منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بفتوى المفضول.

فإنّه يقال : إن أدلة التقليد لا تشمل الفتويين المتعارضتين ، فمقتضى القاعدة تساقطهما. إلّا أنّ الإجماع المدّعى على عدم تساقطهما يقتضي لزوم الأخذ بإحداهما. وحينئذ فإن كان المجتهدان متساويين في الفضيلة حكم العقل بالتخيير بين الفتويين. وإن كانا متفاضلين فيها حكم العقل بلزوم الأخذ بفتوى الأفضل ، دون التخيير ، لفقدان ملاكه وهو التساوي.

وبالجملة : فلا دليل على التخيير بين فتويي الفاضل والمفضول ، لا من العقل ، لتقبيحه الأخذ بالمرجوح مع وجود الراجح ، ولا من النقل ، لعدم شمول أدلة التقليد للفتويين المتعارضتين كما مرّ آنفا.

وفي الإشكال الثاني : أنّ أصالة التعيينيّة التي هي جارية في المسألة الأصولية حاكمة على الاحتياط الجاري في المسألة الفقهية ، لأنّهما كالشك السببي والمسببي ، حيث إن الأصل الجاري في المسألة الأصولية يزيل الشك في المسألة الفقهية.

وبالجملة : فشيء من الإشكالين المزبورين لا يوجب الخدشة في أصالة التعيينية الموجبة لتعيّن العمل بفتوى الأفضل ، والله العالم.

إذا اتضح الأصل الّذي يعوّل عليه في المسألة يقع الكلام في أدلّة المانعين والمجوّزين.

اعلم : أن المسألة ذات قولين : أحدهما تعيّن تقليد الأفضل ، وعدم جواز تقليد المفضول ، وهذا القول هو المعروف بين الأصحاب وجماعة من العامة ، وفي تقريرات شيخنا الأعظم (قده) : «بل هو قول من وصل إلينا كلامه من الأصوليين كما عن النهاية» وفي المعالم : «هو قول الأصحاب الّذين وصل إلينا كلامهم». وعن المحقق الثاني (قده) «دعوى الإجماع صريحا على ذلك» وعن التقريرات : «ويظهر من السيد في الذريعة كونه من مسلّمات الشيعة».

وثانيهما : الجواز أي التخيير بين الفاضل والمفضول ، وعدم تعيّن تقليد الفاضل ، وهو المنسوب في التقريرات المشار إليها «إلى جماعة ممّن تأخر عن الشهيد الثاني (قده) تبعا للحاجبي والعضدي والقاضي وجماعة من الأصوليّين والفقهاء ، وصار إليه جملة من متأخري أصحابنا حتى صار في هذا الزمان قولا معتدّا به ، والأقرب ما هو المعروف بين أصحابنا».

وكيف كان ففي المسألة قولان : الأول جواز تقليد المفضول كما عليه جماعة ، والثاني المنع كما عليه المشهور ، فهنا مبحثان أحدهما في المنع ، والآخر في الجواز.

٥٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

(أدلة جواز تقليد المفضول)

أمّا الأوّل فمحصله : أنّه قد استدلّ على القول بالجواز تارة بالأصل ، وأخرى بالدليل ، فيقع الكلام في مقامين.

القسم الأوّل : الاستدلال بالأصل العملي ، وتقريبه بوجوه :

أ ـ الاستصحاب

الأوّل : في بيان تمسكهم بالأصل ، وقد ذكروا في تقريبه وجوها :

الأوّل : استصحاب التخيير الثابت فيما إذا كانا متساويين في العلم ، ثم صار أحدهما أفضل من الآخر ، ويتم في غير هذا المورد بالإجماع المركب.

وفيه : أنّه لا مجال هنا للتخيير لا واقعا ولا ظاهرا. أمّا الأوّل فواضح ، لعدم جعل التخيير الواقعي بين الفتويين اللتين هما طريقان إلى الواقع ، وليس فيهما ملاك إلّا الطريقية ، وعليه فالمجعول واقعا إحداهما أو ثالث.

وأمّا الثاني فلعدم جريان الاستصحاب فيه ، إذ مناط التخيير في حال تساوي المجتهدين ـ وهو القطع بعدم المرجح ـ مفقود في صورة أفضلية أحدهما من الآخر ، وذلك لاحتمال مرجحية الأعلمية ، ومعه لا يحكم العقل بالتساوي ، لارتفاع مناط حكمه.

وإن شئت فقل : أنّ موضوع التخيير كان تساوي المجتهدين في العلم ، وقد ارتفع التساوي ، لصيرورة أحدهما أعلم من الآخر ، وقد قرّر في محله عدم جريان الاستصحاب مع زوال وصف من أوصاف الموضوع ، لكونه موجبا للشك في بقاء الموضوع مع احتمال دخل الزائل فيه ، ومع الشك في بقاء الموضوع لا يجري الاستصحاب كالعلم بارتفاعه.

وتوهم أنّ هذا الإشكال متجه على الاستصحاب إن كان المستصحب هو التخيير ، وأمّا إذا كان ذلك جواز الرجوع إلى المفضول قبل أعلميّة الآخر منه مع كون موضوعه الاجتهاد والعدالة ـ اللذين هما باقيان بعد حصول الأعلمية قطعا ـ فلا إشكال في بقاء جواز الرجوع إليه ، لتبعية الحكم لموضوعه حدوثا وبقاء من دون حاجة إلى الاستصحاب ، للقطع ببقاء الموضوع المترتّب عليه القطع ببقاء حكمه فاسد ، لأنّ المراد بهذا الجواز ليس هو الإباحة بالمعنى الأخص التي هي من الأحكام الخمسة التكليفية ، بل المراد بالجواز هو الوجوب التخييري بتطبيق العمل على إحدى الفتويين ، و

٥٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

تسمية هذا الوجوب بالجواز إنّما هي للرخصة في تركه إلى بدل ، فلا يندفع الإشكال بهذا التوهم ، هذا.

(ب ـ أصالة البراءة)

الثاني : أصالة البراءة عن وجوب تقليد خصوص الأعلم ، لكونه كلفة زائدة ، فيكون مخيّرا في العمل بإحدى الفتويين ، حيث إن إيجاب العمل بفتوى خصوص الأفضل يوجب الضيق على العامي ، فينفي بأصالة البراءة ، نظير الشك في أنّ الواجب عتق مطلق الرقبة أو خصوص المؤمنة ، مع عدم إطلاق دليل ينفي اعتبار هذه الخصوصية كما إذا كان لبيا أو مجملا لفظيا ، فإنّه ينفي التكليف بهذه الخصوصية بأصل البراءة.

وبالجملة : فالمقام من صغريات التعيين والتخيير التي تجري فيها البراءة عن التعيينيّة ، هذا.

وفيه : منع صغرويّة المقام لكبرى التعيين والتخيير التي تجري فيها البراءة.

وتوضيح ذلك منوط بالإشارة إلى أقسام التخيير حتى يتضح حال المقام ، فنقول :

(أقسام التعيين والتخيير)

القسم الأوّل : التخيير العقلي الثابت في تعلق التكليف بطبيعة ذات أفراد ، فإنّ التخيير بين أفرادها يكون بحكم العقل ، والشك في هذا التخيير ينشأ من احتمال دخل خصوصية بعض الأفراد في الحكم بحيث يختصّ حكم الطبيعة به ، دون غيره من الأفراد ، كاحتمال دخل الإيمان في وجوب عتق الرقبة. فان كان لدليل الحكم المتعلّق بالطبيعة إطلاق يدفع به احتمال دخل خصوصية الإيمان في الحكم ، ويثبت به إطلاق الحكم لجميع أفراد الطبيعة على حد سواء. وإن لم يكن لدليل الحكم إطلاق يدفع الشك في دخل خصوصية الإيمان بأصل البراءة ، لأنّ قيديّة الإيمان مما تناله يد التشريع ، وفي رفعها منّة ، فتجري فيها البراءة ، وبها يرتفع الشك في التعيينية.

القسم الثاني : التخيير الشرعي الّذي يتكفّله الخطاب كخصال الكفارة ، فإنّ التخيير فيها شرعي واقعي ، وليس للعقل فيه دخل أصلا ، فإذا شكّ في وجوب إحداها جرت فيها البراءة.

القسم الثالث : التخيير العقلي الثابت في باب التزاحم ، فإنّ الواجبين المتزاحمين كإنقاذ الغريقين وإطفاء الحريقين يشتمل كل منهما على مصلحة موجبة لجعل الوجوب لكل واحد منهما تعيينا ، إلّا أنّ عدم قدرة المكلف على امتثالهما معا أوجب حكم العقل بالتخيير بينهما مع تساوي

٥٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ملاكيهما ، وبتعيين أحدهما مع أهمية ملاكه من ملاك الآخر. ومرجع الشك في التعيين والتخيير في هذا القسم إلى الشك في ترجيح أحد المتزاحمين على الآخر وعدمه ، فالتخيير حينئذ عقلي عارضي ناش من التزاحم في مقام الامتثال ، مع عدم مزاحمتهما في مقام الجعل ، وليس هنا مورد للبراءة ، إذ المفروض العلم بوجوب المتزاحمين واقعا.

القسم الرابع : التخيير بين فعل شيء وتركه ، لدوران حكمه بين الوجوب والحرمة مع عدم مرجح لأحدهما ، فإنّ التخيير في موارد دوران الأمر بين المحذورين ليس شرعيا ولا عقليا. أمّا عدم كونه شرعيا فواضح ، إذ حكم الفعل واقعا واحد معيّن وهو الوجوب أو الحرمة. وأمّا عدم كونه عقليا فلعدم ملاك في كل من الفعل والترك حتى يحكم العقل ـ حفظا لأحد الملاكين ـ بالتخيير كما في الواجبين المتزاحمين ، فالتخيير في هذا القسم تكويني ، حيث إنّ المكلف بحسب طبعه إمّا فاعل وإمّا تارك ، ولا تجري البراءة في هذا القسم أيضا ، لعدم الشك في الحكم.

والحاصل : أن التخيير إمّا عقلي وإمّا شرعي وإمّا تكويني ، والأوّل يكون في موردين أحدهما : أفراد الكلي المتعلق للحكم الشرعي كالرقبة ، والآخر : الواجبان المتزاحمان الواجد كل منهما لملاك الوجوب التعييني.

والثاني يكون فيما قام الدليل الشرعي على التخيير بين شيئين أو أشياء كالخصال.

والثالث يكون في دوران الأمر بين المحذورين.

ثم إنّه بعد الإحاطة بأقسام التخيير الأربعة يظهر مغايرتها للتخيير بين الفتويين المتعارضتين ، حيث إنّه ـ بعد عدم شمول إطلاقات التقليد للفتاوى المتعارضة ، وقيام الإجماع على عدم تساقطها ـ يحكم العقل بالتخيير بينها مع التساوي في العلم ، وبالتعيين مع المزيّة ، لكونه إطاعة ظنّية ، بخلاف الأخذ بفتوى المفضول ، فإنّ الإطاعة فيه احتماليّة ، فلو عمل بفتوى المفضول مع التمكن من العمل بفتوى الأفضل فقد أخلّ بمراتب الإطاعة ، إذ العقل لا يتنزّل عن المرتبة السابقة إلى اللاحقة إلّا بالتعذر.

فعلى هذا لا يتنزّل العقل عن العمل بفتوى الأفضل مع التمكن ، ومنه لا يعدّ الأخذ بفتوى المفضول إطاعة موجبة للإجزاء ، فتعيّن العمل بفتوى الأفضل يكون بحكم العقل من باب الإطاعة ، ورعاية ما فيها من المراتب ، ولا يكون بحكم الشرع حتى تجري فيه البراءة. بخلاف تعيّن بعض أفراد المطلق كالرقبة ، فإنّ تعيّن المؤمنة مثلا يكون بحكم الشارع ، فإذا شكّ في هذا التعين جرت فيه

٥٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أصالة البراءة. وكذا تجري البراءة في الشك في وجوب الصوم أو العتق ، لكونه شكّا في التكليف.

وأمّا عدم جريان البراءة في تعين أحد الواجبين المتزاحمين كإنقاذ الغريقين فيما إذا كان أحدهما عالما والآخر جاهلا ، وشك في رجحان إنقاذ العالم ، فإنّما هو لعدم كون الشك في وجوبه التعييني حتى ينفي بالأصل ، إذ المفروض وجوب إنقاذ كل منهما تعيينا كما هو مقتضى ملاك كل منهما ، بل الشك في بقاء التخيير بين المتزاحمين مع فرض مرجح في أحدهما ، فالعقل حينئذ لا يحكم بالتخيير ، لإناطة هذا الحكم بتساويهما ، ومع وجود مزيّة في أحدهما يرتفع التساوي ، فلا يحكم العقل حينئذ بالتخيير.

وكذا الحال في دوران الأمر بين المحذورين فيما إذا اقترن أحد الاحتمالين من الوجوب أو الحرمة بما يحتمل مرجحيته كالشهرة مثلا ، فإنّ العقل لا يحكم حينئذ بالتخيير ، لأنّ الأخذ بالاحتمال الموهوم إطاعة احتمالية ، وبالاحتمال المقرون بما يحتمل مرجحيته إطاعة ظنية ، وهذا يقدّم عقلا على الإطاعة الاحتمالية.

والحاصل : أنّ الشك في التعيينية في المزاحمين وفي دوران الأمر بين المحذورين ليس شكّا في الحكم الشرعي حتى تجري فيه البراءة ، وفي تعيّن أحد أفراد الطبيعة المتعلّقة للحكم كالرقبة يكون شكّا في التكليف ، فتجري فيه البراءة.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا : أنّ الشك في التعيينية في المقام ـ وهو الشك في تعين الأخذ بفتوى الأعلم ـ ليس من موارد أصالة البراءة ، لعدم كون الشك في ثبوت التكليف ، بل في سقوطه وامتثاله الّذي هو مجرى قاعدة الاشتغال ، فلا وجه لجعل ما نحن فيه من صغريات التعيين والتخيير التي تجري فيها البراءة.

ج ـ أصالة عدم مرجحية الأعلمية

الثالث من وجوه تقرير الأصل هو : أنّه لمّا كان مناط تقديم فتوى الأفضل على غيره مرجحية الأعلمية ، ومن المعلوم أنّ المرجحية كالحجية توقيفية ، ومع الشك فيها يجري الأصل في عدمها المقتضي للتخيير بين الفتويين ، إذ المفروض حجية قول المفضول ذاتا ، لشمول دليل حجية الفتوى لها كانت النتيجة حجية قول المفضول كالفاضل ، هذا.

٥٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وفيه : أنّ الأصل عدم حجية فتوى المفضول ، لما تقدم من أنّ المتيقن خروجه عن عموم ما دلّ على حرمة العمل بالظن هو قول الأفضل ، لتعينه بنظر العقل في مقام الإطاعة وتفريغ الذّمّة ، دون قول المفضول ، لأنّ العمل به إطاعة احتمالية لا يكتفي بها في حصول الامتثال.

ودعوى خروج فتوى المفضول أيضا عن عموم حرمة العمل بالظن ، لأنّه مقتضى حكومة إطلاق دليل الخاصّ على عموم العام ، فالنتيجة التخيير بين الفتويين ، غير مسموعة ، لأنّ أدلّة التقليد لا تشمل الفتويين المتعارضتين حتى يكون إطلاقها حاكما على عموم أدلة حرمة العمل بالظن ، وإنّما الدليل على اعتبارهما هو ما ادعي من الإجماع على عدم سقوطهما ، والعقل حينئذ يحكم بالتخيير مع تساوي المجتهدين في العلم ، وبالترجيح مع تفاضلهما ، فلا دليل لا عقلا ولا نقلا على حجية فتوى المفضول المخالفة لفتوى الأفضل. أمّا الأوّل فلقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، وأمّا الثاني فلما مر آنفا من سقوط أدلة التقليد وعدم شمولها للمتعارضين.

وأمّا ما ذكره المستدل ـ من توقيفية المرجحية كالحجية ، ومع الشك فيها يجري الأصل في عدمها ـ ففيه : أنّه متجه في التخيير الشرعي الثابت بالدليل كالتخيير بين الخبرين المتعارضين ، ضرورة أنّ رفع اليد عن الحجية ـ وهي دليل التخيير الشرعي ـ لا مسوّغ له إلّا الدليل ، فإنّ إطلاق دليل التخيير حجة ، وهو ينفي كل مشكوك المرجحية ، ولا نرفع اليد عن هذا الإطلاق إلّا بما دلّ الدليل على مرجحيته الموجبة لتقيد إطلاق أدلة التخيير. وهذا بخلاف التخيير العقلي ، فإنّ ملاكه هو التساوي المفقود فيما إذا كان لأحد المتعارضين مزيّة وإن لم تثبت مرجحيته شرعا.

فصارت النتيجة : أنّ الأصل في المسألة عدم حجية قول المفضول ، وأن شيئا من الوجوه التي قرّر بها الأصل لا يجدي في إثبات جواز تقليد المفضول في صورة معارضة فتواه لفتوى الأفضل ، بل الأصل كما تقدّم يقتضي عدم الجواز ، والله العالم.

القسم الثاني : الأدلة الاجتهادية

١ ـ إطلاقات أدلة التقليد

المقام الثاني : في استدلال المجوّزين لتقليد المفضول مع معارضة فتواه لفتوى الأفضل بالأدلّة الاجتهادية ، وهي كثيرة :

الأوّل : إطلاقات أدلة مشروعية التقليد من الآيات والروايات ، بتقريب : أنّها وإن كانت ظاهرة

٥٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في حجية كل واحدة من الفتاوى تعيينا بنحو العام الاستغراقي ، لكن لا بد من صرفها في تعارض الفتويين إلى الحجية التخييرية بقرينتين خارجية وعقلية.

أما الخارجية فهي كثرة الاختلاف في الفتاوى مع التفاوت في العلم والفضيلة ، وندرة الاتفاق بين جمع كثير من المجتهدين في الفتوى ، حيث إنّه مع هذه الكثرة من الاختلاف في الفتوى لم يقيّد الأئمة المعصومون «عليهم الصلاة والسّلام» حجية قول الفقيه بعدم مخالفته لفتوى غيره من الفقهاء. فهذه قرينة قطعية على إطلاق أدلة التقليد الّذي مقتضاه حجية فتوى كل من الفاضل والمفضول سواء أكانتا متوافقتين أم متخالفتين ، وسواء علم بتوافقهما وتخالفهما أم لا ، وسواء علم بتساوي المجتهدين في العلم أم لا ، فإنّ الإطلاق المزبور يقتضي هذا التعميم.

وأمّا القرينة العقلية ، فهي : أنّ القاعدة في الدليلين المتعارضين تقتضي الجمع بينهما مهما أمكن ، وعدم طرحهما رأسا ، وهذا الجمع ينتج التخيير بينهما.

توضيحه : أنّه إذا ورد دليل على وجوب القصر في المسافة التلفيقية وإن كان الذهاب أقلّ من أربعة فراسخ ، ودليل آخر على وجوب الإتمام فيها ، فلا سبيل إلى طرح كليهما ، والحكم بعدم وجوب شيء من صلاتي التمام والقصر ، بل لا بد من الأخذ بأحدهما تخييرا بأن يقيّد إطلاق كل من الدليلين بالآخر ، فيقال : يجب إتمام الصلاة إلّا مع الإتيان بالصلاة المقصورة ، وكذا تجب المقصورة إلّا مع الإتيان بالتامّة ، فالنتيجة الوجوب التخييري بينهما.

وبالجملة : فمع إمكان الجمع بين المتعارضين بتقييد الإطلاق فيهما لا وجه لطرحهما ، ففي المقام يقيد إطلاق حجية فتوى كل من الفاضل والمفضول ، ويقال : إنّ فتوى كلّ منهما حجة في ظرف عدم الأخذ بالأخرى ، ففتوى المفضول حجة في ظرف عدم الأخذ بفتوى الأفضل ، وبالعكس ، وهذا معنى التخيير ، هذا.

وأنت خبير بما في كلتا القرينتين.

إذ في الأولى أوّلا : منع غلبة الاختلاف في الفتوى بين المفتين في تلك الأعصار مع تمكنهم من الرجوع إلى الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين» ، وأخذ الأحكام ومداركها منهم «عليهم‌السلام». وغلبة الاختلاف في الفتاوي إنّما حدثت في الأعصار المتأخرة عن زمانهم عليهم‌السلام ، لضياع جملة من كتب الحديث ، وغيره من الحوادث. وعليه فإطلاقات حجية الفتاوى لا تشمل

٥٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الفتويين المتعارضتين ، فأصالة عدم الحجية تقتضي عدم حجيتهما معا.

وثانيا : منع صلاحية الغلبة ـ بعد تسليمها ـ لصرف الإطلاقات عن ظاهرها من الحجية التعيينية إلى التخييرية الشاملة لصورة اختلاف الفتاوي ، وذلك لقصور أدلّة اعتبار الفتاوى كالروايات عن شمولها للفتاوى المتعارضة ، حتى تصل النوبة إلى صرفها عن الحجية التعيينية إلى التخييرية ، فهي لا تدل على اعتبار كلتا الفتويين المتعارضتين ولا واحدة معينة منهما ، لعدم الترجيح ، ولا مخيّرة منهما لعدم فرديّتها لدليل حجية الفتاوى. فإثبات حجية إحداهما منوط بدليل آخر كالإجماع المدّعى على عدم سقوط كلتا الفتويين المتعارضتين ، كإثبات حجية أحد الخبرين المتعارضين بالأخبار العلاجية هذا.

وفي الثانية ـ وهي القرينة العقلية ـ أنّ قياس تعارض الفتويين بموارد الجمع العرفي في غير محله ، لعدم التعارض فيها مع إمكان الجمع بينها عرفا ، وعدم تحيرهم في تشخيص المراد منها ، ففرق واضح بين الفتويين اللتين تكون إحداهما وجوب السورة مثلا والأخرى عدمه ، وبين قوله : «من أفطر متعمّدا في شهر رمضان فعليه صوم شهرين متتابعين» وقوله : «من أفطر فعليه إطعام ستين مسكينا» فانه لا يمكن الجمع بين وجوب السورة وعدمه مع هذا التعارض التناقضي ، بخلاف مسألة تعمّد الإفطار ، فإنّ لكلّ من هذين الكلامين نصّا وظاهرا ، والعرف يجمع بينهما برفع اليد عن ظهور كل منهما في التعيينية بنص الآخر ، فإنّ ما يدلّ على «وجوب إطعام ستين مسكينا» نصّ في وجوب الإطعام وظاهر في تعيّنه وعدم وجوب عدل له ، ويرفع اليد عن هذا الظاهر بنصّ ما يدلّ على وجوب صوم شهرين ، وبالعكس ، ويكون نتيجة هذا الجمع وجوب كلّ من الإطعام والصوم تخييرا ، لأنّ مقتضى ارتفاع ظهور كل منهما في التعيينية بنص الآخر هو التخيير بين الصوم والإطعام.

فالمتحصل : أنّ إطلاقات أدلة التقليد لا تدلّ على المدّعى وهو التخيير بين الفتويين المتعارضتين ، بل هي ساقطة عن الاعتبار ، فلا بد في إثبات حجية إحدى الفتويين تخييرا من التماس دليل آخر ، فالاستدلال بتلك الإطلاقات على جواز تقليد غير الأعلم مع الاختلاف في الفتوى في غير محله.

٢ ـ استلزام وجوب تقليد الأعلم للعسر

الثاني : أنّ وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلفين ، لتعسّر تشخيص مفهومه ومصداقه ، وكذا

٥٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

تعسّر تعلم فتاواه على أهالي البلدان فضلا عن سكّان القرى والبوادي ، وكل حكم عسري مرفوع ، فوجوب تقليد الأعلم مرفوع ، فيجوز تقليد المفضول مع مخالفة فتواه لفتوى الأعلم ، هذا.

وفيه : أنّه لا يلزم الحرج في شيء مما ذكر. أمّا من ناحية المفهوم فلأنّ مفهوم الأعلم من المفاهيم العرفية ، وسيأتي توضيحه «إن شاء الله تعالى» وكذا مصداقه ، فإنّه لا يزيد مئونة تشخيصه على مئونة تشخيص مفهومه في سائر الموارد كالأعلم في علم الطب وغيره من العلوم ، فكما يتحقق تشخيصه هناك بالعلم والاطمئنان والشياع ، فكذلك يحصل ذلك هنا بها بإضافة البيّنة إليها. وأمّا من ناحية تعلّم فتاواه فلإمكان ذلك بأخذ رسالته أو السؤال عمّن يحيط بفتاوى المجتهدين وينقلها لمقلّديهم.

والحاصل : أنّه لا يلزم حرج في شيء من هذه المراحل الثلاث أصلا خصوصا بعد ملاحظة اختصاص وجوب الرجوع إلى الأعلم بالمسائل التي علم بمخالفة فتوى المفضول لفتوى الأفضل فيها ، ومن المعلوم انتفاء الحرج في العلم بموارد الخلاف ، هذا.

مضافا إلى : أنّه أخصّ من المدّعي ، إذ لا حرج على الكل في تقليد الأعلم ، بل يختص الحرج ببعض المكلفين.

٣ ـ سيرة المتشرعة

الثالث : استقرار سيرة المتشرعة على الرجوع إلى كل مجتهد من دون فحص عن أعلميّته مع اختلاف العلماء في الفقاهة والفتوى ، فعدم فحصهم دليل على عدم وجوب تقليد الأعلم.

وفيه : أنّ دعوى السيرة في غير صورة العلم بالمخالفة غير بعيدة. لكنه أجنبي عن المدّعى ، وهو استقرار السيرة على عدم الفحص في صورة العلم بالمخالفة ، فإنّ دعوى السيرة في هذه الصورة ممنوعة جدّاً ، بل السيرة على خلافه ، لما ترى من عدم استعمال المريض دواء الطبيب الّذي خالفه في ذلك طبيب أعلم منه ، فإنّ المريض يترك ذلك الدواء ويستعمل دواء الطبيب الأعلم.

وبالجملة : فالمتيقن من السيرة هو صورة عدم العلم بالمخالفة ، وهي أجنبية عن صورة العلم بالمخالفة التي هي مورد البحث.

__________________

٤ ـ الروايات الإرجاعية

الرابع : إرجاع الأئمة المعصومين عليهم أفضل صلوات المصلين جماعة من العوام إلى عدة من

٥٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أصحابهم كزرارة ويونس بن عبد الرحمن ومحمد بن مسلم وزكريا بن آدم وغيرهم مع حضور الإمام عليه‌السلام ، فإنّ تقليد الأعلم لو كان واجبا ولم تكن فتوى المفضول حجة لم يكن وجه للإرجاع إلى هؤلاء ، إذ المفروض وجود الأعلم ـ وهو الإمام عليه‌السلام ـ بينهم ، فحجية فتاواهم مع وجوده عليه‌السلام فيهم تدلّ على حجية فتوى المفضول مع وجود الأفضل ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّه لا إطلاق في أدلّة الإرجاع إلى جملة من الأصحاب ، وإنّما هو إرجاع في موارد إلى أشخاص معينين ، فلا إطلاق في البين حتى يتمسك به لإثبات حجية فتوى المفضول وإن كانت مخالفة لفتوى الأفضل.

وثانيا : أنّا نقطع بخروج صورة العلم بالمخالفة عن مورد الروايات الإرجاعية ، ضرورة أنّهم «عليهم‌السلام» لا يرجعون شيعتهم إلى الأشخاص الّذين يفتون بخلاف قولهم صلوات الله عليهم» ، لكونه إرجاعا إلى الباطل الّذي يحرم اتّباعه.

فالمتحصل : أنّ الاستدلال بالأخبار الإرجاعية عن حجية فتوى المفضول مع العلم بمخالفتها لفتوى الأفضل غير سديد.

(٥ ـ دليل الانسداد)

الخامس : ما عن المحقق القمي «قده» من أنّ دليل الانسداد يقتضي وجوب الأخذ بقول العالم مطلقا من غير فرق بين الأعلم وغيره ، لوجود المناط ـ وهو الظنّ ـ في كليهما.

وفيه أوّلا : عدم تمامية دليل الانسداد ، إذ من مقدماته انسداد باب العلمي ، وقد ثبت في محله انفتاحه.

وثانيا : ـ بعد تسليم تمامية مقدماته ـ أنّ النتيجة حجية قول خصوص الأعلم ، لأقربيته إلى الواقع كما سيأتي في أدلة المانعين «إن شاء الله تعالى».

(٦ ـ التمسك بآية نفي مساواة العالم للجاهل)

السادس : أنّه إذا لم يكن المفضول قابلا للتقليد كان مساويا للجاهل ، وقد قال الله تعالى : «هل يستوي الذين يعلمون والّذين لا يعلمون» ونفي الاستواء يستلزم حجية فتوى المفضول ، إذ لو لم تكن حجة كان المجتهد المفضول مساويا للجاهل ، والمفروض أنّه بمقتضى الآية الشريفة ليس مساويا

٥٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

للجاهل.

وفيه : أنّ الآية الشريفة على خلاف المطلوب أدلّ ، لأنّ المفضول جاهل في مقدار من العلم الّذي يكون الأفضل واجدا ، له ، فلو جاز تقليد المفضول لزم تساويهما ، وهذا خلاف ما دلّت عليه الآية الشريفة من نفي استوائهما.

وقد نوقش فيه بأنّ المراد نفي المساواة بين العالم المطلق والجاهل المطلق ، لا نفي المساواة بين العالم بالكل والجاهل بالبعض كالمفضول بالنسبة إلى الفاضل ، فلم يثبت نفي المساواة بينهما حتى تدلّ الآية المباركة على عدم حجية فتوى المفضول ، فيجوز تساوي الفاضل والمفضول في حجية قوليهما ، إذ المنفي في الآية الشريفة تساوي العالم والجاهل المطلقين ، لا تساوي العالم المطلق والجاهل بالبعض ، فلا تكون الآية دليلا على عدم جواز تقليد المفضول كما هو المقصود من المناقشة.

لكن الإنصاف اندفاع هذه المناقشة ، لأنّ الحمل على العالم والجاهل المطلقين حمل على الفرض المعدوم أو النادر ، فلا يمكن تنزيل الآية على نفي المساواة بينهما ، بل لا بد من حملها على العالم والجاهل الإضافيّين ، فيتم الجواب المزبور وهو دلالة الآية على نفي التساوي بين العالم والجاهل الإضافيين ، فإنّ المفضول جاهل بالنسبة إلى الأفضل ، فنفي التساوي بينهما يقتضي حجية قول الأفضل وعدم حجية قول المفضول.

(٧ ـ جواز تقليد عوام الشيعة لأصحاب الأئمة)

السابع : ما أشار إليه صاحب الفصول «قده» من : أن تقليد المفضول لو لم يكن جائزا لما جاز لمعاصري الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين» تقليد أصحابهم ، بل كان عليهم أخذ الأحكام من الأئمة عليهم‌السلام دون أصحابهم ، ومن المسلّم رجوع عوام الشيعة في زمان حضورهم عليهم‌السلام إلى الصحابة في مسائل الحلال والحرام ، واستقرار سيرتهم على ذلك ، ويشهد بذلك رواية أبان بن تغلب وغيره من الأخبار الإرجاعية المتقدمة في الفصل المتقدم «ص ٥١٨ إلى ص ٥٢٢».

وفيه : أنّ رجوع عوام الشيعة إلى الصحابة في الجملة قطعيّ ولا يعتريه ريب ، لكنه مع ذلك لا يجدي في إثبات جواز تقليد المفضول مع العلم بالاختلاف ، ضرورة أنّه يعلم ببطلان الفتوى

٥٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المخالفة للإمام عليه‌السلام وعدم صحة الأخذ بها.

وبالجملة : فهذه السيرة لا تصلح لإثبات جواز تقليد المفضول مع مخالفتها لفتوى الأفضل كما هو مورد البحث.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أنّ شيئا من الوجوه المتقدمة لا يثبت جواز تقليد المفضول مع العلم بمخالفة فتواه لفتوى الأفضل.

أدلة وجوب تقليد الأعلم :

وأمّا المبحث الثاني فتفصيله : أنّه قد استدل على عدم جواز تقليد المفضول مع العلم بالمخالفة بوجوه :

١ ـ الإجماعات المنقولة

الأوّل : الإجماعات المنقولة صريحا في كلام المحقق الثاني «قده» كما حكاه المحقق الأردبيلي «قده» أيضا عن بعضهم ، وظاهرا في كلام الشهيد الثاني «قده» المؤيّد بنقل عدم الخلاف عند أصحابنا كما يظهر من السيد في الذريعة وشيخنا البهائي ، حيث قال : «وتقليد الأفضل معيّن عندنا». وعن المعالم «وهو قول الأصحاب الّذين وصل إلينا كلامهم المعتضد بالشهرة المحققة بين الأصحاب ، وهو الحجية في المقام».

وفيه أوّلا : أنّه لا إجماع في المسألة ، لما مرّ آنفا من كون المسألة ذات قولين.

وثانيا : أنّه بعد تسليم الاتفاق لا يمكن الاعتماد عليه ، لقوة احتمال مدركيته ، لاستدلال المجمعين عليه ببعض الوجوه التي سيأتي التعرض لها «إن شاء الله تعالى» ، فلا نطمئن بكونه إجماعا تعبديا كاشفا عن قول المعصوم (عليه‌السلام».

(٢ ـ الأخبار)

الثاني : الروايات الدالة على ترجيح الأعلم على غيره :

منها : مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاثة «قدس‌سرهم» ، قال : «سألت أبا عبد الله

٥٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما ... إلى أن قال : فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم ، فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر».

تقريب الاستدلال بها : أنّها دلّت على وجوب تقديم الأفقه على غيره.

وقد أورد على الاستدلال بها بوجوه :

أحدها : ضعف سند الرواية بعمر بن حنظلة ، لعدم ورود توثيق ولا جرح في حقه ، فيكون مجهولا ، فيشكل الاعتماد على روايته. لكن قد سبق في بحث الأخبار العلاجية الإشارة إلى مستند القوم في قبول روايته ، والمعتمد من تلك الوجوه توصيفها بالمقبولة ، فلاحظ ما ذكرناه هناك.

إلّا أنّ الإشكال في دلالة المقبولة على المدّعي وهو تقديم فتوى الأفضل على فتوى المفضول عند المعارضة كما سيأتي «إن شاء الله تعالى».

ثانيها : أنّ مورد الترجيح في المقبولة بالأفقهية وغيرها من الصفات هو الحكمان اللذان اختلفا في الحكم ، ومن المعلوم توقّف فصل الخصومة الّذي لا بد منه على ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، إذ الحكم بالتخيير لا يقطع الخصومة ، بل يوجب بقاءها واستمرارها. بخلاف المقام ، فإنّ التخيير بين الفتويين لا محذور فيه ، فلا وجه للتعدّي عن مورد الرواية ـ وهو الحكم ـ إلى ما نحن فيه من تعارض الفتويين ، مع وضوح الفرق بينهما.

والحاصل : أنّ مورد الرواية هو القضاء ، دون الفتوى ، ولا ملازمة بينهما كما لا يخفى.

ثالثها : أنّ الأعلمية المرجحة للقاضي في باب القضاء غير الأعلمية المرجحة للمفتي في باب الفتوى ، وذلك لأنّ الأعلمية في باب القضاء إضافية ، لكونها ملحوظة بالإضافة إلى حاكم آخر ، لا إلى كل مجتهد ، لا حقيقيّة. وفي باب الفتوى حقيقية لا إضافية ، لأنّ الأعلمية في باب الفتوى ملحوظة بالإضافة إلى جميع الفقهاء ، فإذا كان فقيهان في بلد وكان أحدهما. أفقه من الآخر تعيّن ذلك الأفقه للقضاء وإن كان من في بلد آخر أفقه منه. بخلاف الفتوى ، فإنّه إذا كان من في بلد آخر أفقه تعيّن ذلك للمرجعية. ففرق واضح بين الأعلمية المعتبرة في باب القضاء وبين الأعلمية المعتبرة في باب الفتوى ، فإنّها في الأوّل إضافية ، وفي الثاني حقيقية أي مطلقة.

٥٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فالمتحصل : أنّه لا وجه للتعدي ... الأعلمية المرجحة لأحد الحاكمين إلى الأعلمية المرجحة لأحد المجتهدين في مقام الفتوى.

ومما ذكرنا يظهر غموض ما في تقريرات شيخنا الأعظم «قده» من أنّه يتم المطلوب ـ وهو مرجحية الأعلمية في باب الفتوى كباب القضاء ـ بالإجماع المركب ، حيث إنّه لا قائل بالفصل بين وجوب قضاء الأعلم وتقليده.

وجه الغموض ما مرّ آنفا : من كون الأعلمية في باب القضاء مضافة ، وفي باب الفتوى مطلقة والمجدي هو القول بعدم الفصل لا عدم القول بالفصل.

ومنها : ما عن مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه» في عهده لمالك الأشتر : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك».

ومنها : ما رواه الصدوق عن داود بن الحصين عن الصادق عليه‌السلام : «في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما خلاف ، واختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال عليه‌السلام : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا».

وتقريب الاستدلال بمثل هذه الروايات واضح ، لدلالتها على تقديم قول الأفقه والأعلم على غيره ، مع التصريح في رواية داود بتقديم قوله عند العلم بالمعارضة والاختلاف.

وفيه : ما عرفت من مغايرة الأعلمية في باب القضاء للأعلمية في باب الفتوى ، فالتعدي من الأوّل إلى الثاني في غير محله ، وليس المراد بقوله عليه‌السلام : «أفضل رعيتك» الأعلمية ، بل معنى آخر تقدّم بيانه في التوضيح (ص ٥٥٤) فلاحظ.

ومنها : ما عن البحار نقلا عن كتاب الاختصاص ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تعلّم علما ليماري به السفهاء ، أو ليباهي به العلماء أو يصرف به الناس إلى نفسه ، يقول : أنا رئيسكم ، فليتبوأ مقعده من النار ، إن الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها ، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة».

ومنها : ما عن البحار أيضا عن مولانا الإمام الجواد «عليه الصلاة والسّلام» : «انّه قال مخاطبا عمّه : يا عمّ انّه عظيم عند الله أن تقف غدا بين يديه ، فيقول لك : لم تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأمّة من هو أعلم منك؟».

٥٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وفي كلتا الروايتين أوّلا : ضعف السند ، وثانيا : ضعف الدلالة ، لأنّ ظاهرهما هو التصدّي للخلافة التي هي منصب شامخ إلهي لا تحصل لأحد بإتعاب النّفس ، بل هي موهبة إلهيّة لا يتقمصها إلّا من شملته العناية الرّبانيّة. والإمام عليه‌السلام ردع عمّه عن التصدي للخلافة بأنّ الخليفة لا بد أن يكون أعلم من جميع الأمّة ليقتدر على حلّ جميع مشاكلهم ، وتعليم مسائلهم ، وقضاء حوائجهم ، وجلب مصالحهم ، ودفع مفاسدهم.

ولو كان المراد إفتاء الفقيه لزم منه عدم جواز الإفتاء للمفضول أصلا ، لانحصار جواز الإفتاء بمن هو أعلم من جميع الأمّة. وهذا كما ترى ، لوضوح حجية فتوى المفضول ما لم يعارضها فتوى الأفضل.

فتلخص : أنّه لا سبيل إلى الاستدلال بالروايات على وجوب تقليد الأعلم تعيينا.

٣ ـ أقربية فتوى الأعلم إلى الواقع

الوجه الثالث من الوجوه المحتج بها على وجوب تقليد الأعلم تعيينا عند التعارض : أنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره. وقد تقدّم في التوضيح (ص ٥٥٥) تقريب الاستدلال به ، والإشكال الصغروي والكبروي عليه.

وكان على المصنف «قده» الّذي وافق جماعة من المحققين الذين تقدم ذكرهم في منع الصغرى ـ وهي أقربية فتوى الأفضل مطلقا من فتوى المفضول ـ أن يناقش فيما أفاده الشيخ الأعظم «قده» من صحة الصغرى المذكورة ، وبطلان ما أفادوه من منع صحتها ، ضرورة توقف تسليم الإشكال الصغروي على ردّ ما أفيد في صحتها ، وإلّا فلا بد من الاعتراف بصحتها.

وكيف كان فلا بأس بالإشارة إلى ما عن الشيخ «قده» في التقريرات من تصحيح الصغرى ، وهي أقربية فتوى الأفضل من فتوى المفضول وإن كانت موافقة للمشهور أو للاحتياط أو لفتوى أعلم الأحياء والأموات.

ومحصّل ما في التقريرات بطوله هو : أنّ من منع الصغرى إن أراد بذلك إثبات التسوية بين الأعلم والعالم من حيث الظن في حدّ ذاتهما مع الغض عن الأمور الخارجية ، ففيه : أنّه خلاف الضرورة والوجدان ، إذ لا ينبغي الارتياب في أنّ لزيادة العلم والبصيرة بمدارك المسألة ومعارضاتها

٥٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وغير ذلك زيادة تأثير في إصابة الواقع كما اعترف به المحقق الأردبيلي «قده».

وإن أراد أنّ قول المفضول ـ لانضمام بعض الظنون المستندة إلى الأمور الخارجية إليه ـ يصير الظن الناشئ منه أقوى من الظن الحاصل من قول الأعلم أو مساويا له ، ففيه : أن الظنون الحاصلة للمقلد بملاحظة الأمور الخارجية مما لا عبرة به أصلا ، بناء على كون التقليد من الظنون الخاصة الثابتة حجيتها بالأدلّة الشرعية ، وذلك لوجوه :

الأوّل : عدم الدليل على اعتبار هذه الظنون في مقام تقوية الأمارة وترجيحها على معارضها ، بعد اقتضاء الأصل عدم اعتبارها ، فإنّ قوّة الأمارة لا تحصل إلّا بمرجح داخلي كالأعلمية والأورعية والأوثقية ونحوها ، أو بمرجح خارجي كتعاضدها بمثلها أو بأقواها من الأمارات المعتبرة الثابتة حجيتها بدليل قاطع. وشيء من هذين السببين لقوة الأمارة غير موجود في المقام.

أمّا الأوّل فواضح ، إذ المفروض عدم كون هذه الظنون من الظنون الحاصلة بمرجح داخلي.

وأمّا الثاني فلأنّه لا أثر للمرجح الخارجي كالشهرة الموافقة لفتوى المفضول ، إذ من المعلوم أن وظيفة المقلد هي التقليد دون العمل بمطلق الظن حتى يترجّح ظن المقلد المتعاضد بالشهرة أو غيرها ، فمن أين يحصل ظن قويّ يتكافأ قوة الظن الموجود في قول الأعلم.

وأمّا ما ذكره النراقي والقمي «قدس‌سرهما» من أنّ موافقة قول المفضول لقول المجتهد الآخر ربما توجب قوة الظن الحاصل من قوله ، ففيه : أنّه إن كان فيهم من يكون أعلم ممّن فرض أعلميته من هذا العالم أوّلا تعيّن عليه تقليده ، وإلّا فلا أثر لهذه الموافقة ، لوضوح الفرق بين توافق أقوال المجتهدين وبين تعاضد الأخبار في الترجيح على المعارض ، وذلك لاختلاف مناط القوة والضعف في كل منهما ، إذ المدار في قوة الأقوال حسن نظر أربابها ومهارتهم في تمييز الصواب والخطأ في الأمور الاجتهادية ، والمدار في قوّة الرواية تحرّز الرّاوي عن الكذب ، فتوافق المفضولين في الرّأي لا يوجب الظن ، لأنّ هذا التوافق يحصل من أمر حدسي ، وهو تقارب أنظارهم وتوافق أفهامهم في اجتهاد حكم من الأحكام. والظن الحاصل من أمور حدسيّة لا يعبأ به ، فالظن الشأني الثابت في قول الأعلم لا معارض له.

ومن هنا يتضح الفرق بين تعاضد الأخبار وتوافق الأقوال ، فإنّ الأوّل يوجب تقديم الخبر المتعاضد بأخبار على الخبر المخالف له ، بخلاف الثاني ، فإنّ وجود المعاضد وعدمه سيّان في

٥٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وجوب الأخذ بقول غيرهما إذا كان أقوى.

لا يقال : أنّ ما ذكرته هنا ينافي ما تقدم من أنّ الأصل في التخييرات العقليّة الأخذ بكل ما يحتمل كونه مرجحا ، فلا وجه لعدم الأخذ بما يحتمل كونه مرجحا لقول المفضول.

فانه يقال : ما ذكرناه من الأخذ بمحتمل المرجحية ـ وإن لم يقم دليل على مرجحيته ـ إنّما هو في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لا بين المتباينين كما في المقام.

لا يقال : بناء الأصحاب في التعادل والترجيح على ترجيح الأخبار بالمرجحات الخارجية التي لم يقم دليل على حجيتها إذا لم تكن ممّا قام الدليل الخاصّ على عدم حجيتها كالقياس ، وقول المجتهد أيضا طريق ظني للمقلد ، فما الفارق بينهما؟

فانه يقال أوّلا : إنّ ترجيح الأخبار بمطلق المرجحات من الداخلية والخارجية على القول به يستفاد من أخبار الترجيح ، ومن المعلوم فقدان مثل هذه الأخبار في المقام.

وثانيا : انّ حجية الأخبار إنّما هي لأجل إفادتها الظن في نظر العاملين بها ، وهم المجتهدون ، وحيث اعتبر نظرهم في جعل الطريق الظني اعتبر نظرهم أيضا في طلب المرجحات عند التعارض. وأمّا حجية أقوال العلماء للعوام فليست لأجل إفادتها الظن في نظر القاصرين وهم العوام ، بل لأجل غلبة مصادفتها للواقع نوعا ، فلا وجه لاعتبار نظرهم في طلب المرجحات.

والحاصل : أنّ الشارع لمّا وجد العوام قاصري النّظر في الأمور العلمية جعل لهم أقوال العلماء طريقا تعبديا باعتبار ما فيها من غلبة المطابقة للواقع ، وأمرهم بالرجوع إليهم ، من غير النّظر والفحص عن شيء ، فكأنّه صار نظرهم عند الشارع ساقطا عن الاعتبار في جميع المقامات.

الوجه الثاني : من وجوه عدم اعتبار ظنون المقلّد الحاصلة من غير الطريق الشرعي المعيّن له هو : أنّ تلك الظنون مما لا يكاد ينضبط بضابط ، فربما يحصل له الظن من قول عامي آخر أو من الرمل والجفر والنجوم ونحوها ، وربما يترجّح في نظرهم المفضول بملاحظة حسبه ونسبه واشتهاره بين العوام ، ولا سبيل إلى الاعتماد على كل ظن حاصل من غير الطريق الشرعي ، لأدائه إلى مفاسد عظيمة في هذا الدين ، فلا بد من المنع عن الاعتماد عليها مطلقا.

فالنتيجة : أنّ الظن الموجود في طرف الأعلم لا يعارضه شيء من الظنون الداخلية ، لأنّ الكلام إنّما هو بعد فرض تساوي الفاضل والمفضول في جميع الجهات غير الفضل ، فيجب اتّباعه بحكم

٥٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العقل القاطع بوجوب العمل بأقوى الأمارتين.

الوجه الثالث : إمكان دعوى الاتفاق على سقوط أفكار العوام والمقلّدين عن درجة الاعتبار في جميع المقامات حتى الترجيح. نعم مقتضى الأصل الّذي أسّسه المحقق القمي «قده» هو كون المقلد كالمجتهد في الأخذ بكل أمارة ، ولكنه لم نظفر بمن وافقه في ذلك ، إذ كلّ من جوّز التقليد جعله من الظنون الخاصة.

هذا محصّل ما في تقريرات شيخنا الأعظم «قده» وفي كلماته مواضع لا تخلو من غموض ، نتعرض لاثنين منها :

الأوّل : قوله في الوجه الأوّل على عدم حجية الظنون الحاصلة للمقلد بملاحظة الأمور الخارجية : «أما الأوّل فواضح ، إذ المفروض عدم كون هذه الظنون من الظنون الحاصلة بمرجح داخلي» وجه الغموض : أنه ربما ينافي ما سيذكره بعد ذلك من قوله : «نعم يمكن المناقشة في الصغرى بوجه آخر ، لأنّ قول المفضول ربما يكون مفيدا للظن الأقوى من حيث الأمور الداخلية ، مثل أن يكون قوة الظنّ مستندة إلى فحصه وبذل جهده زيادة عمّا يعتبر في اجتهاد المجتهدين من الفحص» فإنّ هذا الكلام لا يلائم ما أفاده قبيل هذا بقوله : «من المرجحات الداخلية ، والمفروض عدم كون هذه الظنون كذلك» فإنّ هذه العبارة تدلّ على نفي المرجح الداخليّ الموجب لحصول الظن القوي من قول المفضول.

ومقصود من قال بحصول هذا الظن بقول المفضول المساوي للظن الحاصل من قول الأفضل أو الأرجح منه هو الظن الحاصل من مرجح داخلي أو خارجي. فنفي المرجح الداخليّ بقوله : «والمفروض عدم كون هذه الظنون كذلك» ينافي ما أثبته بقوله : «نعم يمكن المناقشة في الصغرى».

ولعلّ وجه عدم تعرض المصنف لردّ ما أفاده الشيخ «قدس‌سرهما» هو اعتراف الشيخ بعد كلام طويل بعدم صحة الصغرى بقوله : «نعم يمكن المناقشة في الصغرى ... إلخ».

الثاني : قوله في الوجه الثالث : «إمكان دعوى الاتفاق على سقوط أفكار العوام والمقلّدين عن درجة الاعتبار في جميع المقامات حتى الترجيح» إذ فيه : أنه كيف يمكن دعوى هذا الاتفاق مع بنائهم على تقديم مظنون الأعلمية في التقليد؟

٥٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إلّا أن يقال : إنّ ظنّ غير العامي يوجب التقديم ، دون ظن العامي ، فإنّ وجوده وعدمه سيّان.

لكن فيه : أنّ مطلق الظن معتبر عقلا في دوران الحجة بين التعيين والتخيير ، والمفروض أنّ حجية فتوى الأعلم من صغريات كبرى التعيين والتخيير كما أشرنا إليه سابقا ، وإن كانت النسبة بين نفس فتويي الأعلم والعالم هي التباين كطهارة الغسالة ونجاستها.

٤ ـ قبح ترجيح المرجوح على الراجح

__________________

الوجه الرابع : ما عن كشف اللثام وشرح الزبدة للفاضل الصالح من : أن تقليد المفضول مع وجود الفاضل يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلا ، فيتعيّن تقليد الفاضل.

وفيه أوّلا : أنه لو تمّ هذا الوجه كان دليلا على الكبرى المتقدمة ، وهي كون قول الأعلم أرجح وأقرب إلى الواقع من قول المفضول.

وثانيا : أنّه أخص من المدّعى الّذي هو تقديم فتوى الأعلم على فتوى المفضول مطلقا سواء أكان الظنان متساويين أم كان الحاصل من فتوى المفضول أرجح ، وهذا الدليل لا يشمل هاتين الصورتين ، لاختصاصه بصورة أرجحية الظن الحاصل من فتوى الأفضل من الظن الحاصل من فتوى المفضول.

إلّا أن يقال : بسقوط الظنون الخارجية الحاصلة للمقلد عن الاعتبار كموافقة فتوى المفضول للمشهور ، أو الميّت الأعلم من هذا الحي الأعلم ، أو الاحتياط الموجبة لأرجحية فتوى المفضول من فتوى الفاضل ، لوجوه تقدمت آنفا في الوجه الثالث ، فلاحظها.

٥ ـ وجود مزيّة للأعلم تقتضي تقديمه على غيره

الوجه الخامس : ما عن العلامة في النهاية من أنّ الأعلم له مزيّة ورجحان على المفضول ، فيقدم كما قدم في الصلاة.

وفيه أوّلا : أنّ تنظيره بالصلاة يدل على استحباب تقديم قول الأعلم على غيره ، كتقديم ذي المزية على فاقدها في الإمامة لأجل النص.

وثانيا : أنّ نظر المستدل إن كان إلى الأخذ بأقوى الأمارتين ، ففيه : أن مقتضى القاعدة الأوّلية في تعارض الأمارتين بناء على الطريقية هو التساقط ، لا ترجيح إحداهما على الأخرى ، ولذا لا يقدّم

٥٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أوثق البينتين على الأخرى ، وتقديم ذي المزية في الخبرين المتعارضين إنّما هو بالدليل الثانوي وهو الأخبار العلاجية.

وثالثا : أنّ هذا الوجه يرجع إلى الوجه الثالث الّذي تقدم منعه صغرى وكبرى ، لانحلاله إلى صغرى وهي كون فتوى الأعلم ذات مزية ورجحان ، وكبرى وهي تقدم كل ذي مزية على فاقدها.

٦ ـ سيرة العقلاء على الرجوع إلى الأعلم

الوجه السادس : بناء العقلاء على الرجوع إلى الأعلم عند مخالفة فتوى المفضول له ، فإنّه بعد البناء على عدم وجوب الاحتياط على العامي قد استقرّت السيرة العقلائية على الرجوع إلى الأعلم ، وعدم العمل بفتوى المفضول ، كما هو كذلك في غير الأحكام الشرعية من العلوم والفنون ، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة مع كونها بمنظره ومرأى منه ، وعدم الردع في مثل المقام دليل الإمضاء. وهذا الوجه أمتن الوجوه وأقواها ، ثم الأصل الّذي قد تقدم أنّ مقتضاه وجوب الأخذ بفتوى الأعلم تعيينا.

لا يقال : إن الأصل في دوران الأمر بين الحجية التعيينية والتخييرية يقتضي التخييرية ، قياسا على دوران الأمر بينهما في الأحكام ، كما إذا دار حكم صلاة الجمعة مثلا بين الوجوب التعييني والتخييري ، فإنّه يدفع احتمال وجوبها التعييني بأصالة البراءة ، إذ المعلوم وجوب الجامع دون الخصوصية ، لكونها مشكوكة. وكذا الحال في المقام ، فإنّ المعلوم هو الحجية الجامعة بين التعيينية والتخييرية ، إذ خصوصية إحداهما مشكوكة ، فتجري فيها البراءة ، ومقتضى جريانها هو التخيير بين الأخذ بفتوى الأفضل والفاضل.

فانه يقال : إنّ الحجة تارة تكون منجّزة للواقع بحيث لو لم تقم على الواقع كان المرجع في صورة الشك فيه الأصل النافي له كأصالتي البراءة والطهارة ونحوهما ، كما إذا فرض قيام الدليل على حرمة شرب التتن ، بحيث لو لم يقم هذا الدليل على حرمته كان المرجع في الشك فيه أصالة البراءة ، وهذا الدليل القائم على الحرمة حجية منجّزة ، إذ لا منجّز للواقع إلّا هذا الدليل ، فلو لم يكن في الواقع حرمة لم يكن هذا الدليل معذّرا له ، إذ لم يفت بهذا الدليل شيء من الواقع حتى يكون معذّرا له.

وأخرى تكون معذّرة ، كما إذا تنجّز الواقع قبل نهوض هذه الحجة عليه بعلم إجمالي كبير كعلمه

٥٨٠