منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

فصل (١)

الاجتهاد لغة (٢) تحمّل المشقة ،

______________________________________________________

تعريف الاجتهاد

(١) تعرض المصنف «قده» لأحكام الاجتهاد في ضمن فصول ، وحيث إنّ كلّا من الاجتهاد والمجتهد موضوع لآثار عديدة عقد هذا الفصل لتعريف الاجتهاد حتى يظهر حدود موضوع تلك الأحكام والآثار.

(٢) الاجتهاد مأخوذ من الجهد ، وهو بذل الوسع والمجهود في طلب الأمر ، قال في اللسان : «الجهد والجهد الطاقة ... وقيل : الجهد المشقة ، والجهد الطاقة ... قال ابن الأثير : قد تكرر لفظ الجهد والجهد في الحديث ، وهو بالفتح المشقة ، وقيل : المبالغة والغاية وبالضّم الوسع والطاقة. وقيل : هما لغتان في الوسع والطاقة ، فأمّا في المشقة والغاية فالفتح لا غير ... إلى أن قال : والاجتهاد والتجاهد : بذل الوسع والمجهود. وفي حديث معاذ : اجتهد رأي الاجتهاد : بذل الوسع في طلب الأمر ، وهو افتعال من الجهد الطاقة ...» (١)

وعلى هذا فما في المتن من كون الاجتهاد ـ لغة ـ بمعنى تحمل المشقة مبنيّ على أحد أمرين ، إمّا كون «الجهد» بالفتح والضم بمعنى واحد ، وإمّا اشتقاق هذه الكلمة من «الجهد» بالفتح إلى هو بمعنى المشقة. وإلّا فبناء على سائر ما قيل في معنى الكلمة لا يكون الاجتهاد بمعنى تحمل المشقة.

__________________

(١) لسان العرب ، ٣ ـ ١٣٣ ، ١٣٥

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى كلّ فالظاهر اعتبار كون الاجتهاد تحمّلا للمشقة ، أو بذلا للوسع في عمل فيه ثقل وصعوبة كحمل حجر ثقيل ، فلا يقال : «اجتهد في حمل ورقة أو نواة».

(١) ينبغي التنبيه على نكتة قبل توضيح المتن ، وهي : أنّ الموضوع للآثار الشرعية في الأدلة ـ كجواز الإفتاء ونفوذ القضاء ونحوهما ـ ليس هو عنوان «المجتهد» بل عنوان «العالم والفقيه والعارف بالأحكام» ونحوها ، وكان المناسب حينئذ تعريف «الفقاهة» ونحوها باعتبار ترتب الأحكام عليها دون عنوان «الاجتهاد».

لكن المقصود من الجميع واحد ، وهو استخراج الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية. والوجه في العدول عن تلك العناوين إلى عنوان «الاجتهاد والمجتهد» أحد أمرين :

الأوّل : أن معرفة الأحكام الشرعية متوقفة أوّلا على وجود ملكة يقتدر بها على الاستنباط وردّ الفروع إلى الأصول ، وثانيا على إعمال هذه القدرة بالنظر في أدلّة الفقه ، وكلمة «الاجتهاد» تدل على هذين الأمرين. وبيانه : أنّ أجمع رواية دلّت على اعتبار الاجتهاد في القاضي ـ كما قيل ـ هي مقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة في مباحث التعادل والترجيح ، وذلك لقوله «عليه‌السلام فيها» : «ينظر إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما» فاعتبر عليه‌السلام أمورا ثلاثة في القاضي ، أوّلها : رواية حديثهم عليهم‌السلام وثانيها : النّظر في حلالهم وحرامهم ، عليه‌السلام وثالثها : معرفة أحكامهم عليهم‌السلام.

وليست هذه العناوين مترادفة ، بل الثاني أخص من الأوّل ، والثالث أخص من الثاني ، وذلك لأنّ القاضي وإن اعتبر فيه رواية الحديث ، إلّا أن مجرد روايته له لا يلازم دراية الحكم الشرعي في الواقعة ، لاجتماع الرواية مع عدم الدراية ، فإنّ كثيرا من رواة الأخبار ونقلة الأحاديث لم يكونوا علماء ، بل من العوامّ الذين دعتهم الحاجة الشخصية إلى السؤال عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين» والمراجعة إليهم ، وقد ورد عنهم عليهم‌السلام : «ربّ حامل فقه وليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».

ولذا اعتبر عليه‌السلام في القاضي ـ مضافا إلى رواية الحديث ـ النّظر في الحلال والحرام ، إذ المقصود بالنظر فيهما التأمّل والتدبّر فيهما ، فإنّ «النّظر» إذا تعدّى بـ «في»

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

دلّ على التفكر ، وإذا تعدّى بـ «إلى» دلّ على معنى الإبصار. ومن المعلوم توقف التأمّل والتدبّر في الأحاديث ـ خصوصا المتعارضة منها ـ على قوّة يتمكن بها من تأسيس الأصل في المسألة الأصولية ـ من التخيير واستحباب الترجيح أو وجوبه ، والتعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها ، وعدمه ، وغير ذلك ـ فالقاضي يجب عليه النّظر في المسألة والتدبر في الروايات ، فقد يؤدّي هذا النّظر إلى معرفة الحكم الشرعي وقد لا يؤدّي ، بشهادة صحة قول القائل : «نظرت في كتاب كذا وتأملته ولم أتحصل معناه» فالناظر في الروايات عالم بالكبريات ، لكن قد يعجز عن تطبيقها على بعض الموارد.

ولأجل لزوم معرفة القاضي بالحكم الجزئي ـ وعدم كفاية تأسيس القواعد والأصول ـ اعتبر عليه‌السلام فيه معرفته بالحكم الجزئي بسبب القدرة على تطبيق الكبريات على صغرياتها. ولعلّ الوجه في قوله عليه‌السلام : «وعرف أحكامنا» دون «وعلم أحكامنا» هو تعلق العلم بالأحكام الكلية والمعرفة بالأحكام الجزئية الشخصية ، لوضوح أنّ شأن القاضي فصل الخصومة وإنشاء الحكم في الواقعة الجزئية.

وعلى هذا فالاجتهاد المعتبر عندنا ـ وهو استخراج الأحكام من الكتاب والسنة ـ يستفاد اعتباره من المقبولة ونحوها ، وليس أخذ «الاجتهاد» في التعريف إلّا تبديل لفظ بلفظ أخصر منه وأوضح دلالة عليه ، لتوقف هذه المعرفة غالبا على بذل الوسع وتحمل المشقة ، فلا اثنينيّة بين عنوان الاجتهاد ومعرفة الأحكام حينئذ.

الثاني : أن الأصل في تعريف الاجتهاد هم العامة بلحاظ إطلاق «المجتهد» على بعض الصحابة في مقام توجيه مخالفتهم للكتاب والسنة ، فتبعهم أصحابنا في أصل هذا العنوان ، وتصرّفوا في التعريف بما ينطبق على أصول المذهب. قال المحقق في المعارج : «وهو ـ أي الاجتهاد ـ في عرف الفقهاء : بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهادا ، ولأنّها تبتني على اعتبارات نظريّة ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر ، وسواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره ... فان قيل : يلزم على هذا أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد. قلنا : الأمر كذلك. لكن فيه إبهام ، من حيث إنّ القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد

٣٦٣

والعلّامة (١) ـ «استفراغ الوسع (٢) في تحصيل الظنّ بالحكم

______________________________________________________

في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس» (١).

وعلى هذا يكون جعل العنوان «الاجتهاد» مجرد متابعة للعامة في التسمية ، لا في المقصود منه ، كما عرفت تصريح المحقق به.

وكيف كان فالمذكور في المتن تعريفان للاجتهاد ، أحدهما ناظر إلى كونه ملكة نفسانية راسخة ، وثانيهما إلى كونه فعلا خارجيا وهو الاستنباط الفعلي للأحكام بالنظر في أدلتها. وسيأتي الكلام فيهما.

(١) تعريف العلامة «قده» للاجتهاد مشتمل على تتمة لم تذكر في المتن ، ففي كتابه نهاية الوصول عرّفه بقوله : «وأمّا في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية ، بحيث ينتفي اللوم عنه بسبب التقصير» ثم قال : «وإنّما قلنا في طلب الظن ليخرج الأحكام القطعية. وقولنا : بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج الاجتهاد في الأمور العقلية. وقولنا : بحيث ينتفي اللوم عنه بسبب التقصير ليخرج اجتهاد المقصّر مع إمكان المزيد عليه ، فإنّه لا يعدّ اجتهادا معتبرا». وحكي ما يقرب منه عن كتاب التهذيب. وعليه فالاجتهاد عند العلّامة ليس تحصيلا لمطلق الظن بالحكم الشرعي ، بل يعتبر خصوص الظن الّذي لا يمكن المزيد عليه بالفحص.

(٢) هذا المعنى للاجتهاد يكون أخصّ من المعنى اللغوي على تقدير ، وملزوما له على تقدير آخر ، وبيانه : أنه بناء على كون المعنى اللغوي للجهد هو الوسع والطاقة ـ سواء أكان «الجهد» بالفتح أم بالضم ، أو كان الاجتهاد مأخوذا من «الجهد» بالضم الّذي هو بمعنى الوسع أيضا على قول الفراء ـ يكون المعنى الاصطلاحي أخص من اللغوي ، لكون «استفراغ» الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي» من أفراد مطلق بذل الوسع ، فيكون من نقل العام إلى الخاصّ. وبناء على كون معنى «الجهد» لغة المشقة يكون المعنى الاصطلاحي المذكور ملزوما للمعنى اللغوي ، ضرورة لكون استفراغ الوسع مستلزما للمشقة ، فيكون من نقل اللازم الأعم إلى ملزومه كما هو واضح.

وعلى التقديرين يكون المعنى الاصطلاحي منقولا لا مرتجلا. ولعل الأنسب اشتقاقه

__________________

(١) معارج الأصول ، ص ١٨٠

٣٦٤

الشرعي» (١). وعن غيرهما (٢) «ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم (٣) الشرعي الفرعي من الأصل (٤) فعلا أو قوّة قريبة (٥)».

ولا يخفى (٦) أنّ اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحا ليس من

______________________________________________________

من الجهد بمعنى المشقة ، فالاجتهاد عبارة عن تحمل المشقة في تحصيل الظن أو الحجة على الحكم الشرعي.

(١) الموجود في القوانين نقلا عن الحاجبي والعلامة «استفراغ الفقيه الوسع» وكذا في المعالم (١).

(٢) حكي هذا التعريف عن زبدة الشيخ البهائي «قده» ، والمناسبة بين هذا المعنى وبين المعنى اللغوي هي علاقة السببية ، وإذ تحمّل المشقة أو بذل الوسع سبب لحصول الملكة ، وعلى هذا التعريف يكون الاجتهاد من الملكات التي هي من الصفات النفسانيّة الراسخة.

(٣) اللام للجنس بناء على جواز التجزي ، وللاستغراق بناء على عدمه.

(٤) أي : من الحجة على الحكم سواء أكانت أمارة أم أصلا عمليا.

(٥) كلاهما قيد للاستنباط ، يعني : أنّ الاستنباط تارة يكون فعليا كما إذا استنبط الأحكام واستخراجها من أدلتها ، وأخرى يكون بالقوّة القريبة ، بمعنى أنه لم يتصدّ بعد للاستنباط ، إمّا لفقدان بعض أسبابه لعدم استحضار الدليل من كتب الأخبار ، وإمّا لعارض آخر كمرض وغيره ، فإنّ الاستنباط حينئذ يكون بالقوة القريبة لا بالقوة البعيدة ، وإلّا كان العامي الّذي له استعداد النيل بملكة الاستنباط مجتهدا ، مع أنه ليس كذلك.

وعليه فالقيد الأخير يدلّ على أمرين ، أحدهما : إدراج صاحب الملكة ـ غير المستنبط بالفعل ـ في التعريف ، وثانيهما : إخراج العامي وهو من لم تحصل له هذه الملكة أصلا عن الحدّ ، فالمجتهد إمّا أن تكون استنباطاته فعليّة ، وإمّا أن تكون بالقوة القريبة من الفعل.

(٦) غرضه من هذا الكلام ـ كما سبق منه في مواضع من الكتاب في مقام التعريف ـ هو

__________________

(١) معالم الأصول ، ص ٢٣٢

٣٦٥

جهة الاختلاف في حقيقته وماهيته ، لوضوح (١) أنهم ليسوا في مقام بيان حدّه أو رسمه ، بل إنّما كانوا في مقام شرح اسمه والإشارة إليه بلفظ آخر وإن لم يكن مساويا له بحسب مفهومه ، كاللّغوي (٢) في بيان معاني الألفاظ بتبديل (٣) لفظ بلفظ آخر ولو كان أخص (٤) منه مفهوما ، أو أعم (٥).

ومن هنا (٦) انقدح أنّه لا وقع للإيراد على تعريفاته

______________________________________________________

الاعتذار عن اختلاف الأصحاب في تعريف الاجتهاد ، بأنّ التعريفين المذكورين في المتن ليسا تعريفين حقيقيّين مبيّنين لمطلب «ما» الحقيقية ، حتى يكون اختلاف التعريفين من جهة القيود المأخوذة فيهما كاشفا عن اختلاف الأصحاب في حقيقة الاجتهاد وماهيّته كي يلزم النقض والإبرام ، وإنّما يكون مقصود كلّ منهما تعريف الاجتهاد بمعنى شرح اسمه ، والإشارة إليه بما يدلّ عليه وإن لم يبيّن ماهيته كما هو حقّه ، وحينئذ فلا مجال للإشكال على التعريفين وغيرهما بعدم الطرد والعكس كما في بعض المطوّلات.

(١) تعليل لقوله : «ليس من جهة» وذلك لعدم داع لهم إلى التصدّي لشرح ماهية الاجتهاد بعد تأدّي المقصود بالإشارة إليه بوجه ما يميّزه عمّا عداه في مقام بيان ما له من الآثار.

(٢) متعلق بـ «كانوا» أي : كان الأصوليون كاللّغويّين في مقام شرح الاسم فقط ، لا بصدد التعريف الحقيقي.

(٣) متعلق بقوله : «بيان معاني الألفاظ» وبيان له.

(٤) أي : ولو كان اللفظ الآخر أخص من اللفظ المبدّل الّذي يراد شرحه وتعريفه ، كما إذا قال : «الحيوان ناطق».

(٥) أي : أعم منه مفهوما ، كما إذا قال : «سعدانة نبت» أو «الإنسان حيوان».

(٦) أي : ومما ذكرنا من عدم كون تعريف الاجتهاد من التعريفات الحقيقية ـ بل من التعريفات اللفظية ـ ظهر عدم المجال للإيراد على تعريفات الاجتهاد بعدم الانعكاس تارة وبعدم الاطّراد أخرى ، فإنّ ورود هذه المناقشات مبني على كون التعريفات حقيقيّة

٣٦٦

بعدم الانعكاس (١) أو الاطّراد (٢) ،

______________________________________________________

لا لفظية. لكنه قد تقدم التنبيه في مواضع على أن تكثير القيود واختلاف التعبيرات شاهدان على إرادة التعريف الحقيقي.

(١) الأولى أن يقال : «على تعريفاته عكسا أو طردا». أمّا التعريف الأوّل فأورد عليه أوّلا : بعدم الانعكاس ، حيث إنّ استنباط الحكم من الأصل العملي كالاستصحاب والبراءة اجتهاد ، مع أنه لا يحصل من الأصل العملي ظنّ بالحكم الشرعي ، فلا يشمل الحدّ جميع أفراد المحدود.

وثانيا : باختصاص هذا التعريف بما إذا أدّى الاجتهاد إلى الظن بالحكم الشرعي ، وعدم شموله لموارد أدائه إلى القطع به كموارد الاستلزامات العقلية ، مع صدق الاجتهاد عليه قطعا.

وثالثا : بأنّ استفراغ الوسع ليس في جميع الفروع ، لتفاوت مداركها سهولة وصعوبة ، فاستنباط بعض الفروع لا يتوقّف على استفراغ الوسع ، مع أنه اجتهاد قطعا.

وغير ذلك مما أورد على عدم انعكاس التعريف الأول ، فراجع الفصول للوقوف عليها.

(٢) كالإيراد على التعريف الأوّل أيضا أوّلا : بأن استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالأحكام الأصولية ـ كحجية خبر الثقة والاستصحاب وغيرهما ـ يندرج في التعريف المزبور ، مع أنّه ليس ذلك الاجتهاد المعهود عرفا ، إذ المقصود تعريف الاجتهاد في علم الفقه ، لا مطلق ما يؤخذ من الشارع.

وثانيا : بأنه يندرج فيه استفراغ الوسع في تحصيل الأحكام الظنيّة المتعلقة بالموضوعات ، كتعيين الهلال لوجوب الصوم أو الإفطار ، وغير ذلك ، مع أنّه لا يعدّ ذلك من الاجتهاد المصطلح عرفا.

وكالإيراد على التعريف الثاني بعدم الطّرد أيضا ، حيث إنّ «قوّة الاستنباط» ربما تتناول القوة القريبة من الاجتهاد ، مع أنّها ليست باجتهاد قطعا ، إذ المقصود بقوة الاستنباط هو الملكة الحاصلة فعلا بدون التلبس بالاستنباط الفعلي. بخلاف القوة القريبة من الاجتهاد ، فإنّ معناها قرب حصول الملكة وعدم وجودها فعلا ، مع أنّ المشتغل بعلم الأصول إن لم تحصل له الملكة القدسيّة لم يصح إطلاق المجتهد عليه قطعا ، بلغ من

٣٦٧

كما هو (١) الحال في تعريف جلّ الأشياء لو لا الكل ، ضرورة (٢) عدم الإحاطة بها بكنهها أو بخواصّها (٣) الموجبة (٤) لامتيازها عما عداها لغير علّام (٥) الغيوب ، فافهم.

وكيف كان (٦) ، فالأولى تبديل «الظنّ بالحكم» بالحجة عليه (٧).

______________________________________________________

الفضل ما بلغ.

(١) أي : كما أنّهم في مقام شرح الاسم ـ دون التعريف الحقيقي ـ في تعريف جلّ الأشياء بل كلها.

(٢) تعليل لقوله : «كما هو» يعني : أنّ الوجه في كونهم في مقام شرح الاسم في جميع الموارد ـ لا في مثل المقام أي الاجتهاد خاصة ـ هو تعذّر الإحاطة بحقائق الأشياء ، ومن المعلوم أن جواب السؤال بـ «ما» الحقيقية متوقف على معرفة كنه الأشياء حتى يكون التعريف حقيقيا ، وإلّا فالتعريف إمّا رسم وإمّا شرح الاسم.

(٣) أي : بجميع خواصّ الأشياء بمقتضى الجمع المضاف إذ لا تتعذّر معرفة بعض الخواصّ للبشر.

(٤) صفة «الإحاطة» ، والضمائر من «بها إلى عداها» راجعة إلى الأشياء.

(٥) الّذي هو خالقها ، وذلك لاشتباه الجنس كثيرا بالعرض العام ، والفصل بالخاصّة ، كما تقدم بعض الكلام في بحث المشتق.

(٦) أي : سواء تمّ التوجيه المتقدم ـ من عدم كون التعريفين المتقدمين للاجتهاد حقيقيين وإنّما هما من التعريف اللفظي ـ أم لم يتم ، لظهور التعريف في كونه حقيقيا كاشفا عن كنه المعرّف وواقعه لا شارحا للاسم ، فالأولى تبديل ... إلخ. وجه الأولوية : أنّ المناط في الاجتهاد هو تحصيل الحجة على الحكم الشرعي لا الظن به ، لما عرفت من أن بعض الأحكام يستنبط من الأصول العملية التي لا تفيد الظن بالحكم الواقعي.

(٧) أي : الحكم. كما أنّ الأولى زيادة «الفرعي» على «الشرعي» ليخرج الاجتهاد في أصول الفقه. وكذا الأولى تبديل «استفراغ الوسع» بالاستنباط أيضا ، وإن كان الاجتهاد في هذه الأعصار أشدّ من طول الجهاد بالنسبة إلى كثير من الأحكام ، إلّا أنّ

٣٦٨

فإنّ (١) المناط فيه (٢) هو تحصيلها قوّة أو فعلا (٣) ، لا الظنّ (٤) ، حتى عند العامة القائلين بحجيته مطلقا (٥) (*) ، أو بعض (٦) الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحكام ، فانه (٧) مطلقا عندهم ـ أو عند الانسداد عنده ـ من أفراد الحجة ،

______________________________________________________

منها ما لا يتوقّف على استفراغ الوسع وبذل الجهد.

(١) تعليل لأولويّة تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه ، وقد عرفته آنفا.

(٢) أي : في الاجتهاد ، وضمير «تحصيلها» راجع إلى «الحجة».

(٣) قيدان للتحصيل ، نظير ما تقدم من كونهما قيدين للاستنباط في التعريف المحكي عن الزّبدة ، والأوّل كإقامة خبر الثقة التام الدلالة على حكم ، والثاني كواجديّته لملكة الاستنباط بدون تصدّيه لعملية الاستدلال.

(٤) يعني : ليس المناط في الاجتهاد تحصيل الظن بالحكم الشرعي حتى يقال في تعريفه : «استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي».

(٥) أي : سواء كان باب العلم بالأحكام مفتوحا أم منسدّا.

(٦) كالمحقق القمي «قده» القائل بحجية مطلق الظن عند انسداد باب العلم.

(٧) أي : فان الظن مطلقا عند العامة ـ أو في خصوص حال الانسداد عند بعض الخاصة ـ يكون من أفراد الحجة ، فقوله : «من أفراد الحجة» خبر قوله : «فانه» يعني : أن تعبير العامة أو الخاصة بالظن ليس لخصوصية في الظن ، بل لكونه من أفراد الحجة ، ولذا لا إشكال في كون تحصيل القطع بالحكم الشرعي من الأدلة اجتهادا أيضا.

ثم إن مقصوده «قده» من قوله : «فانه مطلقا ...» إلى آخر الفصل هو بيان صحة تعريف الاجتهاد بأنه «استفراغ الوسع لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي» إذ به يقع التصالح بين التعاريف المختلفة المذكورة في الكتب ، لرجوع النزاع إلى مصاديق الحجة ، دون

__________________

(*) هذه النسبة لا تخلو من تأمل ، فإنّ المعدود حجّة عند أكثرهم هو القياس ، لا خصوص ما أفاد الظن ، مضافا إلى حكاية حرمة العمل به عن بعضهم. نعم لا ريب في أن أكثر ما يستندون إليه يفيد الظن المنهي عن العمل به كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وعمل الصحابة وغيرها.

٣٦٩

ولذا (١) لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل

______________________________________________________

الكبرى وهو تحصيل الحجة على الحكم. وبيانه : أن تعريف الاجتهاد بـ «تحصيل الظن بالحكم الشرعي» قد ورد في كتب العامة كالحاجبي والخاصة كالعلامة ، وإن كان مقصود العلامة من الظن غير ما أراده الحاجبي. وأخذ الظن في التعريف صار منشأ للإيراد عليه بعدم حجية الظن ، وورود النهي عن متابعته في الكتاب العزيز ، ولأجله عدل بعض العامة وجمع من الخاصة عن أخذ الظن إلى أخذ العلم في التعريف ، فمن العامة الغزالي وغيره حيث حكي عنه تعريف الاجتهاد بأنه «بذل المجتهد وسعه في تحصيل العلم بالحكم الشرعي» ومن الخاصة ما تقدم في المتن من تعريف شيخنا البهائي ، إذ لم يؤخذ فيه قيد العلم ولا الظن.

وكذلك أورد بعض أصحابنا المحدثين على الأصوليّين بعدم العبرة بالاجتهادات الظنية ، للنهي عن متابعة الظن. وعليه فلو عرّف الاجتهاد بأنّه «تحصيل الحجة على الحكم الشرعي» كان به التخلّص عن إشكال أخذ الظن في التعريف ، لأنّ تحصيل الحجة على الحكم مما لا بدّ منه بحكم العقل عند الكل ، وإنّما يقع الكلام في مصداق ما هو الحجة ، ومن المعلوم أنّ ما اختلف في مصداقيّته للحجة لا يليق أخذه في التعريف حتى يكون منشأ للنزاع والنقض ، فأكثر العامة وإن عملوا بالظنون الحاصلة من القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسيرة الصحابة ونحوها ، إلّا أنّها بنظرهم حجج على الأحكام ، فلا وقع للإيراد على أصل التعريف بأنّ «الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل الحجة» لأنّ هذا المعنى مسلّم عند الكل ، وإنّما يرد عليهم عدم اعتبار هذه الظنون ، إذ لا دليل على حجيتها لو لا الدليل على إلغائها.

وكذا الحال في نزاع المحدثين مع الأصوليين ، لعدم كون النزاع في لزوم تحصيل الحجة ، لالتزام الكل به ، وإنّما هو في مصداق الحجة ، كما سيأتي «إن شاء الله تعالى».

(١) غرضه الاستشهاد على أنّ أخذ الظن في تعريف الاجتهاد يكون لأجل كونه مصداق الحجة ، لا لموضوعيته بالخصوص في الاجتهاد حتى لا يكون الاستنباط المؤدّي إلى العلم بالحكم الشرعي اجتهادا مصطلحا ، فالمناط كله تحصيل الحجة سواء كان علما أم ظنا أم غيرهما.

٣٧٠

غيره (١) من أفرادها من العلم بالحكم أو غيره (٢) ممّا اعتبر من (٣) الطرق التعبدية غير المفيدة للظن ـ ولو نوعا (٤) ـ اجتهادا (٥) أيضا (٦).

ومنه (٧) انقدح : أنّه لا وجه لتأبّي الأخباري عن الاجتهاد

______________________________________________________

(١) أي : غير الظن من أفراد الحجة ، وقوله : «من العلم» بيان لـ «أفرادها».

(٢) معطوف على «العلم بالحكم» وضميره راجع إليه ، والمراد بغير العلم بالحكم هو الأصول العملية ، إذ ليس فيها جهة كشف عن الواقع لا علما ولا ظنا ، لكنّها ـ لاعتبارها شرعا ـ يصحّ الاستناد إليها في مقام العمل. فقوله : «مما اعتبر» بيان لقوله : «أو غيره».

(٣) بيان للموصول في «مما اعتبر» والأولى تبديله بالحج أو الأدلة ، ضرورة عدم كون ما لا يفيد الظن ـ ولو نوعا ـ طريقا ، لتقوّم الطريقية النوعية بالكشف عن الواقع.

(٤) قيد لـ «الظن» أي الظن النوعيّ دون الشخصي ، والتعبير بـ «لو» لبيان الفرد الخفي من الظن المعتبر في الطريق ، لتقوّم حجيّة كل من الطرق الظنية بإفادتها للظن الشخصي ، حتى يكون ظنه حجة ، إذ لا دليل على حجية ظن نوع المجتهدين على غيرهم ، فإنّ الحجة ظن كل مجتهد بحكم الشارع في الواقعة.

وعليه فمعنى العبارة : أنّ استفراغ الوسع في تحصيل بعض الحجج غير المورث للظن حتّى النوعيّ منه ـ كالبراءة الشرعية والاستصحاب الفاقدين للكشف عن الواقع ـ يكون اجتهادا قطعا.

(٥) خبر قوله : «كون استفراغ».

(٦) يعني : كما أنّ استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي اجتهاد مصطلح ، فكذا استفراغ الوسع في تحصيل الحجة غير المفيدة للظن.

(٧) أي : ومن تعريف الاجتهاد ـ بأنّه استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي ، لا الظن ، به ـ قد ظهر أنّه لا وجه لإباء المحدّثين عن الاجتهاد بهذا المعنى ، إذ لا إشكال عند جميع أصحابنا من الأصولي والمحدث في مشروعيّة الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي. وهذا هو واقع الاجتهاد الّذي يكون واجبا كفائيّا سواء أطلق عليه لفظ «الاجتهاد» أم لا. نعم بناء على تعريف الاجتهاد

٣٧١

بهذا المعنى (١) ، فإنّه لا محيص عنه (٢) كما لا يخفى. غاية الأمر له (٣) أن ينازع في حجية بعض ما يقول الأصولي باعتباره ، ويمنع (٤) عنها ، وهو (٥) غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى (٦) ، ضرورة (٧) أنّه ربما يقع

______________________________________________________

ب «استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم» فللمحدث المنع والإنكار ، والحكم بالبطلان ، لأنّ الظن لا يغني من الحق شيئا. وأمّا بناء على تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه فلا وجه لاستيحاش الأخباري منه.

(١) أي : بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي.

(٢) هذا الضمير وضمير «فانه» راجعان إلى «الاجتهاد بهذا المعنى» ويمكن أن يكون ضمير «فإنّه» للشأن.

(٣) أي : يجوز للأخباري أن ينازع الأصوليّ في حجية بعض ما يقول الأصولي باعتباره شرعا كالبراءة الشرعية في الشبهات الحكمية التحريمية الناشئة من فقد النص ، أو في حجية ظواهر الكتاب. لكن هذا النزاع لا يرجع إلى الاختلاف في نفس الاجتهاد ، بل إلى النزاع في مصداق الحجة على الحكم ، ومن المعلوم أن النزاع الصغروي لا يقدح في صحة الكبرى أعني الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم.

(٤) أي : أن يمنع الأخباري عن حجية بعض ما يقول الأصولي باعتباره.

(٥) الضمير راجع إلى النزاع في بعض الصغريات المستفاد من قوله : «أن ينازع».

(٦) أي : بمعنى «استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم».

(٧) تعليل لقوله : «غير ضائر» وضمير «أنه» راجع إلى النزاع ، وحاصله : ما عرفت من أنّ النزاع ربما يقع بين الأخباريين كنزاعهم في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية ، فإنّ المشهور بينهم ـ على ما حكي ـ هو جريان البراءة فيها ، خلافا لبعضهم ، حيث إنّه منع عن جريانها فيها والتزم فيها بالاحتياط ، كالتزام جلّهم بل كلهم بالاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية الناشئة من فقد النص ، وكذا نزاعهم في حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية ، حيث أنكرها الأمين الأسترآبادي إلّا في عدم النسخ ، والتزم غيره بجريانه في الشبهة الحكمية.

٣٧٢

بين الأخباريين كما وقع بينهم (١) وبين الأصوليّين (*).

______________________________________________________

(١) يعني : كما وقع النزاع بين الأخباريين والأصوليّين في حجية بعض الأمور كالبراءة في الشبهات الحكمية التحريمية الناشئة من فقد النص ، فإنّ الأصوليّين ذهبوا إلى حجيتها فيها والأخباريّين أنكروها ، وذهبوا إلى الاحتياط. وكإنكار المحدثين حجية القطع الحاصل من غير الأدلة السمعية ، والتزام الأصوليّين بها. ولا يخفى أن مثل هذا النزاع لا يسوّغ التحزّب والتشنيع عصمنا الله تعالى من الزلّات ووفّقنا لتحصيل الطاعات.

__________________

(*) ما أفاده المصنف «قده» هنا من إرجاع النزاع في تحديد الاجتهاد إلى البحث الصغروي ـ أعني به حجية بعض القواعد ـ وأولوية تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه وإن كان متينا ، لكنه لا يكفي في دفع إشكال عدم جامعية التعريف ومانعيته ، مع أنّه «قده» بصدد بيان حدّ تجتمع فيه شتات المباني في مباحث الحجج. وذلك لوضوح أنّ المقصود من هذه التعاريف تفسير الاجتهاد في الفقه بمعنى استنباط الأحكام الفرعية ، ومن المعلوم أنّ تحديده بـ «تحصيل الحجة على الحكم الشرعي» (١) أو بما يقرب منه يناسب الاجتهاد في علم الأصول المعدّ لتمهيد القواعد وبيان الأدلة على الأحكام.

فالباحث عن مسألة حجية خبر الثقة أو العدل ـ بإقامة الأدلة القطعية عليه من الأخبار المتواترة إجمالا وسيرة العقلاء وغيرهما ـ يستفرغ وسعه في تحصيل الحجة ـ كخبر الشقة ـ على الحكم الشرعي ، وقد عرّف علم الأصول بأنه : «علم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية» والمراد بالقواعد هو الحجج على الأحكام الشرعية ، مع أنّ الاجتهاد في الفقه هو تحصيل الحكم الفرعي من الدليل بعد الفراغ عن إثبات دليليّته في علم الأصول ، وليس هو تحصيل الدليل على الحكم.

ففرق واضح بين تحصيل الحجة على الحكم الشرعي الّذي يتكفله علم الأصول ، وبين تحصيل الحكم أو الوظيفة من الحجة الّذي هو شأن علم الفقه الشريف. وحيث إن المقصود تعريف الاجتهاد في الفقه فلا بد من تحديده بوجه آخر.

وعليه فما في تقرير بعض أعاظم العصر «دامت بركاته» ، من كون «الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجة على الحكم الشرعي أمرا مقبولا عند الكل ، ولا استيحاش للمحدثين عن الاجتهاد بهذا المعنى» (٢) لا يخلو من خفاء ، فإنّ المحدثين وإن اختلفوا في حجية بعض القواعد ، لكن الاجتهاد عندهم ليس

__________________

(١) نهاية الدراية ، ١ ـ ١٧ طبعة المطبعة العلمية بقم ، عام ١٣٧٩

(٢) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، ١ ـ ٢٢

٣٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بمعنى تحصيل الحجة على الحكم ، بل تحصيل الحكم من الحجة.

هذا ما يتعلّق بتعريف المصنف ومن وافقه من الأعلام. ولا بأس بالنظر الإجمالي إلى بعض تحديدات الاجتهاد مما أطلق فيها الاجتهاد على الملكة المتوقّف عليها الاستنباط ، أو على فعل المجتهد أعني به عمليّة استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة.

فمنها : ما تقدم عن الحاجبي من أنه «استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي». وقد عرفت في التوضيح إخلال أخذ الظن فيه ، إذ لو أريد به خصوص ما قام دليل على اعتباره انتقض التعريف بما إذا أدّى الاستنباط إلى العلم بالحكم ، وبما إذا لم يحصل ظنّ بالواقع كما في مثل البراءة الشرعية. ولو أريد به الأعلم من الظن المعتبر وغيره انتقض بما إذا حصل له ظن بالحكم من طريق غير معتبر ، إذ لا عبرة به مع كونه ظنا بالحكم وجدانا.

وتوجيه هذا التعريف «بتماميته على مذهب العامة المستدلّين بالظنون القياسية والاستقرائية وغيرهما حيث إنهم يعملون بها ، لكونها ظنونا ، لا لكونها معتبرة بالخصوص» لا يخلو من شيء ، فإنّ الحجة عندهم هو القياس لا خصوص ما أفاد الظن ، ولا تدور حجية بعض الأمور عندهم مدار إفادة الظن حتى يلتئم أخذ الظنّ في التعريف مع مبانيهم ، وتحقيق هذا موكول إلى محله ، ولا جدوى في البحث عنه بعد فساد الأصل والفرع.

ولا يخفى أنّ هذا التعريف أو ما يقرب منه مذكور في بعض كتب أصحابنا أيضا كالعلامة وصاحب المعالم «قدهما» على ما تقديم في التوضيح. ولا ريب في أنّ أخذ الظن في الحدّ يكون مجرّد موافقة لهم في اللفظ لا في موجبات الظن بالأحكام الشرعية ، فكان ديدن العامة على العمل بالاستنباطات الظنية من الأقيسة والاستحسانات والمصالح المرسلة ونحوها ، فإنّهم لانحرافهم عن باب مدينة علم الرسول وأولاده الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» التجئوا إلى الاجتهاد بمعنى الأخذ بالآراء الظنية ، ومن المعلوم بطلان هذا الاجتهاد بضرورة المذهب. وعليه يكون أخذ الظن في تعريف أصحابنا «رضوان الله عليهم» بمعنى آخر وهو الظن المعتبر بدليل خاص ، ويشهد له استدلال العلّامة على حرمة العمل بالقياس بعموم الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم.

وكيف كان فتعريف العلامة للاجتهاد لا يخلو من مسامحة أيضا ، لتصريحه بعدم كون الاستنباط المؤدّي إلى العلم بالأحكام اجتهادا مصطلحا ، وهو ممنوع ، إذ لا وجه لإخراج العلم بالأحكام ـ المبتنية على مباحث الاستلزامات ـ عن التعريف ، لصدق الاجتهاد وتحصيل الحجة على الحكم

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عليها قطعا.

نعم إن كان مراده من الأحكام القطعية ما هو معلوم بضرورة الدين أو المذهب بحيث لا حاجة فيها إلى إعمال النّظر واستفراغ الوسع فالتقييد في محله.

مضافا إلى : إخلال أخذ «الفقيه» في التعريف ، لتوقف صدق هذا العنوان على معرفة جملة معتدّ بها من الأحكام ، ولازمه عدم كون استفراغ الوسع في المرة الأولى والثانية اجتهادا ، لعدم كونه فقيها بعد. مع أنه لا ريب في صدق الاجتهاد على استفراغ الوسع في المسألة الأولى والثانية بعد حصول ملكة الاستنباط له.

وقد أورد على هذا الحد بوجوه أخرى مذكورة في المطولات لا سيما حاشية المعالم ، فلتطلب منها.

ومنها : ما تقدم عن الشيخ البهائي «قده» من تعريف الاجتهاد بالملكة. لكنه أيضا لا يخلو من تأمّل ، لامتناع تعريف ما يكون من مقولة بمقولة أخرى ، إذ الاجتهاد «افتعال» وهو نفس استنباط الحكم من دليله ، وليس ملكة حتى يكون استخراج الأحكام من أدلتها أثرا لها كما في مثل ملكة العدالة والسخاوة. واستخراج الأحكام من الأدلة وإن كان منوطا بتلك القوة التي يتمكن بها من تطبيق القواعد الكلية ـ بعد إتقانها ـ على مواردها. إلّا أنّ الموضوع للآثار الشرعية هو العارف بالأحكام ، لا مجرّد من يقتدر على الاستنباط ، لظهور هذه المواد المأخوذة في الهيئات في فعليّتها.

وحيث إنك عرفت كون الاجتهاد من مقولة الفعل ، والملكة من مقولة الكيف النفسانيّ أو غيرها ، فلا وجه لتعريفه بالملكة ، إذ لا معنى لتعريف شيء بمباينه ، بعد وضوح تباين المقولات وكونها أجناسا عالية.

ومنها : ما في مقالات شيخنا المحقق العراقي «قده» من تعريف الاجتهاد «بأنه تحصيل الوظيفة الفعلية العملية» (١). وهذا التعريف سليم عن جملة من المناقشات ، فعنوان «تحصيل الوظيفة» شامل لما إذا استلزم الاستنباط استفراغ الوسع وعدمه ، بعد اختلاف الفروع الفقهية وضوحا وغموضا. كما أنّ تبديل الحكم الشرعي بـ «الوظيفة» يعم جميع موارد الاستنباط سواء أدّى إلى معرفة الحكم الواقعي أم الظاهري ، الشرعي أم العقلي كالاحتياط والتخيير وحجية الظن الانسدادي على الحكومة.

ولعل الأولى تعريف الاجتهاد بأنّه «إحراز المؤمن عقلا أو شرعا من أدلة الفقه» لالتئامه مع

__________________

(١) مقالات الأصول ، ٢ ـ ٢٠١

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

جميع المباني المتشتتة في المسائل الأصولية من إنكار حجية الظن رأسا ، أو القول بالظنون الخاصة ، أو الظن الانسدادي كشفا أو حكومة ، وغير ذلك. وبيانه : أنّ عنوان «إحراز المؤمّن» شامل للاجتهاد المؤدّي إلى معرفة الحكم الواقعي والظاهري ، وتبديل «الوظيفة» بـ «المؤمن» أولى ، لشموله لموارد الأصول العملية بناء على إنكار الحكم الظاهري ، وظهور «الوظيفة» في الحكم مطلقا من الواقعي والظاهري ، فلا يشمل الاجتهاد في الأصول العملية الشرعية عند من ينكر جعل الحكم الظاهري فيها.

مع أنّه لو صحّ أخذ «الوظيفة» في التعريف أغنى ذلك عن قيد «الفعلية» لأنّ المقصود بالوظيفة هو الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر ، لعدم كون الالتفات إلى الحكم الاقتضائي والإنشائيّ موضوعا لحكم العقل بلزوم تفريغ الذّمّة عنه وتحصيل المؤمّن عليه ، ومن المعلوم أن الكلام في الاجتهاد المعدود عدلا للاحتياط والتقليد.

كما أن عنوان «إحراز المؤمّن» جامع للقول بالانسداد ـ كشفا أو حكومة ـ والقول بالانفتاح. لأنّ مطلوب الكل من الاجتهاد إحراز المؤمّن ـ بعد تنجز الأحكام بالعلم الإجمالي أو الاحتمال ـ مهما كانت كيفيته.

وبقيد «عقلا» يندرج فيه الظن بالحكم الشرعي على الحكومة بناء على الانسداد ، وكذا موارد الأصول العملية المستندة إلى حكم العقل كقاعدة القبح ، والاحتياط في أطراف المعلوم بالإجمال ، وأصالة التخيير.

وبقيد «شرعا» يندرج في التعريف استنباط جلّ الأحكام ، إذ عمدة الأدلة هي الكتاب والسنة.

وبقيد «من أدلة الفقه» يخرج الاحتياط والتقليد عن الحد ، أمّا الاحتياط فلأنه محرز عملي للواقع ، وأمّا التقليد فلوضوح أنّ إحراز العامي للمؤمن مستند إلى فتوى مقلّده ، لا إلى أدلة الفقه.

وكيف كان فلا ريب في توقف استنباط الأحكام من أدلّتها على ملكة راسخة يقتدر بها على إرجاع الفروع إلى الأصول ، وهي لا تحصل إلّا بمعرفة العلوم النظرية التي يتوقف عليها الاستنباط ، والجزء الأخير لعلة حصول هذه القوّة إتقان علم الأصول المعدّ لتحصيل الحجة على الحكم. فإذا أتقن الباحث المجدّ العلوم النظرية الدخيلة في تحصيل الحجة واستخرج أحكاما من الأدلة كانت مستنبطاته حجة في حقه وحرم عليه الرجوع إلى مجتهد آخر ، فإنّه عارف فعلا بالحرام والحلال.

سواء أكان عادلا أم فاسقا ، بشهادة اشتراط العدالة في المفتي المرجع للتقليد والقاضي.

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فالاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع ونحوه لا يتوقّف على قوّة قدسيّة وموهبة إلهيّة وقذف نور منه تعالى شأنه في قلب المستنبط وإن كان كل كمال علمي وعملي منه تعالى. فما في القوانين والفصول من «اعتبار القوة القدسية» إن أريد به مجرد ملكة الاستنباط كان في محله ، لما تقدّم من استحالة الاجتهاد بدون هذه الملكة. وإن أريد به أمر آخر وهو إشراق الفيوضات الربانية على قلب المجتهد ، فلا ريب في عدم اعتباره في أصل الاجتهاد ، لحصول ملكة الاستنباط للعادل والفاسق والمؤمن والمنافق بمجرّد إتقان المبادئ الدخيلة في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي.

نعم لا شكّ في أنّ المجتهد الموضوع لجميع الآثار كنفوذ قضائه وولايته على القصّر والجهات وغيرهما هو المجتهد العادل ، بل فوق العدالة بناء على ما هو المحتمل من رواية التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام. وحصول هذه الملكة القدسية يتوقف على الالتزام العملي بأوامر الشارع ونواهيه وتخلية النّفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل والمراقبة في الخلوة والجلوة ، فانه لا يعزب عن علمه وساوس النّفس فضلا عن أعمال الجوارح ، ولا ريب في أنّ حصول هذه القوة القدسية في مثل هذه الأزمنة كاد أن يلحق بالمحالات إلّا من شملته العناية الإلهية ، عصمنا الله جميعا من الخطأ والزلل في القول والعمل.

وفي ختام الكلام لا بأس بذكر أمر تعرض له بعض المحققين (١) ، وهو : أنّ ملكة الاجتهاد تفترق عن الملكات الخلقية كالشجاعة والسخاوة ونحوهما بأن هذه الملكات تحصل من الأفعال المسانخة لآثارها ، فالشجاع لا بد أن تتكرر منه منازلة الأبطال ، والإقدام في المخاوف حتى تحصل له ملكة الشجاعة ويصحّ إطلاق الشجاع عليه ، وبعد حصولها تكون الأفعال الصادرة منه آثارا لتلك القوة الراسخة في نفسه ، ومسانخة للأفعال السابقة على حصول الملكة ، فالأفعال السابقة على حصولها واللاحقة له متماثلة.

وهذا بخلاف ملكة الاستنباط ، فإنّ حصولها منوط بإتقان مبادئ الاجتهاد خصوصا علم الأصول ، وبعد حصول هذه الملكة تكون نتيجتها القدرة على استنباط الأحكام الفرعية ، ومن المعلوم مغايرة الاستنباط المتوقف على الملكة للمبادئ التي يتوقّف حصول الملكة عليها.

وحيث كانت ملكة الاستنباط مقدمة على نفس العمل ـ لاستحالته بلا قوّة عليه ـ تعرف إمكان انفكاكها عن الاستنباط الخارجي ، فقد تحصل هذه القدرة بسبب إتقان مبادئ حصول الملكة ،

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٩١

٣٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ولكن لا يتصدّى صاحبها لاستخراج الأحكام ومعرفتها ، بل يحتاط في أعماله الشخصية. وعليه فلا وجه لدعوى الملازمة بين حصول الملكة وبين الاستنباط الفعلي بزعم «عدم انفكاكها عن سائر الملكات في توقفها على صدور أفعال توجب رسوخ تلك الصفة في النّفس» وذلك لما تقدم من الفرق بين هذه الملكة وسائر الملكات في اختلاف سنخ الأعمال اللاحقة والسابقة على حصولها.

٣٧٨

فصل (١)

ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزّ ، فالاجتهاد المطلق هو

______________________________________________________

انقسام ملكة الاجتهاد إلى مطلقة ومتجزئة

(١) الغرض من عقد هذا الفصل بيان انقسام الاجتهاد إلى مطلق وتجزّ ، وذكر أحكام كلّ منهما ، فهنا مقامان :

الأوّل : فيما يتعلق بالاجتهاد المطلق ، وفيه مباحث :

أوّلها : إثبات إمكان الاجتهاد المطلق ، بل وقوعه خارجا.

ثانيها : جواز عمل المجتهد المطلق بما يستنبطه من الأحكام ، أي : حجية آرائه في حق نفسه.

ثالثها : جواز رجوع الغير إليه.

رابعها : نفوذ حكمه في المرافعات.

الثاني : فيما يتعلّق بالتجزي في الاجتهاد ، وفيه أيضا مباحث :

أوّلها : في إمكانه ووقوعه خارجا.

ثانيها : في حجية مستنبطات المجتهد المتجزّي في حق نفسه.

ثالثها : جواز تقليد العامي للمجتهد المتجزي ، ونفوذ قضائه. وسيأتي تفصيل الكلام في كل من المقامين «إن شاء الله تعالى».

وقد تعرّض المصنف «قده» قبل البحث في المقامين لتعريف الاجتهاد المطلق والمتجزي ، وقال : «فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية ...» وقد أخذ في التعريف أمورا ينبغي النّظر فيها ، وسيأتي «إن شاء الله تعالى» بيانها.

٣٧٩

ما يقتدر به (١) على استنباط

______________________________________________________

(١) هذا من الأمور المأخوذة في التعريف ، حيث جعل كلّا من قسمي الاجتهاد بمعنى الملكة التي يقتدر بها على الاستنباط ، فالمقسم لكل من الإطلاق والتجزي هو القوة المزبورة ، لا الاستخراج الفعلي للأحكام.

فان قلت : هذا ربما ينافي تفسير الاجتهاد في الفصل السابق بأنّه «تحصيل الحجة على الحكم الشرعي» لظهور التعريف في أنّ الاجتهاد الموضوع للأحكام ليس هو تحصيل القوة النظرية ، بل الموضوع لها هو التلبس الفعلي بالاستنباط واستخراج الأحكام ، فليس مجرد القدرة على الاستنباط اجتهادا. ومن المعلوم أنّ المناسب للتعريف هو أن يراد بالاجتهاد المطلق استنباط جميع الأحكام الشرعية أو جملة وافية منها ، بحيث يصدق عليها الاستغراق العرفي ، وأن يراد بالتجزّي في الاجتهاد استنباط جملة من الأحكام.

والحاصل : أنّ تفسير الاجتهاد بتحصيل الحجة ـ الظاهر في موضوعية العلم الفعلي بالأحكام الشرعية ـ ينافي جعل المقسم للاجتهاد المطلق والتجزي ملكة الاستنباط ، فإنّ صاحب الملكة قد لا يتصدّى للاستنباط أصلا وإنما يعمل بالاحتياط ، فهل الموضوع للأحكام هو الاجتهاد بمعنى الملكة أو الاجتهاد بمعنى استخراج الأحكام؟

قلت : لا منافاة بين ما تقدم في الفصل السابق من تعريف الاجتهاد بتحصيل الحجة وبين ما صنعه هنا من جعل المقسم القدرة على الاستنباط ، وذلك لأنّ للاجتهاد معنيين يصحّ إطلاقه على كل منهما حقيقة :

أحدهما : معناه الاسم المصدري ، وهو ملكة الاستنباط ، بشهادة صحة إطلاق «المجتهد» على صاحب الملكة قطعا ولو لم يستنبط بعد حكما واحدا ، فيصح أن يقال : «فلان مجتهد أو بلغ رتبة الاجتهاد» مع عدم استنباطه بعد شيئا من الأحكام.

ثانيهما : معناه المصدري ، وهو عمليّة استخراج الأحكام من أدلّتها.

وعليه فما صنعه المصنف «قده» ـ من تفسير الاجتهاد في الفصل السابق بتحصيل الحجة ، وفي هذا الفصل بالملكة التي هي المقسم بين الاجتهاد المطلق والمتجزّي ـ وقع في محلّه ، إذ الغرض من تفسيره بالمعنى المصدري في الفصل السابق هو الاجتهاد الّذي

٣٨٠