منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أعني بقاء التكليف ، وانسداد باب العلم وقبح تكليف ما لا يطاق».

وقال مقرر بحث سيدنا الفقيه الأصفهاني في توضيح المتن : «وهذا الدليل يرجع إلى دليل انسداد يجريه المقلّد بسبب ارتكازه ، بلا علم منه لكيفية بسط مقدماته ، وضمّ بعضها إلى بعض لكي يستنتج كما يصنعه أهل النّظر والاستدلال ، لكنها مغروسة في ذهنه مرتكزة عنده بجبلته بحيث لو سئل عن آحادها عنه يصدّق تصديقا فطريا بصحته. وتقريره على وجه الصناعة أنه مركب من مقدمات :

الأولى : أنّ الشارع ما جعلنا بالنسبة إلى أحكامه مهملين كالبهائم.

الثانية : تحقق العجز عن تحصيلها بالعلم.

الثالثة : انسداد الطرق للعمل بها غير التقليد من الرجوع إلى الوظائف وبطلان الاحتياط وعسريته. وبعد تمامية تلك المقدمات يحكم العقل بلزوم الرجوع إلى العالم ...» (١).

وجعل شيخنا الأعظم (قده) حكم العقل بجواز التقليد بلحاظ دليل الانسداد (٢) فراجع.

وكذا المحقق الأصفهاني (قده) فإنّه بعد أن ناقش في اقتضاء الفطرة ـ بالمعنى الّذي استظهره من المتن وأشكل عليه بما سيأتي بيانه ـ جعل مستند العامي في جواز التقليد هو الانسداد ، وقرّر المقدمات بنحو يستكشف منها أن الشارع جعل فتوى المجتهد طريقا للعامي.

وما أفادوه وإن كان حقّا ، فإنّ لانسداد باب العلم وسائر المقدمات حيثية تعليلية في إذعانه عقله بلزوم الرجوع إلى الفقيه ، ولولاها لما استقل عقله به.

إلّا أنه يشكل الاعتماد عليه بما أوردوه على التمسك بالانسداد الكبير ، فإنّ العامي كيف يستقل عقله بجواز التقليد ما لم يتمكن من إبطال العمل بالاحتياط مطلقا حتى إذا لم يكن مستلزما للعسر؟ فلا وجه لاستكشاف خطاب بجواز التقليد عقلا ـ كما يظهر من تقرير الشيخ الأعظم للمقدمات ـ أو شرعا كما هو صريح كلام المحقق الأصفهاني في المقام (٣) لو التفت العامي إلى أنّ في العمل بالفتوى وترك الاحتياط قد تفوت المصالح الواقعية اللازمة الاستيفاء ، ولا سبيل لإحراز عدم إرادة الشارع العمل بالاحتياط من العامي إلّا بالتقليد ، أو استعلام كونه ضروريا في هذه الأعصار ، لاتّفاق أرباب النّظر على عدم وجوب الاحتياط عليه.

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ٣٨٦

(٢) رسالة الاجتهاد والتقليد ، ص ٤٨

(٣) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٢٠٩

٥٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لكن لو وصلت النوبة إلى هذه الضرورة جاز له التقليد من جهة كونه ضروريا في هذه الأزمنة ، فقاطبة الفقهاء ـ لا المتفقهين ـ يقولون بجواز عمل العامي بفتوى المجتهد. وحيث كان هذا الحكم ضروريا كان اعتماد العامي عليه في إقناع النّفس بالتقليد وإلزامها به سليما عن شبهة الدور التي جعلها الماتن تاليا فاسدا للحكم ببداهة التقليد.

هذا مضافا إلى : أنّ في التمسك بالانسداد إشكالا آخر نبّه عليه بعض الأجلّة (١) وهو كونه أخصّ من المدعى ، إذ لو كان للعامي ظن بالحكم بخلاف فتوى المجتهد لم يقتض دليل الانسداد قبول رأي المجتهد تعبدا ، بل اللازم مراعاة مراتب الظنّ ، وعلى فرض التساقط فاللازم الاحتياط ، مع أنّ القائل بجواز التقليد ـ بمناط الانسداد ـ يقول به مطلقا.

وعليه يكون نفس بناء العقلاء على الرجوع إلى فتوى المجتهد وعدم اعتنائهم بظنونهم الحاصلة لهم أحيانا على خلاف رأيه ـ من غير نكير من أحد ـ كاشفا عن أنّ الحامل لهم على التقليد هو الأمر الجبليّ الفطري السليم القاضي بلزوم رجوع الجاهل إلى العالم.

وأمّا احتمال كون العمل بقول أهل الخبرة لأجل إلقاء احتمال الخلاف ، نظير ما نسب إلى شيخنا الأعظم في التعبد بالأمارات ، ففيه : أنّه فرض نادر ، ولا سبيل لحمل تقليد عامّة المكلفين عليه ، فإنّ إلقاء احتمال الخلاف منوط بالغفلة عن كثرة الاختلاف الواقعة بين فتاوى الفقهاء ، إذ مع الالتفات إليها ـ ولو إجمالا ـ لا معنى لإلقاء احتمال الخلاف فيها.

هذا بعض الكلام في الأمر الأوّل ، والظاهر أنّ العامي الغافل عن كل شيء يرى في ارتكاز نفسه الرجوع إلى المجتهد بما أنّه من أهل الخبرة بالأحكام الشرعية والوظائف العملية ، وكفى بهذا الارتكاز حاملا له على التقليد.

وأمّا الأمر الثاني ، فنقول فيه : انه أورد المحقق الأصفهاني (قده) على المتن بعدم كون جواز التقليد فطريا بديهيا جبليا ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّ المقصود بالفطري إمّا أن يكون القضية الفطرية المعدودة في كتاب البرهان من القضايا الست البديهية ، وإمّا أن يكون الفطري بمعنى الجبلّة والطبع كما يقال : الإنسان مفطور على كذا أي مجبول عليه. وعلى كل من المعنيين لا يكون جواز التقليد فطريا.

__________________

(١) هذا الإشكال أورده العلامة الجليل الشيخ محمّد تقي البروجردي في رسالة الاجتهاد والتقليد المطبوعة مع تقريرات المحقق العراقي ، نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٤٨٧

٥٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أمّا على الأوّل فلأنّ القضية الفطرية هي التي يكون قياسها معها كقولهم : «الأربعة زوج» فإنّها قضية فطرية ، لاستغنائها ـ كسائر البديهيات ـ عن الاستدلال ، بل العقل يذعن بزوجية الأربعة بمجرد التفاته إلى «انقسامها بمتساويين ، وكل منقسم بمتساويين زوج» ومن المعلوم أنّ الفطري بهذا المعنى هو كون العلم نورا وكمالا للعاقلة في قبال الجهل ، لا لزوم التقليد عند الشارع أو عند العقلاء ، ولا نفس رفع الجهل بعلم العالم.

وأمّا على الثاني فلأن الفطري الجبلي لكل إنسان هو شوق النّفس إلى رفع نقص الجهل ، وكمال ذاتها أو كمال قواها ، لا لزوم التقليد شرعا أو عند العقلاء. نعم ثبوت الشوق إلى رفع الجهل وجداني لا جبلي ولا فطري. وعليه فرفع الجهل بعلم العالم جبليّ ، لكنه أجنبي عن التقليد المبحوث عنه وهو أخذ قول الغير تعبدا. ومجرّد دعوة الجبلّة والطبع إلى رفع الجهل لا يجدي في جعل التقليد ـ بمعنى الانقياد للعالم تعبدا ـ جبلّيا ولو لم يحصل العلم بالواقع.

وعليه فلا لزوم التقليد فطريّ بأحد المعنيين كما لا يكون جبليا ، ولا نفس التقليد فطري.

الثاني : أنّ الجمع بين البداهة والفطرة والجبلّة لإثبات جواز التقليد لا يخلو من شيء ، فإنّ الفطري بالمعنى الأوّل وإن كان يناسب البداهة ، لكون القضايا الفطريّة من أقسام البديهيات ، لكنه لا يناسب الجبلّي ، لمقابلة الفطري بالمعنى الأوّل مع الجبلي كما عرفت. والفطري بالمعنى الثاني وإن كان مناسبا للجبلّة ، لأنّهما بمعنى واحد ، لكنه لا يناسب البداهة ، إذ ليست الجبليات من أقسام البديهيات الستّ.

هذا ما أفاده المحقق الأصفهاني (قدس‌سره) بتوضيح منّا ، وقال في آخر كلامه : «ولقد خرجنا بذلك عن مرحلة الأدب ، والله تعالى مقيل العثرات» (١).

والظاهر ورود ما أفاده على المتن بناء على إرادة الفطري بأحد المعنيين المتقدمين.

لكن يمكن أن يكون مقصود المصنف من الفطرة والبداهة غير ما هو مصطلح أهل الميزان ، بل هو الحكم العقلي المستقل المغروس في نفس كل عاقل وشاعر ، فالحكم الفطري حينئذ هو الحكم الارتكازي الراسخ في نفوس العقلاء ، كسائر أعمالهم المنبعثة عن ارتكازياتهم كالعمل بخبر الثقة وظاهر الكلام ونحوهما من موارد السير العقلائية التي لا منشأ إلّا الارتكاز.

وتعبير المصنف بالحكم الفطري والعقلي وإن تكرّر منه هنا وفي مسألة تقليد الميت الآتية ، إلّا

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٢٠٩

٥٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أنّ قوله في مناقشة الإجماع على جواز التقليد بقوله : «بأنه من الأمور الفطرية الارتكازية» ربّما يستفاد منه أن مقصوده من قوله : «بديهيا جبليا فطريا» هو رسوخ مسألة جواز رجوع الجاهل إلى العالم في النفوس بحيث لا يحتاج إلى إمعان النّظر وإقامة الدليل ، بل الالتفات إلى تلك المقدمات البديهية الضرورية كاف في إذعان العقل بجواز التقليد ، ويكون ارتكاز كل واحد من العقلاء هو منشأ انعقاد سيرتهم على قبول قول الفقيه تعبدا وبلا مطالبة حجة عليه.

ولعلّه لأجل هذا الحكم الفطري الارتكازي أهمل المصنف (قده) هنا الاستدلال ببناء العقلاء على جواز التقليد ، مع أنه جعله من أدلته في تقليد المتجزي ، حيث قال : «وعدم إحراز أن بناء العقلاء وسيرة المتشرعة على الرجوع إلى مثله» ولا بدّ أن يكون قوله : «من الأمور الفطرية الارتكازية» قرينة على مراده من البديهي الجبلي الفطري ، كما أنّه إشارة إلى دلالة بناء العقلاء على رجوع العامي إلى المجتهد.

والحاصل : أنّ المستفاد من مجموع كلمات المصنف الإشارة إلى دليلين على جواز التقليد :

أحدهما : حكم العقل المستقل ، وهو الّذي عبّر عنه صاحب القوانين ببديهة العقل ، لكنه قال بذلك بتوسيط مقدمات الانسداد.

ثانيهما : بناء العقلاء ، إذ الرجوع إلى العارف والخبير من الارتكازيات المغروسة في نفوسهم.

ولو نوقش في الوجه الأوّل أمكن الاعتماد على السيرة العقلائية بضميمة تقرير الشارع لها ، فإنّه بما هو عاقل بل رئيس العقلاء متحد المسلك معهم في كيفية إيصال أحكامه إلى المكلفين ، وعدم إبداع طريقة أخرى لذلك. وسيأتي في الاستدلال بالأخبار ما يدل على الإمضاء. هذا لو قلنا بتوقف اعتبار هذه السيرة على الإمضاء ، ولو قيل بعدم توقفه عليه ، لفرض رسوخها في النفوس وإنما يتوقف الردع عنها على التصريح به ، فالأمر أوضح كما لا يخفى.

ثمّ إنّ في عبارة المتن تأملا آخر ، وهو : أنّ ظاهر قوله : «ان جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة يكون بديهيا جبليا وفطريا» دعوى شهادة الفطرة بجواز التقليد في الأحكام الشرعية ، ويكون قوله : «في الجملة» إشارة إلى اجتماع الشرائط في المجتهد كما ذكرناه في التوضيح تبعا لبعض أعاظم المحشين.

وهذا لا يخلو من شيء ، فإنّ ارتكاز العقلاء وفطرتهم ليس قبول قول الغير تعبدا أي فيما لم

٥٠٤

بل هذه (١) هي العمدة في أدلته ، وأغلب ما عداه (٢) قابل للمناقشة ، لبعد (٣)

______________________________________________________

(١) أي : الجبلّة تكون عمدة أدلّة جواز التقليد ، لأنّ أغلب ما عداها من الأدلّة قابل للمناقشة. وهذا شروع في المقام الثاني وهو الوجوه التي اعتمد عليها المجتهدون في إثبات جواز التقليد ، والمذكور منها في المتن أمور وهي خمسة ، ثلاثة منها لبيّة ، وهي الإجماع وضرورة الدين وسيرة المشرعة ، واثنان منها لفظية وهما الآيات والأخبار ، وسيأتي الكلام في كل منها (إن شاء الله تعالى).

(٢) الضمير بقرينة «أدلته» يرجع إلى دليل الفطرة والجبلة. والتعبير بالأغلب لما سيظهر من المناقشة في دلالة غير الأخبار على جواز التقليد.

(٣) تعليل لقوله : «قابل للمناقشة» وأشار (قده) إلى كل واحد من الأدلة مع مناقشته

__________________

يحصل لهم وثوق بما يقول ، ومن المعلوم أن أساس التقليد في الأحكام الشرعية ـ خصوصا مع التفات العامي إلى اختلاف الفقهاء في الفتاوي ـ على قبولها تعبدا ، وإنّما يعمل بها لكونها حجة منجزة أو معذرة ، وحينئذ ينهدم أساس الاستدلال بالفطرة.

وأمّا إرادة حصول الوثوق من قوله : «في الجملة» فهو حمل له على مورد نادر.

وإن كان مقصوده (قده) إدراج المقام في الكبرى الكلية وهي رجوع الجاهل بكل شيء إلى العارف به ، فهذه الكبرى وإن كانت مسلّمة ، إلّا أنّها تختص بموارد إفادة إخبار العالم الوثوق والاطمئنان ، إذ لا تعبد في عمل العقلاء بما هم عقلاء ، ولذا تراهم يعملون بخبر الثقة ولا يعتنون بخبر العدل لو لا الوثوق به. وحيث إنّ أصل التقليد في الأحكام مبني على قبول فتوى المجتهد تعبدا فإدراجه تحت كبرى الرجوع إلى العالم لا يخلو من شيء.

نعم لا بأس بهذا الاستدلال في الجملة أي بالنسبة إلى الجاهل الغافل عن اختلاف الفقهاء في الفتوى ، فإنّه لا يبعد حصول الاطمئنان له برأيه بل القطع بالواقع أحيانا.

وبهذا يشكل الفرار عن محذور الدور الّذي أفاده الماتن بما قد يقال : من درج المقام في كبرى سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة ، للفرق بين البابين. والظاهر انحصار الطريق في كون مسألة جواز التقليد في هذه الأزمنة من الضروريات التي لا حاجة فيها إلى التقليد ولا الاستدلال حتى يتجه هذا البحث العريض.

٥٠٥

تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة

______________________________________________________

فتعرّض أوّلا للإجماع ، وقد ادعاه جمع من القدماء والمتأخرين ، ونقتصر على ذكر بعض كلماتهم ، قال السيّد (قده) : «والّذي يدلّ على حسن تقليد العامي للمفتي : أنّه لا خلاف بين الأمّة قديما وحديثا في وجوب رجوع العامي إلى المفتي ، وأنه يلزمه قبول قوله ، لأنّه ، غير متمكّن من العلم بأحكام الحوادث ، ومن خالف في ذلك كان خارقا للإجماع» (١).

وقال شيخ الطائفة (قده) في الفصل الّذي عقده لذكر صفات المفتي والمستفتي وبيان أحكامهما ما لفظه : «والّذي نذهب إليه أنه يجوز للعامي الّذي لا يقدر على البحث ويفتونهم العلماء فيها ويسوّغون لهم العمل بما يفتونهم به. وما سمعنا أحدا منهم قال لمستفت : لا يجوز لك الاستفتاء ولا العمل به ، بل ينبغي أن تنظر كما نظرت ، وتعلم كما علمت ، ولا أنكر عليه العمل بما يفتونهم. وقد كان منهم الخلق العظيم أثروا [عاصروا] الأئمة عليهم‌السلام ، ولم يحك عن واحد من الأئمة عليهم‌السلام النكير على أحد من هؤلاء ولا إيجاب القول بخلافه ، بل كانوا يصوّبونهم في ذلك ، فمن خالف في ذلك كان مخالفا لما المعلوم خلافه» (٢).

وقال المحقق : «يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الأحكام الشرعية ... لنا : اتفاق علماء الأعصار على الإذن للعوام في العمل بفتوى العلماء من غير تناكر ، وقد ثبت أنّ إجماع أهل كل عصر حجة» (٣).

ونحوه كلام العلامة في المبادئ والشهيد في الذكرى وغيرهما في غيرهما ، فراجع.

وقد اعتمد الشيخ عليه في الحكم بجواز التقليد ، حيث قال بعد الإشارة إلى الأدلة : «لكن العمدة من هذه الأدلة الإجماع والسنة» (٤).

ولكن المصنف (قده) ناقش فيه ـ كما ناقش في نظائره كالإجماع على حجية الخبر والبراءة والاستصحاب ـ بما حاصله : أنّ الإجماع إمّا محصّل وإما منقول ، أما الأوّل وهو المحصل فلا سبيل لدعواه في هذه المسألة بحيث يكون كاشفا عن رأي المعصوم (عليه‌السلام) الّذي هو المناط في حجيته ، وذلك لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه

__________________

(١) الذريعة ، ص ٧٩٧ القسم الثاني

(٢) عدة الأصول ، ٢ ـ ١١٥ طبعة بمبئي

(٣) معارج الأصول ، ص ١٩٧

(٤) رسالة الاجتهاد والتقليد ، ص ٤٨

٥٠٦

مما (١) يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه (٢) من الأمور الفطرية الارتكازية (٣). والمنقول منه غير حجة في مثلها (٤)

______________________________________________________

الآخر في المسألة ، مثل كون مسألة جواز رجوع الجاهل إلى العالم من الأمور الفطرية الارتكازية ، ومن المعلوم أنّ العبرة حينئذ بنفس هذا الحكم الضروري الفطري لا بالاتفاق المستند إليه.

وأمّا الثاني ـ أعني به الإجماع المنقول ـ فلما يرد عليه من وجهين :

أحدهما : امتناع تحقق أصل الإجماع التعبدي في مسألة جواز التقليد مع وجود حكم العقل المستقل برجوع الجاهل إلى العالم ، فإذا امتنع تحصيل الإجماع التعبدي في مسألة فلا تصل النوبة إلى البحث عن حجية المنقول منه وعدمها ، لأنّ حجية الإجماع المنقول متفرّعة على أصل تحقق الاتّفاق الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، ومع احتمال استناد المجمعين إلى مقتضى الفطرة والارتكاز لا يبقى وثوق بدخول رأي المعصوم (عليه‌السلام) في جملة الآراء.

ثانيهما : أنّه لو فرض تحقق الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام لمدّعي الإجماع كالسيد والشيخ وغيرهما ـ ولم يحتمل مدركيته ـ أشكل اعتمادنا عليه ، لكونه بالنسبة وإلينا إجماعا منقولا ، وقد تقرر في الأصول عدم حجيته في شيء من الموارد.

وبهذا سقط الاستدلال بالوجه الأوّل ـ وهو الإجماع ـ على جواز التقليد.

(١) بيان لـ «مثل» وغرضه منع الإجماع المحصّل الكاشف عن رأي المعصوم (عليه‌السلام) ، لاحتمال استناد المجمعين إلى حكم العقل والارتكاز برجوع الجاهل إلى العالم.

(٢) هذا الضمير وضمير «فيه» راجعان إلى جواز التقليد ، والأولى إبدال «فيه» بـ «به».

(٣) كما هو حال الإجماع على العمل بخبر الثقة وعلى البراءة في ما لا نصّ فيه ، استنادا في الأوّل إلى ارتكاز العقلاء على العمل بما يثقون به ، وفي الثاني إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ومن المعلوم عدم كاشفية هذا النحو من اتّفاق العلماء عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

(٤) أي : في مثل هذه المسألة مما يكون للفطرة فيها دخل ، وهذا إشارة إلى أوّل

٥٠٧

ـ ولو قيل (١) بحجيتها في غيرها ـ لوهنه بذلك (٢).

ومنه (٣) قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريّات الدّين ، لاحتمال (٤) أن يكون من ضروريات العقل

______________________________________________________

الوجهين الواردين على الاستدلال بالإجماع المنقول في المقام ، وهو نفس الإشكال الوارد على الإجماع المحصل. وضمير «منه» راجع إلى الإجماع.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني مما يرد على الإجماع المنقول وهو عدم حجيته مطلقا ، وضمير «غيرها» راجع إلى هذه المسألة ، وضمير «حجيتها» إلى الإجماع المنقول ، فالأولى تذكيره.

(٢) تعليل لقوله : «غير حجة» وحاصله كما تقدم : أن الإجماع المنقول موهون هنا باحتمال مدركيته ، فالمشار إليه في «بذلك» هو قوله : «ما يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه من الأمور الفطرية».

(٣) أي : ومن أنّ الإجماع القولي قابل للمناقشة ظهر حال الاستدلال على جواز التقليد بكونه من ضروريّات الدين. ولم أظفر على من استدل به على جواز التقليد في قبال الاستدلال بالإجماع المتقدم والسيرة الآتية. نعم تعرض له في القوانين ـ في ردّ من أنكر ضرورة العمل بظن المجتهد ـ بقوله : «فبإمكان إرادة ضرورة الدين بتقريب ما ذكرنا أخيرا في الإجماع ، بدعوى أنّ هذه الطريقة المستمرة أفادت رضا صاحب الشرع بذلك بديهة».

وكيف كان فهو إشارة إلى دليل ثان على جواز التقليد لو تمّ. ولكن ناقش المصنف فيه باحتمال كونه من ضروريات العقل وفطرياته ، لا من ضروريات الدين التي هي ما يعلم كونها من الدين بداهة كوجوب الصلاة والصوم والحج وكثير من الأحكام التي يخرج منكر واحد منها عن ربقة الإسلام ، لأول إنكاره له إلى إنكار الرسالة. واحتمال كون التقليد من ضروريات العقل كاف في منع كونه من ضروريات الدين ، لأنّ عملهم به يستند إلى فطرتهم ، لا إلى تديّنهم بشريعة الإسلام.

(٤) تعليل لقوله : «إمكان القدح» وقد تقدم توضيحه آنفا.

٥٠٨

وفطرياته (١) لا من ضرورياته.

وكذا القدح (٢) في دعوى سيرة المتدينين.

وأما الآيات (٣) ، فلعدم دلالة آية النفر والسؤال

______________________________________________________

(١) أي : من فطريات العقل ، لا من ضروريات الدين.

(٢) معطوف على «القدح» يعني : وكذا ظهر إمكان القدح في الإجماع العملي وهو سيرة المتدينين على رجوع جاهلهم بالأحكام الشرعية إلى عالمهم بها.

وهذا إشارة إلى الوجه الثالث من أدلة جواز التقليد ، قال في الفصول : «وجريان طريقية السلف عليه من غير نكير» وحاصله : استقرار سيرة المتدينين على رجوع الجاهل إلى العالم في الأحكام الشرعية ، وهي سيرة ممضاة بتقرير الأئمة المعصومين عليهم‌السلام على ما سيظهر من بعض الأخبار الآتية ، بل ربما يدّعى وجودها في زمن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن المعلوم أنّ عدم الردع وإن كان كافيا لموضوعية مثل هذه السيرة للحكم بالحجية والاعتبار ، إلّا أنّ المدّعي كونها ممضاة بتقرير المعصوم ، وهي حينئذ أقوى حجة على جواز التقليد.

ولكن ناقش المصنف في الاستدلال بسيرة المتدينين صغرويّا بما تقدّم في الإجماع والضرورة الدينية ، من : أنّه يمكن أن يكون سيرتهم لأجل فطريّة التقليد وجبليّته لهم ، لا لأجل تدينهم حتى يكون عدم الردع دليلا على إمضائها. وعليه فليست سيرتهم هذه حجة تعبدية على جواز التقليد ، لجريان هذه السيرة بين جميع متشرعة المسلمين ، ولا اختصاص لها بالمتدينين من الإماميّة ، بل الظاهر عدم اختصاصها بالمسلمين أيضا ، فإنّ عوام اليهود والنصارى يرجعون إلى الأحبار والقسيسين لمعرفة أحكام شرعيهما. وليس هذا الرجوع والأخذ لأجل خصوصية في الأمور الدينية ، بل للسيرة المرتكزة على رجوع الجاهل إلى العالم.

هذا ما يتعلّق بالأدلّة اللبيّة ، وسيأتي الكلام في الأدلّة اللفظية وهي الآيات والأخبار.

(٣) هذا بيان للأدلة اللفظية المستدل بها على جواز رجوع العامي إلى المجتهد وهي الكتاب والسنة ، أما الكتاب فهو آيات النفر والسؤال ، وأمّا السنة فطوائف من الأخبار

٥٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المتواترة إجمالا. واختار المصنف (قده) دلالة السنة على جواز التقليد ، وناقش في دلالة الآيتين بوجه مشترك ، وخصّ آية السؤال بمناقشة ثانية ، وسيأتي بيان لكل (إن شاء الله تعالى) بعد تقريب الاستدلال بهما ، فنقول وبه نستعين :

أمّا آية النفر فقد تقدم في بحث الخبر الواحد تقريب الاستدلال بها على حجيته بوجوه أربعة تعرّض لثلاثة منها في المتن ، ولرابعها في حاشية الرسائل ، فراجع هناك.

وتقريب الاستدلال بالآية الشريفة على حجية الفتوى يتضح ببيان أمرين :

الأوّل : أن كلمة «لو لا» التحضيضية الداخلة على الفعل الماضي تدل على التوبيخ على ترك الفعل ، فهي إن لم تدل على وجوب ذلك الفعل بالوضع ، فلا أقل من دلالتها عليه بالإطلاق ، كما هو أحد الأقوال في دلالة صيغة «افعل» على الوجوب عند عدم الترخيص في الترك ، وحينئذ فهنا وجوبات مترتبة وهي النفر والتفقه والإنذار والتحذر.

الثاني : أن هذه الآية أدلّ على حجية فتوى الفقيه من دلالتها على حجية الخبر ، لظهورها في موضوعية الفقاهة ودخلها في الحجية ، مع أنّ المناط في قبول الخبر إمّا هو العدالة أو الوثاقة سواء كان الراوي عالما بشيء من أحكام الدين أم لا ، وقد ورد عنهم (عليهم‌السلام) : «... فربّ حامل فقه غير فقيه وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» كما في صحيح ابن أبي يعفور أو موثقة (١). وعليه فحجية قول المنذر الفقيه لا تنطبق إلّا على المفتي.

وبعد بيان هذين الأمرين نقول : إنّ الآية المباركة تدل على وجوب النفر وعلى وجوب التفقه والإنذار اللذين هما غاية تدعو إلى الأمر بالنفر ، وتدل على عدم كون وجوبهما نفسيا ، بل لمحبوبية التحذر والعمل ، فالمستفاد من الآية المباركة وجوب التحذر عقيب إنذار الفقيه مطلقا سواء حصل العلم للمنذر ـ بالفتح ـ من الإنذار أم لا. والمراد بالحذر هو العمل ، لا الخوف النفسانيّ فقط ، ومعناه التحفظ عن الوقوع في المخاوف والمهالك ، فان فتوى الفقيه بالحكم الإلزاميّ إخبار عن ترتب العقاب عليه مطابقة أو التزاما ، لما فيه من اقتضاء الخوف واحتمال الضرر عادة ، ولا يكون إخبار الفقيه مقتضيا للخوف إلّا إذا كان حجة ، إذ لو لا حجيته كان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مؤمّنا ، فتسمية إخبار المجتهد إنذارا إنّما هو لاقتضائه الخوف عادة ، ولا مؤمّن منه إلّا العمل بما أنذر به الفقيه ، وهو معنى

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٣ ، ص ٦٣

٥١٠

على جواز (١) ، لقوّة (٢) احتمال أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم ، لا الأخذ

______________________________________________________

حجية فتواه على العامي.

وأمّا آية السؤال ، فتقريب دلالتها على حجية الفتوى منوط بالإشارة إلى أمرين :

أحدهما : أن المطلوب في هذه الآية الشريفة وجوب السؤال على العامي الجاهل حتى يعلم بالجواب ، لا بأمر زائد عليه أعني نفس الواقع ، فلا يعتبر في وجوب السؤال مقدمة لحصول العلم إلّا العلم بنفس الجواب ، وهذا ينطبق على قبول حجية فتوى الفقيه تعبدا للعمل بها.

ثانيهما : أنّ إرجاع عوام أهل الكتاب إلى علمائهم في هذه الآية الشريفة ـ بناء على ظهورها السياقي ـ يكون جاريا مجرى الطريقة العقلائية من إرجاع الجاهل إلى العالم ، ولا خصوصية لعلماء أهل الكتاب حتى يدّعى أجنبية الآية عن باب التقليد.

وبوضوح الأمرين تعرف دلالة هذه الكريمة على حجية فتوى المجتهد ، لأنّ الأمر بالسؤال يدل على وجوب السؤال عند الجهل ، ووجوبه يدل على وجوب القبول بالملازمة ، وإلّا يلزم لغوية السؤال ، ومن المعلوم أن السؤال مقدمة للعمل ، فكأنه قيل : «اسألوا أهل الذّكر حتى تعلموا بما يجيبون» إذ لا أثر للسؤال نفسه لكونه لغوا ، فلا مصحّح للأمر به إن لم يكن مقدمة للعمل ، والرجوع إلى العالم هو التقليد.

وليعلم أنّ صاحب القوانين (قده) استدلّ بهاتين الآيتين على جواز التقليد ، وتبعه غيره ، فقال في جملة كلامه : «فان آية النفر تدل على أنّ البعيدين عن ساحة الشارع ومن يقوم مقامه لا بد أن يحصلوا حكمهم النّفس الأمري بالأخذ عن النافرين إمّا علما أو ظنا». وقال في ردّ مقالة بعض الأصحاب من وجوب الاستدلال على العوام ما لفظه : «ويدل عليه ـ أي على عدم وجوب النّظر والاستدلال غير الإجماع الّذي ادعاه الشهيد في الذكرى ـ أيضا عموم قوله تعالى : فاسألوا أهل الذّكر ان كنتم لا تعلمون».

(١) أي : جواز التقليد.

(٢) تعليل لقوله : «فلعدم» وهذا الاحتمال القوي جعله المصنف في باب الخبر الواحد ظاهر الآيتين. والمفاد واحد ، فإنّ الظاهر أيضا لا ينتفي معه الاحتمال الموهوم.

٥١١

تعبّدا (١) (*). مع (٢) أنّ المسئول في آية السؤال هم أهل الكتاب

______________________________________________________

وكيف كان فهذه المناقشة مشتركة الورود على الاستدلال بكل من آيتي النفر والسؤال ، وقد تقدمت في بحث حجية الخبر ،

وحاصلها : أمّا في آية النفر فهو : أنّ إنذار النافرين يوجب العلم بالحق ، فيكون عمل المنذرين ـ بالفتح ـ عملا بعلمهم الناشئ من كثرة إنذار المنذرين ـ بالكسر ـ وهذا المعنى أجنبي عن مسألة جواز التقليد ، لأنّ المطلوب فيها قبول رأي المجتهد تعبدا.

وبعبارة أخرى : تكون الآية الشريفة مسوقة لبيان وجوب النفر مقدمة للتفقه في الدين ، وأنّه لا يجب على عامّة المكلفين النفر إلى المدينة المنورة لتلقي معالم الدين من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ هذا النفير العام قد يترتب عليه اختلال نظام المعاش ، بل يجب النفر على طائفة من كل فرقة للتفقه في الدين ، ويكفي نفر هذه الطائفة عن نفر غيرهم من المكلفين ، ولكن ليتحذّر المتخلفون بإنذار المتفقّهين إذا رجعوا إليهم.

وحيث كانت الآية مسوقة لبيان وجوب النفر كفاية فلا إطلاق فيها من ناحية الإنذار حتى يقتضي وجوب تحذّر المتخلّفين بإنذار المتفقهين مطلقا حتى إذا لم يحصل لهم علم بأنّ ما يخبرونه هو معالم الدّين واقعا ، ومن المعلوم أنّ القدر المتيقن من وجوب التحذر هو صورة حصول العلم لهم أي إذا كان إنذار المتفقّه موجبا للعلم بمعالم الدّين.

وأمّا في آية السؤال فلظهورها أيضا في كون إرجاع العوام إلى العلماء لأجل حصول العلم بالواقع ، لقوله تعالى : «ان كنتم لا تعلمون» فالسؤال سبب للعلم به ومقدمة له ، وليست الآية ظاهرة في الأخذ بقول أهل العلم تعبدا كما هو المدّعى في باب التقليد.

وعليه فلا تنطبق الآيتان على ما هو المبحوث عنه في المقام وهو الأخذ بقول الغير تعبدا.

(١) كما هو المطلوب في باب التقليد ، لعدم إناطته بإحراز مطابقة فتوى المجتهد للواقع أصلا.

(٢) هذه المناقشة مختصة بآية السؤال ولم يذكرها في بحث حجية الخبر ، وحاصلها :

__________________

(*) أورد المحقق الأصفهانيّ (قده) على الاستدلال بآية النفر على حجية فتوى الفقيه بـ «ان التفقه

٥١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

أنّه لو سلّمنا دلالة ظاهر الآية على وجوب قبول قول العالم تعبدا ، فمع ذلك لا يمكن الاستدلال بآية السؤال هنا لمانع آخر ، وهو : أنّ المراد بأهل الذّكر ليس مطلق العالم بنحو الكبرى الكلية حتى ينطبق على المجتهد والفقيه ، بل المقصود منه إمّا علماء أهل الكتاب كما هو مقتضى سياق الآية ـ على ما أفيد ـ ومورد السؤال في الآية هو النبوة التي تجب المعرفة بها لا القبول تعبدا ، فلا ربط له بالفروع التي هي مورد البحث. وإمّا الأئمة الأطهار (عليهم الصلاة والسّلام) ، كما ورد في النص المستفيض ، ومن المعلوم أن السؤال منهم رافع لداء الجهل حقيقة. وعلى كلا التقديرين لا دلالة للآية المباركة على التقليد المبحوث عنه في المقام أعني به أخذ فتوى الغير تعبدا في الفروع.

__________________

إن كان موقوفا على إعمال النّظر كانت الآية دليلا على حجية الفتوى. وإن لم يكن كذلك ، بل كان مجرد العلم بالحكم بالسماع من المعصوم عليه‌السلام تفقها فلا دلالة لها على حجية الفتوى ، بل على حجية خبر الفقيه ، والإنذار بحكاية ما سمعوه من الإمام عليه‌السلام من بيان ترتب العقاب على شيء فعلا أو تركا مما لا ينبغي الريب فيه. بل كان في الصدر الأوّل الإفتاء والقضاء بنقل الخبر» (١).

لكن يمكن أن يقال : انّ التفقه المأمور به ـ بناء على أن يكون المراد به العلم بالأحكام الشرعية كما هو مبنى الاستدلال بهذه الآية على حجية فتاوى الفقهاء ـ معناه تحصيل العلم بالأحكام ، وهذا العلم يحصل للنافرين بسماع معالم الدين من المعصوم عليه‌السلام كما أنّه بالنسبة للمختلفين يكون طريق علمهم بالأحكام سماعها من النافرين ، وبالنسبة إلى غيرهم ممن لم يكن في عصر الحضور يكون طريق علمهم بالأحكام الفحص عنها في الكتاب والسنة ، وهذا هو الاجتهاد الّذي لم يكن التفقه في الصدر الأوّل متوقّفا عليه ، بل كان بسماع الحديث ، لكن لا خصوصية في السماع ، بل اللازم التفقه في الدين بمعنى تحصيل العلم بالشريعة ، وهو معنى عام قابل للانطباق على كلّ من سماع الآية والحديث ، ومن العلم به عن الاجتهاد والنّظر في الأدلة.

نعم لا ريب في تفاوت معرفة الأحكام في عصر الحضور مع معرفتها في أمثال زماننا سهولة وصعوبة ، فان التفقه في الصدر الأوّل كان بسماع الحديث من دون توقفه على شيء من العلوم حتى علم اللغة لكونهم من أهل اللسان ، وهذا بخلاف الأعصار المتأخرة ، لتوقف التفقه في الدين على

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٢١٠

٥١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مقدمات كثيرة. لكنه لا يوجب اختلافا في معنى الاجتهاد والتفقه.

لكن قد يشكل الاستدلال بهذه الكريمة على حجية الفتوى بامتناع إرادة القبول تعبدا ، لوجهين :

أحدهما : استناد الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام إليها في مسألة وجوب الفحص عن الإمام بعد أن حدث بالإمام حدث ، ومن المعلوم مطلوبية العلم بإمامة الإمام اللاحق ، لئلا يندرج في قوله (عليه‌السلام) : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» والروايات كثيرة مذكورة ذيل الآية الشريفة في تفسير البرهان ، ونقتصر على ذكر واحدة منها تبركا ، وهي ما رواه عن ثقة الإسلام عن محمد ابن يحيى عن محمد بن الحسين عن صفوان عن يعقوب بن شعيب ، قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إذا أحدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال : أين قول الله عزوجل : فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون؟ قال : هم في عذر ما داموا في الطلب ، وهؤلاء الّذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم» (١).

ثانيهما : أنّ المأمور به في الآية الشريفة هو التفقه في الدين ، وليس التفقه فيها إحراز الأحكام الشرعية الإلزامية خاصة ، فإنّ تعريف الفقه بالعلم بالأحكام الفرعية اصطلاح من الأصحاب ، وإلّا فللتفقه في الدين معنى أوسع من معرفة الحلال والحرام ، وقد أطلق في الأخبار «الفقه الأكبر» على طور آخر من المباحث ، فالفقه بمعنى «العلم بالأحكام» شيء من التفقه في الدين وليس بتمامه ، لأنّ المعارف المتعلقة بالمبدإ والمعاد والسنن والأخلاق وغيرها كلّها من الدين ، وقد أمر سبحانه وتعالى بالتفقه بهذا المعنى الواسع. ويشهد له الخبر المتقدم المتضمن لاستدلال الإمام الصادق عليه‌السلام بالآية المباركة على وجوب الفحص عن الإمام ، وعدم كون العباد في سعة من ترك الطلب والفحص عنه عليه‌السلام.

وعليه نقول : إنّ وجوب قبول إنذار الفقيه تعبدا لا يلتئم مع الأمر بالتفقه بهذا المعنى ، لفرض اعتبار العلم بالأصول الاعتقادية ، وعدم كفاية إنذار المتفقه في وجوب قبولها ولو لم يفد اليقين. ولا بد من التصرف إمّا في إطلاق «الفقه» بإرادة معناه المصطلح عند الفقهاء ، حتى يتجه الاستدلال بها على حجية الفتوى ، لوجوب قبول العامي لها سواء حصل له العلم بالواقع أم لا. وإمّا في وجوب التحذر بحمله على التحذر عند حصول العلم ، والتصرف في الفقه بإخراج الأحكام الفرعية التي لا يتوقف إذعانها والعمل بها على معرفتها ، لوضوح امتناع إرادة الوجوب الإرشادي والمولوي من

__________________

(١) تفسير البرهان ، ٢ ـ ١٧١

٥١٤

كما هو ظاهرها (١) ، أو أهل بيت العصمة الأطهار كما فسّر به (٢) في الأخبار (٣).

______________________________________________________

(١) هذا الاستظهار لا بد أن يكون من جهة إطلاق «الذّكر» على التوراة في قوله تعالى : «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذّكر» وأهل الذّكر حينئذ هم أحبار اليهود ، أو لزعم أن المخاطبين هم عوام اليهود ، فالشاهد عليه هو السياق.

(٢) أي : بأهل بيت العصمة الأطهار عليهم‌السلام.

(٣) المستفيضة ، ومعها لا وجه لإرادة أحبار اليهود من أهل الذّكر ، مع أنّ الذّكر أطلق في بعض الآيات الشريفة على نفس القرآن تارة ، وعلى شخص الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرى ، فمن الأخبار المبيّنة للمراد من الآية ما رواه ابن بابويه ، قال : «حدثنا علي بن الحسين بن شاذويه المؤدب وجعفر بن محمّد بن مسرور ، قالا : حدثنا محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أبيه ، عن الريان بن الصلت ، قال : حضر الرضا عليه‌السلام مجلس المأمون ، وقد اجتمع إليه في مجلسه جماعة من علماء العراق وخراسان ، وذكر الحديث ، إلى أن قال فيه الرضا عليه‌السلام : نحن أهل الذّكر الذين قال الله في كتابه : فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون ، فنحن أهل الذّكر ، فاسألونا إن كنتم لا تعلمون ، فقالت العلماء : إنّما عنى بذلك اليهود والنصارى ، فقال أبو الحسن : سبحان الله ، وهل يجوز ذلك؟ إذا يدعونا إلى دينهم ويقولون هو أفضل من دين الإسلام ، فقال المأمون : فهل عندك شرح بخلاف ما قالوا يا أبا الحسن؟ فقال : نعم ، الذّكر رسول الله ونحن أهله ، وذلك بيّن في كتاب الله تعالى حيث يقول في سورة الطلاق : فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبيّنات ، فالذكر رسول الله ونحن أهله» ونحوها غيرها (١).

__________________

«يحذرون» فيكون الأوّل لموارد اعتبار العلم ، والثاني للقبول التعبدي ، ولو لم يكن التصرف في الحذر أولى من التصرف في التفقه فلا أقل من الإجمال ، وتسقط دلالة الآية على اعتبار فتوى المجتهد تعبدا.

__________________

(١) راجع تفسير البرهان ، ١ ـ ٣٧١

٥١٥

نعم (١) لا بأس بدلالة الأخبار عليه (٢) بالمطابقة أو الملازمة ، حيث (٣) دلّ بعضها على وجوب اتّباع قول العلماء (٤) ،

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى ثاني الأدلة اللفظية المستدل بها على جواز التقليد ، واستدراك على قوله : «بل هذه هي العمدة في أدلته» وحاصل العبارة بعد ضمّ الاستدراك إلى هذه الجملة هو : أنّ العمدة في أدلة جواز التقليد أمران ، أحدهما : بداهته وجبليته وفطريته ، وثانيهما : الأخبار المتواترة إجمالا. والفرق بينهما أنّ الأوّل دليل العامي على إلزام نفسه بالرجوع إلى المجتهد ، والثاني دليل المجتهد في حكمه بجواز التقليد في حق العامي.

(٢) أي : على جواز التقليد. قال شيخنا الأعظم في عدّ أدلة جواز التقليد : «والسنة المتواترة الواردة في الإذن في الإفتاء والاستفتاء عموما وخصوصا منطوقا ومفهوما» (١).

(٣) بيان لدلالة الأخبار على جواز التقليد بالمطابقة أو الالتزام ، والمستفاد من المتن أنّ المصنف (قده) جعل هذه النصوص المختلفة طوائف أربع ، اثنتان منها تدلان على المدعى بالمطابقة ، واثنتان منها بالالتزام.

(٤) مثل ما ورد في بيان وظيفة عوامّ الشيعة الإمامية في عصر الغيبة بلسان عام ، وهي روايات :

منها : التوقيع المبارك الصادر من الناحية المقدسة إلى إسحاق بن يعقوب كما رواه الشيخ في كتاب الغيبة ، وفيه : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله» (٢) ، فإنّ الأمر بالرجوع إلى رواة حديثهم عليهم‌السلام يدل على وجوب اتّباع قول العلماء ، وحرمة ردّه.

وبيانه : أنّ في أداة التعريف في كلمة «الحوادث» احتمالين :

الأوّل : أنّ تكون للاستغراق ، فالمقصود هو الإرجاع إلى رواة أحاديثهم في كل ما يصحّ أن يرجع إليهم ، ومن المعلوم شمول هذا العنوان لكلّ من الشبهة الحكمية الكلية كوجوب جلسة الاستراحة وحرمة العصير العنبي ، وللشبهة الموضوعية ، بلحاظ حكمها الكلي أو بلحاظ حكمها الجزئي لو فرض الاختلاف والتشاجر فيه.

__________________

(١) رسالة الاجتهاد والتقليد ، ص ٤٨

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٩ ، ص ١٠١

٥١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : أن يكون اللام للعهد إلى خصوص الحوادث التي سألها إسحاق بن يعقوب من الناحية المقدسة ، وعليه يكون إرجاعه عليه‌السلام إيّاه إلى رواة الأحاديث في شبهات معيّنة ووقائع محدودة ، ولا يستفاد من نفس هذا الإرجاع حجية أقوال العلماء في حق العوام مطلقا. لكن التعليل بقوله عليه‌السلام : «فانهم حجتي عليكم» واف بإثبات عموم حجية أقوال العلماء ، لدلالته على حجية أقوالهم في جميع ما ينبغي الرجوع فيه إلى الإمام المعصوم عليه‌السلام لمعرفته ، سواء أكان مورد الرجوع السؤال عن حكم إلهي كلي أم جزئي لفصل خصومة أم غيرهما ، بل حمل التوقيع على مورد الترافع والقضاء خاصة لا يخلو من بعد ، فان الاحتياج إلى الفتوى أكثر من القضاء قطعا.

فان قلت : هذا التوقيع الشريف إنما يدلّ على اعتبار روايات رواة أحاديثهم ، ولا يدل على حجية آرائهم ، والمجدي في المقام إثبات اعتبار آراء الفقهاء ، لا نقلهم للروايات خاصة.

قلت : بناء على ما ذكرناه من عموم «الحوادث» ـ بنفسه أو بمقتضى التعليل ـ للسؤال عن الشبهة الحكمية ـ يدل التوقيع على حجية فتاوى الفقهاء أيضا ، كما يدلّ على حجية رواياتهم ، وذلك لأنّ الحادثة المسئول عن حكمها ربما لا تكون منصوصة حتى يجيب الفقيه السائل بقراءة ألفاظ الرواية ، فلا بد أن يشمل هذا التوقيع حجية جواب رواة الأحاديث مطلقا سواء كان الجواب بقراءة نصّ الحديث أم كان بالاجتهاد وإعمال النّظر.

ولعل النكتة في التعبير بـ «رواة أحاديثنا» دون التعبير بـ «العلماء والفقهاء» هي التنبيه على أن علماء الفرقة المحقّة ليس لهم رأي من عند أنفسهم في قبال الأئمة المعصومين عليهم‌السلام الّذين هم خزنة علمه تعالى ، لأنّ علماء الشيعة لا يستندون في فتاواهم إلى القياس والاستحسان ونحوهما مما يستند إليه المخالفون ، وإنّما يعتمدون في فتاواهم على الروايات المأثورة عنهم عليهم‌السلام بطرق معتبرة ، ويفرّعون على الأصول المتلقاة منهم عليهم‌السلام.

وعليه فليس المقصود إرجاع عوام الشيعة إلى خصوص رواياتهم وأحاديثهم حتى يقتصر فيه على حجية ما يرويه رواة الأحاديث ، بل المقصود الإرجاع إلى أشخاص

٥١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الرّواة ، ومن المعلوم انطباقه على الفقهاء والمجتهدين في عصر الغيبة.

ومنها : خبر أحمد بن حاتم بن ماهويه ، قال : «كتبت إليه ـ يعني أبا الحسن الثالث (عليه‌السلام) ـ أسأله عمّن آخذ معالم ديني؟ وكتب أخوه أيضا بذلك. فكتب إليهما : فهمت ما ذكرتما ، فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، وكل كثير القدم في أمرنا ، فإنّهما كافوكما إن شاء الله تعالى» (١).

والمقصود بالمسنّ في حبهم وكثير القدم في أمرهم عليهم‌السلام هو الّذي تفقه عندهم ، وظاهر الأمر بالرجوع إلى مثله قبول قوله والعمل به ، سواء أكان جواب هذا الفقيه بقراءة لفظ الحديث الصادر عنهم عليهم‌السلام ، أم باجتهاده بالجمع بين خبرين أحدهما ظاهر والآخر أظهر مثلا ، أو بتطبيق قاعدة كلية متلقاة منهم عليهم‌السلام على مورد السؤال ، أو غير ذلك.

والمدّعي أنه ليس في هذه الرواية قرينة على الإرجاع إلى رواية كل مسنّ في حبّهم وكل كثير القدم في أمرهم عليهم‌السلام حتى تختص هذه الرواية بحجية خبر الإمامي العدل مثلا ، لوضوح الفرق بين الإرجاع إلى الفقيه بما هو فقيه في الدين ، والإرجاع إلى الفقيه بما هو راو لحديثهم كما في مثل قوله عليه‌السلام : «أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) فلا يجوز لك أن تردّه» إذ لا منافاة بين الأمرين كي يحمل أحدهما على الآخر.

ومنها : خبر علي بن سويد السابي ، قال : «كتب إليّ أبو الحسن عليه‌السلام وهو في السجن : وأمّا ما ذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك؟ لا تأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا ، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه ، فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله ولعنة ملائكته ، ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة ...» (٢).

ودلالته على المدّعى واضحة ، فإنّ الشيعي الّذي يجب أخذ معالم الدين منه هو الفقيه المتمسّك بالكتاب والسنة ، ولا يعمل بالرأي والقياس والاستحسان ، والأمر بأخذ معالم الدين من هذا الفقيه الإمامي ـ المستفاد من النهي عن الأخذ عن غير الإمامي ـ ملازم

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٥ ، ص ١١٠

(٢) المصدر ، الحديث : ٤٢ ، ص ١٠٦

٥١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لوجوب القبول ، وهذا هو التقليد المبحوث عنه.

هذا ما دلّ على وجوب متابعة العلماء بلسان العموم ، وظاهر المتن «دلّ بعضها على وجوب اتباع قول العلماء» إرادة هذه الأخبار من الطائفة الأولى الدالة على وجوب اتباع العلماء بلسان العموم.

لكن يدلّ على هذا المضمون الأخبار الحاكية للإرجاع إلى أقوال أشخاص معيّنين من فقهاء الرّواة ، لا إلى رواياتهم حتى يقال بدلالتها على حجية ما يرويه الثقة خاصة.

فمنها : صحيح أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : «سألته وقلت : من أعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال : العمري ثقتي ، فما أدّى إليك فعني يؤدّي ، وما قال لك فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون. قال : وسألت أبا محمّد (عليه‌السلام) عن مثل ذلك ، فقال : العمري وابنه ثقتان ، فما أدى إليك فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعمها ، فانهما الثقتان المأمونان» (١).

والسائل وهو أحمد بن إسحاق القمي وإن كان من أجلّة صحابتهم عليهم‌السلام ، لكن لا ينافي ذلك استعلامه من الإمام المعصوم عمّن يصلح للإفتاء وأخذ معالم الدين منه ، وظاهر الجواب أنّهما عليهما‌السلام أرجعاه إلى العمري وابنه.

ولا يخفى أن قوله عليه‌السلام : «فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤديان» لا يختص بنقل الأحاديث ، بل يعمّ الفتوى أيضا ، فإنّ الإفتاء المستند إلى أحاديثهم عليهم‌السلام يصدق عليه أنّه أداء عنهم. وعليه فلا تكون كلمة «عني يؤدي» قرينة على إرادة توثيق العمري ، كي يختص مدلول هذه الصحيحة بحجية خبر الثقة كما ذكرناه في بحث حجية الخبر.

ومنها : صحيح شعيب العقرقوفي قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء ، فمن نسأل؟ قال عليه‌السلام : عليك بالأسدي ، يعني أبا بصير» (٢).

ومنها : خبر يونس بن يعقوب : «كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال : أمّا لكم من مفزع؟ أمّا لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري» (٣) وظاهر المفزع والمستراح هو الّذي يرجع إليه في معرفة الأحكام الشرعية.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤ ، ص ٩٩

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٥ ، ص ١٠٣

(٣) المصدر ، الحديث : ٢٤ ، ص ١٠٥

٥١٩

وبعضها (١) على أن للعوام تقليد العلماء ،

______________________________________________________

ومنها : خبر عليّ بن المسيب : «قلت للرضا عليه‌السلام : شقتي بعيدة ، ولست أصل إليك في كل وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال عليه‌السلام : من زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا. قال ابن المسيب : فلما انصرفت قدمت على زكريا بن آدم فسألته عما احتجت إليه» (١).

وظاهر الأمر بالأخذ من زكريا هو وجوب العمل بما يقوله ، سواء أكان قوله متن الحديث أم فتوى مستفادة من جمع بين حديثين أو من تطبيق قاعدة كلية على مورد السؤال.

ومنها : خبر عبد العزيز بن المهتدي : «سألت الرضا عليه‌السلام ، فقلت : إنّي لا ألقاك في كل وقت فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال : خذ عن يونس بن عبد الرحمن» (٢).

ومنها : خبر أبي تراب الروياني ، قال : سمعت أبا حماد الرازي يقول : «دخلت على علي بن محمّد عليهما‌السلام بسرّمن رأي ، فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني فيها ، فلمّا ودّعته قال لي : يا حماد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فاسأل عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، وأقرئه مني السلام» (٣).

ومنها : غير ذلك ، كإرجاع عبد الله بن أبي يعفور إلى محمّد بن مسلم (٤) ، وغيره إلى غيره مما ظاهره الإرجاع إلى الأقوال والآراء ، ولا أقل من دلالة إطلاقها على حجية آرائهم كحجية رواياتهم.

هذه عدة من أخبار الطائفة الأولى المشار إليها في المتن.

(١) معطوف على «بعضها» في قوله : «دل بعضها» أي : ودلّ بعض الأخبار على ... ، وهذا إشارة إلى الطائفة الثانية ، وهي ما يدلّ على جواز التقليد بالمطابقة أيضا ، كرواية التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : «فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه» ، ودلالتها بالمطابقة على جواز التقليد واضحة ، لقوله عليه‌السلام : «فللعوام أن يقلدوه» فإنّ اللام نصّ في إفادة أصل

__________________

(١) المصدر ، الحديث : ٢٧ ، ص ١٠٦

(٢) المصدر ، الحديث : ٣٤ ، ص ١٠٧

(٣) مستدرك الوسائل ، ج ٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٣١ ، ص ١٨٩

(٤) الوسائل ، ج ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٢٣ ، ص ١٠٥

٥٢٠