع دلالي عرفي بين الخبرين. وأمّا الأصل الثانوي المستفاد من الأخبار العلاجية فهل هو كالأصل الأوّلي يختص بغير موارد الجمع العرفي ، فلا تخيير ولا ترجيح مع إمكان التوفيق العرفي بين الخبرين؟ أم يعم موارد الجمع العرفي ، فيجري الترجيح والتخيير بين الخبرين ولو مع إمكان الجمع الدلالي بينهما ، كما إذا ورد الأمر بغسل الجمعة

٢٣٤

سابقا (١) أنّه لا تعارض في موارد الجمع والتوفيق العرفي ، ولا يعمّها ما يقتضيه الأصل في المتعارضين من (٢) سقوط أحدهما رأسا ، وسقوط (٣) كلّ منهما في خصوص مضمونه ، كما إذا لم يكونا في البين ، فهل التخيير أو الترجيح (٤) يختص أيضا (٥) بغير مواردها (٦) أو يعمها (٧)؟ قولان :

______________________________________________________

الظاهر في الوجوب وورد الترخيص في تركه ، فيه قولان ، المنسوب إلى المشهور ومختار شيخنا الأعظم هو الأوّل ، والمنسوب إلى جمع من الأصحاب كالشيخ في بعض كلماته والمحقق القمي والمحدث البحراني وغيرهم هو الثاني. وسيأتي تفصيل الكلام في ذلك ونقل بعض عباراتهم إن شاء الله تعالى.

(١) يعني : في أوّل بحث التعارض ، حيث قال : «وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما إذا كان ... إلخ».

(٢) بيان لـ «ما» الموصول ، وهذا إشارة إلى ما ذكره سابقا في أوّل الفصل الثاني من قوله : «التعارض وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين ... إلخ» وحاصله : سقوط أحدهما لا بعينه بالتعارض.

(٣) معطوف على «سقوط» وهذا إشارة إلى ما ذكره في أوائل الفصل الثاني أيضا بقوله : «إلّا أنّه حيث كان بلا تعيين ... لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه ، لعدم التعيين في الحجة أصلا».

(٤) اللّذان يستفادان من الأخبار العلاجية في الخبرين المتعارضين ، والتخيير مطلقا مختار المصنف ، والترجيح بين المتفاضلين مذهب المشهور.

(٥) يعني : كاختصاص غير التخيير والترجيح ـ من سقوط أحدهما لا بعينه ، وسقوط كل منهما في خصوص مضمونه المطابقي كما هو مقتضى الأصل الأوّلي في المتعارضين ـ بغير موارد الجمع العرفي.

(٦) أي : موارد الجمع والتوفيق العرفي ، والأولى تذكير الضمير ، لرجوعه إلى «الجمع» أو إسقاط «مواردها» وتبديله بالضمير فقط ، بأن يقال : «بغيرها» ليرجع الضمير إلى «موارد» وإن كان تأنيث الضمير باعتبار رجوعه إلى المصدر أيضا صحيحا.

(٧) معطوف على «يختص» وضميره راجع إلى «مواردها».

٢٣٥

أوّلهما المشهور (١). وقصارى ما يقال في وجهه (٢) : ان الظاهر من الأخبار العلاجية سؤالا وجوابا هو التخيير أو الترجيح في موارد التحيُّر مما

______________________________________________________

(١) بل قال الشيخ : «وما ذكرناه كأنّه مما لا خلاف فيه كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين ، ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الأصول وطريقتهم في الفروع».

(٢) أي : في وجه القول الأوّل المشهور وهو خروج موارد التوفيق العرفي عن الأخبار العلاجية. وتوضيح هذا الوجه : أنّ الكلام تارة يقع في تعارض النص والظاهر ، وأخرى في تعارض الأظهر والظاهر.

أمّا الأوّل فلا إشكال في خروجه عن التعارض الّذي هو موضوع الأخبار العلاجية ، حيث إنّه لا تحيُّر للعرف في كشف المراد عنهما بحمل الظاهر على النص. بخلاف باب التعارض ، فإنّ العرف يتحيّر في استفادة المراد من المتعارضين ، فلا محيص عن الرجوع في حكمهما إلى الأخبار العلاجية.

وأمّا الثاني ففيه قولان : أحدهما ـ وهو المنسوب إلى المشهور ـ خروجه عن الأخبار العلاجية ولزوم الأخذ بالأظهر ، لما أفاده في المتن من وجوه ثلاثة :

الأوّل : انصراف الأخبار العلاجية عن موارد الجمع العرفي ، لأنّ موردها سؤالا وجوابا هو موارد التحير ، لاشتمالهما على لفظ «المتعارضين» ونحوه مما يوجب تحير العرف في فهم المراد. والتخيير والترجيح واردان في هذا المورد ، ومن المعلوم أن العرف لا يتحيّر في استفادة المراد من موارد الظاهر والأظهر كالعام والخاصّ والمطلق والمقيد.

فالنتيجة : اختصاص الترجيح والتخيير بغير موارد الجمع العرفي.

وهذا الوجه أفاده شيخنا الأعظم «قده» في المقام الرابع من مقامات الترجيح بقوله : «وبتقرير آخر : إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقية وصيرورتهما كالكلام الواحد ، على ما هو مقتضى دليل وجوب التعبد بصدور الخبرين ، فيدخل في قوله عليه‌السلام : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ... إلى آخر الرواية المتقدمة ، وقوله «عليه‌السلام» : إنّ في كلامنا محكما ومتشابها فرُدّوا متشابهها إلى محكمها. ولا يدخل ذلك في موارد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختص بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما بل اقترانهما تحيّر السائل فيهما ، ولم يظهر المراد منهما

٢٣٦

لا يكاد يستفاد المراد هناك (١) عرفا ، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق (٢) ، فإنّه (٣) من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.

ويشكل (٤) : بأنّ مساعدة العرف على الجمع والتوفيق

______________________________________________________

إلّا ببيان آخر لأحدهما أو كليهما».

(١) أي : في موارد التحير التي هي مورد الأخبار العلاجية التي يستفاد منها الترجيح والتخيير. وقوله : «مما لا يكاد» بيان لـ «موارد التحير». ويمكن أن يكون قوله : «مما لا يكاد» للتنبيه على أن التحير على ضربين ، فتارة يزول بالتأمل في الخبرين بالجمع بينهما ، وأخرى لا يزول ، بل يبقى العرف متحيرا في وظيفته ، وهنا لا بد من الترجيح أو التخيير.

(٢) العرفي ، يعني : ليس مورد أخبار العلاج ما يستفاد فيه المراد ولو بالتوفيق العرفي الّذي هو من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.

(٣) أي : فإنّ التوفيق.

(٤) هذا إشكال على الوجه المذكور الّذي أشار إليه بقوله : «وإن الظاهر من الأخبار ... إلخ». ومحصل الإشكال : منع قرينية الجمع العرفي وعدم تحيُّر العرف في استفادة المراد على اختصاص السؤالات ـ كقول الراوي : «إذا ورد عنكم الخبران المتعارضان فبأيِّهما نعمل؟» ونحو ذلك ـ بغير موارد الجمع العرفي ، لأحد وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنه يمكن أن يكون السؤال عن حكم كلّي التعارض ولو بدوا وإن كان زائلا مآلا بالنظر العرفي الدّقي كموارد التوفيقات العرفية ، فإنّ «الظاهر والأظهر» متعارضان بدوا بمثابة يصح السؤال عن حكمهما.

وبعبارة أخرى : مبنى دعوى المشهور هو اختصاص الأخبار العلاجية بغير موارد الجمع العرفي من جهة تحيُّر السائل في وظيفته ، ولا تحيُّر عند إمكان التوفيق الدلالي بين الخبرين إذا كان أحدهما أظهر من الآخر. ولكن هذه الدعوى ممنوعة ، لأن السؤال عن التخيير أو الترجيح يعمّ موارد الجمع العرفي كشموله لموارد التعارض المستقر الّذي لا سبيل للجمع بين الخبرين. وحيث كان السؤال عن حكم كلّي التعارض ، فلا فرق بين ما إذا أمكن الجمع

٢٣٧

وارتكازه (١) في أذهانهم على وجه وثيق (٢) لا يوجب (٣) اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع ، لصحة (٤) السؤال بملاحظة التحيُّر في الحال (٥) لأجل (٦) ما يتراءى من المعارضة وإن كان يزول عرفا بحسب المآل. أو للتحيُّر (٧)

______________________________________________________

ولم يمكن ، لأنّ تمام الموضوع هو التحيُّر في الوظيفة الفعلية ، وإن كان هذا التحيّر بدويا زائلا بالتأمل. لكن لمّا كان السؤال عن كلّي الخبرين المتعارضين ـ سواء أمكن الجمع بينهما أم لا ـ كان السؤال عن موارد الجمع العرفي معقولا في نفسه ، فتعمه الأخبار العلاجية ، ولا يتم مدّعى المشهور.

(١) معطوف على «مساعدة» وضمير «ارتكازه» راجع إلى «الجمع».

(٢) وهو التوفيق الّذي جرت عليه طريقة أبناء المحاورة كحمل العام على الخاصّ.

(٣) خبر «بأن مساعدة العرف» غرضه : أنّ مساعدة العرف على الجمع لا تكون قرينة على اختصاص السؤالات في الأخبار العلاجية بغير موارد الجمع.

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل ، وهو ما بيّناه بقولنا : «الأوّل ، أنه يمكن أن يكون ... إلخ» وهو تعليل لقوله : «لا يوجب اختصاص» وبيان لوجه عدم قرينية الجمع العرفي على اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع. وقد عرفت توضيحه.

(٥) يعني : بدوا كالمطلق والمقيد والعام والخاصّ.

(٦) تعليل لصحة السؤال ، يعني : أنّ التعارض البدوي الموجب للتحيُّر يُصحِّح السؤال.

(٧) معطوف على «صحة» وإشارة إلى الوجه الثاني ، وتوضيحه : أنه يمكن أن يكون السؤال ـ عن حكم مطلق التعارض ـ لأجل التحيُّر في الحكم الواقعي وإن لم يكن تحيُّر في الحكم الظاهري ، للعلم به بحسب ميزان الجمع العرفي من حمل الظاهر على الأظهر ونحوه بناء على ما هو الصحيح من عدم رافعية القرائن المنفصلة إلا حجية الظهور مع بقاء أصل الظهور في كلا الدليلين ، فيكونان متعارضين ، إذ لو كانت القرائن المنفصلة كالمتصلة رافعة للظهور وموجبة لانعقاد ظهور الظاهر فيما يلائم الأظهر ـ كما قيل ـ لم يكن هنا إشكال أصلا ، لعدم ظهورين متنافيين حينئذ. لكنه خلاف التحقيق ، لعدم كون القرائن المنفصلة كالمتصلة في رفع الظهور كما ثبت في محله.

٢٣٨

في الحكم واقعا (*) وإن لم يتحيّر فيه (١) ظاهرا ، وهو (٢) كاف في صحته قطعا. مع (٣) إمكان

______________________________________________________

وعليه فالتحيُّر في الحكم الواقعي كافٍ في صحة السؤال عن حكم مطلق المتعارضين وإن كان بينهما جمع عرفي.

مثلا إذا ورد خبران في حكم غسل الجمعة ، أحدهما ظاهر في الوجوب كقوله : «اغتسل في يوم الجمعة» والآخر أظهر في الاستحباب مثل : «ينبغي الغسل في يوم الجمعة» فإنّ قانون الجمع العرفي وإن كان مقتضيا لرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب ، إلّا أن هذا الجمع يفيد الحكم الظاهري وهو الاستحباب ، وأمّا احتمال وجوب الغُسل واقعا فلا ينتفي بهذا التوفيق العرفي ، فإذا سأل الراوي عن حكم الخبرين المتعارضين ـ مع وجود الجمع الدلالي بينهما ـ كان سؤاله معقولا ، لأنّه أراد أن يتعلم الحكم الواقعي لغسل يوم الجمعة من جواب الإمام عليه‌السلام ، ومع احتمال أن يكون الدّاعي للسؤال استعلام الحكم الواقعي ـ حتى مع وجود الجمع العرفي ـ لا وجه لجعل الأخبار العلاجية منصرفة عن موارد الجمع الدلالي ، فإنّ التحيُّر في الحكم الواقعي لا يزول بمجرد الجمع العرفي ، لاحتمال أن يكون الحكم الواقعي في الخطاب الظاهر لا الأظهر.

(١) أي : في الحكم.

(٢) يعني : والتحيُّر في الحكم الواقعي كاف في صحة السؤال.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثالث ، ومحصله : أنه يمكن أن يكون عموم السؤال لموارد الجمع العرفي لأجل احتمال الراوي منع الشارع وردعه عن الجمع العرفي ، وهذا الاحتمال يوجب صحة السؤال عن موارد التوفيق العرفي وغيرها مما يتحير العرف في الجمع بين الدليلين.

فالنتيجة : أنّه لا وجه للالتزام باختصاص الترجيح والتخيير بباب تعارض الخبرين

__________________

(*) لكن هذا التخيير لا يصلح لأن يصير داعيا للسائل إلى السؤال ، ضرورة أن شيئا من المتعارضين لا يكشف عن الواقع ، حيث إن مقتضى الأخبار العلاجية هو التعبد بكونه مرادا واقعا ، لا العلم بكونه حكما واقعيا حتى يرتفع به تحير السائل في الحكم الواقعي.

٢٣٩

أن يكون (١) لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة ، وجلّ العناوين المأخوذة في الأسئلة (٢) ـ لو لا كلُّها (٣) ـ

______________________________________________________

المستقر ، بل يجريان في موارد الجمع العرفي أيضا ، فلو فرِض وجود مزية في العام مفقودة في الخاصّ قُدِّم على الخاصّ ، وهكذا.

ويمكن أن يكون قوله : «مع إمكان» إشارة إلى دفع توهم ، وهو : أنّ السؤال وإن كان صحيحا ، إلا أنّه لا حاجة إليه مع ارتفاع التحيُّر عند أبناء المحاورة. وحاصل دفعه هو : احتمال ردع الشارع عنه ، وهذا كاف في صحة السؤال.

(١) الضمير المستتر في «يكون» والبارز في «صحته» راجعان إلى «السؤال».

(٢) كقول الراوي : «تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة» كما في حديث الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام ، وقوله : «يتنازعون في الحديثين المختلفين» كما في حديث أحمد بن الحسن الميثمي عن الرضا عليه‌السلام ، وقوله : «كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟» كما في سؤال محمد بن عبد الله عن الرضا عليه‌السلام ، وغير ذلك من الروايات المشتملة على التعارض أو الاختلاف ، فلاحظها ، وقد تقدمت جملة منها في أخبار العلاج المذكورة في الفصل الثالث.

(٣) أي : لو لا كل العناوين. وهذا إشارة إلى الروايات المتضمنة للأمر والنهي كقول الراوي : «يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه» كما في رواية سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وغير ذلك مما يشتمل على الأمر والنهي ، إذ من الواضح أن الخبرين المتضمنين للأمر والنهي يكونان من مصاديق عنواني المتعارضين والمختلفين ، مع إمكان الجمع العرفي بين الخبرين الآمر والناهي ، لأنّ الأمر ظاهر في الوجوب ونصُّ في الجواز ، والنهي ظاهر في الحرمة ونصّ في طلب الترك ، ومقتضى حمل الظاهر على النص الحكم بالكراهة والرخصة في الفعل ، مع أنه عليه‌السلام حكم بالتخيير.

وكذا الحال في مكاتبة الحميري إلى الحجّة عليه‌السلام المتقدمة في (ص ١٠٤) فإنّ نسبة الخبر النافي للتكبير ـ لحال القيام ـ إلى الخبر المثبت للتكبير في جميع الانتقالات

٢٤٠