منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

ولو قيل (١) بجواز نسخهما بالرواية عنهم كما ترى (٢).

فلا محيص (٣) في حلّه من أن يقال : إنّ اعتبار

______________________________________________________

السنة» وتثنية هذين الضميرين مطابقة للنسخة المطبوعة على النسخة الأصلية المخطوطة بقلم المصنف «قده». وإفراد الضميرين كما في سائر النسخ ليس على ما ينبغي.

(١) هذا إشارة إلى إشكال النسخ بالروايات الصادرة عن الأئمة الأطهار «عليهم صلوات الله الملك الغفار» بعد انقطاع الوحي ، حيث إنّهم «عليهم الصلاة والسلام» حفّاظ الأحكام لا مشرّعون لها حتى ينسخوا شيئا من الأحكام. ولكن دفعوا هذا الإشكال بما سيأتي بيانه.

(٢) خبر «والتزام» ودفع له ، وحاصل هذا الدفع : أن الالتزام المزبور مستلزم لكثرة النسخ حينئذ ، وهو خلاف ما التزموا به من قلّة النسخ. مضافا إلى : استلزامه عدم كمال الدين في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمفروض أنه كمل ـ بحسب الآيات والروايات ـ في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يصرّح به خطبة الغدير في حجة الوداع : «معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يباعدكم عن النار إلّا وقد نهيتكم عنه».

(٣) هذا جواب الإشكال الّذي ذكره بقوله : «يشكل الأمر في تخصيص الكتاب أو السنة». توضيحه : أنّه يمكن دفع الإشكال بوجوه ثلاثة تعرّض الماتن لاثنين منها :

أحدها : عدم لزوم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من مخصّصية تلك الخصوصات لعمومات الكتاب والسنة كما عليه بناء الأصحاب ، بتقريب : أنّ وجه القبح المزبور هو فوات الغرض من تأخير البيان ، فإذا فرض انجبار فواته بمصلحة في إخفاء الخصوصات ، أو مفسدة في إظهارها في الصدر الأوّل ـ كما اتفق ذلك في كثير من الأحكام ، حيث إن بيانها كان بالتدريج حسب اقتضاء المصلحة ـ صحّ حينئذ دعوى الالتزام بالتخصيص ، وكون التكليف الواقعي مؤدّى الخاصّ ، إلّا أنّ السابقين عملوا بحكمهم الظاهري الّذي هو مقتضى العمومات.

فحاصل هذا الوجه : مخصّصية الخصوصات لتلك العمومات من دون لزوم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة وإن تأخر بيانها عن زمان العمل بالعمومات ، لما مرّ آنفا من تدارك فوات الغرض ـ المانع عن القبح ـ بمصلحة في تأخير البيان.

ثانيها ـ أي ثاني الوجوه الدافعة للإشكال ـ أنّه لا مانع من الالتزام بناسخية تلك

٢٦١

ذلك (١) حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ وكان من الواضح أنّ ذلك (٢) فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصات أو مفسدة في إبدائها كإخفاء (٣) غير واحد من التكاليف في الصدر الأوّل ـ لم يكن (٤) بأس بتخصيص عموماتهما بها ،

______________________________________________________

الخصوصات ، بمعنى كونها ناسخة للحكم الظاهري الثابت للعام ، لا النسخ بمعناه الحقيقي وهو رفع الحكم الثابت الفعلي الواقعي ، بل ليس العام إلّا حكما ظاهريّا من دون أن يكون حكما فعليّا ثابتا واقعا ومرادا جدّيا ، بل الحكم الثابت واقعا هو مقتضى الخصوصات. ولا بأس بإرادة النسخ بهذا المعنى بعد اقتضاء المصلحة عدم بيان الحكم الواقعي المطابق لتلك الخصوصات (*).

(١) أي : اعتبار عدم حضور وقت العمل بالعامّ في التخصيص.

(٢) أي : قبح تأخير البيان في يكون في مورد الجبران ، وأمّا في مورد الجبران فلا قبح. والمراد بوقت الحاجة وقت العمل بالعامّ. وعليه فليس تأخير البيان قبيحا ذاتيا كقبح الظلم حتى لا يتغير عمّا هو عليه ، بل هو كالكذب في كونه مقتضيا للقبح ، ولذا يرتفع لو زوحم بما هو أهم منه كحفظ النّفس ونحوه.

(٣) هذا تشبيه بالمنفي ، وضمير «إبدائها» راجع إلى «الخصوصيات».

(٤) جواب قوله : «حيث كان» يعني : بعد أن كان وجه قبح التخصيص بعد حضور وقت العام تفويت الغرض وكان الغرض الفائت متداركا ، فلا بأس بالالتزام بمخصّصية الخصوصات الصادرة من الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين» لعمومات الكتاب والسنة.

__________________

(*) ثالثها : أنّ العمومات كانت مقرونة بقرائن تدلّ على الحكم الواقعي الّذي هو مقتضى الخصوصات ، وكان عمل السابقين على طبق الخصوصات ، لكن خفيت تلك القرائن على أهالي الأعصار المتأخرة ، ولذا بيّن لهم الأئمة المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين» تلك الخصوصات.

فمرجع هذا الوجه إلى كشف تلك الخصوصات عن عمل السابقين بمقتضياتها ، وعدم عملهم بالعامّ ، فلا يلزم النسخ ولا تأخير البيان عن وقت الحاجة حتى يوجّه ذلك بعدم لزوم القبح من هذا

٢٦٢

واستكشاف (١) أنّ موردها كان خارجا عن حكم العام واقعا وإن كان داخلا

______________________________________________________

(١) بالجرّ معطوف على «تخصيص عموماتها» ومفسّر له ، وضمير «عموماتهما» راجع إلى «الكتاب والسنة» وضميرا «بها ، موردها» راجعان إلى الخصوصات ، وضمير «فيه» إلى «حكم العام ظاهرا». يعني : لم يكن بأس باستكشاف أنّ مورد الخصوصات كان خارجا عن حكم العام واقعا وإن كان داخلا في حكمه ظاهرا بمقتضى أصالة العموم.

__________________

التأخير لأجل المصلحة في إخفاء الخصوصات أو المفسدة في إبدائها.

لكن يبعّد هذا الوجه ما تقدم سابقا من : أن اختفاء القرائن مع كثرة الابتلاء بها وشدّة الاهتمام بضبطها بعيد جدّاً.

وكذا يبعّد الوجه الثاني ـ وهو نسخ الحكم الظاهري الّذي يقتضيه الأصل اللفظي أعني أصالة العموم ـ أنّ النسخ هو رفع اليد عن الحكم الفعلي الثابت واقعا ، لا رفع اليد عن الحكم الظاهري الّذي يقتضيه الأصل اللفظي ، فلا بد أن يراد به النسخ الحقيقي الّذي قد عرفت في التوضيح بعده.

فأوجه الوجوه الثلاثة التي ذكرت في دفع الإشكال هو الوجه الأوّل أعني التخصيص ، ودفع محذور قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بمصلحة الإخفاء أو مفسدة الإظهار. وهذا الوجه هو الّذي ارتضاه الشيخ «قده» ، حيث قال : «فالأوجه هو الاحتمال الثالث أعني كون المخاطبين بالعامّ تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا» إلى أن قال : «والحاصل : أن المستفاد من التتبع في الأخبار ـ والظاهر من خلوّ العمومات والمطلقات عن القرينة ـ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل الوصي عليه‌السلام مبيّنا لجميع ما أطلقه وأطلق في كتاب الله الكريم ، وأودعه علم ذلك وغيره. وكذلك الوصي بالنسبة إلى من بعده من الأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين» ، فبيّنوا ما رأوا فيه المصلحة ، وأخفوا ما رأوا المصلحة في إخفائه».

ويؤيد هذا الوجه : بيان الأحكام تدريجا في صدر الإسلام ، وعدم اقتضاء المصلحة بيانها دفعة حتى ورد : أنّ المسلمين في أوّل ظهور الإسلام لم يكلّفوا إلّا بالتوحيد واعتقاد الرسالة إلى عشر سنين.

وبالجملة : فالالتزام بوجود المصلحة في إخفاء الخصوصات كإخفاء كثير من الأحكام مما يساعده النقل والاعتبار ، والله تعالى هو العالم.

٢٦٣

فيه ظاهرا ، ولأجله (١) لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها (٢) عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار (٣) والدوام أيضا (٤) ، فتفطن (٥).

______________________________________________________

(١) هذا بيان الوجه الثاني الّذي ذكرناه بقولنا : «ثانيها أي ثاني الوجوه الدافعة للإشكال ... إلخ». أي : ولأجل عدم البأس بمخصّصية الخصوصات المقترن إخفاؤها بالمصلحة أو إظهارها بالمفسدة ـ مع تأخّرها عن زمان العمل بالعمومات ـ لا مانع من الالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد عن ظهور العمومات في الاستمرار الثابت لها بالإطلاق الأزماني. والنسخ هنا يكون في الحكم الظاهري بالخصوصات التي هي أحكام واقعية ، فالنسخ كما يكون في الأحكام الواقعية كذلك يكون في الأحكام الظاهرية. لكن تسمية هذا بالنسخ خلاف الاصطلاح.

(٢) أي : بالخصوصات.

(٣) متعلق بـ «ظهور» والباء في «بإطلاقها» للسببية ومتعلق بـ «ظهور» أيضا ، يعني : رفع اليد بسبب الخصوصات عن ظهور العمومات في الاستمرار الثابت بسبب إطلاقها الأزماني ، لما مرّ من أن للعام ظهورا وضعيّا في الأفراد ، وإطلاقيّا في الأحوال والأزمان ، والخصوصيات الواردة بعد العام ترفع إطلاقه الأزماني.

(٤) قيد للنسخ ، يعني : أنّه كما لا بأس بالالتزام بتخصيص عمومات الكتاب والسنة بتلك الروايات ، كذلك لا بأس بالالتزام بناسخيّتها لتلك العمومات بهذا المعنى من النسخ.

(٥) لعله إشارة إلى ضعف الوجه الثاني وهو النسخ بالمعنى المزبور ، لأنّه تخصيص حقيقة ، أي : بيان للحكم الواقعي الّذي هو مؤدّى الخاصّ ، إذ المفروض أن العام لم يكن مرادا جدّيا ـ وحكما واقعيا فعليا ـ حتى ينسخ بالخاص ، بل كان العمل به مبنيّا على أصالة العموم.

٢٦٤

فصل (١)

لا إشكال في تعيين الأظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين الاثنين. وأمّا إذا كان بين الزائد عليهما ، فتعيّنه (٢) ربما لا يخلو من خفاء ،

______________________________________________________

انقلاب النسبة وعدمه

(١) الغرض من عقد هذا الفصل تعيين الأظهر فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين ، وأنّه هل تنقلب النسبة بين مثل العام والخصوصات المتعددة من العموم والخصوص إلى نسبة أخرى أم لا؟ كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(٢) أي : فتعيّن الأظهر. ومقصوده من هذه العبارة أن البحث في هذا الفصل صغروي كما كان كذلك في الفصل السابق ، لا كبروي ، وبيانه : أنّ الأحكام المتقدمة في الفصول السابقة لتعارض الخبرين ـ كالتخيير بينهما المدلول عليه بأخبار العلاج ، والاقتصار على المرجحات المنصوصة لو قيل بوجوب الترجيح وغير ذلك ـ لا تختص بموارد تعارض الخبرين ، بل تشمل ما إذا كان التعارض بين أخبار ثلاثة أو أربعة أو أزيد ، بل قد يكون التعارض بين طوائف ستّ أو سبع من الأخبار كما هو غير خفي على الممارس في الفقه الشريف. فحكم تعارض أكثر من دليلين ـ أيضا ـ هو الجمع الدلالي إن كان بينها حكومة أو أظهرية ، والتخيير إن لم يكن بينها ذلك أو توفيق عرفي ، سواء أكانت الأدلة متكافئة في وجوه الترجيح أم متفاضلة بناء على مختار المصنف من إنكار وجوب الترجيح بالمزايا

٢٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المنصوصة وغيرها.

فإن كان التعارض بين خبرين ، فإن أمكن التوفيق العرفي بينهما بأن كان أحدهما أظهر من الآخر فهو ، وإلّا فلا بد من إعمال قانون التعارض من الترجيح أو التخيير بينهما.

وإن كان التعارض بين أخبار ثلاثة أو أكثر فتقديم بعضها على بعض من باب الجمع الدلالي يتوقف على كون ذلك البعض أظهر من غيره ، وتشخيص الأظهر هنا لا يخلو من صعوبة ، ولذا عقدوا هذا البحث لمعرفته. وعليه فهذا الفصل يتكفّل تمييز الأظهر عن الظاهر ، وسيظهر إن شاء الله تعالى ارتباط معرفة الأقوى دلالة من المتعارضات ببحث انقلاب النسبة.

توضيح المقام : أن النسبة بين الأدلة الثلاثة المتعارضة أو أكثر إمّا متحدة وإمّا متعددة ، فإن كانت متعددة فسيأتي الكلام فيه في آخر هذا الفصل. وإن كانت متحدة فإمّا تبقى على حالها بعد ملاحظة بعضها مع بعضها الآخر ، وإمّا تنقلب إلى نسبة أخرى بعد العلاج.

مثال الأوّل : ما إذا ورد «يجب إكرام الأمراء ويحرم إكرام الفساق ويستحب إكرام النحويين» فإنّ النسبة بين الأوّل وبين كل واحد من الآخرين عموم من وجه ، سواء لوحظ مع أحدهما أم لم يلاحظ ، لثبوت هذه النسبة بينها قبل لحاظه مع أحدهما وبعده ، وذلك فإنّ نسبة «أكرم الأمراء» مع «حرمة إكرام الفساق» وكذا مع «استحباب إكرام النحويين» عموم من وجه ، وبعد ملاحظة «أكرم الأمراء» مع أحدهما تكون تلك النسبة محفوظة ، لأنّ «أكرم الأمراء» بعد ملاحظته مع «حرمة إكرام الفسّاق» تكون نسبته مع «استحباب إكرام النحويين» تلك النسبة السابقة ، إذ مفاد «أكرم الأمراء» بعد ملاحظته مع «حرمة إكرام الفسّاق» هو «وجوب إكرام الأمراء العدول» ومن المعلوم أنّ نسبته مع «استحباب إكرام النحويين» أيضا عموم من وجه ، ومورد اجتماعهما الأمير العادل النحوي.

ولا إشكال في حكم صورة اتّحاد النسبة قبل العلاج وبعده ، فإنّه يعامل مع مورد اجتماع العامّين من وجه معاملة التعارض من الترجيح أو التخيير ، على الخلاف في تعارض الدليلين أو الأدلة.

ومثال الثاني : ما إذا ورد «أكرم الأمراء» ثم ورد «لا تكرم فساقهم» وورد أيضا «يكره

٢٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

إكرام الأمراء الكوفيين» فإنّ النسبة بين الأوّل وكل من الأخيرين عموم مطلق ، لكن بعد تخصيصه بأحدهما تنقلب النسبة بينه وبين الآخر إلى العموم من وجه ، إذ النسبة بين «أكرم الأمراء العدول» بعد ملاحظته مع «لا تكرم فساقهم» وبين «الأمراء الكوفيين» عموم من وجه ، لاجتماعهما في الأمير الكوفي العادل ، وافتراقهما في الأمير غير الكوفي ، وفي الأمير الكوفي الفاسق ، فعلى تقدير صحة انقلاب النسبة تلاحظ النسبة الحادثة دون النسبة السابقة ، ففي مادة الاجتماع ـ وهي في المثال : الأمير الكوفي غير الفاسق ـ يقدّم الراجح من الدليلين ـ وهما العام المخصّص والخاصّ الآخر ـ على الآخر إن كان هناك راجح ، وإلّا فالتخيير بينهما أو غيره من أحكام التعارض.

وعلى تقدير عدم صحة الانقلاب يخصّص العام بكلّ من الخاصّين مع الغضّ عن الآخر إن أمكن إخراجهما عن العام ، كما إذا بقي للعام بعد إخراجهما عنه مورد كالمثال المزبور ، حيث انه بعد إخراج «فسّاق الأمراء» و «الأمراء الكوفيين» عن العام وهو «وجوب إكرام الأمراء» يبقى له مورد مع الأمراء العدول غير الكوفيين.

وإن لم يمكن إخراجهما عنه بأن لم يبق للعام مورد ، كما إذا ورد «أكرم الأمراء ولا تكرم فساقهم ويستحب إكرام عدول الأمراء» فإنّه لا يمكن تخصيص العام بكليهما ، لعدم بقاء مورد له ، فلا محالة يقع التعارض بين العام وكلا الخاصّين ، ويجري عليهما حكم المتباينين.

وقد ينعكس الأمر ، فتنقلب نسبة العموم من وجه إلى العموم المطلق ، كما إذا ورد «أكرم الأمراء ، ولا تكرم الفساق ، ويكره إكرام الأمراء الفساق» فإنّ النسبة بين الأوّل والثاني عموم من وجه ، وبين الثاني والثالث عموم مطلق كما هو واضح ، فإذا خصّص الثاني بالثالث وصار مفاده «حرمة إكرام الفسّاق إلّا فساق الأمراء ، فإنّهم يكره إكرامهم» انقلبت نسبة الأخص من وجه بين «أكرم الأمراء ولا تكرم الفساق» إلى الأخصّ المطلق ، إذ مفادهما حينئذ «وجوب إكرام الأمراء إلّا فساقهم» هذا.

وقد تنقلب نسبة الأعم والأخص مطلقا إلى التباين ، كما إذا ورد «أكرم الأمراء ، ولا تكرم فسّاق الأمراء ويستحب إكرام عدول الأمراء» فإنّ النسبة بين العام وبين كل من

٢٦٧

ولذا (١) وقع بعض الأعلام في اشتباه وخطأ ، حيث (٢) توهّم أنّه إذا كان هناك

______________________________________________________

الخاصّين عموم مطلق كما هو واضح. إلّا أنّ تخصيصه بالخاص الأوّل ـ وصيرورة مفاده بعد التخصيص وجوب إكرام الأمراء العدول ـ أوجب انقلاب النسبة إلى التباين ، لمباينة هذا المفاد مع استحباب إكرام الأمراء العدول.

إذا عرفت معنى انقلاب النسبة ، وأنّ المقصود من هذا البحث تعيين الأظهر من بين الأدلّة المتعارضة ، فاعلم : أنّه وقع الخلاف في أنّه هل يلاحظ نسبة كل خاص مع العام مع الغضّ عن الخاصّ الآخر ـ أي يخصّص العام بكل واحد من الخصوصات في رتبة واحدة ـ أم يلاحظ نسبة العام إلى خاصّ ، وبعد تخصيصه به يلاحظ ثانيا مع الخاصّ الآخر ، وهكذا؟ فيه قولان ، نسب الأوّل إلى المشهور ، والثاني إلى العلامة النراقي «قده» حيث أنّه يلاحظ العام مع أحد الخصوصات ، وبعد تخصيصه به يلاحظه مع سائر الخصوصات. وقيل : إنّ استدلاله في الفقه يدور عليه.

ولكن التحقيق الّذي ذهب إليه المصنف وغيره هو الأوّل ، فالمدار عند الفاضل النراقي على النسبة الحادثة ، وعند غيره على النسبة السابقة الأوّليّة التي كانت بين العام وبين كل واحد من الخصوصات ، فيخصص بكل واحد منها ـ مع الغض عن الآخر ـ بتلك النسبة.

(١) أي : ولخفاء الأظهر وقع بعض الأعلام ـ وهو الفاضل النراقي ـ في الخطأ والاشتباه.

(٢) هذا تمهيد لبيان الاشتباه الّذي وقع فيه الفاضل النراقي. وقد أفاد هذا المطلب ـ فيما ظفرت عليه من كلماته ـ في كتابيه المناهج والعوائد ، وينبغي نقل جملة من كلامه للوقوف على مرامه ، وللتنبيه على الغفلة في نسبة بعض الأمور إليه ، ثم توضيح ما أورده الشيخ والمصنف عليه ، قال «قده» :

«عائدة : اعلم أنه قد حقّق في الأصول : أنه إذا تعارض العام والخاصّ المطلقان يخصّص العام بالخاص. وإذا تعارض العامّان من وجه يرجع إلى الترجيح إذا كان ، وإلّا فيحكم بالتخيير إنّ أمكن ، وإلّا فيرجع إلى الأصل السابق عليهما. وهذا كله ظاهر إذا كان التعارض بين عامّ وخاصّ مطلقين أو من وجه.

وكثيرا ما يتعدّد أحدهما أو كلاهما ـ لا بمعنى أن يتعدد دليل أحد الحكمين بأن يتحد

٢٦٨

عامّ وخصوصات ، وقد خصّص ببعضها ،

______________________________________________________

موضوع المتعددين ، لأنّه في حكم الواحد ـ بل مع تعدد الموضوع العام أو الخاصّ المطلق أو من وجه ، كما إذا قال : أكرم العلماء وأكرم الفقهاء ولا تكرم العالم الفاسق. فهناك عام مطلق وخاص مطلق متخالفين ، وخاص مطلق من العام ومن وجه من الخاصّ ، والتعارض في الفقيه الفاسق.

أو قال : أكرم العلماء وأكرم الخيّاطين ولا تكرم الفاسق ، فهناك ثلاثة عامّات من وجه ، والتعارض في العالم الخياط الفاسق بين الثلاثة ، وفي العالم الفاسق والخيّاط الفاسق بين كل اثنين.

ومن هذا القبيل : ما ورد في الالتفات عن القبلة ، حيث ورد في حديث : أن الالتفات يقطع الصلاة ، وآخر : أن الالتفات لا يقطع ، وثالث : أن الالتفات بكل البدن يقطع ، ورابع : أن الالتفات بالاستدبار يقطع ، وخامس : بأن الالتفات الموجب لرؤية الخلف يقطع. ولو لوحظت المفاهيم أيضا فيزداد المعارضات ، ففي سادس : الالتفات بغير الفاحش لا يقطع ، وفي سابع : الالتفات لا بكل البدن لا يقطع ، وفي ثامن : الالتفات غير الموجب لرؤية الخلف لا يقطع.

ثم إجراء ما قرّر في الأصول من أحكام المتعارضين بين كل متعارضين من هذه الأمور المتعددة في صورة التعدد يحتمل أحد الوجوه الثلاثة :

الأول : إجراؤه بين كلّ اثنين من المتعارضين مع قطع النّظر عن جميع المعارضات لكل منهما من هذه الأمور ، فيلقى التعارض بين كل متعارضين منها مع قطع النّظر عن البواقي ويحكم بمقتضاه ، ثم يجمع المقتضيات ويعمل فيه مثل ذلك ، كما يقال في المثال الأوّل : يعارض لا تكرم العالم الفاسق مع أكرم العلماء بالعموم المطلق ، فيخصص الثاني ، ثم يعارض الأوّل مع أكرم الفقهاء بالعموم من وجه ، فلا يحكم في الفقيه الفاسق بشيء ، أو يحكم بالتخيير ، ولا تعارض بين الثاني والثالث. وإذا قال : لا تكرم العلماء وأكرم الفقهاء وأكرم العدول ، لا تعارض بين الثانيين ، ويعارض كل منهما مع الأوّل بالعموم المطلق ، فيخصص الأوّل بغير العدول وغير الفقهاء ، ويختص عدم الإكرام بالفساق من غير الفقهاء.

الثاني : إجراؤه بين كل اثنين منها بعد إلقاء التعارض بين كل منهما وبين سائر

٢٦٩

كان (١) اللازم ملاحظة النسبة بينه (*) وبين سائر الخصوصات بعد

______________________________________________________

معارضاته ، والحكم بمقتضاه ، فيؤخذ كل خبر مع كلّ من معارضته ويعمل فيه بمقتضى التعارض ، ثم يعارض مع معارض آخر. ففي المثال السابق : يخصّص لا تكرم العلماء أوّلا بأكرم الفقهاء ، لكونه أخص منه مطلقا ، ثم يعارض مع أكرم العدول ، ويكون التعارض حينئذ بالعموم من وجه.

الثالث : أن يعارض كل عامّ أو خاصّ مع واحد من معارضاته مع ملاحظة ما له من سائر المعارضات ، فيعمل فيه بمقتضى ما يقتضيه التعارض ، بمعنى أن يلاحظه كونه ذا معارض كذائي من غير أن يعمل بمقتضى تعارضهما أوّلا» إلى أن قال :

«ثم نقول : إنّه لا شك أنّ الأوّل باطل ، لأنّ بعد وجود المعارض واحتمال اختلاف الحكم معه لا وجه للإغماض وقطع النّظر عنه. وكذا الثاني ، لأنّ تقديم إجراء قواعد بعض المعارضات تحكم فاسد ، لأنّ الكلّ قد ورد علينا دفعة واحدة ، بمعنى أنّ المجموع في حكم كلام واحد بالنسبة إلينا ، فيجب العمل فيه بمقتضى الجميع ، وإجراء الكل غالبا يؤدّي إلى الدور الباطل أو التسلسل ، فتعيّن الثالث ، وهو الموافق للتحقيق كما لا يخفى على المحقق الدّقيق».

ثم طبّق هذا المبنى على روايات الالتفات عن القبلة وجمع بينها ، وقال في آخر كلامه : «ولا يخفى أيضا أنّه لا يتفاوت الحال فيما إذا كان أحد المتعارضين قطعيا كالإجماع والآخر غير قطعي بعد ثبوت حجيته ، لأنّ بعد ثبوت الحجية يكون حكمه حكم القطعي ، فإنّه لو كان بدل قوله : وإلى الخلف يقطع ـ الإجماع على القطع حينئذ نقول : إنّه كما أنّ الإجماع يخصّص العام المطلق كذلك الخبر الخاصّ ، لأنّه أيضا حجة كالإجماع ، فافهم واضبط ، فانه من المسائل المهمّة المشكلة» (١)

وأفاد هذا المطلب في المناهج أيضا ، لكن لمّا كان كلامه في العوائد أو في بالمقصود وهو أحدث تأليفا اقتصرنا عليه.

(١) جواب «إذا» هذا تقريب انقلاب النسبة الّذي هو اشتباه العلم المتقدم «قده» والواو

__________________

(*) الأولى أن يقال : «بينه بعد تخصيصه به وبين سائر الخصوصات» إذ طرفا النسبة العام

__________________

(١) عوائد الأيّام ، ص ١١٩ و ١٢٠ ، العائدة : ٤٠ ، المناهج الورقة الأخيرة من الكتاب ـ إذ لم تكن صفحات الطبعة التي راجعتها مرقمة ـ بعنوان قوله : «السابعة لا بد في تغيير كيفية تعارض الدليلين ... إلخ».

٢٧٠

تخصيصه (١) به ، فربما (٢) تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه ، فلا بد من رعاية هذه النسبة (٤) ، وتقديم (٤) الراجح منه (٥) ومنها ، أو التخيير (٦) بينه (٧) وبينها لو لم يكن هناك راجح ،

______________________________________________________

في «وقد خصّص» حالية ، يعني : إذا كان هناك عام وخصوصات ـ والحال أنّه قد خصّص ببعضها ـ كان اللازم ملاحظة النسبة المنقلبة الحادثة بسبب تخصيصه ببعضها مع سائر الخصوصات.

(١) هذا الضمير وضمير «بينه» راجعان إلى «عام» وضمير «به» راجع إلى «ببعضها» يعني : كان اللازم ملاحظة النسبة بين العام وبين سائر الخصوصات بعد تخصيص العام ببعض تلك الخصوصات.

(٢) هذا متفرّع على الملاحظة المزبورة ، يعني : قد توجب هذه الملاحظة انقلاب النسبة من العموم والخصوص المطلق إلى الخصوص من وجه ، أو من غيره إلى غيره كما عرفت في بيان الأمثلة ، فلا بد من مراعاة هذه النسبة الجديدة بترتيب أحكامها من الأخذ بالراجح منهما إن كان ، وإلّا فالتخيير.

(٣) أي : نسبة العموم والخصوص من وجه التي انقلبت إليها النسبة السابقة.

(٤) معطوف على «رعاية» ومفسّر لها ، ولعل الأولى إبدال الواو بالباء ، بأن يقال : «بتقديم».

(٥) أي : من العام المخصّص ومن سائر الخصوصات.

(٦) معطوف على «تقديم» يعني : لا بدّ من رعاية هذه النسبة بتقديم الراجح من العام المخصّص وسائر الخصوصات إن كان هناك راجح ، أو التخيير بينهما إن لم يكن هناك راجح.

(٧) أي : بين العام المخصص ، وضمير «بينها» راجع إلى سائر الخصوصات.

__________________

المخصّص ببعض الخصوصات ، وسائر الخصوصات ، فينبغي أوّلا ذكر الطرف الأوّل ، وهو العام المخصّص ببعض الخصوصات حتى يناسب التعبير بسائر الخصوصات ، إذا المناسب ذكر السائر بعد بيان شيء من سنخه كما هو المعهود من استعمال هذه الكلمة في الموارد.

٢٧١

لا تقديمها (١) عليه ، إلّا إذا كانت النسبة بعده (٢) على حالها.

وفيه (٣) : أنّ النسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات. وتخصيص العام

______________________________________________________

(١) معطوف على «ملاحظة» يعني : كان اللازم ملاحظة النسبة ... لا تقديمها ـ أي لا تقديم الخصوصات على العام ـ كما يقول به غير الفاضل النراقي «قده» إلّا إذا كانت النسبة التي كانت قبل التخصيص محفوظة بعده ولم تنقلب إلى نسبة أخرى ، فإن انقلبت إليها كان اللازم مراعاة النسبة المنقلبة.

ومثال محفوظية النسبة ـ وعدم انقلابها بعد تخصيص العام بأحد الخاصّين ـ ما إذا ورد «أكرم الشعراء ، ولا تكرم الشعراء البصريّين ، ولا تكرم الشعراء الكوفيّين» فان تخصيص العام بـ «لا تكرم العلماء البصريّين» لا يوجب انقلاب نسبة العموم المطلق إلى نسبة أخرى بل هي باقية على حالها ، ضرورة أن «أكرم الشعراء» قبل تخصيصه بـ «لا تكرم الشعراء البصريّين» كان أعم مطلقا من «لا تكرم الشعراء الكوفيّين» وهذه الأعميّة باقية أيضا بعد التخصيص به ، ولم تنقلب إلى نسبة أخرى ، لوضوح أعمية «الشعراء غير البصريّين» من «الشعراء الكوفيّين».

هذا توضيح كلام العلامة النراقي «قده» وحاصله : كون المدار في العلاج هو النسبة الحادثة ، إلا إذا كانت النسبة السابقة باقية على حالها بعد تخصيص العام بأحد الخصوصات.

(٢) أي : بعد تقديمها ـ أي تقديم الخصوصات ـ وضمير «حالها» راجع إلى النسبة.

(٣) توضيح ما أجاب به عن كلام النراقي ـ وفاقا لشيخنا الأعظم في بعض كلامه «قدس‌سرهم» ـ هو : أن مركز النسبة بين الدليلين أو الأدلّة هو الظهور العرفي الثابت لهما أولها ـ عند أبناء المحاورة ، وظهور كل دليل ينسب إلى مثله من دون انثلامه بظهور دليل آخر ، فالظهورات محفوظة قبل ملاحظة بعضها مع الآخر وبعدها ، ولا تنثلم بالقرائن المنفصلة وإن كانت قطعية ، لأنّها لا تصادم الظهورات الناشئة من استعمال الألفاظ في معانيها ، حيث إنّ هذه الظهورات تترتب قهرا على الاستعمال المزبور ، بل تصادم حجيتها. نعم القرائن المتّصلة تمنع انعقاد الظهور.

٢٧٢

بمخصّص منفصل ـ ولو كان قطعيّا ـ لا ينثلم (١) به ظهوره وإن انثلم به حجيته ، ولذلك (٢) يكون بعد التخصيص حجة في الباقي ،

______________________________________________________

فعليه لا يرتفع ظهور العام في العموم بالمخصّص المنفصل ، بل يخصّص بكل واحد من المخصصات من دون انقلاب ما كان بينها قبل التخصيص من النسبة ، لأن وجه تقديم كل خاص على عامّه ـ وهو الأظهرية في مورد تصادق العنوانين ـ متحقق في كل واحد من الخصوصات ، فلا وجه لتقديم أحد الخاصّين في تخصيص العام به ثم ملاحظة العام المخصّص مع الخاصّ الثاني ، لأن تقديم أحد الخاصّين وانقلاب نسبة العام مع الخاصّ الآخر إمّا ترجّح بلا مرجح أي معلول بلا علة ، وإمّا ترجيح بلا مرجح.

ففي مثل «أكرم الأمراء ، ولا تكرم فساقهم ، ولا تكرم الأمراء الكوفيين» يحكم بوجوب إكرام الأمير العادل غير الكوفي ، لأنّه يبقى تحت عموم «وجوب إكرام الأمراء» بعد خروج فسّاقهم وكوفيّيهم. بخلاف انقلاب النسبة الّذي ذهب إليه الفاضل النراقي ، فإنّ «الأمير العادل الكوفي» الّذي هو مورد الاجتماع يتعارض فيه «أكرم الأمراء» المخصّص بـ «لا تكرم فساقهم» الّذي انقلبت نسبة الأخصية المطلقة مع «لا تكرم الأمراء الكوفيين» إلى العموم من وجه.

والظاهر أن مبنى الانقلاب هو تخيّل انثلام الظهور بالقرائن المنفصلة كالمتصلة. لكنه فاسد ، لوضوح ترتب الظهور قهرا على مجرد الاستعمال ، والقرينة المنفصلة لا تصادم هذا الظهور أصلا ، بل تصادم حجيته فقط كما يقول به المشهور. قال شيخنا الأعظم في ردّ مقالة الفاضل : «ويندفع بأن التنافي في المتعارضين إنما يكون بين ظاهري الدليلين ، وظهور الظاهر إمّا أن يستند إلى وضعه ، وإمّا أن يستند إلى قرينة المراد ، وكيف كان فلا بد من إحرازه حين التعارض وقبل علاجه ، إذ العلاج راجع إلى دفع المانع ، لا إلى إحراز المقتضي ...».

(١) خبر «وتخصيص» ، و «ظهوره» فاعل «ينثلم» ، وضمير «به» راجع إلى «تخصيص» وضمير «ظهوره» إلى «العام».

(٢) يعني : ولأجل عدم انثلام الظهورات بالقرائن المنفصلة يكون ظهور العام في العموم باقيا على الحجية بعد التخصيص بالمخصص المنفصل بالنسبة إلى الباقي ، فإنّه لو

٢٧٣

لأصالة عمومه (١) بالنسبة إليه.

لا يقال (٢) : إنّ العام بعد تخصيصه بالقطعي (*) لا يكون مستعملا في

______________________________________________________

كان التخصيص رافعا لظهوره في العموم لم يكن حجة في الباقي ، إذ مع ارتفاع الظهور لا يبقي موضوع للحجية.

وبالجملة : فجريان أصالة العموم ـ التي هي من الأصول المرادية المثبتة لكون الظواهر مرادة للمتكلم ـ أقوى شاهد على بقاء الظهور النوعيّ بعد التخصيص بالمنفصل.

(١) أي : لأصالة عموم العام بالنسبة إلى الباقي بعد التخصيص ، وحاصله : أن بقاء الظهور بعد التخصيص يوجب حجية العام في الباقي ، لأصالة العموم ، إذ جريانها منوط بوجود موضوعه وهو الظهور ، فكأنّه قيل : «العام بعد تخصيصه باق على ظهوره في العموم ، ولذا يجري فيه أصالة العموم ، فيكون العام حجة في الباقي».

(٢) غرض هذا المستشكل توجيه انقلاب النسبة بإنكار قول المصنف : «وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره» ومحصله : منع الظهور للعام في العموم مع تخصيصه بالمخصص القطعي كالإجماع ، فلا يبقى له ظهور حتى يكون حجة في الباقي ، إذ مع قطعيّة المخصص لم يستعمل العام في العموم حتى يحصل له ظهور فيه ويكون حجة في الباقي.

وبعبارة أخرى : المخصص القطعي ـ كالإجماع والعقل ـ كاشف عن عدم استعمال «أكرم الأمراء» في العموم ، لكون المراد الاستعمالي هو العدول من الأمراء ، وحينئذ فاللازم ملاحظة النسبة بين الخاصّ الثاني وبين العام بعد تخصيصه بالخاص الأوّل المفروض كونه قطعيّا ، وتنقلب النسبة بين «أكرم الأمراء العدول» وبين «لا تكرم الأمراء الكوفيين» من العموم المطلق إلى العموم من وجه ، ويتعارضان في المجمع وهو الأمير العادل الكوفي ، فيقتضي العامّ المخصّص وجوب إكرامه ، ويقتضي الخاصّ الثاني حرمة إكرامه.

__________________

(*) هذه الكلمة غير موجودة في عبارة الفاضل النراقي المتقدمة ، بل صرّح «قده» بعدم الفرق بين كون المخصّص إجماعا أو أمارة اعتبرها الشارع ، والظاهر أنّ المصنف «قده» اعتمد على ما في

٢٧٤

العموم قطعا (١) ، فكيف (٢) يكون ظاهرا فيه؟

فانه يقال (٣) : إن المعلوم عدم إرادة العموم ،

______________________________________________________

(١) القطع بعدم استعماله في العموم ناش عن القطع بعدم إرادة العموم منه ، ومع هذا القطع لم يستعمل فيه ، للغويّة استعماله حينئذ في العموم.

(٢) يعني : فكيف يكون العام ظاهرا في العموم مع عدم استعماله فيه؟

(٣) هذا جواب الإشكال ، ومحصله : أنّ المخصص المنفصل القطعي ليس قرينة على عدم استعمال العام في العموم حتى يقال : بعدم ظهوره في العموم ، بل هو قرينة على عدم إرادة المتكلم له ، وعدم الإرادة لا يلازم عدم الاستعمال ولا لغوية الاستعمال ، لإمكان ترتب فائدة عليه ، وهي : إفادة قاعدة كلية تكون مرجعا عند الشك في التخصيص ، وهذه الفائدة المهمة تترتب على استعمال العام في العموم. ويشهد بذلك حجية العام ـ بالاتّفاق ـ في تمام ما بقي بعد التخصيص ، إذ مع فرض عدم الاستعمال في العموم لا وجه لحجيته في تمام الباقي ، لاحتمال عدم كون المستعمل فيه تمام الباقي ، بأن يكون هو بعض مراتب الباقي.

__________________

كلام شيخنا الأعظم «قده» في حكاية مطلب الفاضل ، حيث قال : «وقد توهم بعض من عاصرناه ، فلاحظ العام بعد تخصيصه ببعض الأفراد بإجماع ونحوه مع الخاصّ المطلق الآخر». وقال أيضا : «ولا أظنّ يلتزم بذلك فيما إذا كان الخاصان دليلين لفظيين ... وإنّما يتوهم ذلك في العام المخصّص بالإجماع والعقل ...».

وعلّق عليه المصنف في حاشية الرسائل بما محصله : أمّا الإجماع فهو كالدليل اللفظي المنفصل غير مصادم لظهور الكلام وإن كان مانعا عن حجيته. وأمّا العقل ففيه تفصيل ، فإن كان مركوزا في الأذهان بحيث يعتمد أهل اللسان في محاوراتهم عليه في استعمال الألفاظ في غير ما وضعت له فهو كالقرينة المتصلة مانع عن انعقاد ظهور العام في ذلك الفرد المخرج. وإن لم يكن الحكم العقلي كذلك فهو كالإجماع دليل منفصل يمنع عن حجية ظهور العام لا عن أصل ظهوره ، فلا وجه لملاحظة العام مع ذلك الحكم العقلي ، ثم لحاظه بعد انقلاب نسبته مع ساير الخصوصات (١).

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٧٨

٢٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : العام ظاهر ـ بمقتضى وضعه أو قرينة المراد ـ في استيعاب جميع أفراده ، وحيث إنّ المخصّص القطعي أو الظني منفصل عنه حسب الفرض ، فلا ينثلم أصل ظهوره في الاستغراق ، لعدم انقلاب الشيء عمّا وقع عليه ، وإنما يكون الخاصّ مزاحما لحجية العام في مقدار دلالته ، فيرجع إلى العام في غير ما أخرجه الخاصّ ، ولا تنقلب النسبة بين العام بعد التخصيص وبين الخاصّ الآخر ، لبقاء ظهور العام على حاله وإن لم يكن حجة في مدلول الخاصّ الأوّل.

ولو فرض انهدام أصل ظهور العام بعد التخصيص بالمخصص المنفصل ـ كتخصيص «أكرم الأمراء» بـ «لا تكرم فساق الأمراء» وصيرورة العام مجازا ـ امتنع التمسك به في

__________________

وهذه التعليقة وإن كانت في محلها ، لكن أصل تفرقة الشيخ بين الإجماع والعقل وبين الأدلة اللفظية لا أثر منه في كلام الفاضل ، ولعل الشيخ استفادها من قوله في المناهج : «فقد يكون الخبران متعارضين بالتساوي مثلا ، وبملاحظة تخصيص أحدهما بمخصص آخر من إجماع أو غيره يرجع التعارض إلى العموم والخصوص المطلقين أو من وجه أو المتباينين ...» ولكن كلمة «غيره» لا ظهور لها في كل ما يكون قطعيا. ولو سلّم فذيل عبارة العوائد المتقدمة كافية لنفي التفصيل بين الإجماع وغيره ، وهو قوله : «ولا يخفى أيضا أنه لا يتفاوت الحال فيما إذا كان أحد المتعارضين قطعيا كالإجماع والآخر غير قطعي بعد ثبوت حجيته». وعليه فأخذ كلمة «القطعي» هنا غير مناسب.

ثم إنه قد يورد على الشيخ والمصنف «قدهما» بعدم كفاية بقاء الظهور الاستعمالي في العام المخصّص لإنكار انقلاب النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر أو غيره مما يعارضه ، وذلك لأنّ القائل بالانقلاب يعترف أيضا ببقاء هذا الظهور الاستعمالي ، لكنه يدعي سقوطه عن الحجية الفعلية بسبب التخصيص ، ومن المعلوم أن تعارض الدليلين أو الأدلة ليس للتنافي بين ظاهريهما أو ظهوراتها بأنفسها ، بل هي بوصف كونها حجة بسبب شمول دليل الاعتبار للكل.

وعليه فلا بد أن يجاب عن الإشكال بأن مقصود المصنف أيضا ليس هو بقاء ذات الظهور ولو كان ساقطا عن الاعتبار ، بل الظهور الكاشف عن المؤدى ، لكن المناط هو الحجية النوعية ـ التي هي المقصودة في باب التعارض ـ لا الفعلية ، وسيأتي مزيد بيان له في التعليقة الملحقة بآخر الفصل إن شاء الله تعالى.

٢٧٦

لا عدم (١) استعماله فيه لإفادة (٢) القاعدة الكلية ، فيعمل (٣) بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها ،

______________________________________________________

الشك في التخصيص الزائد ، لكون العام مجملا حينئذ ، وعدم كونه كاشفا عن المراد الجدّي ، لتعدد مراتب المجاز ، فيحتمل إرادة تمام الباقي بعد التخصيص أعني به إكرام الأمراء العدول ، كما يحتمل إرادة بعض المراتب ، كإكرام الأمراء العدول الكوفيين ، أو إكرام الأمراء العدول الشعراء ، وحيث أنّه لا معيّن لتمام الباقي بعد المخصص الأوّل فهو مجمل لا يصح التمسك به في الشك في التخصيص الزائد.

فإن قلت : أصالة عدم مخصص آخر محكّمة ، وتدل على نفي التخصيص المشكوك فيه ، ومعه لا يصير العام المخصّص مجملا ، بل يتعيّن المراد منه في تمام الباقي ببركة هذا الأصل.

قلت : أصالة عدم مخصّص آخر قاصرة عن إثبات إرادة تمام الباقي من العام ، وذلك لأنّ هذا الأصل لا يعيّن المراد من العام المخصّص ، فإنّ إرادة تمام الباقي مترتبة على ظهور نفس العام في الباقي وحجيته فيه ، وحيث إنّ المفروض اقتضاء التخصيص للمجازية وتفاوت مراتب المجاز ، فلا وجه لإرادة تمام الباقي من العام حتى يلاحظ مع الخاصّ الآخر.

وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث العام والخاصّ ، وقال في الفصل الّذي عقده لحجية العام بعد التخصيص بالمتصل والمنفصل ما لفظه : «والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازا. أمّا في التخصيص بالمتصل فلما عرفت من أنه لا تخصيص أصلا ... وأما في المنفصل فلأن إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله فيه ، وكون الخاصّ قرينة عليه ، بل من الممكن قطعا استعماله معه في العموم قاعدة ، وكون الخاصّ مانعا عن حجية ظهوره ...»

(١) معطوف على «عدم» وضمير «استعماله» راجع إلى «العام» وضمير «فيه» إلى «العموم».

(٢) متعلق بـ «استعماله» يعني : لا استعماله فيه لأجل إفادة القاعدة الكلية.

(٣) بالنصب ، أي : ليعمل بعموم هذه القاعدة الكلية ما لم يعلم بتخصيصها.

٢٧٧

وإلّا (١) لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي ، لجواز (٢) استعماله حينئذ (٣) فيه وفي غيره (٤) من (٥) من المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص.

وأصالة (٦) عدم مخصّص آخر لا يوجب (٧) انعقاد ظهور له ، لا فيه ولا في

______________________________________________________

(١) أي : وإن لم يكن العام مستعملا في العموم لم يكن وجه لحجيته في تمام الباقي.

(٢) علة لقوله : «لم يكن وجه» وقد مر توضيحه بقولنا : «إذ مع فرض عدم الاستعمال في العموم لا وجه لحجيته في تمام الباقي ... إلخ».

(٣) أي : حين عدم استعمال العام في العموم ، وحاصله : أنّه بناء على عدم استعمال العام في العموم ـ لا وجه لحجيته في تمام الباقي بعد التخصيص ، لإمكان استعماله في جميع الباقي وفي غيره من المراتب التي يجوز عند أبناء المحاورة انتهاء التخصيص إليها ، لعدم لزوم التخصيص المستهجن ، مع عدم قرينة معيّنة لمرتبة من مراتب التخصيص.

(٤) هذا الضمير وضمير «فيه» راجعان إلى «تمام الباقي».

(٥) بيان لـ «غيره» إذ كل مرتبة دون مرتبة تمام الباقي يمكن أن يكون هو المستعمل فيه بعد فرض نصب قرينة على عدم استعمال العام في العموم.

(٦) هذا تعريض بشيخنا الأعظم «قده» حيث أثبت ظهور العام في تمام الباقي بأصالة عدم التخصيص بمخصّص آخر ، فلا مانع حينئذ من التمسك بالعامّ في تمام الباقي ، وملاحظة هذا العام المخصّص مع الخاصّ الآخر ، وعليه فلا يلزم انقلاب النسبة حتى لو بنينا على صيرورة العام مجازا بالتخصيص (*).

(٧) هذا ردّ كلام الشيخ ، وحاصله : أنّ أصالة عدم مخصص آخر لا توجب انعقاد ظهور العام في تمام الباقي ، لأنّ منشأ الظهور إمّا الوضع وإمّا القرينة ، وكلاهما مفقود كما هو واضح ، وليس للظهور موجب آخر. وقد تقدم منه في العام والخاصّ تفصيل ذلك كما أشرنا إلى عبارته آنفا.

__________________

(*) جعل شيخنا الأعظم «قده» مانعية الخاصّ القطعي عن العام مردّدة بين فرضين ، وهما : المانعية عن الظهور والمانعية عن المراد الجدّي ، وقال : إنّ الدليل اللفظي والخاصّ القطعي يمنعان عن ظهور العام على حدّ سواء ، ثم قال : «وإن لوحظ ـ أي العام ـ بالنسبة إلى المراد منه بعد التخصيص

٢٧٨

غيره من (١) المراتب ، لعدم (٢) الوضع ولا القرينة المعيّنة لمرتبة منها (٣) كما لا يخفى ، لجواز (٤) إرادتها وعدم نصب قرينة عليها (٥).

______________________________________________________

(١) بيان لـ «غيره» وضمير «له» راجع إلى العام ، وضميرا «فيه ، غيره» راجعان إلى «تمام الباقي».

(٢) هذا وما بعده ـ مما عطف عليه ـ كلاهما تعليل لقوله : «لا توجب انعقاد ظهور» والأوّل أعني عدم الوضع هو ما اعترف به القائل بمجازية العام المخصص. والثاني ـ أعني عدم القرينة المعيّنة ـ لوضوح أن شأن الخاصّ إخراج مدلوله عن العام ، ولا يدل على أن المراد من العام بعد التخصيص هو تمام الباقي أم بعضه.

(٣) أي : من المراتب.

(٤) يعني : يمكن أن يريد المتكلم مرتبة خاصة من مراتب التخصيص ولم ينصب قرينة عليها ، فلا يكون العام بعد التخصيص ظاهرا في شيء من المراتب حتى يكون حجة فيه.

(٥) هذا الضمير وضمير «إرادتها» راجعان إلى «مرتبة».

__________________

بذلك الدليل ، فلا ظهور له في إرادة العموم باستثناء ما خرج بذلك الدليل إلّا بعد إثبات كونه تمام المراد ، وهو غير معلوم إلّا بعد نفي احتمال مخصص آخر ولو بأصالة عدمه ، وإلّا فهو مجمل مردد بين تمام المراد وبعضه ، لأن الدليل المذكور قرينة صارفة عن العموم لا معيّنة لتمام الباقي ...».

أمّا الشق الأوّل فقد ناقشه جمع من أجلة تلامذته ـ كالمصنف في الحاشية ـ بأن الخاصّ المنفصل ـ سواء أكان قطعيا أم ظنيا ـ لا يتصرف في ظهور العام ، بل في حجيته ، فالتعبير بالمانعية عن الظهور لا يخلو من مسامحة (١).

وأمّا الشق الثاني فالظاهر اعتراف الشيخ فيه بتوقف الأخذ بتمام الباقي من العام ـ بعد التخصيص بالقطعي ـ على إجراء أصالة عدم مخصّص آخر ، وهي لا تجري في خصوص المقام ، لورود المخصص الثاني حسب الفرض.

وناقشه المصنف بأن أصالة عدم المخصص من الأصول المرادية ، وهي لا تنفع لإثبات ظهور العام الاستعمالي في تمام الباقي بعد سقوط ظهوره بالمخصص القطعي ، والمفروض أنّ مدار

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٧٩.

٢٧٩

نعم (١) ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام (٢) في مقام البيان قرينة على إرادة التمام ، وهو (٣) غير ظهور العام فيه (٤) في كل مقام.

فانقدح بذلك (٥) أنّه لا بدّ من تخصيص العام بكل واحد من

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله : «ولا القرينة المعينة» وحاصله : أنّه قد يكون في بعض الموارد قرينة خارجية على كون المراد من العام المخصص هو تمام الباقي ، وذلك فيما إذا تمّت مقدّمات الحكمة من كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده وعدم مانع من إظهاره ، فحينئذ يكون عدم نصب القرينة قرينة على أنّ مراده تمام الباقي بعد التخصيص المعلوم ، وإلّا لأخلّ بغرضه ، فإنّ السكوت في مقام البيان بيان لعدم دخل شيء آخر في غرضه. لكن لا يتفق هذا في جميع الموارد.

(٢) هذه إحدى مقدمات الحكمة المثبتة لكون المراد تمام الباقي بعد التخصيص ، والأولى أن يقال : «مع كون المتكلم بهذا العام في مقام البيان».

(٣) أي : وعدم نصب قرينة ـ مع كون المتكلم بالعامّ في مقام البيان ـ غير ظهور العام في تمام الباقي في جميع الموارد كما هو المدّعى ، إذ المدّعى ظهور العام المخصص بنفسه في تمام الباقي ، لا بمعونة قرينة خارجية. ولو أبدل قوله : «وهو» بـ «ولكن» ونحوه كان أدلّ على عدم تمامية ما استدركه في «نعم» في جميع الموارد. وعلى هذا فالإشكال المتقدم من صيرورة العام مجملا ـ لو لم يكن حقيقة بعد التخصيص ـ باق على حاله.

(٤) أي : في التمام ، يعني تمام الباقي.

(٥) أي : بما تقدم من قوله : «إن النسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات وتخصيص العام بمنفصل ... لا ينثلم به ظهوره ...» ظهر أنّه ، وهذا نتيجة ما تقدم من أنّه لا بد من ملاحظة ظاهر كل دليل مع ظاهر دليل آخر ، فلو كان هنا عام وأربعة خصوصات مثلا فاللازم تخصيص ذلك العام بكل واحد منها مع الغض عن الآخر ، ولا تنقلب النسبة التي كانت بينها قبل التخصيص إلى نسبة أخرى كما يظهر ذلك من الأمثلة المتقدمة.

__________________

التعارض على ملاحظة ظهورات الأدلة من جهة كاشفيتها النوعية عن المرادات ، ولازم عدم جريان الأصل هو الحكم بإجمال العام.

٢٨٠